تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

١
٢

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فهذا هو الجزء الأخير ممّا علّقناه في فنّ الاصول على معالم الاصول.

المطلب التاسع : في الاجتهاد والتقليد *.

__________________

* وقد جرت عادة الاصوليّين قديما وحديثا من العامّة والخاصّة بإيراد مباحث الاجتهاد كمسائل التقليد في الكتب الاصوليّة ، وهذا يوهم كونها من مسائل اصول الفقه كما هو ظاهر كثير وصريح غير واحد منهم ، ولعلّ وجهه صدق تعريف الأكثرين إيّاه بـ « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » عليها ، فإنّها أيضا قواعد مهّدت لاستنباط الأحكام من حيث إنّ الاستنباط لا يتمّ إلاّ بشرائطه ، ومن حيث قبوله التجزئة وعدمه ، ومن حيث إنّه لا بدّ له من مستنبط يعتبر فيه من حيث استنباطه امور ، إلى غير ذلك ممّا يذكر في تلك المباحث من حيث ارتباطها بمقام الاستنباط الملحوظ في نفسه ، أو وصفا في المستنبط من حيث هو ، أو من حيث رجوع الغير إليه في مقام التقليد.

ويشكل : بأنّ هذا وإن كان يقرّب كونها من مسائله ، ولكن يبعّده خلوّها عمّا هو ضابط مسائل الفنّ من كونها باحثة عن أمر يرجع إلى موضوع الفنّ ، بكون موضوعاتها موضوع العلم أو جزءا منه أو نوعا منه أو عرضا ذاتيّا له أو نوعا من عرضه الذاتي ، ولذا يقال : إنّ موضوع العلم ما كان جهة جامعة بين مسائله ، وموضوع البحث في مباحث الاجتهاد ليس هو الأدلّة بأحد هذه الاعتبارات الخمس كما هو واضح ، وإنّما هو الاجتهاد أو المجتهد.

نعم على القول بكفاية صدق تعريف العلم على مسألة في كونها من مسائل هذا العلم تمّ ما ذكر لا مطلقا.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الاستنباط يقع على الأدلّة فهو من الأحوال المختصّة بها ،

٣

أصل

الاجتهاد * في اللغة : تحمّل وهو المشقّة ** في أمر. يقال : اجتهد في حمل الثقيل ، ولا يقال ذلك في الحقير.

__________________

والمباحث المذكورة باحثة عن الاستنباط أو المستنبط من حيث الاستنباط ، وهو بحث عمّا يرجع إلى الأدلّة بالأخرة.

وربّما يشكل الحال في أنّ من مميّزات مسائل العلم اندراجها في غاية العلم ، والغاية المطلوبة من تدوين اصول الفقه ـ على ما ظهر من تعريفه ـ كونها مقدّمات قريبة أو بعيدة تؤخذ في الاستدلالات على المسائل الفرعيّة ، ولذا تعدّ من مباني الفقه ، والمسائل المبحوث عنها في باب الاجتهاد ليست من المقدّمات المأخوذة في استدلالات المسائل الفرعيّة.

ويمكن الذبّ عنه أيضا : بأنّ الغاية المطلوبة من تدوين هذا الفنّ ابتناء استنباط المسائل الفرعيّة على مسائله ، سواء كانت مقدّمات تؤخذ في استدلالات المسائل الفرعيّة ، أو امورا يتوقّف الاستنباط على تحقّقها الخارجي.

وما ذكرناه في توجيه عدّ هذه المباحث من مسائل الفنّ أسدّ ممّا صنعه شارح المختصر في بيانه من جعل موضوعه ثلاثة : الأدلّة والاجتهاد والترجيح.

وعن بعضهم إضافة التعادل أيضا إلى الترجيح ، ليكون مباحث الاجتهاد باعتبار كونها باحثة عن حال الاجتهاد مندرجة في مسائل الفنّ كما أنّ مباحث التعادل والترجيح مندرجة فيها باعتبار كونها باحثة عنهما ، فإنّه ـ مع كونه خلاف ما اشتهر بين أرباب الفنّ وعليه جمهورهم من حصر موضوعه في الأدلّة ـ يرد عليه : رجوع البحث في مباحث البابين إلى الأدلّة.

أمّا باب الاجتهاد فلما وجّهناه هنا.

وأمّا باب التعادل والترجيح فلما بيّنّاه في أوائل الكتاب فراجع وتأمّل.

نعم ينبغي القطع بخروج مباحث التقليد عن مسائله ، وكون إيرادها في كتبه تبعا ، بل الإنصاف أنّ مباحث الاجتهاد أيضا خارجة عن مسائله كما بيّنّاه ثمّة.

* افتعال من الجهد وهو فتحا وضمّا ـ على ما في كلام غير واحد من أئمّة اللغة ـ الوسع والطاقة ، وعن الفرّاء الفرق بين مفتوحه فللمشقّة ومضمومه فللوسع والطاقة ، وربّما ذكر له معنى آخر وهو الغاية والنهاية كما في المجمع.

** كما في شرح المختصر للعضدي ، ومحكيّ الوافية ، وشارح الزبدة ، وتبعهم بعض

٤

وأمّا في الاصطلاح *

__________________

الأعلام وبعده بعض الفضلاء ، وهذا منهم كما ترى يخالف ما في كلام الأكثرين من أخذه لغة بمعنى بذل الوسع والطاقة أو ما يرادفه ، وكأنّه منهم انكار لورود هذه المادّة مطلقا لغير المشقّة ، أو إنكار لبناء هذه الهيئة عمّا هو للوسع والطاقة ، ولو لا أحد هذين الوجهين لتوجّه إليهم عدم الوجه في العدول عن اعتبار كون نقل هذا اللفظ إلى ما يأتي من المعنى المصطلح عليه من باب نقل العامّ إلى الخاصّ ـ كما هو قضيّة ما صنعه الأكثرون ـ إلى اعتبار كونه نقلا من اللازم إلى ملزومه ـ كما هو مقتضى تفسيرهم المذكور ـ مع كون الأوّل أولى في نظر الاعتبار ، لغلبة هذا النقل بحسب الخارج ، وكون العموم والخصوص من أظهر المناسبات وأقواها.

وتحقيق الحال : أنّ الإقدام على ما فيه مشقّة كحمل الثقيل تحمّل للمشقّة وإعمال للوسع والطاقة ، ولا إشكال في أنّ لفظ « الاجتهاد » باعتبار الوضع اللغوي على ما يشهد به الأمارات القويّة والاستعمالات الواردة في الكتاب والسنّة وغيرهما مختصّ بموارد المشقّة ، كما نصّ عليه غير واحد من الطائفة.

وإنّما الإشكال في أنّ المأخوذ في وضعه هل هو أوّل المفهومين ليكون الثاني من لوازمه ، أو ثانيهما مقيّدا بما فيه مشقّة لا مطلقا؟ غير أنّه لوقيل بالأوّل لسلم الوضع عن اعتبار التقييد في مسمّى اللفظ الّذي ينفيه الأصل ، مع إمكان منع ورود هذه المادّة لغير المشقّة على وجه الحقيقة ، والاستعمالات الواردة في الكتاب والسنّة وغيرهما متّفقة في إرادة المشقّة كما يظهر للمتتبّع ، ولا ينافيها ورود الاستعمال على ندرة في غيرها ، كما في قوله تعالى : ( لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ )(١) أي وسعهم على ما في المجمع (٢) ، لتوسعة باب التوسّع الّذي يعضده الندرة ، ولو سلّم الوضع في المادّة مطلقة أو مضمومة فبناء الهيئة عنها بهذا المعنى في حيّز المنع.

* واعلم أنّ له في اصطلاح المتشرّعة أو أرباب العلوم الشرعيّة أو الفقهاء والاصوليّين أو خصوص الفقهاء إطلاقات كثيرة ، فقد يطلق ويراد منه النظر في معرفة الأحكام الشرعيّة ـ ولو اصوليّة ـ بطريق الاستدلال ، ومنه قولهم : يجب الاجتهاد في اصول الدين ولا يكفي فيه التقليد.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة الواقعيّة عن أدلّتها علميّة

__________________

(١) التوبة : ٧٩.

(٢) مجمع البحرين : مادّة « جهد ».

٥

أو ظنّية أو تعبّديّة ، وإليه يرجع ما في قولهم : « الأدلّة الاجتهاديّة ». قبالا للأدلّة الفقاهيّة.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة ـ واقعيّة أو ظاهريّة ـ عن مداركها ولو كانت من قبيل الاصول العامّة العمليّة ، ومنه اخذ بعض الحدود الآتية ، ونشأ منه جملة من الإيرادات الآتية على ما يأتي من المصنّف.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة بغير النصوص ، ومنه ما في قولهم : « هذا اجتهاد في مقابلة النصّ » دفعا لمقالة من يخالف النصّ تمسّكا باعتبارات ظنّيّة ، ولعلّه منه اخذ بعض التعاريف الآتية.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة بالطرق الظنّية ، وهو بهذا المعنى وقع محلاّ للنزاع بين الأخباريّة والاصوليّة ، ومنه اخذ أكثر التعاريف الآتية وهو اصطلاح خاصّ للفقهاء.

ويمكن رجوع سابقه إليه ، بناء على كون النصّ مرادا به ما لا يحتمل معه الخلاف لفظا أو غيره ، والشائع فيما بينهم ولا سيّما أصحابنا المتأخّرين ومتأخّريهم إلى زماننا هذا إطلاقه على ما اشتمل على قوّة ردّ الفروع إلى الاصول.

فالمجتهد حينئذ من له تلك القوّة ، وإليه ينظر ما يأتي من تعريف الزبدة.

وممّا شاع أيضا إطلاقه في كلام القدماء وغيرهم وفي الأخبار أيضا ـ على ما سيأتي ذكره ـ على القياس والرأي ونحو ذلك من الطرق الفاسدة المتداولة عند المخالفين.

وكيف كان فقد ذكروا له بحسب الاصطلاح تعاريف مختلفة ، فعن الذريعة : « أنّ الاجتهاد عبارة عن إثبات الأحكام الشرعيّة بغير المنصوص ، بل بما هو طريقة الأمارات والظهور ».

وعن المعارج : « أنّه في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة ».

وعن معراج الوصول : « أنّه بذل القدرة في إدراك الأحكام الشرعيّة الّتي لم يعلم بالنصّ ».

وعن الإحكام : « أنّه في اصطلاح الاصوليّين مخصوص باستفراغ الوسع وطلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد عليه ».

وعن المبادئ وشرحه : « أنّه في الاصطلاح عبارة عن استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنّية الشرعيّة على وجه لا زيادة فيه ».

وعن النهاية المحكيّ في المنية عن آخرين : « الاجتهاد استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير ».

٦

فهو استفراغ الفقيه وسعه * وفي التهذيب والمنية : « أنّه في الاصطلاح ـ كما في الأوّل ـ وفي عرف الفقهاء ـ كما في الثاني ـ استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل ظنّ بحكم شرعي ».

__________________

وفي المختصر وشرحيه : « أنّه في الاصطلاح استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ بحكم شرعي ».

وفي الكتاب وغيره ممّن سبقه ولحقه : « أنّه استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بحكم شرعي ».

وفي فوائد العلاّمة : « أنّه بحسب الاصطلاح استفراغ في تحصيل الحكم الشرعي بطريق ظنّي ».

وفي المجمع : « نقل في الاصطلاح إلى استفراغ الوسع فيما فيه مشقّة لتحصيل ظنّ شرعي ».

وعن الوافية : « أنّ الأولى في تعريفه : أنّه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ».

وفي بعض شروح الكتاب المسمّى بأصل الاصول ـ أنّه بعد ما نقل تعريف الوافية وحكم بكونه أسلم ـ قال : « وأحسن منه أن يقال : صرف العالم نظره في تحصيل المسائل الشرعيّة الفرعيّة بمداركها ».

وعن الزبدة : « أنّ الاجتهاد ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي من الأصل فعلا أو قوّة قريبة ».

* وفي كلام غير واحد أنّ استفراغ الوسع معناه بذل تمام الطاقة بحيث يحسّ من نفسه العجز عن المزيد عليه ، ولعلّ وجهه أنّ الاستفراغ استفعال بمعنى الطلب ، فإذا اضيف إلى الوسع كان معناه طلب الفقيه فراغ وسعه ، وفراغ الوسع عبارة عن الخلوص والخلوّ عنه ، ويشكل ذلك : بأنّ طلب الشيء لا يستلزم حصوله في الخارج.

نعم قد يقال : بأنّ المأخوذ في وضع الاستفعال هو الطلب المستلزم للحصول كما في « استخرجته فخرج ».

وفيه : أنّ ذلك لزوم غالبي لا دائمي ، ضرورة أنّه لو قيل : « استفسرت منه فما فسّر لي » و « استعلمت منه فما أعلمني » لم يكن مناقضا ولا موجبا للتجوّز ، كما أنّه في المثال المذكور لا يوجب تكرارا.

٧

فالإنصاف : أنّها لمطلق الطلب ، وعليه فلو نظر في دليل المسألة وحصل له الظنّ بالحكم الشرعي في أوّل نظره أو فيما لم يبلغ حدّ العجز عن المزيد عليه لم يكن منافيا لكونه مستفرغا وسعه ، فيكون هذا الفرض مشمولا للتعريف مع كونه من أفراد المعرّف (١).

ويندفع به ما قيل على عكس التعريف من أنّ استفراغ الوسع غير معتبر في تحصيل كلّ من الأحكام.

وتوضيحه : أنّ أقصى ما يجب على المجتهد الاطمئنان بتحصيل ما يستفاد من الأدلّة الموجودة ، وذلك قد يحصل بأوّل نظره في دليل المسألة كما في كثير من المسائل الّتي مداركها ظاهرة ، وقد لا يحصل إلاّ بعد استفراغ منتهى الوسع كما في بعض المسائل المشكلة ، وقد يكون بين الأمرين.

ومن البيّن تحقّق الاجتهاد في جميع ذلك فلا ينعكس الحدّ.

ولا حاجة معه إلى تكلّف أن يقال : إنّ بذل الوسع إنّما يعتبر بالنسبة إلى مجموع المسائل الّتي يحتاج إلى استنباطها لا حصوله في كلّ مسألة ، وحينئذ يكتفى في كلّ منها بما يحصل به الاطمئنان ، ليرد عليه : أنّه لا يلائم ذكر الحكم في الحدّ بصيغة المفرد.

ولا إلى أن يقال : من أنّ المراد باستفراغ الوسع ما هو المعتبر في عرف المجتهدين لا الاستفراغ العقلي ، والقدر المعتبر أمر معروف وهو ما يحصل به الظنّ بعدم الظفر بالمعارض ظنّا يعتدّ به ، ليتوجّه إليه : أنّ الإيراد على ظاهر الحدّ فلا يدفعه حقيقة المراد بعد تسليم ظهور الاستفراغ في العقلي ، وإلاّ ليسلم قاطبة الحدود عن النقوض والإبرامات.

وتوهّم خروج المفروض عن المعرّف فلا يضرّ خروجه عن التعريف ـ مع أنّه بناء على التحقيق المتقدّم غير خارج ـ لا يلائم ما عليه جمع من أجلاّء أصحابنا من أصالة حجّية الظنّ الاجتهادي وعدم وجوب تحصيل الظنّ الأقوى ، مع الإجماع المحكيّ عليه عن بعض الأجلاّء ، بل لا يتمّ ذلك على ما عليه الآخرون من أصالة حرمة العمل بالظنّ إلاّ ما خرج بالدليل ـ كما هو الحقّ ـ لو قيل بأنّه لا دليل على خروج غير الظنّ الأقوى بعد ملاحظة أنّه لو وجب تحصيل الظنّ الأقوى في كلّ مسألة لزم مضافا إلى العسر والحرج تعطيل الأحكام وسدّ باب الاستنباط القاضي بالخروج عن الدين ، ولو وجب في بعضها

__________________

(١) قد أبدل المصنّف رحمه‌الله في حاشية من حواشيه على القوانين هذه العبارة بقوله : « ... لم يكن منافيا لكونه مستفرغا وسعه وكان ذلك من أفراد المعرّف ... » راجع حاشية القوانين ٢ : ١٢١.

٨

دون بعض لزم الترجيح بغير مرجّح ، بل ربّما قيل بأداء بذل تمام الوسع إلى صرف تمام الوقت في تحصيل مسألة واحدة.

ولا ريب أنّ هذه الامور المعتضدة بمحكي الإجماع تنهض مخرجة عن الأصل مسقطة لاعتبار الظنّ الأقوى.

ومع الغضّ عن ذلك فأقصى ما يقتضيه الأصل المذكور كون الأقوائيّة في الظنّ شرطا للاعتبار ، ولا يلزم من كون شيء شرطا للاعتبار اعتباره في ماهيّة الاجتهاد إلاّ على توهّم كون التعريف للصحيح منه ، وهو ضعيف جدّا لمنع اعتبار الصحّة في مفهوم الاجتهاد اصطلاحا على ما سنقرّره.

وأمّا قيد « الفقيه » فهو احتراز عن غيره كالمنطقي الصرف إذا استفرغ وسعه في طلب شيء من الأحكام بطريق الاستدلال ، والمقلّد إذا استفرغ وسعه في طلب فتوى المفتي الّتي هي في حقّه حكم شرعي.

واعترض عليه : باستغناء خروج من ذكر عن هذا القيد إمّا لأنّ استفراغ الوسع لا يتأتّى من غير الفقيه إذا لم يكن له قوّة ردّ الفروع إلى الاصول كما هو المفروض ، أو لأنّ مثل هذا الاستفراغ لا يسمّى استفراغا للوسع في تحصيل الحكم الشرعي ، فهو مخرج بجنس التعريف ولا حاجة إلى اعتبار قيد آخر.

ويدفعه : منع عدم تأتّي استفراغ الوسع عمّن ذكر خصوصا المقلّد المستفرغ وسعه في طلب الفتوى ، فإنّ إمكان ذلك وتحقّقه في الخارج معلوم بحكم الضرورة ، سواء قلنا بكفاية الظنّ بالفتوى في حقّه ، أو قلنا بلزوم العلم بها ، إذ على التقدير الثاني كونه لا يستفرغ وسعه إلاّ في طلب العلم بالفتوى لا ينافي إمكان تأتّي ذلك منه ، والمعتبر في الحدود أخذ الماهيّة الكلّية صادقة على ما أمكن تحقّقه في الخارج من الأفراد وإن لم يتحقّق بعد فعلا ، بل وعلى تسليم الامتناع ولو بحسب العادة فهو لا يمنع اندراجه تحت الماهيّة الصادقة عليه على فرض وجوده ، حيث إنّ فرض الممتنع ليس من الممتنع ، وكما أنّه لا يشترط في أفراد الكلّي فعليّة الوجود فكذا لا يشترط فيها إمكان الوجود على ما قرّر في محلّه ، وهذا بعينه جار في المنطقي أيضا على فرض الامتناع ، وإلاّ فعدم الامتناع في حقّه أيضا ضروري ، لجواز توصّله بمقتضى قواعده المنطقيّة إلى إثبات حكم شرعي ، خصوصا إذا استند فيه إلى القياس المعبّر عنه عنده بالتمثيل.

٩

وبما عرفت جميعا يظهر لك ضعف دعوى عدم تسمية ذلك استفراغا للوسع في تحصيل الحكم الشرعي ، هذا بالقياس إلى المنطقي إذا حمل الحكم الشرعي في التعريف على الحكم الواقعي الثابت في حقّ المشافهين وغيرهم من المتمكّنين من العلم الواقعي.

وأمّا لو حمل على الحكم الفعلي أو على مصطلح الاصولي ـ وهو خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين ـ اتّجه منع تسمية استفراغه استفراغا للوسع في طلب الحكم الشرعي بهذا المعنى ، لعدم كون مطلوبه حكما فعليّا في حقّه ولا خطابا متعلّقا بفعله ، من حيث إنّه لم يكلّف بطلب هذا الحكم ، ولو طلبه ليس له بناء العمل عليه.

لكن يرد على ما ذكر في الإيراد ـ من أنّه خارج بجنس التعريف ـ : منع ذلك ، لاستناد خروجه على هذا البيان إلى قيد « الحكم الشرعي » غير أنّ أصل الإيراد وهو الاستغناء عن قيد « الفقيه » وعدم الحاجة إليه باق على حاله.

إلاّ أن يقال ـ على تقدير أخذ الحكم بالمعنى الاصولي ـ : إنّ التعلّق بفعل المكلّفين أو فعل جنس المكلّف لا يقتضي التعلّق بفعل هذا الشخص بالخصوص ، فالقضيّة في حقّه صادقة إذا جعل التعلّق عبارة عنه في الجملة ولو بالقياس إلى غيره كالمشافه ومن بحكمه.

وهاهنا اعتراض آخر ينشأ من قيد « الفقيه » وهو استلزامه الدور المستحيل ، فإنّ قضيّة أخذ « الفقيه » من أجزاء الحدّ توقّف معرفة الاجتهاد على معرفة الفقه ، والمفروض أنّه لا فقه إلاّ بالاجتهاد لتأخّر رتبة الفقاهة عنه.

وقد يقرّر الدور بوجه آخر وهو : أن أخذ « الفقيه » في حدّ الاجتهاد يعطي توقّف حصول الاجتهاد على تحقّق الفقاهة ، ضرورة كونه الاستفراغ الحاصل من الفقيه.

ومن البيّن توقّف حصول الفقاهة على الاجتهاد ، فيلزم الدور في تحقّق الاجتهاد في الخارج لا في التصوّر.

ويدفعه في تقريره الأوّل : أنّ المتوقّف على الاجتهاد إنّما هو الفقه بمعنى العلم الفعلي بالأحكام ، لا العلم بمعنى الملكة المقتدر بها على العلم الفعلي.

ومن الواجب حمل « الفقيه » على من له هذه الملكة إمّا لكون مبدأ اشتقاقه اسما لها على التحقيق في ألفاظ العلوم ، أو لتوقّف حفظ حدّ الفقه عن إشكال انتفاض عكسه بخروج أكثر الفقهاء على تقدير إرادة الجميع من الأحكام عليه.

١٠

ويظهر من المحقّق التفتازاني جواز الحمل عليها كما جزم به بعض الفضلاء (١) بناء على أوّل الوجهين ، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما عن شيخنا البهائي من « أنّ المراد من الفقيه من مارس فنّ الفقه وإن لم يكن مجتهدا ، احترازا عن الأجنبي كالمنطقي الصرف » وإطلاق « الفقيه » عليه كثير وإن كان إطلاقه على المجتهد أكثر ، نظرا إلى أنّ الملكة بهذا المعنى إنّما تحصل بالممارسة وإن اعتبر معها امور اخر كما تقدّم الإشارة إليه في حدّ الفقه.

وعليه فما اعترض عليه بعض الأعلام من أنّ من قرأ الكتب وزاول رؤوس المسائل أو بعض الكتب الاستدلاليّة أيضا ولكن لم يحصل له بعد قوّة ردّ الفرع إلى الأصل لا يسمّى استفراغ وسعه اجتهادا ، في غير محلّه.

وبما ذكرناه يندفع أيضا ما أورد على عكس الحدّ من أنّ « الفقيه » لا يصدق إلاّ مع العلم بجميع الأحكام أو القدر المعتدّ به الّذي يحصل به الغرض المطلوب من وضع الفنّ ، فخرج استفراغ وسع من لم يبلغ العلم بالجميع أو القدر المعتدّ به ، وعلى فرض صدقه على من علم مسألة أو مسألتين أو أزيد يخرج من استفرغ في طلب ذلك وهو في كلّ من الفروض من أفراد المعرّف ، فإنّ كلّ ذلك مبنيّ على حمل « الفقه » على العلم بالأحكام فعلا.

ويمكن دفع الدور أيضا على هذا التقدير وإن انتقض معه العكس بإبداء اختلاف الجهة ، إذ المتوقّف في جانب الاجتهاد معرفة ماهيّة الاجتهاد ووجودها الذهني لتوقّفه على معرفة الفقه ، والمتوقّف في جانب الفقه وجوده في الخارج دون معرفته ، لتوقّفه على تحقّق الاجتهاد فعلا مع كونه معلوما بنفسه ولو بالنظر الغير المأخوذ فيه الاجتهاد فلا دور ، لجواز توقّف شيء على غيره في الوجود الذهني مع توقّف ذلك الغير عليه في الوجود الخارجي ، كما في العلّة والمعلول في الاستدلالات الإنّيّة.

هذا بناء على الإغماض عمّا يساعد عليه النظر جريا على ما اعتمد عليه غير واحد من الأجلاّء في دفع الدور ، وإلاّ فمقتضى ما بنوا عليه من أخذ « الفقه » هنا بمعنى العلم الفعلي عدم توقّفه في الوجود الخارجي أيضا على الاجتهاد بالمعنى المأخوذ فيه « الفقه » بهذا المعنى ، لأنّه بماهيّته عبارة عندهم إمّا عن العلم بجميع الأحكام ، أو عن العلم بالبعض المعتدّ به ، أو عن العلم بالبعض المطلق الغير المنافي للعلم بالجميع ليشمل التجزّي ولو في مسألة.

__________________

(١) الفصول : ٣٨٧.

١١

ولا ريب أنّ الماهيّة في تحقّقها الخارجي بكلّ من تقاديرها الثلاث مسبوقة بالاستنباطات المعرّاة عنها ، لأنّها ما لم تبلغ حدّا تحقّق معه الماهيّة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد كانت معرّاة عن تلك الماهيّة ، وعراها يقضي بعدم صدق الاجتهاد بالمعنى المأخوذ فيه تلك الماهيّة عليها ، فتكون الماهيّة في تحقّقها الخارجي موقوفة على ما ليس باجتهاد ، وإذا تحقّق عنوان الاجتهاد في الخارج بتحقّق ماهيّة الفقه فيه كان فارغا عن توقّف تحقّقها عليه.

وهذا بعد انتقاض عكس التعريف على الوجه الّذي بيّنّاه سابقا من أفضح ما يلزمهم ، حيث إنّ المعروف فيما بين الأوائل والأواخر المصرّح به في كلامهم وكلام غيرهم من أهل التحقيق توقّف الفقه بالمعنى المذكور على الاجتهاد في تحقّقه الخارجي ، فلا يبقى لهم مناص عن أخذ « الفقه » هنا بمعنى الملكة المشار إليها ، ليكون الاستنباطات من أوّلها إلى آخرها متضمّنة للفقه فيصدق عليها عنوان الاجتهاد من أوّل الأمر ، ويكون العلم بالأحكام في جميع مراتبه مسبوقا بالاجتهاد موقوفا عليه.

ثمّ إنّ التفتازاني قال في شرحه : « ظاهر كلام القوم أنّه لا يتصوّر فقيه غير مجتهد ، ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق. نعم لو اشترط في الفقه التهيّؤ للكلّ وجوّز الاجتهاد في مسألة دون مسألة تحقّق مجتهد ليس بفقيه » انتهى.

وهذه الملازمة على فرض ثبوتها مبنيّة على أخذ كلّ من الاجتهاد والفقه باعتبار الملكة ، أو الأوّل باعتبار الفعل والثاني باعتبار الملكة ، دون ما لو اخذا معا باعتبار الفعل ، أو أخذ الأوّل باعتبار الملكة والثاني باعتبار الفعل كما يظهر وجهه بتأمّل.

وهذه أيضا من الشواهد على أنّ الاجتهاد باعتبار الفعل مأخوذ فيه الفقه باعتبار الملكة ، وأنّ الفقه بهذا الاعتبار لابدّ من أخذه في تعريف الاجتهاد باعتبار الفعل ليندفع به كلّ من إشكالي الدور وانتقاض العكس.

وأمّا التقرير الثاني من الدور فيندفع أيضا بملاحظة ما ذكرناه ، وملخّصه : أنّ التوقّف في جانب الاجتهاد توقّف الاجتهاد باعتبار الفعل على الفقه باعتبار الملكة ، فلو توقّف الفقه باعتبار الفعل حينئذ على الاجتهاد بهذا الاعتبار لم يلزم دور كما لا يخفى ، مع أنّه لو سلّم الدور بينهما باعتبار وجودهما الخارجي على تقدير أخذهما معا باعتبار الفعل فهو ممّا لا دخل له بما هو مقصود المقام من معرفة ماهيّة الاجتهاد بمعرفة ماهيّة الفقه الغير المتوقّفة

١٢

في تحصيل الظنّ *

__________________

على معرفة الاجتهاد ، فلا يفسد به التعريف.

* قد عرفت أنّ أكثر التعاريف كان مشتملا على قيد « الظنّ » وفائدته على ما صرّح به كلّ من تصدّى ببيان فوائد أجزاء التعاريف المتقدّمة من العامّة والخاصّة الاحتراز عن استفراغ الفقيه وسعه لتحصيل العلم ، وعلّله العضدي بقوله : « إذ لا اجتهاد في القطعيّات » غير أنّه غير واحد من أفاضل متأخّرينا أورد عليه بفساده لو اريد به ما يعمّ القطعيّات النظريّة ، إذ معرفة النظريّات أيضا تسمّى فقها وتحصيلها من أدلّتها يسمّى اجتهادا ، فلا يحسن إخراجه ، ولعلّه لأجل ذا عدل في الوافية (١) وغيرها في التعريف إلى ما لم يؤخذ فيه الظنّ.

وقد يضاف إلى هذا الفرض الغير الخارج عن الاجتهاد ما لو انتهى استفراغ الوسع إلى دليل تعبّدي غير منوط اعتباره بالظنّ ، وما لو انتهى إلى التوقّف في خصوص المسألة المستلزم للأخذ بالاصول العامّة العمليّة ، فإنّ كلّ ذلك من المعرّف مع انتفاء الظنّ فيه ، كما في صورة انتهائه إلى القطع بالحكم.

لكن يندفع الكلّ بمنع استلزام القيد خروج هذه الصور ، نظرا إلى أنّ الظرفيّة في قولهم : « في تحصيل الظنّ » يؤدّي هنا مؤدّى « لام » الغاية ، بل هي الواقعة في جملة من التعاريف مكان الظرفيّة.

ولا ريب أنّ فعل شيء لغاية معيّنة لا يستلزم حصول تلك الغاية في الخارج دائما متى ما كان جائز الحصول في نظر الفاعل ، بل قد يصادف حصولها وقد يصادف حصول غيرها ، وقد يصادف عدم حصول شيء ، غير أنّ قضيّة كون الفعل لأجل تلك الغاية صادقة على جميع التقادير.

ومن الواضح أنّ قطعيّات الفقه ليست امورا محدودة مضبوطة بحيث يعرفها المستنبط قبل دخوله في الاستنباط ليكون في دخوله في استنباط حكم المسألة طالبا لتحصيل القطع به من أوّل الأمر ، بل هو لعلمه الضروري بانسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا وعدم انفتاحه إلاّ في نادر منها لا يدخل في شيء من المسائل إلاّ وهو من أوّل الأمر طالب للظنّ بالحكم الشرعي ، فاستفراغ الوسع لتحصيل الظنّ صادق في حقّه في الجميع.

__________________

(١) الوافية : ٢٤٣ حيث قال : « وعندي أنّ الأولى في تعريفه : أنّه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ».

١٣

غاية الأمر أنّه بحسب الخارج قد يصادف حصول الظنّ ، وقد يصادف حصول القطع ، وقد يصادف حصول التعبّد ، وقد يصادف عدم حصول شيء من ذلك الّذي هو منشأ التوقّف.

هذا مع أنّ الإشكال بالنسبة إلى صورة القطع بالحكم من أصله فاسد لوجوب الالتزام بالخروج من جهة خروجها عن المعرّف ، فإنّ هذا التعريف ومرادفاته كشف لمسمّى اللفظ الثابت له بحسب اصطلاح الفقهاء ، والمستفاد من كلماتهم بل صريح عباراتهم تواطئهم في هذا الاصطلاح على تخصيصه بالظنّيّات لنكتة كتواطئهم على تخصيصه بغير الضروريّات.

وقد عرفت من العضدي التصريح بذلك وصرّح به أيضا بعض الفضلاء قائلا ـ في دفع السؤال ـ : و « فيه أنّ مصطلح القوم منعقد على تخصيص الاجتهاد بالظنّيّات ».

ويستفاد التصريح به من بعض الأفاضل.

وممّا يفصح عن ذلك أيضا عدم تعرّض أحد من قدمائنا ولا غيرهم من أوائل متأخّرينا كالمحقّق والعلاّمة وأحزابهما لهذا الإشكال ، مع كون التعاريف المذكورة بمرآى منهم.

بل قد عرفت أنّهم بأنفسهم قد أخذوا الظنّ فيما اختاروه من التعاريف ، كما في الذريعة والمعارج والنهاية والتهذيب والمنية وغيرها.

وهذا هو الّذي دعا الأخباريّين المنكرين للعمل بالظنّ إلى مخالفة المجتهدين بإنكارهم الاجتهاد وعدّهم إيّاه من المبتدعات ، فإن شئت لاحظ كلام العلاّمة البهبهاني في الفائدة السابعة من فوائده العتيق حيث قال : « الثالث : أنّهم يحكمون بحرمة الاجتهاد ويأبون عن الاسم وعن كونهم مجتهدين ، بسبب أنّ الاجتهاد بحسب الاصطلاح استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي بطريق ظنّي ، فالتقييد بالظنّ هو المنشأ ، مع أنّ القيد هو الظنّ المعتبر شرعا لا غيركما لا يخفى ».

وقال أيضا في صدر الفائدة الثامنة : « قد عرفت أنّ مناط الفرق بين الأخباري والمجتهد هو نفس الاجتهاد أي العمل بالظنّ ، فمن اعترف بالعمل به فهو مجتهد ومن ادّعى عدمه بل كون عمله على العلم واليقين فهو أخباري ».

وقال أيضا في أواخر فوائده الجديد : « الاجتهاد والتقليد إنّما يتمشّيان في الامور التكليفيّة الّتي وقع الحاجة إلى معرفتها ، ومع ذلك يكون باب العلم إلى معرفتها مسدود أو يكون الطريق منحصرا في الظنّ ، ولو لم يكن أحد هذين الشرطين لم يجر فيه الاجتهاد والتقليد » إلى آخر ما قال.

١٤

بحكم شرعيّ *.

__________________

ومن الواضح أنّ نفي الاجتهاد عن الامور العلميّة ليس إلاّ من جهة أنّه بحسب الاصطلاح عبارة عمّا اخذ فيه الظنّ.

ويستفاد ذلك أيضا من ملاحظة كلماتهم في مباحث الاجتهاد وشروطه ، بل كونه مشروطا بالشروط الآتية بنفسه من الشواهد بما ذكرنا ، نظرا إلى أنّ المدار في الطرق العلميّة على إفادتها العلم من غير ابتنائها على مراعاة هذه الشروط ، وإنّما يلزم مراعاتها في الطرق الظنّية ، إذ بدونها لا يكاد يحصل منها الظنّ أو يستقرّ أو يعوّل عليه ، وبالتأمّل في ذلك يظهر النكتة الداعية إلى تخصيص الاصطلاح بالظنّيات ، وملخّصه اختصاص المباحث المتعلّقة به بالظنّيات.

فتحصّل بجميع ما ذكر : أنّ استفراغ الوسع لتحصيل القطع بالحكم ليس اجتهادا بالمعنى المصطلح عليه هنا المتنازع فيه بين الأخباريّة والاصوليّة ، وإن كان اجتهادا بالمعنى اللغوي ، أو بالمعنى الآخر ممّا يناسب المعنى اللغوي ممّا تقدّم من إطلاقاته ، وكأنّ شبهة السائل نشأت عن ذلك غفلة عن حقيقة الحال ، وبمثل ذلك يجاب أيضا عن النقض بما ينتهي إلى التعبّد أو التوقّف ، فإنّ هذا النحو من الاستفراغ وإن كان يصدق عليه الاجتهاد غير أنّه اجتهاد بالمعنى اللغوي ، أو غيره ممّا يناسبه من إطلاقاته المتقدّمة غير ما اخذ فيه الظنّ.

ولك أن تقول : بأنّ الاجتهاد بهذا المعنى أصله من العامّة ، وهم ـ على ما يظهر من إطلاقاته وملاحظة ما ورد في الأخبار وكلام علمائنا الأخيار في ذمّ الاجتهاد ـ خصّوه بالظنّ الغير المستند إلى كتاب ولا سنّة أصلا ، بأن يستند إلى رأي أو قياس أو استحسان أو غيره من الطرق المعمولة لديهم الخارجة عن الأربعة المعمولة لدى الأصحاب ، فوافقهم في أصل الاصطلاح وإن كان خالفوهم في جعل الظنّ عبارة عمّا يستند إلى الكتاب أو السنّة والإجماع أو غيره ممّا ليس من طرق العامّة ، سواء تعلّق في الأوّلين بالسند أو الدلالة أو الجهة أو الترجيح أو غيره.

* يخرج به استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بحكم عقلي أو حسّي كما ذكروه ، واعترض عليه تارة : بأنّه يندرج في الحدّ استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بالأحكام الاصوليّة ممّا يندرج في اصول الدين كخصوصيّات عالم المعاد أو البرزخ ، أو في اصول الفقه كحجّية الحسن والموثّق والضعيف المنجبر بالشهرة ونحوها مع عدم

١٥

اندراج شيء من ذلك في الاجتهاد عرفا.

واخرى : بأنّه يندرج فيه استفراغ وسعه في تحصيل الأحكام الظنّية الخاصّة المتعلّقة بالموضوعات كتعيين الهلال لوجوب الصوم أو الإفطار والبيّنة ، وسائر ما يتعلّق به القضاء مع عدم اندراج ذلك أيضا في الاجتهاد.

وهذا بناء على ظهور الحكم الشرعي فيما من شأنه أن يؤخذ من الشارع واضح الدفع ، لعدم كون شيء من الامور المذكورة ونظائرها ممّا من شأنه الأخذ من الشارع كما لا يخفى.

لا يقال : الظنّ بالامور المذكورة وإن لم يكن ظنّا بالحكم الشرعي بهذا المعنى غير أنّه يستلزم الظنّ بالحكم الشرعي ، ضرورة أنّه مع الظنّ بهلال شهر رمضان يحصل الظنّ بوجوب الصوم ، ومع الظنّ بهلال شهر شوّال يحصل الظنّ بحرمة الصوم ووجوب الإفطار ، وهما حكمان شرعيّان بالمعنى المذكور.

لأنّا نقول : بأنّ الحكمين معلومان بحكم ما دلّ على وجوب الصيام أو الإفطار عند ثبوت الهلال ولو ثبوتا ظنّيّا ، فالناظر في الهلال إنّما يطلب تحصيل صغرى محمولها ظنّ الهلاليّة إحرازا لموضوع الحكمين المعلومين بالخارج بمقتضى الأدلّة الشرعيّة كما في سائر الموضوعات عامّة وخاصّة.

وإنّما المعضل في المقام دفع سؤال الظنّ بالأحكام الاصوليّة الاعتقاديّة والعمليّة لكونها في الجملة من الحكم الشرعي بالمعنى المذكور ، ودفعه جماعة ـ منهم بعض الأعلام وبعض الأفاضل ـ بظهور الحكم الشرعي في الفرعي.

ويشكل ذلك : بأنّه لو صحّ ذلك لقضى بخروج قيد « الفرعيّة » في حدّ الفقه توضيحيّا وهو خلاف ما صرّحوا به وأذعن به المجيب.

نعم إنّما يندفع ذلك بما في بيان المختصر ـ من أنّ المراد بالحكم الشرعي خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير ، إذ ليس شيء من الأحكام الاصوليّة مطلقا ممّا يتعلّق بفعل المكلّف ـ لو لا فيه قضاؤه بخروج قيد « الشرعي » مستدركا ، إذ الحكم بالمعنى المذكور لا يكون إلاّ شرعيّا.

إلاّ أن يقال : بأنّ هذا المفهوم تعريف للحكم الشرعي كما هو ظاهر عبائرهم لا للحكم فقط ليكون « الشرعي » قيدا آخر معتبرا مع الحكم بالمعنى المذكور.

وبعبارة اخرى : أنّ مجموع اللفظين اسم للمعنى المذكور ، فلا يراد هذا المعنى من

١٦

الأوّل بانفراده ولا من « الشرعي » بانفراده معنى آخر.

وربّما يشكل إرادة هذا المعنى بأنّ الظنّ بالحكم بمعنى خطاب الله المتعلّق بفعل المكلّف يقتضي كون المظنون مع قطع النظر عن تعلّق الظنّ به خطابا متعلّقا بفعل المكلّف بجميع أحواله.

وقضيّة ذلك خروج كثير من المسائل الظنّية ، إذ الظنّ ليس بدائم المطابقة للواقع ، ومن المظنونات الّتي يعدّ استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بها اجتهادا ما ليس خطابا متعلّقا بفعل المكلّف لو قطع النظر فيه عن تعلّق الظنّ ، ففسد به عكس الحدّ. إلاّ أن يقال : بأنّ كون الشيء خطابا متعلّقا بفعل المكلّف أعمّ من أن يكون كذلك قبل تعلّق الظنّ به كما في الأحكام الواقعيّة بناء على اتّفاق تعلّقها لا محالة بفعل مكلّف من مشافه أو غيره ، أو يكون كذلك بعد تعلّق الظنّ بها كما في مورد النقض ، دون ما كان كذلك قبله خاصّة أو صار كذلك بعده خاصّة.

لكن يدفعه : خروجه من الظاهر المنساق من اللفظ عرفا.

نعم يمكن أن يقال : إنّ الظنّ حيثما يحصل للمجتهد فهو يعتقد ظنّا أنّ متعلّق ظنّه هو الحكم بهذا المعنى ، فالحكم بهذا المعنى أعمّ من أن يكون كذلك بحسب الواقع أو بحسب الاعتقاد ولو ظنّا.

أو يقال : إنّ الاستفراغ لتحصيل الظنّ بالحكم بهذا المعنى لا يستلزم اتّفاق حصول الظنّ ولا حصول [ القطع به ] بل قد يستتبع اتّفاق حصول القطع به ، وقد يستتبع حصول الظنّ به ، وقد يستتبع حصول الظنّ بغيره بحسب الواقع ، وقد يستتبع عدم حصول شيء كما بيّنّا سابقا ، والمأخوذ في الحدّ كون الاستفراغ حاصلا لأجل حصول غاية الظنّ بالحكم بالمعنى المذكور ، لا استلزام حصوله لحصول تلك الغاية والفرق بين المعنيين واضح.

والإشكال يتوجّه على المعنى الثاني دون الأوّل ، وهو الظاهر المنساق من الحدّ.

ثمّ وجه تقدّم الاجتهاد باعتبار الفعل على الفقاهة بهذا الاعتبار ـ على ما أشرنا إليه سابقا ـ أنّ العلم بالأحكام الفعليّة المأخوذ في مفهوم « الفقه » بالاعتبار المذكور علم مأخوذ في نتيجة قياس يحرز صغراه بالاجتهاد ، حيث يقال ـ بعد الفراغ عن الاجتهاد في حكم المسألة ـ : « هذا ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي » فالمجتهد والفقيه الفعليّان يتصادقان على شخص واحد باعتبارين مترتّبين ،

١٧

فالثاني باعتبار أنّه عالم بالأحكام الفعليّة والأوّل باعتبار أنّه محصّل لصغرى القياس المنتج لكونه فقيها ويصدق مع هذين العنوانين عناوين ثلاث اخر « المفتي » و « القاضي » و « الحاكم ».

فالأوّل باعتبار أنّه مخبر عن حكم الله بحسب رأيه ومؤدّى اجتهاده.

والقاضي باعتبار أنّه ملزم لأحد المتخاصمين في شبهة حكميّة أو موضوعيّة بالحقّ المتنازع فيه.

والثالث باعتبار عموم ولايته على الأيتام والغيّب والمجانين وأموالهم شرعا.

ثمّ إنّه قد عرفت عن الزبدة تعريف الاجتهاد باعتبار الملكة « بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوّة قريبة » ويظهر منه حصر إطلاقه بحسب الاصطلاح في هذا المعنى ، مع أنّه قد ظهر ممّا سبق أنّه لم يتعرّض لذكره أحد من المصنّفين ممّن قبله من أهل الخلاف وغيرهم.

نعم إطلاق المجتهد على صاحب هذه الملكة شائع في هذه الأعصار وما قاربها ، وكأنّه أخذ التعريف المذكور من ذلك والظاهر أنّه اصطلاح آخر مخصوص بأصحابنا.

وكيف كان فعن الفاضل الجواد : أنّه يخرج بقيد « الملكة » المستنبط لبعض الأحكام من أدلّتها بالفعل من غير أن يصير ذلك ملكة له بل كان حالا ، فإنّه ليس اجتهادا ، وكذا من حفظ جملة من الأحكام تلقينا وعرف مع ذلك أدلّتها ، لعدم حصول الملكة معه ، و « اللام » في « الحكم » للجنس فيدخل المتجزّي ، والتقييد بـ « الشرعي » لإخراج العقلي ، وب « الفرعي » الأصلي كالاعتقادات وب « من الأصل » الضروري كالصلاة والزكاة.

ثمّ قال : وبالقوّة القريبة يدخل من له تلك الملكة من غير أن يستنبط بالفعل بل يحتاج إلى زمان ، إمّا لتعارض الأدلّة أو لعدم استحضار الدليل أو الاحتياج إلى التفات أو نحو ذلك ، وحيث إنّ الاجتهاد هو الملكة فالمجتهد من له تلك الملكة والمجتهد فيه هو الحكم المستنبط من الأصل.

أقول : لا يخفى ما في قوله : « يخرج بقيد الملكة » من المسامحة الواضحة ، لأنّ الجنس وما هو بمنزلته ليس قيدا والخروج فرع الدخول ، والمراد به دخول شيء في الجنس ، فما لم يذكر الجنس لا دخول فلا خروج ، ولعلّه أراد بالخروج عدم دخول ما ذكر في الجنس لانتفاء الملكة.

ثمّ ظاهر قوله : « بالقوّة القريبة يدخل ... » إلى آخره ، أنّه لو لا هذا القيد لم يدخل ما ذكر ،

١٨

ولعلّه لتوهّم ظهور الاستنباط أو الاقتدار فيما هو بالفعل وعدم شمولهما لما هو بالقوّة كما توهّمه غيره ، ويدفع (١) الاطلاق ومنع الظهور ولا سيّما قوله : « يقتدر » ضرورة أنّ الاقتدار على شيء لا يستلزم فعليّة حصوله ، فالقيدان وإن صحّ مؤدّاهما زائدان مستغنى عنهما فيكونان لتوضيح انقسام ذي الملكة إلى قسميه.

نعم لو قيل في التعريف : « ملكة يستنبط بها الحكم الشرعي » كان دعوى الظهور في الفعل غير بعيدة ، وفي كلام بعض الفضلاء : أنّ التقييد بقوله : « أو قوّة قريبة » مفسد للحدّ ، لأنّ الاستنباط بالقوّة القريبة معناه القوّة القريبة للاستنباط ، وهي معنى الملكة فيرجع الحدّ إلى أنّ الاجتهاد ملكة الملكة ، وفساده واضح.

وقد يوجّه القيد بتخيّل دفع هذا الإشكال بكون قوله : « أو قوّة قريبة » عطفا على الملكة ، على أن يكون المعنى : أنّ الاجتهاد إمّا ملكة الاستنباط الفعلي أي الحاصل ، أو قوّة قريبة من الاستنباط الفعلي.

ويرد عليه ـ مع عدم مساعدة ظاهر عبارة الحدّ عليه ـ : أنّ القوّة القريبة من الاستنباط الفعلي إن اريد بها ما يعمّ القوّة القريبة من ملكة الاستنباط الفعلي فسد طرد الحدّ بالقياس إلى من له القوّة القريبة من الاجتهاد دون الاستنباط كالعالم بالفتوى مثلا ، وإن اريد بها ما لا يعمّ ذلك فسد أصل الحدّ لاشتماله على التكرار ، نظرا إلى أنّ القوّة القريبة من الاستنباط الفعلي على هذا التقدير عبارة اخرى من ملكة الاستنباط الفعلي.

فالوجه في دفع الإشكال أن يقال : إنّ قيدي الفعل والقوّة القريبة راجعان إلى الاقتدار لا إلى الاستنباط كما فهمه الفاضل ، وحينئذ فلا اعتراض إذ الاقتدار على الاستنباط المسبّب عن الملكة ينقسم إليه بالفعل وإليه بالقوّة القريبة من الفعل ، نظرا إلى عدم كون الملكة بالقياس إليه علّة تامّة بل هي من باب المقتضي ، فقد يصادف وجود جميع شروط الاقتضاء الّتي منها استحضار الدليل والالتفات إليه وفقد جميع الموانع الّتي منها تعارض الأدلّة ، وقضيّة ذلك حصول الاقتدار على الاستنباط فعلا ، فإن صادف فقد بعض الشروط أو وجود بعض الموانع لزم منه عدم الاقتدار على الاستنباط بالفعل ، بل إنّما هو حاصل بالقوّة القريبة من الفعل كما هو واضح.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « ويدفعه ... » الخ.

١٩

ويمكن على تقدير رجوع القيدين إلى الاستنباط أيضا دفع الاعتراض بمنع كون القوّة القريبة مرادا بها هنا ما يرادف الملكة ليتوجّه المحذور المذكور ، بل المراد بها بقرينة مقابلتها الفعل ما يرادف الشأن ، فإنّ الاستنباط قد يكون فعليّا وقد يكون شأنيّا ، والملكة المقتدر بها عليه أعمّ منهما ، ولذا ترى أنّ الفاقد لها كما أنّه لا يتأتّى منه فعل الاستنباط كذلك ليس من شأنه أن يتأتّى منه ذلك.

ثمّ إنّه قد يشكل الفرق بين الاجتهاد باعتبار الملكة والفقه بهذا الاعتبار من حيث إنّه عبارة عن ملكة يقتدر بها على العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن الأدلّة ، بل ربّما يظهر ممّا في المجمع توهّم المرادفة بينهما ولذا قال في تعريف المجتهد : « أنّه العالم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة بالقوّة القريبة من الفعل » وهذا كما ترى في غاية البعد عن اصطلاحهم وخلاف ما يظهر من مطاوي كلماتهم.

ويمكن دفع الإشكال بالفرق بينهما من وجوه :

أحدها : أنّ المعتبر في « الفقه » كون الملكة حاصلة بالقياس إلى جميع الأحكام بقرينة الجمع المعرّف باللام ، وفي « الاجتهاد » كونها حاصلة بالقياس إلى ما يعمّ البعض أيضا بقرينة المفرد المعرّف بلام الجنس ، ويظهر الثمرة في صدق المجتهد على من له ملكة البعض فقط كالمتجزّي دون الفقيه ، فالمتجزّي حينئذ مجتهد غير فقيه.

وثانيها : أنّ المعتبر في « الفقه » إضافة الملكة إلى العلم الظاهر في الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، وفي « الاجتهاد » إضافتها إلى مطلق الاعتقاد الشامل للظنّ أيضا ، بقرينة أخذ الاستنباط في مفهومه المتناول للاستنباط الظنّي أيضا ، وقضيّة ذلك كون الاجتهاد أعمّ موردا من الفقه كما في سابقه.

وثالثها : كون المأخوذ في مفهوم « الفقه » الأحكام الفعليّة الّتي هي أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة على ما تقدّم تحقيقه في حدّ الفقه ، والمأخوذ في مفهوم « الاجتهاد » الحكم المعرّى عن وصف الفعليّة ، نظرا إلى أنّ مقام الاجتهاد ما يحرز به ما هو موضوع الحكم الفعلي وهو المستنبطات الّتي ما لم تندرج في دليل حجّيّة ما حصل بالاستنباط من الظنّ أو العلم بمؤدّيات الأدلّة المعهودة المتعارفة لا تصير أحكاما فعليّة.

ورابعها : أنّ المأخوذ في « الفقه » ملكة يقتدر بها على العلم بالنتيجة الحاصلة عن مقدّمتين قطعيّنين ، يحرز صغراهما بالاجتهاد ولذا اخذ فيه الاستنباط الّذي معناه الاستخراج الّذي

٢٠