تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

الحكم بارتفاع الأمر.

ولو سلّم عدم اعتقاده به فلا أقلّ من الشكّ فيبقى استصحاب الحال وقاعدة الاشتغال سليمين عن المعارض إذ لم يكن لهما معارض ، في غير الصورة المفروضة إلاّ أصالة الصحّة في فعل المسلم.

وقد عرفت أنّها من جهة انتفاء موضوعها غير جارية فيها ، نظرا إلى أنّ الشكّ في ارتفاع الأمر لا ينافي العلم بالفساد باعتبار الواقع ، ضرورة أنّ الصحّة والفساد يختلفان باختلاف الآراء والأحكام الظاهريّة ، تتفاوت بتفاوت الاجتهادات ، وكون العمل محكوما بصحّته على حسب اجتهاد بعض المجتهدين من باب الحكم الظاهري له لا ينافي القطع بفساده بالنظر إلى الواقع في اجتهاد مجتهد آخر ، ومعنى الشك في ارتفاع الأمر مع العلم بفساد العمل بالنظر إلى الواقع أنّ هذا العمل المخالف لما في نفس الأمر في اعتقادنا المحكوم بصحّته في ظاهر حكم العامل هل أوجب ارتفاع الأمر المتعلّق بما هو صحيح في الواقع على حسب اعتقادنا أو لا؟

ومعناه التلازم بين الحكم الظاهري لأحد وقيامه مقام الحكم الظاهري لآخر ، والشك إنّما هو في الملازمة ، وهو ملازم للعلم بالطرفين اللازم والملزوم ، فإنّا نقطع قبل قيام البعض بأداء الفعل بأنّ حكمه الظاهري في تلك الواقعة إنّما هو ما اقتضاه اجتهاده أو اجتهاد مجتهده ، مع قطعنا بأنّ حكمنا في تلك الواقعة هو ما اقتضاه اجتهادنا بعنوان كونه هو الحكم الواقعي ، بحيث لو أردنا الإقدام على حسب اجتهاد الأوّل ليس لنا ذلك ، كما أنّه لو أراد الأوّل الإقدام عليه على حسب اجتهادنا لا يجزيه ، فإذا حصل منه القيام به على حسب اجتهاده فشكّ في أنّه هل يقوم مقام ما هو الحكم في حقّنا المغاير لما هو في حقّه أو لا؟ومعناه الشكّ في ارتفاع الأمر المتعلّق في تلك الواقعة بنا إذ لم يثبت له رافع ، والمقام من باب الشكّ في قدح العارض فيجري الاستصحاب ولا معارض له يكون رافعا لموضوعه ، لأنّ أصل الصحّة مع اعتقاد الفساد بالنظر إلى الواقع لا يجري.

ومنشأ الإشكال في الثاني : الشكّ في أنّ الاحتياط مع تمكّن العلم بأحد الطريقين الاجتهاد والتقليد هل هو ممّا جعله الشارع طريقا إلى اطاعته واكتفى به في امتثال أوامره ونواهيه أو لا؟ نظرا إلى أنّ أصالة الصحّة إنّما يصلح للاستناد إليها فيما ثبت له من الشرع وجه صحّة ثمّ شكّ في طروّ ما يوجب الفساد.

١٤١

وتحقيق هذا المقام موكول إلى محلّه ، فإن ثبت كون هذا الطريق من الطرق الشرعيّة لا إشكال في جريان الأصل المذكور لإحراز الصحّة في موضع شكّ في طروّ ما يوجب الإخلال فيها ، وإلاّ فلا إشكال في عدم جريانه ، لكونه ملزوما للعلم بفساد الأصل ومعه لا معنى لإجراء الأصل الّذي موضوعه الشكّ في الفساد.

ومنشأ الإشكال في الثالث : الشكّ في أنّ الجاهل في العبادات إذا كان مقصّرا هل هو معذور إذا طابق عمله للواقع أو لا؟

ولتحقيق ذلك أيضا محلّ آخر يأتي إن شاء الله.

فإن ثبت ثمّة كونه معذورا وعلم بمطابقة عمله للواقع لا حاجة معه إلى إعمال الأصل بل يحكم بالسقوط بمجرّد ذلك العلم ، وإن لم يعلم بها فهو موضع جريان الأصل بلا تأمّل ، وإلاّ فلا إشكال في عدم جريانه بالتقريب المتقدّم.

ومن موارد الإشكال في ذلك المقام ما لو اختلف الفاعل والباقي في المكلّف به الواقعي الأوّلي والواقعي الثانوي ، كأن يكون الفاعل مكلّفا بالفرد الاضطراري لعدم تمكّنه عن الفرد الاختياري فأتى بما هو وظيفته ، كما لو كان المقام بالنسبة إليه موضع تقيّة فأتى بالعمل على حسب ما يقتضيه التقيّة ويكون الباقي مكلّفا بالفرد الاختياري لتمكّنه عنه ، فهل يكتفي في الحكم بسقوط الفرض عنه بما حصل الإتيان به من الفرد الاضطراري أو لا؟

والأقرب عدم الاكتفاء به بالتقريب المتقدّم فيما لو اختلفا في الرأي والمذهب ، مع إمكان أن يقال : انّ المتعذّر عن الفرد الاختياري مع وجود المتمكّن عنه لا تكليف له في تلك الواقعة ، بل هو في حكم من لا يقدر على العمل أصلا ، فكما أنّه لو اختلف المكلّفون في الكفائي في القدرة على أداء العمل وعدمها كان الفرض على القادر على التعيين وليس على غيره تكليف ، فكذلك ما لو اختلفا في التمكّن عن الاختياري وغيره ، فإنّ التكليف حينئذ يتعلّق بالمتمكّن عنه خاصّة وليس على غيره شيء كما لا يخفى.

وأمّا لو اختلف المكلّفون في خطاب الكفائي فيما بين قائل بالوجوب وقائل بعدمه ، فتركه القائل بالعدم تعويلا على حكمه الظاهري فلا إشكال في أنّه لا يوجب سقوط الفرض عن القائل بوجوبه كما في ردّ السلام ، وأمّا لو أتى به القائل بالوجوب بعنوان الاستحباب فهل يوجب ذلك سقوط الأمر عمّن يقول بالوجوب أو لا؟ فالأقرب هو الأوّل ، إذ ليس في الكفائي إلاّ أمر واحد غير أنّهما اختلفا في فهم الوجوب والاستحباب منه ،

١٤٢

والمفروض أنّ قصد الوجه ليس بلازم في أداء المأمور به ، وقد حصل الأداء من البعض على وجهه ، غير أنّه يخرج قصد الاستحباب منه لغوا لكونه قصدا في غير محلّه ، وإنّما العبرة بحصول ما هو المأمور به في الواقع عند القائل بالوجوب والمفروض حصوله فيؤثّر أثره ، ومنه سقوط الفرض عن المتقاعد.

ومن مواضع الإشكال الاختلاف بين البعض الآتي بالفعل وبين الباقي في الحكم الظاهري الناشئ عن الاشتباه والحكم الواقعي المبنيّ على عدم الاشتباه ، كما لو أقدم البعض على غسل الميّت بالماء المستصحب الطهارة وعلم الآخر بملاقاته النجاسة ، فهل يوجب ذلك سقوط الفرض عن الآخر؟

فيه إشكال من أنّ البعض قد أتى بالمأمور به حال الاشتباه على وجهه فقضى ذلك بالسقوط عنه وعن الآخر ، لأنّ الضابط في الأمر بالكفاية أنّه إذا سقط عن البعض سقط عن الجميع ، ومن أنّ ذلك العمل وقع فاسدا في اعتقاد الآخر فلا ينشأ منه بالنسبة إليه أثر.

ولكنّ الأمر في ذلك بعد ما عرفت من معنى « الحمل » و « الصحّة » هيّن ، فإنّ من لا اشتباه له قبل تشاغل من له الاشتباه بأداء الفعل كان تكليفه بالتغسيل بغير ذلك الماء ، وكما أنّه قبل التشاغل لو أراد الغسل بذلك الماء لم ينشأ منه بالنسبة إليه أثر فكذلك لم ينشأ منه أثر بالنسبة إليه لو حصل التشاغل وأداء الفعل من غيره ، وكون ذلك الفعل بالنسبة إلى فاعله محكوما بالصحّة لانطباقه على المأمور به الظاهري حكم ظاهري في حقّه ولا ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي في حقّ الآخر ، فإنّ الحكم الواقعي في حقّ الآخر انطباق العمل على المأمور به الواقعي ولم يحصل فرضا ، ولا منافاة بين سقوط التكليف عن الفاعل وعدم سقوطه عن الآخر ، ودعوى أنّ الضابط في الكفائي أنّه إذا سقط عن البعض سقط عن الجميع إنّما تصحّ ، إذا اتّحد القضيّة في تكليفيهما موضوعا ومحمولا ، كما لو كان التكليف بالنسبة إلى كليهما ظاهريّا أو واقعيّا فالتفكيك بينهما في السقوط وعدمه في الصورة المفروضة إنّما جاء من الفرق بينهما في موضوعي القضيّتين من حيث كون التكليف في أحدهما ظاهريّا وفي الآخر واقعيّا.

وأيضا ما سقط عن الفاعل إنّما هو حكم ظاهري جاء في حقّه من أدلّة الاستصحاب الواردة على أدلّة الواقع الجارية في حقّه الغير الجارية في حقّ غيره ، لأنّ الاستصحاب مع العلم بالخلاف ممّا لا معنى له ، وكما أنّ الاستصحاب وأدلّته غير جاريين في حقّه فكذلك

١٤٣

لا يجري في حقّه ما ينشأ منهما من الأثر ، كيف ومعنى جريان الاستصحاب في مثل المقام قيام الطهارة المستصحبة مقام الطهارة الواقعيّة من قبل الشارع ، وهذه القضيّة غير صادقة في حقّ من يعلم بالحال لانتفاء موضوعها ، ومعه كيف يعقل جريان حكمها في حقّه والحكم لا بدّ له من موضوع يتقوّم به وهو منتف هنا.

ومن هذا الباب بالتقريب المذكور ما لو كان الإخلال في العمل بالنسبة إلى البعض الآتي منه ممّا لا يوجب عليه الإعادة بعد التذكّر ، كما لو صلّى في ثوب مجهول النجاسة في حقّه أو نسي من أجزاء الصلاة ما ليس بركن وعلم غيره بالحال ، فإنّه لا يوجب سقوط الفرض عن العالم بالحال لكون العمل الواقع بالنسبة إليه فاسدا ، ولذا لا يجوز له الاكتفاء به ابتداءا فكيف يعقل ترتّب الأثر عليه بالنسبة إليه ، وكونه مجزيا في حقّ فاعله حكم جاء من أدلّة اخر واردة على أدلّة الواقع والمفروض عدم جريان تلك الأدلّة في حقّ غيره ، ومعه كيف يعقل جريان ما ينشأ منها من الأثر في حقّه ، وتوهّم المنافاة بين السقوط في حقّ البعض وعدمه في حقّ الآخر يندفع بما تقدّم من أنّ التفكيك بينهما في ذلك أمر نشأ عن اختلاف القضيّتين في الموضوع ، والملازمة بين السقوطين إنّما تسلم مع اتّحادهما.

ومن الأفاضل من فصّل بين الفرضين فرجّح السقوط في الثاني وعدمه في الأوّل وهو غير واضح الوجه ، ومجرّد كون الأوّل بعد التذكّر وتبيّن الخلاف ممّا يوجب الإعادة على الفاعل دون الثاني لا يصلح فارقا بينهما ، كيف وأنّ المأمور به في كلّ منهما بالنسبة إليه قد وقع على وجهه ، غايته أنّ الدليل الخارجي فرّق بينهما في لزوم الإعادة بعد تبيّن الخلاف في أحدهما دون الآخر.

وهذا الفرق كما ترى ثابت بالنسبة إلى الفاعل وإلاّ فلا فرق بينهما في فساده بالنسبة إلى غيره المتذكّر للحال من ابتداء الأمر ، وكما أنّ العمل في الأوّل لا يجدي بالنسبة إليه في سقوط تكليفه بالواقع فكذلك في الثاني ، والفرق بينهما ليس إلاّ مكابرة واضحة.

وتاسعها : أنّهم بعد ما اتّفقوا على أنّ فرض الكفاية يسقط بفعل البعض عن الباقين اختلفوا في أنّه لو ظنّ كلّ طائفة بحصول الفعل من الاخرى فظهر خطأهم فهل الحكم بالسقوط باق وليس عليهم بعد ذلك شيء أو لا؟ بل التكليف باق لو كان وقت الوجوب باقيا على أقوال.

وهذا الكلام وإن كان مبنيّا على كفاية الظنّ في الحكم بالسقوط كما عليه جماعة ،

١٤٤

ولكنّه يجري على المختار من أنّه لا بدّ في الحكم بالسقوط من العلم بالحصول ولا يكفي فيه الظنّ لو علم كلّ طائفة بحصول الفعل من الاخرى فانكشف خلافه بكونه جهلا مركّبا.

وعلى أيّ حال كان ، فأوّل الأقوال السقوط وعدم بقاء التكليف ، صرّح به من العامّة شارح المنهاج ، فقال : « وحكم الفرض على الكفاية أنّه لو ظنّ كلّ من الطائفة أنّ غيره فعل ذلك الواجب سقط عنهم وإن لم يفعل أحد في نفسه » وهو الظاهر من إطلاق العبارة المحكيّة عن المنهاج موافقة للنهاية من أنّه إن ظنّ كلّ طائفة من المكلّفين أنّ غيره فعل يسقط الواجب عن الكلّ.

بل يظهر من إطلاق ما حكاه السيّد في المنية عن فخر الدين من أنّ التكليف فيه موقوف على حصول الظنّ الغالب ، فلو غلب على ظنّ جماعة أنّ غيرها يقوم بذلك سقط عنها ، وإن غلب على ظنّهم أنّ غيرها لا يقوم به وجب عليهم ، وإن غلب على ظنّ كلّ طائفة أنّ غيرهم لا يقوم به وجب على الجميع وجوبا على الأعيان ، وإن غلب على ظنّ كلّ طائفة أنّ غيرهم يقوم به سقط الفرض عن كلّ واحد من تلك الطوائف.

وهو الظاهر من إطلاق العلاّمة في التهذيب حيث قال : « والتكليف فيه موقوف على الظنّ فإن ظنّت طائفة قيام غيرها به سقط عنها ، ولو ظنّت كلّ طائفة ذلك سقط عن الجميع »

ويظهر أيضا عن البهائي فيما تقدّم من تعريف الكفائي بأنّه ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعا أو ظنّا شرعيّا ، مفسّرا للظنّ الشرعي في الحاشية بما يوجبه من اخبار العدلين أو الشياع أو الخبر المحفوف بالقرائن ونحوه.

وثانيها : بقاء التكليف بعده ما دام الوقت باقيا صرّح به بعض الأفاضل واستظهر بعض الأعاظم مستدلاّ بإطلاق الأمر وكون اعتبار الظنّ من باب المرآتيّة لا الموضوعيّة.

وثالثها : التفصيل الّذي حكاه الفاضل المشار إليه عن بعض الأفاضل حيث إنّه بعد ما استشكل في القول بالسقوط مطلقا قال : « انّ التحقيق فيه التفصيل بأنّه إن كان هناك عموم أو إطلاق يقضيان بلزوم الإتيان بذلك في جميع الأحوال تعيّن العمل به ، وإلاّ فلا ، عملا بالاستصحاب » والظاهر أنّ مراده بالاستصحاب استصحاب السقوط المحكوم به حال الظنّ.

وتنظّر بعضهم في الحكم بالسقوط مطلقا وظاهره التوقّف حيث قال : « إذا حصل هذا الظنّ للجميع ولم يقم به فهل يسقط الوجوب أم لا؟ فيه نظر ، إذ يلزم منه ارتفاع الوجوب قبل أدائه من غير مبيح.

١٤٥

ويدفعه : أنّ سقوط الوجوب قد يكون بغير المبيح كانتفاء محلّه مثل الإحراق الرافع لوجوب الغسل ».

والّذي يظهر أنّ ذلك البعض هو الفاضل الجواد فيكون ذلك رابع أقوال المسألة.

والصواب هو القول الثاني ، وقد قدّمنا التحقيق في نظيره في مسألة الأمر الموسّع إذا ظنّ المكلّف ضيق الوقت فانكشف فساد ظنّه ، ونقول هنا أيضا أنّ المسقط للكفائي بحكم الأمر ليس إلاّ حصول الفعل من البعض في الواقع دون العلم أو الظنّ بحصوله ، وإنّما هما واسطتان في الحكم بالسقوط لا نفس السقوط فإذا انكشف فسادهما تبيّن عدم السقوط.

وبعبارة اخرى : أنّ العلم أو الظنّ علّة للحكم بالسقوط لا نفس السقوط ، فإذا تبيّن فسادهما انكشف فساد العلّة وهو يستلزم فساد المعلول ، فتبيّن أنّ الحكم بالسقوط إنّما وقع في غير محلّه فيكون وجوده بمنزلة عدمه ، ولا يعقل معه إلاّ بقاء الوجوب على حاله إلى أن يحصل أداء متعلّقه أو يخرج وقته.

والاستصحاب المتقدّم في المحكيّ عن بعض الأفاضل لا عبرة به ، بل لا استصحاب في الحقيقة من جهة سريان شكّه إلى آن اليقين كعدالة زيد إذا صار حال الشكّ في البقاء حدوثها في الآن السابق مشكوكا فيه ، بأن يكون الزمان اللاحق ظرفا للشكّ في البقاء والحدوث معا.

وعاشرها : ربّما يحكى عن ظاهر غير واحد القول بأنّ فرض الكفاية أفضل من فرض العين.

وعزى القول به على ما في كلام بعض الأفاضل إلى أكثر المحقّقين.

ويظهر من الفاضل المشار إليه الميل إلى العدم ونفى عنه البعد بعض الأعاظم تعليلا باشتماله على الامتثال مع الإحسان على الامّة بسبب تخليصهم عن العقاب مع كونه حافظا لمصلحة يترتّب نفعها على الجميع ويحلّ نفسه محلّهم بخلاف فرض العين.

وأنت خبير بوهن الجميع من جهة أنّ الاشتمال على الامتثال مشترك بينهما والإحسان على الامّة قد يتأتّى في العينيّات ، كما أنّ حفظ المصلحة الّتي يعود نفعها إلى الجميع قد يترتّب في بعض المندوبات كالوقف على جهة عامّة أو الوصيّة لها.

وعن الأكثر الاحتجاج بأنّه : ما يسقط الحرج بفعله عن نفسه وعن غيره.

وأورد عليه :

أوّلا : بأنّ الواجب في العيني أفعال عديدة وفي الكفائي فعل واحد ، ومن الواضح أنّه

١٤٦

أصل

الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه* (١)

_______________________________

لا أفضليّة للواجب الّذي يجب الإتيان به مرّة على ما يجب تكراره. وفيه : ما فيه من منع الصغرى كما تقدّم.

وثانيا : بأنّ الأفضليّة ليست من جهة إسقاط العقاب ، بل إنّما تلاحظ من جهة زيادة الثواب ، وكون الثواب المترتّب على الكفائي أكثر ممّا يترتّب على العيني ممّا لا دليل عليه.

واحتجّ للقول الآخر بزيادة الثواب في العيني لكون المثابين فيه أكثر من المثابين في الكفائي.

وردّ : بأنّ كثرة الثواب من جهة كثرة المثابين غير كثرة الثواب المترتّب على الفعل في نفسه والأفضليّة تتبع ذلك ، على أنّ تعدّد الثواب من الجهة المذكورة يمكن فرضه في الكفائي أيضا ، كما لو حصل أداؤه من الجميع أو من غير واحد ، ولمّا كان ذلك الخلاف ممّا لا يترتّب على تحقيق القول فيه فائدة مهمّة فلا يجدي الكلام في الوجوه المذكورة نقضا وإبراما ، ولا في إقامة الدليل على ما هو الصواب ، وإلاّ فلا خفاء في أنّ كلّ ما ذكر اعتبار ضعيف لا يصلح سندا في أمثال المقام.

هذا تمام المقال فيما أوردناه في بحث الكفائي على حسبما ساعدنا إليه المجال ، فإنّه هو الموفّق في كلّ حال.

* واعلم أنّ الواجب باعتبار الزمان الّذي يقع فيه له تقسيم آخر غير ما تقدّم من تقسيماته باعتبارات اخر.

والّذي شاع في لسانهم ممّا يحصل بهذا التقسيم ما يقع عليه اسم « المضيّق » واسم « الموسّع » وإلاّ فهو بهذا الاعتبار ما يقع عليه تارة اسم المطلق ، واخرى اسم المؤقّت وثالثة اسم المضيّق ، ورابعة اسم الموسّع وخامسة اسم الفوري ، وكلّ من ذلك بنحو من الاعتبار الّذي يلاحظ مع الفعل المأمور به بالنظر إلى زمان وقوعه.

والّذي يساعد عليه الذوق أن يقال في التقسيم العامّ الشامل لجميع تلك الأقسام : بأنّ الواجب إمّا فوريّ أو غير فوريّ.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الزمان في أوّله وآخره محدودا بوقت معيّن لا يتجاوز عنه

١٤٧

تقدّمّا وتأخّرا أو لا.

والأوّل ما يعبّر عنه بـ « المضيّق » وقد يقيّد بالمعنى الأخصّ ، وقد يقع عليه اسم « الموقّت » باعتبار كونه أحد قسميه.

والثاني على قسمين :

أحدهما : ما يكون الفوريّة ـ وهو لزوم التعجيل في أدائه ـ من قيود المأمور به الّتي يفوت المأمور به بالإخلال فيها ، ويعبّر عنه بـ « الفوري » على الإطلاق كردّ السلام ، وقد يسمّى بالفوري التقييدي.

وثانيهما : ما يكون الفوريّة مطلوبا آخر أثبته الدليل مع المأمور به ، ويعبّر عنه بـ « المضيّق » باعتبار عدم الرخصة في التأخير ، كالحجّ حيث لا رخصة في تأخيره عن العام الأوّل من الاستطاعة ، وقد يسمّى بـ « الموسّع » باعتبار التوسعة في زمان الإجزاء ، وقد يعتبر فيه كونه مضيّقا من جهة وموسّعا من اخرى ، وقد يجعل بهذا الاعتبار قسما من المضيّق بالمعنى الأعمّ والموسّع بالمعنى الأعمّ ، قبالا للمضيّق والموسّع بمعناهما الأخصّ.

وعلى الثاني : فإمّا أن يكون زمان أدائه مع كونه موسّعا محدودا في أوّله وآخره بوقت معيّن لا يتجاوز عنه تقدّما وتأخّرا فهو « الموسّع بالمعنى الأخصّ » قبالا للمضيّق بهذا المعنى ، كالفرائض اليوميّة أو لا يكون كذلك ، بل زمان أدائه باق من طرف الآخر ما دام العمر فهو المسمّى بالأمر المطلق قبالا للموقّت ، كصلاة الزلزلة وغيرها من الآيات غير الكسوفين.

وقد يطلق عليه اسم « الموسّع » أيضا باعتبار معناه العامّ الشامل للمحدود وغيره.

ثمّ إنّ الأصل في الواجب لفظا وعملا كونه موسّعا بهذا المعنى ، فإنّه الّذي يقتضيه إطلاق الأمر وأصالة عدم التقييد بما يوجب الفوريّة أو التوقيت ، ويساعد عليه أصل البراءة عمّا يوجب استحقاق العقاب بالتأخير ، واستصحاب الأمر بعد تأخير الامتثال عن زمن الفور ، ولا حكم معه لقاعدة الشغل المقتضية للتعجيل.

فإن ثبت دليل على اعتبار الفوريّة فإن أوجب مع ذلك كونها من قيود المأمور به انقطع به كلّ من الإطلاق والأصل والاستصحاب ، فيكون الفور التقييدي على خلاف الاصول لفظا وعملا ، فلا يصار إليه إلاّ مع دليل ينقطع به تلك الاصول ، وإن أوجب كونها مطلوبا آخر مع المأمور به انقطع به أصل البراءة خاصّة ، فيكون المضيّق باعتبار زمان الرخصة والموسّع باعتبار زمان الإجزاء مخالفا لذلك الأصل دون الإطلاق والاستصحاب ، فإذا دار

١٤٨

جائز عقلا* (١) ، واقع على الأصحّ. ويعبّر عنه بالواجب الوسّع ، كصلاة الظهر مثلا. وبه قال أكثر الاصحاب ، كالمرتضى ، والشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة ، وجمهور المحقّقين من العامّة.

________________________________

الأمر بينه وبين الفور التقييدي كان الأصل في جانبه عملا بالإطلاق وأصالة عدم التقييد والاستصحاب إن كان دليل أصل الواجب لفظيّا ، وإلاّ انحصر الأصل في كونه من مقتضى الاستصحاب كما لا يخفى.

وإن ثبت دليل على اعتبار التوقيت انقطع الأصول أيضا بحذافيرها بالمرّة كما في المضيّق بالمعنى الأخصّ. أو في الجملة كما في الموسّع بالمعنى الأخصّ.

ثمّ إن علم في مورد ذلك الدليل مساواة الوقت للعمل أو كونه زائدا عليه فلا إشكال ، وإن علم التوقيت في الجملة وتردّد بين المساواة والزيادة كان الأصل هو الزيادة ، لأصالة البراءة عمّا يوجب استحقاق العقاب بالتأخير عمّا يحصل به من أجزاء الوقت المساواة المحتمل لكونه آخر أجزاء الوقت المضروب له ، واستصحاب الأمر فيما بعد ذلك الجزء إلى ما يوجب القطع بكونه آخر أجزاء الوقت ، فيكون الموسّع بالمعنى الأخصّ على طبق الأصل من هذه الجهة بالقياس إلى الموسّع بالمعنى الآخر ، كما أنّ المضيّق المقابل له على خلاف الأصل بالقياس اليه بالمعنى المتقدّم.

وأمّا إذا ثبت الفور في المأمور به بعنوان القيديّة ودار بين كونه من باب المضيّق بالمعنى الأخصّ أو الفور التقييدي فلا يجري فيه شيء من الأصول المذكورة ليرجّح به أحد الطرفين ، فيلزم من ذلك الوقف اجتهادا وإن كان لا يترتّب على عدمه ثمرة عملا ، نعم يمكن اعتبار أصل آخر هنا يرجّح ثاني الاحتمالين نظرا إلى أنّ ضبط الوقت أوّلا وآخرا ممّا يحتاج إلى زيادة مؤنة كما لا يخفى على المتأمّل ، فالأصل عدمها.

فبما ذكر تبيّن شرح قول المصنّف : « الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه » فإنّ الموسّع موقّتا كان أو غيره على تقدير ثبوته واجب أمر به في وقت يفضل عنه ، وسيأتي زيادة توضيح في ذلك.

* خبر للعبارة المتقدّمة ، وتفصيل القول فيه : أنّ الواجب إذا لوحظ معه وقت فإمّا أن يكون ذلك الوقت ناقصا عن زمان أدائه تماما ، بمعنى كونه ممّا لا يسع إيقاعه فيه بالتمام ،

١٤٩

أو مساويا ، أو زائدا عليه بمعنى كونه ممّا يسع إيقاعه فيه وما زاد.

وقد نصّ غير واحد من الخاصّة والعامّة بامتناع الأوّل مع نفي الإشكال عنه في عبارة ، أو نفي الكلام عنه في عبارة اخرى ، أو نفي الخلاف عنه في عبارة ثالثة ، أو نفي النزاع عنه في رابعة ، إلاّ على أحد الوجهين من تجويز التكليف بالمحال كما عليه جماعة من العامّة ، أو على إرادة القضاء في المعذور الّذي زال عذره في الوقت وقد بقى منه مقدار ركعة أو تكبيرة ، كما لو كان صبيّا فبلغ أو كانت المرأة حائضا فطهرت في هذا المقدار من الوقت ، فإنّه وإن لم يسع العمل بتمامه غير أنّه يسع الالزام حتّى يجب عليه القضاء.

وربّما يقرّر بما في محكي النهاية ـ على ما في الهداية ـ من أنّه إذا اريد إيقاع بعضه فيه وإتمامه فيما بعده فلا مانع ، كما ورد في الخبر : « من أدرك ركعة في الوقت فقد أدرك الوقت ».

وربّما يتوهّم جواز هذا القسم كالقسم الآتي استنادا إلى تلك الرواية ، فإنّ مقدار ركعة من الوقت ممّا لا يسع تمام العمل وقد وقع فيه التكليف به.

ويبطله : أنّه إنّما يستقيم لو كان المعنى من أدرك هذا المقدار من الوقت يجب عليه أداء تمام العمل فيه ، وهو من حيث أدائه إلى تكليف ما لا يطاق المستحيل واضح البطلان ، بل المنساق من الرواية أنّها ليست في موضع الطلب والإنشاء حيث لا داعي إلى الحمل عليه ، بل هو إخبار إمّا على سبيل الحمل الحقيقي وهو باطل لاستلزامه الكذب ، أو على سبيل الحمل المجازي من باب التشبيه الّذي حذفت معه أداته ، ليكون التقدير : « من أدرك ركعة من الوقت فكأنّه أدرك الوقت » فهو المتعيّن ، بناءا على أنّ المراد بمدخولي « اللام » هو الوقت المعهود المضروب للصلاة بحسب الشرع ، فيحمل التشبيه حينئذ على أظهر الأحكام وهو كون وقوع العمل على تقدير إدراك تمامه في الوقت أداءا.

فيكون مفاد الرواية : أنّ إدراك ركعة من الصلاة في الوقت مع تعقّب تتميمه في خارج الوقت ما نزّله الشارع منزلة إدراكه تمامها في الوقت ، وحكم عليه بكونه أداءا وإن لم يكن تمامه واقعا في الوقت.

فيكون تلك الرواية حاكمة على أدلّة التوقيت ، ضرورة أنّ قضيّة التوقيت وقوع الصلاة بجميع أجزائها في الوقت بحيث لو فرض وقوع التكبيرة منها قبل الوقت أو تسليمها بعده كانت فاسدة ، غير أنّ الرواية كشفت بمضمونها عمّا هو حقيقة المراد من دليل التوقيت ،

١٥٠

فضعف بذلك القول بكونه قاضيا مطلقا أو لما يقع خارج الوقت خاصّة ، لقضاء ظاهر الرواية بكونه مؤدّيا مطلقا كما هو ثالث الأقوال في هذا المقام ، وفي شمولها لما يقع أوّل الوقت من بعض الصلاة مع وقوع ما عداه قبله احتمال قوي ، لولا ظهور لفظة « أدرك » في إدراك الأخير بحسب العرف والعادة.

وأمّا القسم الثاني فصرّح غير واحد من الفريقين مع دعوى الإجماع أو الاتفاق أو نفي الخلاف أو النزاع أو الإشكال بجوازه ، بل وقوعه في الشرع كصوم رمضان.

وقد يقال : باختصاص هذا القسم بحكم الاستقراء ـ مع كونه من مقتضى الفرار عن العسر العظيم ـ بالتروك ، كما يعلم من المثال المذكور ، ولا يرد مسألة التراوح في أحكام النزح لعدم ابتنائه على التطبيق الحقيقي الّذي هو محلّ الفرض ، ولذا جاز للمتراوحين الصلاة جماعة وغير ذلك ممّا يستلزم خلوّ بعض اليوم عن الاشتغال ، على أنّ التطبيق الحقيقي في بعض الموقّتات كالصلوات اليوميّة ممّا لا يمكن عادة كما لا يخفى.

وكأنّ الداعي إلى عدم تعرّض المصنّف لذكر هذين القسمين هو ما ذكر من قضيّة عدم الإشكال أو عدم الخلاف فيهما امتناعا وجوازا.

وأمّا القسم الثالث فهو الّذي تعرض لذكره المصنّف لوقوع الخلاف في جوازه حيث انّ جماعة من العامّة كأبي الحسن الكرخي وجماعة من الأشاعرة وجماعة من الحنفيّة أنكروا ذلك وذهبوا إلى امتناعه كالأوّل.

وربّما يحكى ذلك عن المفيد من أصحابنا ، كما يشير إلى ذلك المصنّف أيضا فيما بعد ذلك ، وسيأتي عن بعضهم المناقشة في ذلك ، وصار الآخرون إلى جوازه عقلا ووقوعه شرعا ، ومستند المنع إمّا ما يرجع إلى إنكار المقتضي كما يومئ إليه احتجاج المجوّزين بإمكان اشتراك أجزاء الوقت في المصلحة المقتضية لإيجاب الفعل فيه كما في عبارة المنية ، أو إلى إبداء المانع كما هو المصرّح به في جملة العبائر من تعليل الامتناع بأداء الفضلة في الوقت إلى جواز ترك الواجب.

وعليه فما في كلام جماعة من المجوّزين الاستناد إلى ما يقضي بوجود المقتضي قبالا لمن يستند في المنع إلى وجود المانع ليس على ما ينبغي ، لأنّ المقتضي قد يجامع وجود المانع فعلى المجوّز رفعه ، لجواز كون المقتضي ممّا يسلّمه الخصم.

١٥١

وكيف كان فظاهرهم عنوانا ومثالا يعطي اختصاص النزاع بما كان من الموسّع موقّتا ، لكن دليل المانعين لكونه ممّا لا يقبل التخصيص يفيد القطع بكونه فيما يعمّ الموقّت وغيره ، فلا بدّ من حمل ما يوهم الاختصاص على إرادة المثال ، ولا ينافيه ما يأتي عن المانعين من افتراقهم في تأويل ما دلّ بظاهره على وقوع التوسعة في الفرائض اليوميّة إلى مذاهب من حيث إنّ ذلك مختصّ بالموقّت ، لأنّ كلّ ذلك تكلّف منهم ارتكبوه للتفصّي عمّا ورد عليهم من إشكال الوقوع في خصوص الموقّت ، فاختصاص ذلك إنّما هو من جهة اختصاص الإشكال لا اختصاص أصل الدعوى ، ومخالفتهم هنا وإن كانت في الإمكان الّذي نفيه يستلزم نفي الوقوع غير أنّا نورد الكلام معهم في مقامين :

أحدهما : في إمكان الموسّع عقلا ومنع امتناعه ، وهذا هو الّذي أشار إليه المصنّف إجمالا بقوله : « جائز عقلا ».

وثانيهما : في وقوعه شرعا إلزاما لهم بما هو أخصّ ممّا أنكروه ، وهذا هو الّذي يشير إليه المصنّف فيما يأتي عنه.

أمّا المقام الأوّل : فإمكان الموسّع مع أنّه ضروريّ يعرفه كلّ فطرة سليمة ممّا لا مجال إلى إنكاره ، لوجود ما يقتضي إمكانه وفقد ما يصلح مانعا عنه.

وبعبارة اخرى : المقتضي لإمكانه بالذات موجود والموجب لامتناعه بالعرض مفقود.

أمّا الأوّل : فلوضوح أنّ الواجب ما لا ينعقد إلاّ مع رجحان ينشأ منه وصفه العنواني ، وذلك الرجحان بحكم الاستقراء مع قضاء الوجدان قد يكون من لوازم الماهيّة الملحوظة لا بشرط شيء من الامور الخارجة عنها ، المنوّعة لها من زمان أو مكان أو آلة أو حالة أو صفة أو نحوها من الاعتبارات الخارجة ، وقد يكون من لوازم الماهيّة الملحوظة بشرط شيء أو أشياء ممّا ينوّعها من الامور المذكورة ، ضرورة أنّها قد تكون راجحة في زمان دون آخر ، ومكان دون آخر ، وآلة دون أخرى ، وحالة دون اخرى ، وهكذا إلى آخر ما له مدخليّة في إثباتها ، فالزمان أيضا ممّا قد يستند إليه رجحان الواجب وينوط به المصلحة المطلوبة من إيجابه.

ولا ريب أنّه في إيراثه الرجحان قد يكون بحيث يستند الرجحان في لحاظ الآمر إلى مجموع أجزائه من حيث المجموع ، بحيث لولا انضمام بعض تلك الأجزاء لما كان ما اوتي

١٥٢

به في غير ذلك الجزء هو النوع الراجح ، وإن صلح في حدّ ذاته لأن يقع في غير المجموع ، كالصوم المنوط رجحانه الباعث على إيجابه بانقضاء تمام أجزاء النهار من أوّل الفجر إلى المغرب ، فإنّه بما هو هو ليس إلاّ إمساكا مقرونا بالنيّة ، وهذا المعنى كما ترى قابل لأن يتحقّق في جزء من النهار كساعة أو ساعتين أو أقلّ أو أكثر ، غير أنّ ما اعتبر فيه من الرجحان منوط بتحقّق هذا المعنى في تمام أجزاء النهار بحيث لولا تحقّقه في بعضها ولو كان أقلّ قليل منها لحصل الاختلال في الراجح ، ولم يكن الحاصل حاصلا بوصف الرجحان ولا الوجوب ، ولا أنّه يوجب الامتثال ولا ترتّب الثواب ولا المصلحة المطلوبة من إيجابه.

وقد يكون بحيث يستند الرجحان إلى كلّ جزء من أجزائه ممّا يسع إيقاع الفعل فيه ، على وجه لو وقع في أيّ منها على البدل كان كافيا في تأدية العمل الراجح والواجب الّذي انيط رجحانه بهذا الزمان المضروب له.

وقضيّة ذلك ثبوت التوسعة في وقت أدائه ، بمعنى صلاحية وقوعه في كلّ جزء من ذلك الوقت على البدل ، كالواجب التخييري بالقياس إلى أفراده.

هذا كلّه في الموقّت.

وأمّا غيره فوجود المقتضي للتوسعة وإمكانها فيه أظهر وأوضح ، التفاتا إلى أنّ الواجب إذا كان غير موقّت معناه أنّه لوحظ في اعتبار وصفه العنواني لا بشرط شيء من الزمان ، بأن لا يكون لخصوصيّة زمان دون آخر مدخليّة في رجحانه الباعث على إيجابه ، ومن لوازم ما لوحظ لا بشرط شيء جواز اجتماعه مع ألف شرط ، ولا نعني من جواز التوسعة إلاّ هذا المعنى.

وبالجملة الزمان كائنا ما كان ـ كالمكان والآلة وغيرهما ـ من لوازم وجود الماهيّة ، إلاّ أنّه قد يؤخذ مع ذلك قيدا لها في تعلّق وصف الوجوب بها ، فيلزم من ذلك تخصيص ما هو من لوازم وجودها بما يكون محدودا في أوّله وآخره ، وإخراج بعض ما يشاركه من جهة اللزوم عن كونه مشاركا له في إناطة رجحان الماهيّة به بضبطه في طرفيه الأوّل والآخر المعبّر عنه بالتوقيت ، واذا فرض كون ذلك الزمان المحدود والوقت المضبوط صالحا لأزيد من إيقاع تلك الماهيّة مرّة كانت الماهيّة في تعلّق وصف الوجوب بها بالقياس إلى أجزائه لا بشرط شيء وإن كانت بالقياس إليه من حيث كونه محدودا بشرط شيء ، كما أنّها فيما

١٥٣

لم يعتبر شيء من الزمان الّذي هو من لوازم وجودها معها في تعلّق الوجوب بها لا بشرط شيء بالقياس إليه وسائر أجزائه.

وقضيّة ذلك كونها في كلّ من الصورتين قابلة لكلّ شرط زماني هو من أجزاء وقتها المضروب لها أو من أجزاء ظرف وجودها ، كسائر الماهيّات بالقياس إلى ما يفرض لها من الشروط الغير الزمانيّة من مكان أو آلة أو حالة ، فكما أنّ الإتيان بسائر الماهيّات في ضمن أيّ جزء ممّا ذكر من الشروط حيثما لو حظت لا بشرط شيء منها ممّا يكفي في حصول الامتثال بلا مدخليّة لخصوص شيء من ذلك فيه ، فكذلك الإتيان بها في ضمن أيّ جزء ممّا عيّن له من الوقت المحدود أو ما هو ظرف لوجودها ، وإبداء الفرق بينهما بدعوى إمكان الأوّل دون الثاني تحكّم واضح.

ولا أظنّ الخصم ينكر ذلك ، كيف وهو قريب من إنكار أبده البديهيّات ، فالانصاف أنّه ليس بصدد إنكار الإمكان الذاتي بل إنّما يدّعي الامتناع العرضي لشبهة عرضت له في توهّم وجود ما يمنع المقتضي المذكور عن اقتضائه.

وأمّا الثاني : فلأنّه ليس في المقام ممّا توهّمه الخصم موجبا للامتناع إلاّ استلزام التوسعة في الوقت ترك الواجب.

وفيه : إن اريد به لزوم تركه مطلقا فالملازمة ممنوعة ، إذ التوسعة في الوقت إنّما تتضمّن تجويز الترك إلى أن يتضيّق الوقت فيتعيّن معه الفعل ، وإن اريد به لزوم تركه في الجملة وإن لحقه الفعل فيما بعد ذلك ولو كان [ في ] الجزء الأخير منه فبطلان التالي ممنوع ، إذ لا بدّ له من دليل ليتمّ به الدليل ، وهو إمّا أمر لفظي بمعنى أنّ تجويز تركه في الجملة ممّا يوجب فوات صدق اسم « الواجب » عرفا ولغة ، أو أمر شرعي بمعنى أنّ الشرع قد كشف عن أنّ ذلك لا يجامع الإيجاب ، أو أمر عقلي بمعنى قضاء العقل بمنافاة ذلك للحكمة أو استلزامه قبحا آخر ، كما لو صرّح بالإيجاب وتجويز الترك على الإطلاق ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ « الواجب » عرفا ولغة ليس إلاّ ما كان فعله مطلوبا وتركه ممنوعا ، وهو ممّا يصدق مع تجويز الترك في الجملة ، لأنّه في الحقيقة تأخير والممنوع في مفهوم الواجب هو الترك المطلق ، وهو ليس بعين التأخير ولا أنّه يستلزمه.

وأمّا الثاني : فلوضوح فقد ما يدلّ من الشرع على هذا المعنى ، كيف وقد خرجت فيه

١٥٤

كتابا وسنّة ظواهر قضت بوقوع الموسّع الّذي هو أخصّ من الإمكان على ما ستعرفه.

وأمّا الثالث فلأنّ ما يعدّ سفها أو قبيحا أو منافيا للحكمة إنّما هو تجويز ترك الواجب في موضع الإيجاب بالمرّة ، لاستلزام الإيجاب المنع من تركه بالمرّة أو عدم الرضاء به ، وتجويز التأخير ليس منه ، ولا ينشأ منه بنفسه قبح آخر بل هو بنحو من الاعتبار قد يعدّ حسنا من حيث تضمّنه لتسهيل أمر الامتثال للمكلّف ، وتقليل ما ينشأ من أصل التكليف بالنسبة إليه من الضيق المعنوي الّذي ينظر إليه اشتقاقه من الكلفة ، بل نرى بالوجدان الّذي يرشد إليه بناء العقلاء أنّ العقل لا يأبى عن قول العدل الحكيم لعبده : « أوجبت عليك الفعل الفلاني في اليوم الفلاني ورخّصتك في اختيار إتيانه في أيّ جزء منه أوّلا أو آخرا أو وسطا ، ولا اعاقبك على تأخيره إلى الجزء الأخير منه ، وإنّما اعاقبك على تركه رأسا » بل ولو صدر مثل ذلك عنه لا يقبّحه العقلاء أصلا ولا يرمونه بالسفاهة ، كما أنّهم يقبّحونه فيما لو قال : « أوجبت عليك كذا وأرضى بتركه رأسا ».

وأمّا المقام الثاني : فهو الّذي أشار إليه المصنّف بقوله : « واقع على الأصحّ ويعبّر عنه بالواجب الموسّع كصلاة الظهر مثلا ».

ومحصّل الدليل على الوقوع ظاهر قوله عزّ من قائل ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(١) فإنّه في ظاهر الفهم العرفي يقضي بامتداد الوقت من الدلوك إلى الغسق.

ودعوى اختصاصه بالأوّل أو بالآخر أو كونه مراعى إلى إدراك الآخر مع شرائط التكليف فيكشف عن سبق الوجوب وإلاّ فلا ، تقييد في ذلك بلا دليل وتأويل خال عن التحصيل ، كما يرشد إليه ما ورد في تفسير الآية من صحيح عبيد بن زرارة فقال : « إنّ الله افترض أربع صلوات أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل ، منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى الانتصاف إلاّ أنّ هذه قبل هذه » (٢).

وفي معناه ما في الرواية : « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين الظهر والعصر ، إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما حتّى تغيب الشمس » (٣).

__________________

(١) الاسراء : ٧٨.

(٢) البحار ٧٩ : ٣٥٨ و ٨٠ : ٦٨ ، الوسائل ٤ : ١٥٧.

(٣) الوسائل ٤ : ١٢٦.

١٥٥

وفي معناها رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « أحبّ الوقت إلى الله عزّ وجلّ حين يدخل وقت الصلاة فصلّ الفريضة ، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتى تغيب الشمس » (١)

وفي معناها رواية عبد الله بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن وقت العصر والظهر فقال : « إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعا ، إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما حتّى تغيب الشمس » (٢).

وفي معناها مرسلة داود بن فرقد قال : « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّى أربع ركعات ، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر والعصر وبقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس » (٣) إلى غير ذلك من النصوص ، وهي وإن كانت لا تجدي في دفع شبهة الخصم من حيث إنّه لا يقول بها غير أنّها تجدينا في اختيار المذهب وتحصيل ما هو حقيقة الأمر.

هذا مع أنّ في الآية المشار إليها إمّا أن يراد تطبيق العمل مرّة لتمام الوقت المذكور فيها على وجه ينطبق أوّله على أوّله وآخره على آخره ، أو يراد تكراره إلى انقضاء الوقت ، أو إيقاعه في جزء معيّن منه ، أو إيقاعه في جزء منه غير معيّن ، أو إيقاعه في أيّ جزء منه اتّفق ، والأوّل ـ مع أنّه غير ممكن عادة فيفضي إلى التكليف بالمحال ـ خلاف ما قامت به سيرة المسلمين في جميع الأمصار وما انعقد عليه إجماع علمائهم في كلّ الأعصار ، كما أنّ الثاني يخالفهما.

والثالث خلاف الفرض ، حيث لا دليل على العهد والتعيين من كتاب أو سنّة أو إجماع أو عقل ، ولا أنّ الآية المتضمّنة للتوقيت تعرّضت للتعيين.

وإلى ذلك أشار المصنّف فيما بعد ذلك بقوله : « وليس في الأمر تعرّض لتخصيصه بأوّل الوقت أو آخره ولا بجزء من أجزائه المعيّنة قطعا ، بل ظاهره ينفي التخصيص ، ضرورة دلالته على تساوي نسبة الفعل إلى أجزاء الوقت ، فيكون القول بالتخصيص بالأوّل أو الآخر تحكّما باطلا » انتهى.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٦١ ، الوسائل ٤ : ١٢٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢١٦.

(٣) الاستبصار ١ : ٢٦١ ، الوسائل ٤ : ١٢٧.

١٥٦

والرابع كالأوّل في تأديته للتكليف بالمحال ، فتعيّن الخامس وهو المطلوب.

وربّما يحكى الاحتجاج (١) عليه أيضا : بأنّ الفعل لو وقع في كلّ جزء من أجزاء الوقت كان مجزيا بالإجماع ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا كان محصّلا لمصلحة الواجب ، وكان إيقاعه في كلّ وقت قائما مقامه في غيره من الأوقات فيكون واجبا ، إذ لولاه فإمّا من جهة فوات مصلحة الواجب فيكون حراما ، أو من جهة بقائها فيكون أداء الفعل ثانيا واجبا ، وكلاهما باطلان إجماعا.

وردّ : بأنّه لو اريد بكون الإتيان بالفعل في كلّ جزء من الوقت مجزيا أنّ الإتيان به إتيان بالمأمور به فهو المتنازع فيه ، ولو اريد به كونه مسقطا للخطاب فهو أعمّ ، لجواز كون إيقاعه في بعض الأجزاء ندبا يسقط به الفرض وفي آخر واجبا فيكون أعمّ.

أقول : يمكن تتميم الحجّة وتوجيهها على وجه يندفع به الردّ المذكور ـ وإن كانت العبارة المذكورة في تقريرها قاصرة عن تأديته ـ وهو أن يقال : إنّ ما ذكر من عموم القضيّة إنّما يصحّ بعد إحراز مقدّمتين :

إحداهما : كون الفعل في بعض أجزاء الوقت نفلا ، وهو ممّا لا دليل عليه من عقل ولا نقل ، ولا تعرّض في الأمر الموقّت للتنبيه عليه أصلا ، كيف وهو ممّا يفضى إلى وقوع استعماله في أكثر من معنى.

ولا ريب أنّ مجرّد الاحتمال مع عدم قيام الدليل لا يكفي في ثبوته ، مع كونه من التوقيفيّات الّتي الأصل فيها العدم ، والمراد به القاعدة الّتي يعبّر عنها بـ « أنّ عدم الدليل دليل العدم ».

وثانيتهما : كون النفل على فرض ثبوته مسقطا عن الفرض ، وهو أيضا على خلاف الأصل فلا يصار إليه ، ولا يعتنى باحتماله إلاّ في مورد الدليل والمقام ليس منه ، وثبوته في باب الزكاة ـ على فرض تسليمه ـ خارج بالدليل فلا يقاس عليها غيره.

وبالجملة هذه الحجّة منوطة بالإجماع على كون إيقاع الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت محصّلا لمصلحة الواجب ، وهو على حدّ الانفصال الحقيقي دائر بين كونه من جهة

__________________

(١) قرّره السيّد في المنية هكذا : « ولوقوع الإجماع على أنّ المؤدّى للفعل المأمور به على الوجه المذكور في أيّ جزء من أجزاء الوقت يكون مؤدّيا للفرض ، وذلك مؤذن بأنّ إيقاع الفعل في أيّ جزء كان مساو لإيقاعه في غيره من تلك الأجزاء في تحصيل مصلحة الواجب ، وذلك مستلزم لوجوبه فيه ، إذ لو كان الفعل في بعض أجزاء الوقت غير محصّل لمصلحة الواجب لكان إمّا مفوّتا لها فيكون حراما أو لا ، فيجب إيقاع الفعل في جزء آخر غيره تحصيلا لتلك المصلحة وهما خلاف الإجماع » انتهى. ( منه عفي عنه ).

١٥٧

حصول نفس الواجب أو من جهة حصول ما يوجب سقوطه من النفل على الوجه المفروض.

والثاني منفيّ بالأصل وعدم قيام دليل على شيء من المقدّمتين المحتاج إليهما في تصحيحه ، فتعيّن الأوّل.

وقد شاع الاحتجاج عليه أيضا بما يشير إليه المصنّف ، وجنح إليه الحاجبي في مختصره من : « أنّه لو كان الوقت معيّنا لكان المصلّي في غيره إمّا مقدّما للفعل على وقته فلا يصحّ ، أو مؤخرا له عن وقته فيكون قاضيا فيعصى ، وكلاهما خلاف الإجماع ».

أقول : يرد عليه نظير ما سبق في الاحتجاج السابق ، كما أشار إليه بعض الأعاظم.

ويمكن تصحيحه والذبّ عمّا يرد عليه بنحو ما مرّ ، وإن كانت العبارة قاصرة عن أدائه.

وقد يحكى الاستدلال عليه أيضا : « بأنّه لو اختصّ الوجوب بأوّل الوقت لاستحقّ الذمّ بتأخيره إلى آخر الوقت كما يستحقّه بتأخيره عن الوقت ، ولا نتفت فائدة ضرب الوقت ، لأنّ ما يفعل بعده يكون قضاء لما يفعل فيه ، ولو اختصّ بآخره لزم محالات ، من أنّ الفعل لو كان في أوّله نفلا ـ كما اختاروه ـ وجب كون النيّة مطابقة له ، ومن تحريم الأذان والإقامة في أوّل الوقت لاختصاصهما بالفرائض ، ومن عدم تأدية الفرائض لو لم يؤدّها إلاّ في أوّل الوقت ، ومن لزوم أفضليّة النفل من الفرض فإنّ تقديم المغرب أفضل من تأخيرها » وهو بظاهره غير وجيه ولا يندفع به شبهة الخصم ، لتمكّنه من اختيار الشقّ الأوّل ودفع أوّل الوجهين بمنع الملازمة على تقدير ومنع بطلان التالي على تقدير آخر ، إذ لو اريد بلزوم استحقاق الذمّ بالتأخير الى آخر الوقت لزومه مع عدم لحوق العفو به لو فعله في الآخر كان الملازمة ممنوعة.

ولو اريد به لزومه مع لحوق العفو لو فعله في الآخر كان بطلان التالي ممنوعا ، إذ لا دليل عليه إلاّ الإجماع ، ولا إجماع إلاّ على نفي استحقاق الذمّ من غير تعقّب العفو.

وبعبارة اخرى : لو اريد باستحقاق الذمّ حدوثه وإن لم يبق بلحوق العفو بالفعل في الآخر اتّجه المنع عن بطلان التالي.

ولو اريد به بقاؤه بعد الحدوث اتّجه المنع عن الملازمة ، إذ القائل باختصاص الوقت بالأوّل يدّعي عدم بقائه بلحوق العفو.

ودفع ثانيهما أيضا بمنع انحصار فائدة ضرب الوقت في بيان وقت الأداء ، إذ بيان وقت العفو بعد انقضاء وقت الأداء أيضا من جملة الفوائد وإن كان الأوّل أظهرها ، فلم لا يجوز أن يراد به حصول تلك الفائدة بعد ما قام الدليل على امتناع إرادة ما هو أظهر منها ، وبذلك

١٥٨

وأنكر ذلك قوم ؛ لظنّهم أنّه يؤدّي إلى جواز ترك الواجب. ثمّ إنّهم افترقوا على ثلاثة مذاهب.

أحدها : أنّ الوجوب ، فيما ورد من الأوامر الّتي ظاهرها ذلك ، مختصّ بأوّل الوقت*

__________________________________

يمتاز الواجب الموسّع عن المضيّق ، إذ ليس في تأخير المضيّق عن وقته المضروب له عفو حتمي بخلاف الموسّع ، فإنّ ما فيه من التوسعة في الوقت يرجع إلى التوسعة في وقت العفو الحتمي بعد انقضاء وقت الأداء إلى آخر الوقت الّذي دلّ عليه النصّ.

وعن اختيار الشق الثاني ودفع أوّل المحاذير بالتزام وجوب نيّة النفل تحصيلا لمطابقة النيّة للعمل ، فإنّ من يجعل أصل العمل نفلا لا يبالي عن القول بكون الواجب في نيّته نيّة النفل ، إذ لا يمنعه عن ذلك مانع بعد ما لم يكن له مانع عن القول بكون أصل العمل نفلا.

ودفع ثانيها بمنع تحريم الأذان والإقامة أوّل الوقت هنا مع منافاته لاختصاصهما بالفرائض ، فإنّ من يجعل العمل أوّل الوقت نفلا إنّما يجعله بدعوى قيامه مقام الفرض وكونه نازلا منزلته ولذا يلتزم بكونه مسقطا عنه ، فإذا دلّه الدليل على تلك الدعوى يسهّل عليه الأمر في تحليل الأذان والإقامة إذ ادّعى كونه من مقتضيات عموم المنزلة ، فإنّ معنى كونه قائما مقام الفرض أن يلحقه جميع أحكامه أو الظاهرة من أحكامه الّتي منها اشتراط الطهارة في الصحّة مثلا.

ومنها : سقوط الأمر بحصوله في الخارج.

ومنها : جواز الأذان والإقامة له إلى غير ذلك ممّا هو من خواص الفرض ، فيختصّ الحكم في تحريمهما حينئذ بما لم يكن من النوافل قائما مقام الفريضة كما لا يخفى.

ودفع ثالثها بمنع الملازمة لو اريد بعدم تأدية الفرائض عدم تأديتها ولا تأدية ما يقوم مقامها.

ومنع بطلان التالي لو اريد به عدم تأديتها مع تأدية ما يقوم مقامها.

ودفع رابعها بأنّ كون تقديم المغرب أفضل من تأخيرها لا ينافي عدم كون النفل أفضل من الفرض ، لأنّ ذلك حكم ثبت للنفل الّذي لم يكن قائما مقام الفرض ، وأمّا ما قام مقامه فلا مانع من أن يثبت له أحكامه الّتي منها أفضليّة التقديم ، أخذا بموجب قيامه مقامه.

* عزاه في بيان المختصر إلى طائفة ، وفي شرح المنهاج إلى من هو من أصحاب

١٥٩

الشافعي ، وفي التهذيب إلى بعض الأشاعرة ، وفي شرحه للسيّد إلى جماعة منهم ، وفي أكثر العبارات الحاكية لهذا المذهب التصريح بكونه قضاء فيما بعد أوّل الوقت.

فربّما يجمع في بعض (١) حواشي الكتاب بين هذا القول والإجماع على عدم العصيان بالتأخير بأنّهم وإن خصّصوا الوجوب بالأوّل لكنّهم قائلون أنّ الفعل ليس بمعيّن في الأوّل ، بل المكلّف مخيّر بين أدائه في الأوّل وقضائه في الثاني ، وهو بظاهره بخلاف ما هو المشهور في وجه الجمع.

وأشار إليه بعض المحقّقين من أنّ ذلك بثبوت العفو بفعله في الآخر ، بناء على ما نقل من « أنّ أوّل الوقت رضوان الله وآخره عفو الله » فإنّ ثبوت العفو بالتأخير لا يلائم التخيير بينه وبين عدمه ، نظرا إلى امتناع التخيير بين مباح ومحرّم ، واستلزام العفو التحريم.

وأيّا من التوجيهين كان فبه يدفع ما ذكروه في ردّ هذا القول ، وأشار إليه المصنّف فيما بعد ذلك من لزوم المعصية والعقاب بالتأخير لو اختصّ بأوّل الوقت وهو خلاف الإجماع ، كما أشرنا إليه أيضا فيما سبق.

وعلى أيّ حال كان فهذا القول يتضمّن دعويين اختصاص الوجوب بالأوّل وصيرورة الفعل قضاء في غيره.

والمعروف من حجّته ما قرّره المصنّف فيما بعد ذلك ، وقد يستفاد من بعض العبارات ـ كما في شرح المنهاج ـ الاحتجاج له بقوله عليه‌السلام : « أوّل الوقت رضوان الله وآخره عفو الله » فإنّ الأوّل دليل على الاختصاص والثاني دليل على القضائيّة ، نظرا إلى أنّ العفو لا يكون إلاّ عند التقصير.

وأجاب عنه شارح المنهاج : بأنّ ذلك لبيان وقت الفضيلة ، والكلام إنّما هو في وقت الوجوب.

وتوضيح ذلك : أنّ الرضوان ـ على ما في كلام بعض أهل اللغة ـ أعلى مراتب الرضاء ، وفي الدعاء : « بلّغ بي رضوانك » أي أبلغني منتهى رضاك ، فيكون معنى الحديث حينئذ : أنّ الصلاة في أوّل الوقت توجب أعلى مراتب رضاء الله تعالى ، وهو يستلزم العفو عن معاصيه ، وفي آخره توجب العفو عن المعاصي وهو يستلزم الرضاء في الجملة ولو في

__________________

(١) ملاّ صالح على ما في العبارة المحكيّة عنه ( منه ).

١٦٠