تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

يقدّم الوصف العامّ على الموصوف الخاصّ خبرا له بحمل ذلك الموصوف على الوصف نحو « صديقي زيد » و « العالم عمرو » وكأنّه وهم أوقعهم فيه ما في عبارة الحاجبي في المختصر من قوله : « وأمّا مفهوم الحصر فمثل « صديقي زيد » و « العالم زيد » ولا قرينة عهد » إلى آخره.

ومثله ما في تهذيب العلاّمة من قوله : ومفهوم الحصر حجّة مثل « صديقي زيد » و « العالم بكر ».

وإلاّ ففي كلام جماعة ما يعطي كون معقد البحث بالنسبة إلى المبتدأ مع اعتبار كونه معرّفا أعمّ من كونه وصفا أو غير وصف ، وبالنسبة إلى الخبر الخاصّ أعمّ من كونه علما أو غير علم.

قال التفتازاني في شرح عبارة الحاجبي : « يريد بالحصر هنا بعض أنواعه وهو أن يعرّف المبتدأ بحيث يكون ظاهرا في العموم سواء كان صفة أو اسم جنس ، ويجعل الخبر ما هو أخصّ منه بحسب المفهوم سواء كان علما أو غير علم مثل : « العالم زيد » و « الرجل عمرو » و « الكرم في العرب » و « الأئمّة من قريش » و « صديقي خالد ».

ويقرب منه ما في الكواكب الضيائيّة ـ شرح الزبدة ـ مع تصريحه بالتعميم في تعريف المبتدأ بالقياس إليه باللام أو بالإضافة.

وفي بيان المختصر : « اختلفوا في أنّه إذا جعل لفظ كلّي معرّف بالإضافة أو باللام مخبرا عنه وأحد جزئيّاته مخبرا به مثل قولنا : « صديقي زيد » و « العالم زيد » ولا قرينة تفيد العهد هل يدلّ على حصر ذلك الكلّي في الجزئي أم لا؟ » إلى آخره.

فالوجه هو التعميم لشهادة الوجدان بعدم مدخليّة لخصوصيّة الوصف والعلم في إفادة الحصر وعدمه ، مع تصريح الجماعة بالتعميم ، مضافا إلى جريان كافّة الأدلّة المقامة على دعوى الحصر في المعنى العامّ بجميع أنواعه.

ولا ينافيه ما في عبارة الحاجبي والعلاّمة لظهور إرادتهما المثال كما هو الحال في عبارة البيان مع تصريحه بتعميم العنوان ، وربّما يتسرّى بجعل المراد من العنوان ما اشتمل على تقديم ما حقّه التأخير ، فيشمل تقديم المفعول والحال والتميز والخبر ونحوه كما عن المازندراني وغيره احتماله.

وعن الباغنوي كونه أصوب ، وهذا ممّا لا شاهد له بل ظاهر كلماتهم وخلوّ أمثلتهم ومساق أدلّتهم يشهد بخلافه ، هذا مع ضعف القول بالحصر بمطلق تقديم ما حقّه التأخير إن اريد به الاطّراد أو الظهور اللفظي لكثرة الفوائد ـ الّتي منها الحصر ـ كالاهتمام والتبرّك

٤٠١

والاستلذاذ وغير ذلك ممّا قرّر في محلّه ، وإن اريد به كونه كذلك في بعض الأحيان لقرينة المقام فهو مسلّم ولكنّه لا ينفع في إثبات الدلالة على الحصر.

والقضيّة المعروفة عن أهل المعاني من أنّ تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر لا تفيد أزيد من ذلك ، مع أنّ المازندراني لم يذكره إلاّ احتمالا لا اختيارا ولذا قال : « إنّ الأوّل ـ يعني ما عرفت من التفتازاني ـ أنسب ، وعلّله : بأنّ كثيرا ممّا اشتمل عليه الثاني ـ يعني ما ذكر في الاحتمال ـ لا يفيد الحصر في كثير من الأوقات كما صرّح به الحاجبي في شرح المفصّل ».

ونحوه حكي عن الباغنوي أيضا ، مع أنّه يمكن أنّ المراد ممّا ذكر في الاحتمال ضبط موارد المفهوم من جهة الحصر ، على معنى أنّ كلّ مورد يثبت فيه الحصر ولو كان ممّا اشتمل على تقديم ما حقّه التأخير فهو من محلّ مفهوم الحصر ، لا بيان أنّ كلّما اشتمل على ذلك فهو ممّا يفيد الحصر لا غير.

وبالجملة فالأقرب بعنوان المسألة بملاحظة عباراتهم ومصبّ أدلّتهم إنّما هو إرادة ما عرفت عن التفتازاني دون ما هو أخصّ أو أعمّ منه.

ثمّ إنّ مقتضى كلام جماعة صراحة وظهورا أنّ في المسألة خلافين :

أحدهما : في أصل دلالة هذا التركيب باعتبار اشتماله على العدول عن الترتيب الطبيعي ـ وهو تقديم الخاصّ مبتدأ وتأخير العامّ خبرا عنه ـ على الحصر وعدمها.

وثانيهما : في كون الدلالة على تقديرها منطوقيّة أو مفهوميّة ، وفي بيان المختصر ـ تبعا لما أجمله الحاجبي ـ : « فقيل : لا يفيد الحصر ، وقيل : يفيد بحسب المنطوق وقيل : يفيد بحسب المفهوم ».

وربّما نسب إلى ظاهر بعضهم الوقف ، فالمسألة إذن رباعيّ الأقوال.

أمّا القول الأوّل فهو ـ على ما في المنية ـ محكيّ عن الحنفيّة والقاضي أبي بكر وجماعة من المتكلّمين.

وأمّا القول بالدلالة على الإطلاق فهو ـ على ما في المنية أيضا ـ لجماعة من الفقهاء والغزالي ، وهو خيرة العلاّمة والبهائي وكافّة أصحابنا المتأخّرين ويعزى إلى المشهور أيضا.

وفي شرح التفتازاني : ولا خلاف في ذلك بين علماء المعاني تمسّكا باستعمال الفصحاء ولا في عكسه أيضا مثل « زيد العالم ».

حتّى قال صاحب المفتاح : « المنطلق زيد » و « زيد المنطلق » كلاهما يفيدان حصر

٤٠٢

الانطلاق على زيد.

وأمّا الخلاف الثاني : فأشار إلى ضعفه التفتازاني أيضا بقوله : « وأمّا كون هذا الحصر مفهوما لا منطوقا فممّا لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ، للقطع بأنّه لا نطق بالنفي أصلا » وهو حقّ لا سترة عليه ، بناء على ما قرّرناه من ضابط الفرق بين المنطوق والمفهوم واستفدناه من حدّهم المعروف.

ونبّه عليه التفتازاني في العبارة المذكورة كما لا يخفى على المتأمّل ، فإنّ المفهوم هنا على تقدير دلالة الكلام على الحصر إنّما هو انتفاء المبتدأ ـ وصفا أو جنسا ـ عمّا عدا الخبر الخاصّ ، وموضوعه غير مذكور فيه فيكون مفهوما.

وأمّا الخلاف المذكور فمبناه على الخلاف في تفسير « الحصر » فمن فسّره بنفي الحكم عن غير المذكور يجعله مفهوما ، ومن جعله منطوقا جعله عبارة عن الإثبات القصري ، والظاهر أنّه أراد به الإثبات المقيّد بالنفي المذكور على وجه خروج القيد ودخول التقيّد ، ليكون هذا المدلول الالتزامي مفهوما.

ومرجعه إلى أنّ الحصر منطوق لكونه حكما لشيء مذكور ، لا أنّ النفي اللازم له مع اندراجه في ضابط المفهوم منطوق.

وهذا التفسير أظهر استظهارا من عباراتهم كقصر الصفة على الموصوف ، وقصر الموصوف على الصفة ، وحبس المبتدأ في الخبر وقصره عليه وحصره فيه ، وما أشبه ذلك لظهور الجميع في جعل « الحصر » عبارة عن الأمر الوجودي وهو الإثبات المقيّد حسبما ذكرنا.

ومحصّله : أنّ الهيئة التركيبيّة في نوع المركّب الّذي قدّم فيه الاسم العامّ مخبرا عنه لما هو أخصّ منه خبرا موضوعة بالوضع العامّ لجزئيّات النسبة بين الأخصّ والأعمّ ، من حيث إثبات الأخصّ للأعمّ مقيّدا بنفي الأعمّ عمّا عدا الأخصّ.

ويظهر من بعض الأعلام كونه مركّبا من الإثبات والنفي ، حيث قال في مقام تحقيق الخلاف الثاني : « والصواب ترك هذا النزاع ، لأنّ الحصر معنى مركّب من نفي وإثبات ، وما له المدلول مذكور في أحدهما.

فيستفاد المجموع من المجموع ، وإن جعل عبارة عن نفي المذكور عن الغير فلا ريب أنّه مفهوم » انتهى (١).

__________________

(١) القوانين ١ : ١٨٨.

٤٠٣

وقضيّة كلامه كون الحصر مركّبا من المنطوق والمفهوم ، لا أنّه منطوق فقط ولا أنّه مفهوم كذلك ، وهذا كما ترى قول ثالث في الخلاف الثاني.

ومحصّل مراده من قوله : « فيستفاد المجموع من المجموع » أنّه يستفاد المجموع من العقد الإيجابي ـ وهو إثبات الحكم للمذكور ـ والعقد السلبي ـ وهو نفيه عن غير المذكور ـ من مجموع القضيّة الملفوظة والعدول فيها عن الترتيب الطبيعي ، فيكون الحصر المستفاد من قوله : « صديقي زيد » و « العالم زيد » مثلا ، الّذي هو عبارة عن مجموع العقدين حكما لشيء مذكور وهو « زيد » وشيء غير مذكور وهو ما عدا زيد ، والأوّل مستفاد من القضيّة وهو المنطوق ، والثاني مستفاد من العدول فيها من الترتيب الطبيعي وهو المفهوم ، فصار الحصر مركّبا من المنطوق والمفهوم ، وإنّما عبّرنا عن الجزء الثاني من المجموع الثاني « بالعدول » نظرا إلى ما تقدّم في كلامه من الاستدلال على الحصر بقوله : « فيستفاد منه الحصر لأنّ الترتيب الطبيعي خلافه والعدول عنه إنّما هو لذلك » (١) فتأمّل.

هذا كلّه في تحقيق الحال في النزاع الثاني.

وأمّا النزاع الأوّل : فالحقّ فيه القول بالحصر المدّعى عليه اتّفاق علماء المعاني ، لتبادر الحصر من نحو هذا التركيب في متفاهم العرف كما يرشد إليه الوجدان السليم والطبع الصحيح ، والمنكر له كابر وجدانه ، بل هذا التبادر ثابت في نوع هذا التركيب من سائر اللغات أيضا ولا اختصاص له بلغة العرب.

ولأنّ الخبر ظاهر في الصدق كما يشهد به طريقة العرف في تصديق كلّ مخبر ما لم يقم على كذبه حجّة أو أمارة ، والكذب فيه احتمال عقليّ لا يزاحم الظهور ، واحتمال الصدق والكذب في تعريف الخبر اريد به مطلق الاحتمال لا خصوص المساوي منه ، فلو كان لجنس الذات المتّصفة بالأمارة في قولنا : « الأمير زيد » مصداق آخر غير « زيد » وهو « عمرو » مثلا لزم الإخبار عن الأعمّ بالأخصّ وهو كذب ينفيه الظاهر ، ضرورة أنّ إسناد « زيد » إلى جنس الذات المتّصفة بالأمارة نسبة لها خارج لا تطابقه بالفرض ، وهو أنّ جنس الذات المتّصفة بالأمارة بعضه « زيد » وبعضه « عمرو ».

وبعبارة اخرى : قولنا : « الذات المتّصفة بالأمارة » كلام لنسبته خارج لا تطابقه ، وهو أنّ الذات المتّصفة بالأمارة بعضها « زيد » وبعضها « عمرو ».

__________________

(١) القوانين ١ : ١٨٨.

٤٠٤

وعلى ذلك ينزّل ما في كلام جماعة منهم العلاّمة والعميدي في التهذيب والمنية وغيرهما من الاحتجاج بأنّه : « لولا مفهوم الحصر حجّة لزم الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ ».

ويحتمل أن يكون نظرهم في بطلان التالي إلى غير جهة الكذب من الاستحالة العقليّة ، فإنّ الإخبار بزيد عن الأمير يقتضي باعتبار الحمل كون الأمير موجودا بعين وجود زيد ، فلو عمّ الأمير في الخارج غير « زيد » أيضا كعمرو وبكر وخالد مثلا لعمّ « زيد » أيضا غيره وهو محال واستحالته تقتضي أن لا تعمّ الأمارة غير زيد ولا توجد في سواه ، وهذا هو معنى الحصر.

وملخّصه : أنّ بطلان الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ بكلّ من الوجهين المذكورين يقتضي عدم كون جنس الذات المتّصفة بالأمارة بحسب الخارج أعمّ من « زيد » وإن كان بحسب الذهن أعمّ منه.

فلا ينافي كونه أعمّ منه ـ على ما هو المأخوذ في عنوان المسألة كما عرفت ـ نفي كون الإخبار عنه به إخبارا عن الأعمّ بالأخصّ كما هو مفاد الدليل بعد تسليم الملازمة وبطلان اللازم.

وأمّا ما يورد عليه : من أنّ الكذب أو المحال على تقدير الصدق إنّما يلزم لو كان المفرد المضاف أو الألف واللام للعموم وهو ممنوع ، بل هما ظاهران في البعض وحينئذ يكون التقدير : « بعض الأمير زيد » و « بعض العالم عمرو » و « بعض صديقي زيد » وذلك صادق.

ولو سلّم كونهما للعموم وكان مقصودا للمتكلّم إلتزمنا كونه كاذبا على تقدير تعدّد العلماء والامراء والأصدقاء ولا يلزم المحال حينئذ.

ففيه : منع الابتناء ومنع الظهور ، لظهور المفرد المضاف والمفرد المعرّف باللام في تعريف الجنس ، والإخبار عن الجنس الأعمّ بحسب الخارج بالأخصّ يوجب الكذب أو المحال ، ولا حاجة إلى جعلهما للعموم إن اريد به الاصولي.

ودعوى الظهور في البعض إن كانت باعتبار الوضع فهي مردودة على مدّعيها ، وإن كانت باعتبار القرينة فهي باطلة بدليل الخلف ، لأنّ المأخوذ في عنوان المسألة كما عرفت بملاحظة عباراتهم انتفاء قرينة العهد.

وممّا يدلّ على المختار : طريقة أهل العرف من جميع اللغات في المحاورات والمخاطبات على استعمال هذا النوع من الخبر في غالب موارده فيما كان أصل العنوان

٤٠٥

معلوما للسامع والمعنون ـ على معنى الموصوف به ـ غير معلوم له ، بأن يعلم وجود عنوان « الأمير » أو « العالم » أو الصديق للمتكلّم في الخارج ولا يعلم بالّذي هو موصوف به ، إمّا لجهله البسيط كما لو كان غافلا أو لجهله المركّب كما لو كان معتقدا له في غير من هو له ، أو لجهله بالانفراد كما لو كان معتقدا للشركة أو لجهله بالتعيين كما لو كان متردّدا ، فيأتي المتكلّم في جميع هذه الصور بقوله : « الأمير أو العالم أو صديقي زيد » لإزالة جهل السامع ، فيفيد الحصر في الجميع بالنصوصيّة في غير الصورة الاولى من باب قصر القلب أو الأفراد أو التعيين والظهور فيها ، فلولا دلالة هذا النوع من الخبر باعتبار نوع هذا التركيب على الحصر لما اطّرد استعماله في الصور المذكورة ، أو لما تجرّد فيها عن قرينة خارجيّة.

وبما بيّنّاه ينقدح أنّ كون الاسم الأوّل في هذا التركيب مبتدأ ومخبرا عنه والاسم الثاني خبرا ومخبرا به ـ كما صرّح به جماعة من فحول أهل الفنّ منهم التفتازاني في عبارته المتقدّمة ـ ممّا لا ينبغي أن يختلف فيه كما نقله بعض الأعاظم ، وأنّ القول في مثل : « العالم زيد » و « صديقي عمرو » بكون الوصف خبرا والموصوف مبتدأ كما عن العلاّمة والفخري وارد على خلاف التحقيق ، إذ الضرورة بالنظر إلى طريقة العرف قاضية بخلافه ، لاستقرارها على أخذ معلوم العنوان مبتدأ ومجهوله خبرا ، وهذه قاعدة لطيفة صرّح بها غير واحد من أهل العربية وتعرّض لبيانها شيخنا البهائي في كتابه في النحو الموسوم بالصمديّة (١) قائلا : « المجهول ثبوته للشيء عند السامع في اعتقاد المتكلّم يجعل خبرا ويؤخّر ، وذلك الشيء المعلوم يجعل مبتدأ ويقدّم ، ولا يعدل عن ذلك في الغالب ، فيقال لمن عرف زيدا باسمه وشخصه ولم يعرف أنّه أخوه : « زيد أخوك » ولمن يعرف أنّ له أخا ولم يعرف اسمه : « أخوك زيد » فالمبتدأ هو المقدّم في الصورتين ».

والظاهر أنّ مراده بالجهل في عنوان القاعدة ما يعمّ الساذج والمركّب والجهل بالتفصيل وإن قصر مثاله عن إفادة التعميم.

نعم هنا كلمات ربّما توهم خلاف ما ذكرناه :

منها : ما ذكره أهل الميزان من أنّ الموضوع في القضيّة ما كان ذاتا والمحمول ما كان وصفا.

ومنها : ما ذكروه أيضا من أنّ المراد بالموضوع الفرد وبالمحمول المفهوم ، حتّى أنّه

__________________

(١) كتاب الصمديّة : في المرفوعات ، الحديقة الثانية.

٤٠٦

ظنّ جماعة ـ على ما حكي ـ أنّ الجزئي الحقيقي لا يقع محمولا ألبتّة ، بل عن المحقّق الشريف ادّعاء الضرورة في ذلك حيث أحال الأمر فيه إلى مراجعة الفطرة السليمة.

ومنها : ما ذكروه أيضا من أنّ الموضوع في كلّ قضيّة حمليّة ما كان معروضا والمحمول ما كان عارضا.

فإنّ قضيّة هذه التصريحات كون « زيد » في قضيّة « الأمير زيد » وغيره مبتدأ ، لأنّه الذات والفرد والمعروض.

ولكن يندفع الجميع : بأنّ نظر أهل الميزان وغيرهم من أرباب الصناعات في تمهيد هذه القواعد إلى القضايا المعتبرة في العلوم المؤلّفة على الترتيب الطبيعي الغير الملحوظ فيها سوى المحكوم عليه والمحكوم به والنسبة الحكميّة والحكم ، من غير نظر إلى الحصر ولا إلى ما يفيده ، ولا إلى غيره من مزايا الكلام وخواصّه المرعيّة في مقامات الخطاب ، إذ لا شغل لهم في هذه الامور ، بل رعاية مزايا الكلام وخواصّه من وظيفة أهل العرف في خطاباتهم وتفهيم مقاصدهم.

ولقد عرفت أنّ بناءهم في تأليف الكلام ورعاية الوضع والحمل عند إفادة الحصر على العدول عن الترتيب الطبيعي ، بل مطلقا على جعل ما جهل ثبوته محمولا وصفا كان أو ذاتا ، مفهوما كان أو فردا ، عارضا كان أو معروضا.

ويدلّ على المختار من الحصر أيضا أنّ الاسم العامّ صفة كان أو اسم جنس ـ على ما حقّق ـ موضوع للماهيّة المقرّرة في نفس الأمر المعرّاة عن ملاحظة الفرد مطلقا ، وأصالة الحقيقة يقتضي الحمل عليها فيما تجرّد عن القرينة الصارفة ، فإذا حكم عليها بشيء دخلت فيه بتمام حصصها ، وإذا كان ذلك الشيء أخصّ منها بحسب المفهوم كان مقتضى الحكم عليها به أن [ لا ] يتجاوزه حصّة منها بتحقّقها في غيره ، وإلاّ لما كانت من حيث هي محكوما عليها به وهو خلاف الفرض ، ولا يعنى من الحصر المتنازع فيه إلاّ هذا وبالتأمّل فيما قرّرناه يعلم أنّه لا مدخليّة « للاّم » ولا الإضافة في إفادة هذا الحصر. كما قد يتوهّم ، بل هو من مقتضيات تعلّق الحكم بالماهيّة أخذا بظاهر القضيّة ، واللام أو الإضافة إنّما يؤتى بهما للمحافظة على القاعدة النحويّة من عدم جواز الابتداء بالنكرة إلاّ مع الفائدة ، ولذا يستفاد الحصر من مثل هذا التركيب في موضع حصول الفائدة في الابتداء بالنكرة مع خلوّ الاسم العامّ المتقدّم عن اللام والإضافة ، كما في المثال المعروف المذكور في بعض كتب

٤٠٧

النحو وهو قولهم : « شرّ أهرّ ذاناب » على ما هو المصرّح به من كون معناه : « ما أهرّ ذاناب إلاّ شرّ ».

ويؤيّده الوجوه المذكورة على المختار ما تقدّم من حكاية الشهرة في القول بالحصر. وما عرفت عن التفتازاني من نفي الخلاف عنه بين علماء المعاني.

ولا حاجة في إثباته إلى الاحتجاج بما اعتمد عليه بعض الأعلام (١) ـ وحكى الاعتماد عليه عن المحقّق الشريف أيضا ـ من أنّ : « المراد بالصفة إن كان هو الجنس فيستحيل حمل الفرد عليه لأنّ الحمل يقتضي الاتّحاد والفرد الخاصّ ليس عين حقيقة الجنس ، فينبغي أن يراد منه مصداقه وهو ليس بفرد خاصّ لعدم العهد وعدم إفادة العهد الذهني فيحمل على الاستغراق ، فيصير المعنى : « أنّ كلّما صدق عليه العالم فهو زيد » وهذا لا يصحّ إلاّ إذا انحصر مصداقه في الفرد لاستحالة اتّحاد الكثيرين مع الواحد ، وذلك إمّا حقيقة كما لو فرض انحصار الأمارة في الخارج ، وإمّا ادّعاء ومبالغة كما في قولنا : « الشجاع عمرو » و « الرجل بكر » والمراد هو المصداق الكامل » ليتوجّه (٢) إليه استبشاع حمل « زيد » على العامّ بمعنى كلّ فرد كاستبشاع إرادة « زيد » من العامّ بمعنى كلّ فرد ، ومنع استحالة حمل الفرد على الجنس ، وليس معنى الاتّحاد الحملي كون حقيقة الجنس عين الفرد ، بل معناه اتّحاد الوجود ، وحاصله كون المحمول ـ وإن كان فردا موجودا ـ بعين وجود الموضوع وإن كان جنسا ، ومعناه في قولنا : « الأمير زيد » أنّ كلما صدق عليه جنس الذات المتّصفة ـ بالأمارة صدق عليه « زيد » لأنّه موجود بوجوده ، ولازمه أن لا يصدق على غير « زيد » وإلاّ لزم أن يصدق على غيره وهو محال.

ولقد أجاد بعض الفضلاء في إيراد على الحجّة المذكورة قائلا : « بأنّ حمل « اللام » في المثال المذكور على استغراق الأفراد ممّا لا يساعد عليه الذوق ، لبعده عن ظاهر المقام والاستعمال ، إذ ليس المفهوم منه « أنّ كلّ صديقي زيد » كما زعموه ، وكذلك ليس « اللام » ولا لفظ « كلّ » في قولهم : « أنت الرجل كلّ الرجل » لاستغراق الأفراد ، إذ ليس المعنى : زيد كلّ فرد من أفراد الرجل لظهور ما فيه من الاستبشاع ، مع عدم مساعدة صوغ الكلام عليه ، إذ لو اريد ذلك لكان اللازم تنكير الرجل.

بل التحقيق : أنّ لفظة « كلّ » فيه بمعنى « التمام » وهي الّتي يؤتى بها لاستغراق الأبعاض

__________________

(١) القوانين ١ : ١٨٨ ـ ١٩٠.

(٢) خبر لقوله : « ولا حاجة في إثباته ... الخ ».

٤٠٨

حيث يشتمل مدخولها عليها ، وذلك لأنّه قد اخذت حقيقة الرجل فيه مقيّدة باعتبار الخارج ، فاعتبرت من حيث تمام تحقّقها وتحصّلها فيه بقرينة الإشارة إليها باللام ، فإنّ الإشارة تستدعي تعيّن المشار إليه ، ولا تعيّن للماهيّة الخارجيّة عند عدم العهد إلاّ بهذا الاعتبار ، وعلى هذا فقولك : « أنت الرجل » يدلّ على أنّ مخاطبك قد استكمل هذه الحقيقة الخارجيّة وحاز تمامها ويلزم منه القصر ، نظرا إلى أنّه إذا حاز الكلّ لم يبق لغيره حظّ منها وإلاّ لم يكن حائزا للكلّ بل للبعض ، وإردافه بكلّ الرجل تأكيد لهذا المعنى وتصريح به ، وعلى هذا القياس قولنا : « زيد الصديق » [ بدليل صحّة تأكيده بكلّ الصديق ] من غير حصول مخالفة في المعنى إلاّ في الوضوح » إلى آخر ما ذكره (١).

واحتجّ أهل القول بعدم الدلالة على الحصر بوجهين ، محصّلهما ما قرّره الفاضل المتقدّم ذكره من أنّه : « لو كان « العالم زيد » مفيدا للحصر لكان العكس وهو قولنا « زيد العالم » مفيدا له أيضا وأنّهم لا يقولون به.

أمّا الملازمة : فلا شتراك المستند ، فإنّهم تمسّكوا على إفادة الحصر في صورة التقديم بأنّ العالم لا يصلح للجنس ، لأنّه ماهيّة كلّية ويكذب الإخبار عنه بأنّه زيد الجزئي ، ولا للعهد إذ التقدير انتفاؤه ، فيتعيّن الحمل على الاستغراق ، فيفيد أنّ كلّ ما صدق عليه العالم زيد ، وهذا معنى الحصر ، وهو بعينه آت في صورة التأخير أيضا. وأيضا لو كان الأوّل مفيدا للحصر دون الثاني لكان التقديم والتأخير مغيّرا لمفهوم الكلمة والتالي باطل.

بيان الملازمة : أنّ الفرض تساوي المركّبين إلاّ في التقديم والتأخير ، فلو اختلفا في إفادة الحصر لكان من جهة ما يختلفان فيه ، لامتناع أن يختلفا من جهة ما يتساويان فيه.

وأمّا بطلان التالي : فلأنّ التقديم والتأخير إنّما يغيّر الهيئة التركيبيّة دون مداليل المفردات » (٢).

وقد يقرّر الأوّل : بأنّه لو دلّ الأصل على الحصر لدلّ عليه العكس أيضا ، لأنّ الموضوع والمحمول في الأصل والعكس متّحدان ، فإذا تساويا في الأصل تساويا في العكس أيضا ، واللازم باطل بالاتّفاق وكذا الملزوم.

واجيب عن الأوّل تارة : بأنّا نقول بالموجب ونمنع بطلانه ، والسند ما قرّره علماء المعاني من أنّ تعريف المسند ممّا يفيد الحصر أيضا.

__________________

(١) الفصول : ١٥٥.

(٢) الفصول : ١٥٦.

٤٠٩

أقول : وهو كذلك للتبادر العرفي كما تقدّم في الأصل ، ولعلّه مستند علماء المعاني أيضا.

ودعوى الاتّفاق على بطلانه بمكان من المنع ، كيف وقد سبق عن التفتازاني ما ينافي ذلك ، مضافا إلى ما حكاه عن صاحب المفتاح من القول بأنّ « المنطلق زيد » و « زيد المنطلق » كلاهما يفيد حصر الانطلاق على زيد.

واخرى : بما حكاه التفتازاني من أنّ الوصف في صورة التقديم مبتدأ محكوم عليه فيراد به الذات الموصوفة بالوصف ، وفي صورة التأخير هو خبر محكوم به ، فيراد به مفهوم ذات مّا موصوفة بذلك الوصف وهذا عارض للذات المخصوصة.

وبهذا القدر يندفع الدليل ، لأنّ اتّحاد « زيد » بحسب الوجود مع الذات الموصوفة يفيد الحصر بخلاف اتّحاده مع عارض له ، فإنّه لا يمنع اشتراك المعروضات فيه واتّحاد كلّ منها لحصّة منه.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ جعل الوصف في صورة العكس بمعنى ذات مّا موصوفة ممّا لم يتحقّق معناه ، لأنّه ليس نكرة.

وإن بني على جعل « اللام » للعهد الذهني فمدخوله في معنى النكرة وإن لم يكن في اللفظ نكرة ، فيرد عليه : أنّه مجاز لا يصار إليه من غير قرينة ، مع ابتناء الجواب على ما لا حاجة له إلى هذا التكلّف ، وهو ما تقدّم من الفرق بين الموضوع والمحمول من كون الثاني عارضا والاوّل معروضا ، وهذا الاعتبار يتمّ على تقدير جنسيّة « اللام » أيضا ، فإنّ معروض « زيد » في الأصل يستحيل أن يتحقّق في غير « زيد » بخلاف عارضه ، ضرورة أنّ كونه معروضا للوصف بالمعنى الجنسي لا يمنع شركة المعروضات الاخر فيه من باب الشركة في العرض العامّ ، أو من باب الشركة في المفهوم الكلّي على معنى صدقه على الكثيرين.

وبهذا ينقدح التحقيق في الجواب بالفرق ، فإنّ معنى « العالم زيد » باعتبار الحمل المقتضي لاتّحاد المحمول في الوجود ـ على معنى كونه موجودا بعين وجوده ـ : أنّ زيدا موجود بعين وجود العالم بمعنى جنس الذات الموصوفة.

واللازم من ذلك أن لا يؤخذ صفة العلم في غير « زيد » وإلاّ لزم أن يوجد « زيد » في غيره وهو محال ، ومرجعه إلى كون الجزئي ممتنع الصدق على الكثيرين ، ومعنى قولنا : « زيد العالم » بالاعتبار المذكور أنّ : العالم ـ بمعنى جنس الذات الموصوفة ـ موجود بعين وجود زيد ، ومرجعه إلى أنّ كلّ ما صدق عليه « زيد » صدق عليه العالم وهذا لا ينافي أن

٤١٠

يصدق العالم على غير « زيد » باعتبار وجود صفة العلم في غيره أيضا.

وبعبارة أخرى : الوصف المحكوم عليه بأنّه « زيد » لا يعقل تسرّيه إلى غير « زيد » وزيد المحكوم عليه بذلك الوصف لا يمنع من تسرّيه إلى غيره.

واجيب عن الثاني : بأنّه إن اريد بتغيّر المفهوم مجرّد القصد إلى الذات الموصوفة عند التقديم وإلى العارض الّذي هو ذات موصوفة عند التأخير فلا نسلّم بطلانه.

كيف وهو لازم عند انعكاس القضيّة ، ضرورة أنّ المراد بالموضوع الذات وبالمحمول المفهوم ، وإن اريد به غير هذا فلا نسلّم لزومه.

والأولى أنّ الاختلاف بينهما في إفادة الحصر وعدمها وإن كان حاصلا من جهة التقديم والتأخير ، غير أنّه ليس تغييرا في معنى مفردات المركّب ، بل هو تغيير في معنى الهيئة التركيبيّة الّتي يعترف الخصم بتطرّق التغيير إليها بالتقديم والتأخير ، ضرورة أنّ الحصر وعدمه من صفات النسبة وأحوالها وهي من مداليل الهيئة دون غيرها.

وحينئذ يراد في صورة التقديم نسبة « زيد » إلى الوصف على وجه لا يتعدّاه إلى غيره وفي صورة التأخير نسبة الوصف إلى « زيد » على وجه لا يمنع شركة الغير معه فيه ، وهذا ممّا لا ضير فيه ولا سترة عليه.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه تبيّن الحقّ في مثل : « زيد الأمير » و « عمرو العالم » وأنّه أيضا ممّا يفيد الحصر ما لم يقم من الخارج ما يكشف عن خلافه ، لأنّه المتبادر منه عرفا.

ولعلّه من جهة العدول في المحمول عن التنكير إلى التعريف ، ضرورة أنّه لو كان المقصود من الحمل مجرّد صدق هذا الجنس على « زيد » أو « عمرو » من حيث إنّه فرد منه تمّ ذلك بحمل المنكر ، مثل : « زيد أمير » و « عمرو عالم » فيبقى التعريف لغوا ، فعلم منه أنّ المقصود أنّ زيدا هو حقيقة الأمير وماهيّته ، على معنى أنّه حاز تمام الماهيّة واستكمل جميع حصصها فيفيد الحصر الّذي هو فروضه كما تنبّه عليه بعض الأعلام أيضا (١) وحكى الإشارة إليه عن المحقّق الشريف في بعض حواشيه.

ويؤيّده ما تقدّم عن التفتازاني وما حكاه عن صاحب المفتاح وما اشتهر عن علماء المعاني من أنّ تعريف المسند كتعريف المسند إليه في إفادة الحصر.

ثمّ لا يخفى على الفطن العارف أنّ « زيد صديقي » لا يقاس على : « صديقي زيد » فإنّ

__________________

(١) القوانين ١ : ١٩٠.

٤١١

ذلك بمنزلة « زيد صديق لي » نظير « زيد إنسان » فلا يفيد الحصر لانتفاء الوجوه المتقدّمة الجارية في « صديقي زيد » بأسرها.

ودعوى كون الإضافة كاللام في إفادة التعريف فيكون ذلك بمنزلة « زيد الصديق ».

يدفعها : أنّ الإضافة في مثله لفظية فلا تفيد سوى التخفيف كما قرّر في محلّه.

ـ تعليقة ـ

ومن المفاهيم مفهوم « إنّما » المبتني على إفادتها الحصر ، والظاهر أنّ الإضافة هنا أيضا لاميّة ، ولقد اختلف في إفادة هذه اللفظة الحصر وعدمها على أقوال :

فعن الآمدي وابن حيّان من النحاة القول بأنّها لا تفيده.

وعن الفيّومي في المصباح المنير أنّه استظهر احتمالها الحصر وعدمه ، وقد يعبّر عنه بالقول الاشتراك لفظا كما في المفاتيح.

وعن الشيخ في التهذيب والفاضلين والطبرسي في مجمع البيان ونجم الأئمّة والطريحي والعميدي والرازي في المعالم والبيضاوي في المنهاج والسكّاكي في المفتاح والقزويني في الإيضاح أنّها تفيد الحصر.

وحكي عن الجوهري والفيروز آبادي أيضا ، وفي المفاتيح : « هذا هو المشهور وعليه كافّة أواخر أصحابنا الاصوليّين ».

وقد يحكى في المسألة قول بالتوقّف كما في كلام بعض الأعاظم.

والأقرب هو المشهور بحكم التبادر وسبقه إلى الفهم منها حيثما وجدت في الكتابة أو الخطابة.

ويعضده دعوى التبادر في كلام جماعة ، ونقل الاتّفاق من غير واحد وحكاية الشهرة بل تحقّقها أيضا.

مضافا إلى نقل أهل اللغة المحكيّ في كلام جماعة منهم العلاّمة في التهذيب قائلا : « إنّما للحصر بالنقل عن أهل اللغة » وظاهره اتّفاقهم عليه ، كما هو ظاهر التفتازاني فيما حكي عنه من التعبير بالنقل عن أئمّة اللغة والتفسير ، ونحو الأزهري فيما حكي عنه من إسناده ذلك إلى أهل اللغة ، وعن صريح أبي عليّ الفارسي وهو من أعاظم أهل اللغة أنّه نقل إجماع النحاة عليه وصوّبهم فيه ، وعنه أيضا : « اتّفق أهل اللغة على كونها موضوعة للحصر ».

وهو الظاهر من الطريحي في ملحقات المجمع حيث قال : « وأمّا « إنّما » المتكرّرة في

٤١٢

الكتاب والسنّة وكلام البلغاء ، فهي على ما نقل عن المحقّقين موضوعة للحصر عند أهل اللغة ولم نظفر بمخالف لذلك ، واستعمال أهل العربيّة والشعراء والفصحاء إيّاها في ذلك يؤيّده » انتهى.

واحتجّ عليه أيضا : باستدلال العلماء قديما وحديثا بقوله : « إنّما الأعمال بالنيّات » و « إنّما الولاء لمن أعتق » ومرجعه إلى الاحتجاج بالتبادر ، بتقريب : أنّ استدلال العلماء يكشف عن تحقّق تبادر الحصر عندهم.

وهذا جيّد على تقدير دون آخر ، فإنّ الاستدلال يتمّ على كلا تقديري الاستناد إلى الإيجاب الكلّي فقط أخذا بالمنطوق ، والاستناد إلى مجموع الإيجاب والسلب الكلّيين أخذا بالمنطوق والمفهوم معا ، وفهم الحصر إنّما يستكشف منه على الثاني وهذا ليس بواضح ، لجواز كون مناط الاستدلال هو الأوّل ، ولا ينافيه حكمهم بعدم كفاية العمل بلا نيّة إلاّ فيما أثبته الدليل ، لأنّ عدم الكفاية كما أنّه يستند إلى دلالة الكلام على العدم على ما هو مفاد ثبوت المفهوم ، فكذلك قد يستند إلى عدم دلالته على الكفاية اقتصارا على ما نطق به ، كما هو مفاد الأخذ بالمنطوق فقط في موضع عدم ثبوت المفهوم والحصر لا يتمّ إلاّ مع ثبوت الدلالتين معا ، وهذا غير واضح من المستدلّين كما لا يخفى.

وأمّا الاحتجاج عليه أيضا بأنّ : « إنّ » للاثبات و « ما » للنفي ولا مجال لتوهّم تواردهما على شيء واحد للزوم التناقض ، ولا لتوهّم النفي إلى ما بعد « إنّما » وتوجّه الإثبات إلى ما سواه للإجماع على خلافه ، فتعيّن توجّه الإثبات إلى ما بعدها والنفي إلى ما سواه وهو المطلوب ، إذ لا يعنى بالحصر إلاّ هذا ، فبمكان من الوهن والفساد ، لوضوح أنّ الإثبات من مقتضيات نفس الكلام و « إنّ » ترد لتأكيد النسبة ولذا تأتي في المنفيّ كما تأتي في الموجب.قال ابن هشام في المغني : « وهذا البحث مبنيّ على مقدّمتين باطلتين بإجماع النحويين ، إذ ليست « إنّ » للاثبات وإنّما هي لتوكيد الكلام ، إثباتا كان مثل : « أنّ زيدا قائم » أو نفيا مثل : « أنّ زيدا ليس بقائم » ومنه : « أنّ الله لا يظلم الناس شيئا » وليست « ما » للنفي بل هي بمنزلتها في أخواتها في « ليتما » و « لعلّما » و « لكنّما » و « كأنّما » وبعضهم ينسب القول بأنّها نافية إلى الفارسي في كتاب الشيرازيات ، ولم يقل ذلك في الشيرازيات ولا في غيرها ، ولا قاله نحوي غيره ، وإنّما قال الفارسي في الشيرازيات : أنّ العرب عاملوا « إنّما » معاملة النفي والإثبات في فصل الضمير كقول الفرزدق : وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ».

٤١٣

وأمّا ما ذكره في المفاتيح في دفع ذلك من أنّ الحمل على التأسيس أولى من التأكيد وإنكار ابن هشام لا يسمع لأنّ شهادة الإثبات مقدّمة ، مع أنّ الّذي اعترف به من تصريح الفارسي بأنّ العرب عاملوا « إنّما » معاملة النفي والإثبات يدلّ على صحّة ما نسب إليه ، لأنّ هذه المعاملة لا تكون إلاّ بعد كون « ما » نافية أو « إنّما » كلمة مفردة لا مركّبة ، ولمّا كان الثاني باطلا انحصر الوجه في الأوّل.

ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ الحمل على التأسيس في مقابلة التأكيد إنّما يستقيم فيما كان قابلا لكلّ من التأسيس والتأكيد ، وإذا كان وضع « أنّ » لمجرّد التأكيد باتّفاق النحاة وتصريح قاطبة أهل اللغة فمن أين يجيء لها صلاحية التأسيس حتّى يترجّح على ما يقابله؟ فإنّ ذلك في موضع التردّد والدوران والمقام ليس منه ، وشهادة أهل الخبرة مقدّمة على غيرها ولو كان شهادة إثبات ، على أنّ الشهادة بالإثبات لم تثبت إلاّ من الاصوليّة في احتجاجهم المذكور ولعلّهم ذكروه اجتهادا لا نقلا عن أهل اللغة ، والمنع عن كون « إنّما » كلمة مفردة تحكّم حيث لا شاهد على أنّها في كلّ مقام مركّبة ، ودعوى الاتّفاق عليه في حيّز المنع.

نعم في كلام النحاة أنّ « إنّ » قد يدخلها « ما » فتكفّها عن العمل كما في أخواتها ، وهذا كما ترى لا يقضي بأنّها في جميع مواردها من هذا الباب ، على معنى كون الاعتبار المذكور على وجه الإيجاب الكلّي ، لجواز كون هذه اللفظة على قسمين ، مع أنّ من الأعاظم من نقل الخلاف في كونها بسيطة أو مركّبة من « إنّ » وما النافية أو الزائدة على أقوال ، ثمّ صار إلى القول الأوّل استنادا إلى أنّ التركيب مقتضاه فهم مفرداته ولا فهم هنا ، وعليه بنى دفع الحجّة المذكورة قائلا : « بأنّ صحّة الاستناد إليه يتوقّف على تركيب مدلول « إنّما » وقد عرفت بطلانه (١) وهذا منه قدس‌سره ثاني الاعتراضات على هذه الحجّة.

واستشكل أيضا في دعوى التركيب بعد ما دفع الاعتراض الأوّل المتقدّم عن ابن هشام بقوله : « ولكنّ الانصاف أنّ دعوى تركيب إنّما من « إنّ » و « ما » مشكل فإنّ التبادر يشهد بالإفراد ».

ومن الاعتراضات عليها أيضا ما عن العبري من أنّ كلمة « إنّ » في « إنّما » لو كانت على حالها لوجب أن تكون ناصبة كما كانت قبل التركيب وليس كذلك بالاتّفاق ، لأنّ « ما » فيها كافّة.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٤٨.

٤١٤

وهذا منه مبنيّ على تسليم التركيب وإنكار بقاء « إنّ » على اقتضائها لعدم كون « ما » نافية.

ومن الاعتراضات أيضا ما أورده التفتازاني في المطوّل من : « أنّ « إنّ » لا تدخل إلاّ على الاسم ، و « ما » النافية لا تنفي إلاّ ما دخلت عليه بالإجماع ، وهذا راجع إلى بيان سند المنع من دعوى التركيب ».

ومن الاعتراضات أيضا ما عن بعضهم من أنّ كون « ما » للنفي غير ممكن ، لاقتضاء « إنّ » و « ما » النافية الصدارة ، والعمل بمقتضاهما هنا غير ممكن لاستحالة اجتماع النقيضين.

وحكي الاحتجاج أيضا بوجوه اخر :

منها : قول الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر

وقول الفرزدق :

أمّا الذائد (١) الحامي (٢) الذمار (٣)

وإنّما يدافع عن أحسابهم (٤) أنا أو مثلي

نظرا إلى أنّه لا يتمّ مقصودهما إلاّ بالحصر.

ومنها : صحّة انفصال الضمير معه كما في قول الفرزدق ، نظرا إلى انتفاء الوجوه المجوّزة للفصل سوى أن يكون المعنى : « ما يدافع إلاّ أنا » فإنّه لو كان معناه « يدافع أنا » لا يصحّ.

ومنها : أنّ « إنّ » لمّا كانت لتأكيد المسند للمسند إليه ثمّ اتّصلت بها « ما » المؤكّدة ضاعف تأكيدها ، فناسب أن يتضمّن معنى القصر لأنّ قصر الصفة على الموصوف وبالعكس ليس إلاّ تأكيدا للحكم على تأكيد.

ومنها : أنّ « إنّما » إذا كانت للحصر كانت للتأسيس وإلاّ كانت للتأكيد ولا شكّ أنّ الأوّل أرجح.

ومنها : أنّها استعملت في الحصر والأصل فيه الحقيقة.

ومنها : أنّه يصحّ إعمال الصفة الواقعة بعدها في قولك : « إنّما قائم أبوك » وليس ذلك إلاّ لتضمّنها معنى « ما » لما قرّر في محلّه من أنّ الصفة لا يجوز إعمالها إلاّ إذا اعتمدت على ما قبلها ولا يصلح له هنا إلاّ النفي ، فتعيّن أنّ « إنّما » متضمّنة لمعنى « ما » و « إلاّ ».

__________________

(١) الذود : الطرد والدفع ( مجمع ).

(٢) الحامي : من الحماية وهو المنع والحفظ والدفع.

(٣) الذمار : ما لزمك حفظه ممّا ورائك ويتعلّق بك ، وذمار الرجل ممّا ورائه ويحقّ عليه أن يجمعه ( مجمع ).

(٤) الحسب : الشرف الثابت في الآباء ( مجمع ).

٤١٥

والجواب عن الأوّل : أنّ مجرّد الاستعمال إن سلّمناه لا يجدي نفعا في المقام ، لأنّه ليس بمحلّ كلام خصوصا إذا ساعد عليه القرينة كما في قول الفرزدق ، بناء على كون مطلق الحصر من الوجوه المجوّزة لانفصال الضمير كما ذكر في تقرير الاستدلال فالقرينة هو انفصال الضمير لإفادة الحصر.

هذا مع تطرّق المنع من أصل الاستعمال وإن كان الحصر مسلّما فإنّه ليس من مقتضى كلمة « إنّما » أمّا في قول الأعشى فلأنّ الحصر فيه مستفاد من قوله : « العزّة للكاثر » لأنّه نظير قولهم : « الكرم في العرب » و « الإمام من قريش » وغير ذلك ممّا هو مندرج في العنوان المتقدّم المعبّر عنه بمفهوم الحصر.

وأمّا في قول الفرزدق فلأنّ الحصر مستفاد من قوله : « أنا الذائد » باعتبار تعريف المسند ، وقوله : « يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي » تكرّر لمضمون الكلام الأوّل قصد به بيان المدافع عنه مع التنبيه على أنّ المتكلّم قصد الاسناد إلى ما يعمّ مثله في المجد والعصبيّة على قومه ، و « إنّما » في الموضعين وردت لضرب من الضرورة أو لتأكيد النسبة.

وقد اجيب أيضا : بحمل فصل الضمير على الضرورة ، فلا قضاء له بما ذكر من اعتبار الحصر وهذا أيضا يرجع إلى منع أصل الاستعمال.

ولكن ردّ : بأنّه لو صحّ ذلك لكان يصحّ أن يقال : « إنّما ادافع عن أحسابهم أنا أو مثلي » على أن يكون « أنا » تأكيدا.

ودفعه بعض الأعاظم : بأنّ ذلك يوافق مراده فإنّ المفهوم منه حينئذ حصر المدفوع عنه لا المدافع الّذي هو المقصود.

وفيه ما لا يخفى من عدم تعلّقه بالردّ المذكور ، فإنّ مبنى الجواب المتقدّم على إنكار أصل الاستعمال في الحصر حملا لفصل الضمير الّذي جعل قرينة عليه على كونه لأجل الضرورة ، والردّ المذكور وارد عليه على هذا التقدير ، فلا حصر فيه حتّى ينقلب الحصر المقصود بغيره على فرض ما لو قال الشاعر : « إنّما ادافع عن أحسابهم أنا أو مثلي » بناء على كون فصل الضمير لأجل الضرورة أيضا.

فالوجه في دفع الردّ الاستناد إلى عطف « مثلي » على الضمير المنفصل ، فإنّه المانع من التعبير « بادافع » مكان « يدافع » لأنّ المعطوف في حكم المعطوف عليه بالنظر إلى ما قبله ، والضمير المتّصل خصوصا إذا كان مستترا لا يؤكّد باسم الظاهر وبناء الردّ على جعل الضمير

٤١٦

المنفصل تأكيدا لوجوب استتار ضمير الفاعل في المضارع المبدوّ بالهمزة.

وعن الثاني : ما عرفت من منع أصل الاستعمال ، ولا دلالة لانفصال الضمير في قول الفرزدق عليه ، وتوجيه الدلالة عليه بما تقدّم من انتفاء الوجوه المجوّزة للفصل سوى أن يكون المعنى : « ما يدافع إلاّ أنا ».

يدفعه أوّلا : أنّ المجوّز له وقوع الضمير بعد لفظ « إلاّ » في خصوص الحصر بالنفي والاستثناء لتعذّر اتّصاله بها بحيث يصير جزء الكلمة والمقام ليس منه.

وثانيا : عدم الحاجة في توجيه انفصال الضمير هنا إلى تكلّف جعل إنّما بمعنى النفي والاستثناء ، فإنّ من ضابط العدول عن الاتّصال في الضمير إلى الانفصال تعذّر الاتّصال ، ومن موجبات تعذّره عطف إسم الظاهر على الضمير المرفوع فاعلا مع كونه ضمير المتكلّم والفعل الرافع له مضارعا مبدوّا بالياء كما في قول الفرزدق ، فإنّ عطف « مثلي » على الضمير المرفوع كما أوجب العدول عن « ادافع » إلى « يدافع » كذلك أوجب تعذّر اتّصال ضمير الفاعل ، لأنّه لو اتّصل كان مستترا ولا يستتر في المضارع المبدوّ بالياء إلاّ ضمير الغائب ، ومعه يفسد المعنى المقصود ، فإنّ المقصود إسناد الفعل إلى المتكلّم ويستحيل استتار ضميره في المبدوّ بالياء ، فتعيّن العدول فيه عن الاتّصال على وجه الاستتار إلى الانفصال ثمّ يعطف عليه « مثلي ».

وعن الثالث : بأنّ التأكيد على التأكيد لا يوجب الحصر وإن بلغ في الكثرة ما بلغ ، وإلاّ كان مثل قوله : « إنّ زيدا لقائم » وقوله : « والله إنّ زيدا لقائم » من مواضع الحصر وهو باطل بضرورة من اللغة والعرف.

والسرّ في ذلك : أنّ تأكيد المسند للمسند إليه لا يرد في الكلام إلاّ لتوهين احتمال الكذب كما هو الحال في القسم حيثما يرد ، فالتأكيد على التأكيد لا يوجب إلاّ زيادة التوهين حتّى ينتهي إلى رفع ذلك الاحتمال وخلوص الكلام عن شائبة الكذب ، فأقصى ما يلزم من تعدّد التأكيد وتكثيره هو تعيّن صدق الكلام.

ولا ريب أنّ صدق الإسناد لا يلازم نفي المسند عن غير المسند إليه.

وعن الرابع : بأنّ أولويّة التأسيس من التأكيد إن سلّمناها يتبع المقام المناسب ، وهي في المقام المناسب له تبيّن حال الكلام الصادر من المتكلّم ولا تتعرّض لحال اللفظ باعتبار الوضع ، وإلاّ لزم ترجيح اللغة بالعقل إن استند فيها بأنّ التأسيس إفادة والتأكيد إعادة والإفادة أولى من الإعادة ، وإن استند فيها إلى الغلبة فلا تجدي نفعا في المقام أيضا ، لأنّ

٤١٧

المانع من الحصر يبني كلامه على ما أصله التأكيد بحسب الواضع ، لدعواه تركّب « إنّما » عن « إنّ » المؤكّدة و « ما » الكافّة فلا تأثير لغلبة التأسيس في إبطال دعواه بل لا بدّ فيه من وسط آخر.

وعن الخامس : بمنع دلالة الاستعمال على الحقيقة كما قرّرناه في محلّه خصوصا إذا كان مع القرينة.

وعن السادس : بأنّ إعمال الصفة معها في نحو المثال المذكور قرينة على اعتبار الحصر المتضمّن للنفي وليس ذلك إلاّ استعمالا مع القرينة ولا كلام فيه.

حجّة القول بعدم إفادتها الحصر وجوه عمدتها أمران :

الأوّل : أنّ قول القائل : « إنّما زيد قائم » في معنى قوله : « إنّ زيدا قائم » فلا فرق بينهما إلاّ في الاشتمال على زيادة « ما » والزائد كالمعدوم ، وكما أنّ الثاني لا يفيد الحصر لا منطوقا ولا مفهوما فكذلك الأوّل.

وأجيب عنه تارة : بكونه مصادرة لأنّ الحجّة عين الدعوى.

واخرى : بالمنع عن ذلك ، بل « إنّما » كلمة برأسها موضوعة لإفادة الحصر.

الثاني : أنّه قد ورد في الكتاب العزيز ما لم يرد منه الحصر كما في قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )(١) و ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )(٢) و ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها )(٣) ضرورة عدم انحصار الإيمان في الموصوفين بما ذكر ، وعدم انحصار إرادة الله في إذهاب الرجس عنهم ، وعموم إنذاره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى من يخشى الساعة ومن لا يخشاها.

واجيب عنه تارة : بتحقّق الحصر في الآيات المذكورة ، فإنّ المراد في الأوّل الكمّلين من المؤمنين ، وفي الثاني أنّ إرادة إذهاب الرجس مقصورة على أهل البيت ولا تتعدّاهم إلى غيرهم ، لا حصر مطلق إرادة الله في إذهاب الرجس عنهم ، لما هو المعلوم من أنّ النفي في « إنّما » يرجع إلى ما ذكر أخيرا ، وفي الثالث الإنذار النافع المؤثّر في القرب إلى الطاعة لا مطلق الإنذار المتناول للمطلق.

واخرى : بأنّ المجاز خير من الاشتراك ، ومطلق الاستعمال لا يستلزم الحقيقة وكونها حقيقة في الحصر قد ثبت بالتبادر وفهم العرف لا مطلق الاستعمال ليكون الردّ مشترك الورود.

__________________

(١) الأنفال : ٢.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) النازعات : ٤٥.

٤١٨

تنبيهات

أوّلها : إنّ الحصر بـ « إنّما » قد يرد من باب قصر الصفة على الموصوف وقد يرد على عكس ذلك ، فمن الأوّل قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا )(١) فإنّه يفيد ثبوت الولاية لهؤلاء وانتفاءها عن غيرهم ، ومن الثاني قوله تعالى : ( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ )(٢) فإنّه يفيد ثبوت وصف البشريّة والمماثلة والوحي له وانتفاء غيره عنه من الصفات الّتي كانوا يتوهّمونها له صلى‌الله‌عليه‌وآله ككونه ملكا وغير ذلك ، وقد يأتي « إنّما » تأكيدا للحصر المستفاد من غيره لا أنّه بنفسه يفيد الحصر كما في « إنّما القائم زيد » و « إنّما زيدا ضربت » فإنّ الحصر في الأوّل يفيده تعريف المسند إليه أو جعل المبتدأ وصفا عامّا لموصوف خاصّ خبرا له ، وفي الثاني تقديم ما حقّه التأخير ودخول « إنّما » معه لا يقصد منه إلاّ التأكيد.

ويمكن القول في مثل ذلك بأنّ إدخال « إنّما » قرينة على أنّ [ غرض ] المتكلّم إفادة الحصر في هذا التركيب بواسطته لا بواسطة ما ذكر من العنوانين فيكونان حينئذ من المواضع المخرجة عمّا هو الأصل فيهما من إفادة الحصر ، ولكن الأوّل أوفق بالاعتبار.

ثمّ إنّ الحصر أمر نسبيّ يقتضي محصورا ومحصورا فيه ، وملاك الفرق بينهما في الحصر بـ « إنّما » تقدّم المحصور وصفا كان أو موصوفا وتأخّر المحصور فيه كذلك ، فكلّ اسم واقع عقيب « إنّما » فهو محصور والاسم المتأخّر عنه محصور فيه ، وهذا أصل كلّي يرجع إليه في مواضع الاشتباه مصرّح به في كلام الاصوليّين وأهل العربيّة ، وقد يقيّد ذلك بالغلبة كما في كلام بعض الفضلاء حيث قال : ويعتبر تأخّر المقصور عليه عن المقصور غالبا ، وقد يتقدّم إذا كان التقديم مفيدا للحصر كما في قولك : « إنّما زيد ضرب » (٣).

وهذا القيد كما ترى لا يعرف له وجه سوى الاحتراز عن المثال المذكور ونظائره كما ظهر من العبارة وهذا ليس بسديد ، فإنّ الاحتراز فرع على التناول والكلام في الحصر المستند إلى « إنّما » وهو في المثال المذكور مستند إلى التقديم وإنّما لم يرد هنا إلاّ للتأكيد ، فهو ليس من جزئيّات القاعدة ليكون مخرجا عنها واقعا في الطرف المقابل للغالب.

فالحقّ أنّ القاعدة مطّردة على حدّ الإيجاب الكلّي والعامّ الاصولي.

ثانيها : اختلفوا في الحصر بـ « إنّما » على تقدير الدلالة عليه في كونه منطوقا أو مفهوما على قولين حكاهما ابن الحاجب وغيره.

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) الكهف : ١١٠.

(٣) الفصول : ١٥٤.

٤١٩

وقد يفصّل بين ما كان منه من باب قصر الصفة على الموصوف كما في « إنّما القائم زيد » فيكون مفهوما وما كان منه من باب قصر الموصوف على الصفة كما في « إنّما زيد قائم » فيكون منطوقا ، ومبنى ذلك على جعل الحصر عبارة عن العقد السلبي مع التفرقة بين النوعين بجعل الأوّل عبارة عن نفي الصفة المذكورة عمّا عدا الموصوف المذكور والثاني عبارة عن نفي ما عدا الصفة المذكورة عن الموصوف المذكور ، فما له المدلول في الأوّل غير مذكور وفي الثاني مذكور.

وهذا كما ترى لا ينطبق على ما تقدّم في ضابط الفرق بين المقصور والمقصور عليه في الحصر بـ « إنّما » من كون ما ذكر أخيرا مقصورا عليه موصوفا كان أو صفة ، وقضيّة ذلك أن يكون المنفيّ في النوعين معا هو ما ذكر عقيب « إنّما » صفة كان أو موصوفا فيكون النفي فيهما معا مفهوما.

غاية الأمر أنّه في الأوّل عبارة عن نفي الصفة المذكورة عمّا عدا الموصوف المذكور.

وفي الثاني عبارة عن نفي الموصوف المذكور عمّا عدا الصفة المذكورة ، وكما أنّ قولنا : « إنّما القائم زيد » يفيد نفي صفة القيام عن غير زيد وهو عمرو وبكر وخالد وغيرهم فكذلك قولنا : « إنّما زيد قائم » يفيد نفي ذات زيد عمّا عدا القائم من القاعد والراكب والمضطجع وغيرها.

فالتفصيل المذكور غير سديد ، بل المتّجه هو القول بكونه مفهوما مطلقا على التفسير المذكور.

وأمّا على تفسيره بالعقد الإيجابي وهو الإثبات المقيّد ـ كما استظهرناه من كلماتهم في العنوان المتقدّم ـ فيتّجه القول بكونه منطوقا ، ولعلّ مبنى ما نقله ابن الحاجب على هذا التفسير.

ويشكل الأمر على القول بكونه مركّبا من الإثبات والنفي كما يظهر من بيان المختصر حيث قال ـ في عنوان مفهوم الحصر ـ : « اختلفوا في أنّ تقييد الحكم بأنّما مثل : « إنّما زيد قائم » هل يفيد الحصر؟ على معنى أنّه يفيد إثبات القيام لزيد ونفي سائر الصفات عنه أم لا؟ » انتهى.

إلاّ أن يلتزم بكونه مركّبا من المنطوق والمفهوم ولا جدوى للإطناب في المقام.

ومن الأعاظم من فصّل بين الأقوال الثلاث المتقدّمة في لفظة « إنّما » من حيث كونها مركّبة من « إنّ » و « ما » النافية أو من « إنّ » و « ما » الزائدة أو بسيطة.

فعلى الأوّل : يكون الدلالة منطوقيّة من باب التضمّن.

وعلى الثاني : يكون الدلالة مفهوميّة من باب الالتزام ، نظرا إلى أنّ كلمة « ما » حينئذ لم

٤٢٠