تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

الموجبين لدخولهما في معقد البحث باعتبار تعدّد العنوان فأهل العرف يفهمون منه بملاحظة خصوصيّة المتعلّق أنّ متعلّق الحكمين هو الأفراد لا الطبائع.

ويضعّف الأوّل : أنّ تعدّد متعلّق المتعلّق بعد فرض كونه متعلّقا في نظر المولى ممّا يوجب تعدّد المتعلّق أيضا بالاعتبار ، وتعدّد المحلّ المصحّح لتعلّق حكمين متضادّين به أعمّ في نظر العقل ممّا يكون ذاتيّا أو جعليّا ناشئا من الاعتبار ، وإلاّ لزم عدم جواز توارد الأمر والنهي على واحد نوعي لجهتين وأنّه خلاف ما اتّفقت عليه كلمتهم كما مرّ.

إلاّ أن يقال : إنّ ما نحن فيه لا يقاس على ذلك نظرا إلى وجود الفارق ، إذ ليس فيه مادّة اجتماع يتصادق عليها العنوانان المأمور به والمنهيّ عنه كالسجود لله والسجود للصنم ، بخلاف ما نحن فيه المفروض فيه نسبة العموم من وجه ، إذ لا كلام لنا في مادّتي الافتراق بل الكلام في مورد الاجتماع وهو أمر واحد شخصي لا تعدّد فيه أصلا لا حقيقة ولا اعتبارا.

والثاني : منع اتّحاد الفعل في المقام الثاني بعد ملاحظة لحوق القيدين به حسبما قرّرناه ، ومنع تعدّده الناشئ من التغاير في المقام الأوّل على تقدير آخر ، إذ لو اريد بتغاير الفعلين ما هو بحسب المفهوم فهو حاصل في المقام الثاني أيضا ، لوضوح أنّ « إكرام العالم » و « إكرام الفاسق » مفهومان متغايران ، وإن اريد به ما هو بحسب المصداق فهو غير حاصل في المقام الأوّل أيضا ، لوضوح أنّ الكون الحاصل في المكان المغصوب كون شخصي يتصادق عليه المفهومان لا أنّه كونان متغايران كما هو الحال في المقام الثاني ، ويتطرّق المنع إلى دعوى صدق العبارة المذكورة فيما لو صلّى في الدار المغصوبة ، بل الّذي يصدق حينئذ هو القول بأنّه أتى بما هو مصداق للصلاة والغصب ، وهذه القضيّة صادقة أيضا فيما لو أكرم العالم الفاسق فيقال : أتى بما هو مصداق لإكرام العالم وإكرام الفاسق.

والثالث : أنّ كون الإكرام المتعلّق بشخص العالم الفاسق وإن كان كما ذكر من أنّه لا يتعدّد بتعدّد إضافاته واعتباراته من جهة أنّه شخص خارجي وجزئي حقيقي فلا يقبل التعدّد وإن تعدّدت إضافاته ، إلاّ أنّه لا داعي إلى صرف الأمر والنهي المفروض تعلّقهما بالماهيّتين الجعليّتين عنهما إلى الشخص الخارجي ليلزم منه محذور اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، فكما يقال : إنّ الآتي بالشخص في المقام الأوّل مطيع وعاص لجهتي الأمر والنهي باعتبار أنّه امتثل الأمر بكلّي الصلاة مثلا وخالف النهي عن كلّي الغصب ، فكذلك الآتي بالشخص في المقام الثاني أيضا مطيع وعاص لجهتي الأمر والنهي

٥٤١

باعتبار أنّه امتثل الأمر بكلّي إكرام العالم وخالف النهي عن كلّي إكرام الفاسق ، فالفرق بينهما في الحكم بتجويز الاجتماع في الأوّل ومنعه في الثاني تحكّم واضح.

وبالجملة فكون ماهيّة الإكرام ممّا يعرضه الشخصيّة باعتبار تعلّقه بشخص من العالم أو الفاسق لا يقضي بكون الشخصيّة معتبرة في جميع مقاماتها الّتي منها وجوده الذهني في لحاظ المولى عند إرادة إنشاء حكم له عملا بما فيه من المصلحة والمفسدة ، وكما أنّ التشخّصات الموجبة للفرديّة من لوازم الأفراد فكذلك المصالح والمفاسد من لوازم الطبائع ، والأحكام تابعة للوازم الطبائع لا التشخّصات اللازمة للأفراد.

ولا ريب أنّ التابع يتبع متبوعه في جميع أحواله ، فإذا كان إكرام العالم من حيث كونه ماهيّة متقيّدة بماهيّة اخرى ماهيّة ثالثة حاصلة بالجعل والاعتبار وإكرام الجاهل من حيث كونه ماهيّة متقيّدة بماهيّة اخرى ماهيّة رابعة متولّدة من الجعل والاعتبار ، وكان كلّ من هاتين الماهيّتين مشتملة في نظر الجاعل على صفة كامنة فيها من مصلحة ومفسدة فأيّ داع إلى صرف الحكمين التابعين لهاتين الصفتين عن هاتين الماهيّتين إلى أفرادهما حتّى يلزم من ذلك إشكال اجتماع المتضادّين بالنسبة إلى مورد الاجتماع في محلّ واحد شخصي؟

والرابع : منع دعوى الانفهام العرفي لتعلّق الحكم بالأفراد وتعليله بكون « اللام » في مثل « العالم » للعهد الذهني وفي الفاسق للاستغراق عليل ، لأنّ المفرد المعرّف باللام لتعريف الجنس واللفظ ظاهر فيه ، والأصل في استعماله الحقيقة ولا صارف في اللفظين عنها بحيث أوجب انفهام عهد الذهن في الأوّل والاستغراق في الثاني.

وعلى هذا فلا فرق بحسب اللفظ بين « أكرم » و « صلّ » و « لا تكرم » و « لا تغصب » في وجوب الأخذ بمقتضى الوضع الأوّل ، مع أنّ أهل العرف لا يرتّبون الأحكام في متفاهمهم إلاّ على ما يساعد عليه عقولهم ، وإذا فرض أنّ العقل لا يأبى تعلّق الحكم بالطبائع ولا اجتماع الأمر والنهي كما هو مبنى الوجه الرابع مع عدم مساعدة الوضع اللغوي إلاّ على إيجاب الطبيعة وتحريمها فأيّ شيء يصرفهم عن ذلك إلى جعل المورد أفراد تلك الطبيعة ، فلا محالة يقال : إنّهم يعاملون في متفاهماتهم خلاف ما هو مقتضى قواعد لسانهم ، أو أنّهم يكابرون عقولهم أو يلزمونها على إنكار ما لا تحيله ، وكلّ ذلك كما ترى ممّا لا ينبغي التفوّه به ، وسيلحقك في دفع قول المفصّل واحتجاجه مزيد تحقيق في ذلك.

فالوجه في الفرق بعد تصحيح ما نسب إليهم في باب التعادل والتراجيح هو أحد

٥٤٢

الوجهين من أخذ القضيّة فرضيّة أو استفادة العلّيّة من التعليق بالوصف ولو بملاحظة الخارج في خصوص المقام لئلاّ ينافي ذلك مذهب المجوّزين للاجتماع ، والأظهر هو الثاني بملاحظة أنّ تعليق الحكم على الوصف المناسب ممّا يفيد العلّيّة في متفاهم العرف كما هو الحال في نحو : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفسّاق » فمورد الحكمين المتضادّين حينئذ على تقدير الاجتماع هو شخص الإكرام المتعلق بذات زيد العالم الفاسق مثلا وهو محال.

المقدّمة الثانية

كلّ من الأمر والنهي باعتبار الوقوع الخارجي ينقسم إلى الإلزامي وغيره ،وإن اختصّ بحسب الوضع بالإلزامي ، ومرتفع الإثنين في المثلين أربع ، والظاهر اختصاص العناوين واختصاص أمثلة الباب بالإلزاميّين أعني الأمر الإيجابي والنهي التحريمي ، ويؤيّده أيضا ما في كلام المجوّزين من أنّ الآتي بمورد الاجتماع مطيع عاص لجهتي الأمر والنهي لأنّ العصيان لا يكون إلاّ في النهي التحريمي.

ويشهد به أيضا نقض المجوّزين للمانعين بما ورد في الشريعة من العبادات المكروهة ، فإنّ النقض بما يكون من أفراد محلّ البحث لإثبات الحكم لبعضها الآخر ممّا لا معنى له ، مضافا إلى دفع المانعين له بتجشّم التأويل والتوجيه في معنى الكراهة المخرج لها من معناها المصطلح من دون تعرّض أحد لدفعه بكونه مصادرة على المطلوب ، فيكون النقض مع دفعه قرينة على خروج الغير الإلزاميّين من محلّ النزاع.

ويمكن التعميم لهما أيضا إن كان فيما بين العبادات المكروهة ما كان نسبته مع المأمور به الإيجابي أو الندبي عموما من وجه كالكون في مواضع التهم مع الصلاة ، نظرا إلى عموم أدلّة المنع من لزوم تكليف ما لا يطاق الّذي مناطه تعذّر امتثال التكليفين معا ولزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد إن صحّحنا الاتّحاد الخارجي في نحو المثال ، لأنّ الأحكام بأسرها يضادّ بعضها بعضا ، ولا شهادة في نقض المجوّزين ودفع المانعين بخلافه ، بل تعرّض المانعين لدفع النقض لتوجيه الكراهة بأحد الوجوه الآتية من إرجاعها إلى أمر خارج أو حملها على أقليّة الثواب أو على المرجوحيّة الإضافيّة الغير المنافية للرجحان الذاتي ربّما يشهد بعموم المنع عندهم كما هو الحقّ على ما سنقرّره ، ولمّا كان القوم خصّوا العنوان بالإلزاميّين فنحن أيضا نجري الكلام على هذا العنوان أوّلا إقتفاءا لإثرهم ثمّ نتبعه بالبحث عن غيرهما تحقيقا للحال وتعميما للمقال.

٥٤٣

المقدّمة الثالثة

الأمر والنهي إمّا نفسيّان أو غيريّان ، أو الأمر نفسي والنهي غيري أو بالعكس ، وعلى التقادير فإمّا أن يكونا تعيينيّين أو تخييريّين ، أو الأمر تعيينيّا والنهي تخييريّا أو بالعكس.

وعلى التقادير فالأمر إمّا مطلق أو مشروط وقد حصل شرطه ، وإمّا موسّع أو مضيّق ، وإمّا عينيّ أو كفائي ، وإذا كان نفسيّا فإمّا تعبّدي أو توصّلي ، وإذا كان تخييريّا فإمّا أن يكون تخييره شرعيّا أو عقليّا ، فيحصل في المقام بملاحظة الأقسام المذكورة صور كثيرة بعضها محلّ نزاع وبعضها محلّ وفاق على الجواز أو عدمه وثالث محلّ إشكال في بادئ النظر ، وإن كان يظهر بعد الإمعان كونه من محلّ الوفاق في عدم الجواز.

وأمّا أمثلة هذه الصور فالنفسيّان فيما لو كان الأمر موسّعا كالصلاة في الدار المغصوبة ، وفيما لو كان الأمر مضيّقا كإزالة النجاسة عن المسجد بآلة مغصوبة ، وفيما لو كان كفائيّا كغسل الميّت بالماء المغصوب ، وفيما لو كان مشروطا كإحرام الحجّ بثوب مغصوب.

والغيريّان كتطهير الثوب لمشروط به إذا كان مزاحما لواجب مضيّق على القول باقتضاء الأمر المضيّق النهي عن الضدّ ، والأمر النفسي مع النهي الغيري كالصلاة في مكان الواجب المضيّق على القول المذكور ، والأمر الغيري مع النهي النفسي كركوب الدابّة المغصوبة في مسافة الحجّ الواجب مع التمكّن عن غيرها.

والتعيينيّان كالأمر بالواحد الشخصي والنهي عنه من جهة واحدة.

والتخييريّان كالأمر بتزويج إحدى الاختين على سبيل البدليّة والنهي عنه كذلك ، والأمر التخييري مع النهي التعييني كالأمر بالخصال الثلاث على البدليّة والنهي عن الصيام الّذي هو أحدها بعينه ، والأمر التعييني مع النهي التخييري كالأمر بالصيام بعينه والنهي عنه وعن معادليه من الخصال على البدليّة.

وأمّا الصور الخارجة عن محلّ النزاع باتّفاق من الفريقين :

فمنها : التعيينيّان ، فإنّه ممّا اتّفقوا على عدم جواز الاجتماع فيه ، إذ لا مورد له إلاّ الواحد الشخصي من جهة واحدة ، وقد تقدّم نقل الاتّفاق فيه على عدم الجواز في حدّ الاستفاضة إلاّ على قول بعض الأشاعرة المجوّزة لتكليف المحال عقلا وشرعا.

ومنها : التخييريّان ، فإنّه على تقدير صحّة التخيير في النهي متّفق على جواز اجتماعهما فيه كالمثال المتقدّم على ما هو المصرّح به في كلام غير واحد ، والوجه في ذلك عدم

٥٤٤

استلزامه شيئا من المحاذير المانعة منه ، فإنّ مرجع التخيير في الأمر والنهي معا إلى ممنوعيّة الجمع بينهما في الفعل والترك معا ، فكلّ واجب على تقدير عدم حصول معادله وحرام على تقدير حصول معادله حسبما قدّمناه في محلّه من ضابط الوجوب التخييري ، فيرجع مفادهما إلى المنع من ترك الجميع والمنع من فعل الجميع.

وإن شئت توضيح ذلك فقل في مسألة تزويج الاختين المسمّاة إحداهما بفاطمة والاخرى بزينب ، إنّ تزويج كلّ من فاطمة وزينب حال عدم حصول تزويج الاخرى واجب أي مطلوب فعله وممنوع تركه ، ومرجعه إلى ممنوعيّة ترك الجميع ، وهو الّذي أشاروا إليه بقولهم : « لا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع » وتزويج كلّ واحدة منهما حال حصول تزويج الاخرى محرّم أي مطلوب تركه وممنوع فعله ، ومرجعه إلى ممنوعيّة فعل الجميع ، وظاهر أنّ ممنوعيّة ترك الجميع لا يناقض ممنوعيّة فعل الجميع ، ويمكن الإتيان بأحدهما امتثالا للأمر التخييري وترك الباقي امتثالا للنهي التخييري فيحصل امتثال التكليفين معا.

نعم يمكن منع جواز اجتماعهما بدعوى عدم صحّة التخيير في النهي ، لأنّ قضيّة المنع تخييرا تساوي الأفراد في المفسدة الملزمة ، فالترخيص في الترك باختيار أيّ واحد كان إذن في فعل الباقي ، والمفروض كون فعل كلّ كافيا في ترتّب المفسدة عليه كما في الأمر التخييري المقتضي لتساوي الأفراد في المصلحة بحيث كان فعل كلّ كافيا في حصول تلك المصلحة ، وقد تقدّم في ذيل بحث تكرار النهي عن ذريعة السيّد كلاما في عدم جواز التخيير في النهي ، بل مقتضى القواعد العدليّة توجّه المنع إلى فعل كلّ على التعيين صونا للمكلّف عن الفساد ، فأصل هذا النهي قبيح فلا معنى للتكلّم في جواز اجتماعه مع الأمر التخييري.

هذا ولكنّه خلاف الإنصاف ، بل الوجه هو جواز الاجتماع وما ذكرناه في سند المنع من صحّة التخيير في النهي إنّما يسلم في التخيير العقلي الواقع بين أفراد الماهيّة المنهيّ عنها ، نظرا إلى أنّ المفسدة فيها تابعة للماهيّة الّتي لا تنفكّ عن شيء من أفرادها فيكون فعل كلّ كافيا في حصول المفسدة اللازمة للماهيّة.

وكلام السيّد أيضا في هذا التخيير لا التخيير الشرعي على فرض وقوعه في النهي عن أمرين أو امور على البدل كخصال الكفّارة مثلا ، فإنّه لا يقتضي تساوي الأبدال في المفسدة بحيث يكون حصول كلّ كافيا في حصولها ، بل أقصاه أنّه لاقتضائه ممنوعيّة فعل الجميع يقتضي

٥٤٥

وجود مفسدة في فعل الجميع كما يكشف عنه النهي عن الجمع بين الاختين في النكاح ، وهذا عند التحقيق يؤول إلى التخيير في النهي فيجوز اجتماعه مع الأمر التخييري حسبما شرحناه.

ومنها : الأمر التخييري مع النهي التعييني ، وهما ممّا لا ينبغي التأمّل في امتناع اجتماعهما بل لا أظنّ خلافا في ذلك ، فإنّ قضيّة التخيير اشتمال كلّ من المعادلات على المصلحة الراجحة الباعثة على الإيجاب تخييرا مصلحة يكتفي في تأديتها بإيجاد كلّ واحد منها اتّفق ، ومرجعه إلى ما أشرنا إليه في الصورة السابقة من تساوي الأفراد في المصلحة.

وقضيّة التحريم التعييني اشتمال المحلّ على مفسدة تامّة داعية إلى المنع منه بعينه ، فلو وقع مع ذلك أحد المعادلات من الواجب التخييري لزم اشتماله على المصلحة والمفسدة معا ـ إن اعتبر فيه مع مفسدة الحرمة مصلحة الوجوب ـ وهو مستحيل ، وإلاّ كان يقبح أخذه طرفا للتخيير المنوط بتساوي الأفراد في المصلحة ، مع أنّه يفضي إلى التكليف بالمحال ، لأنّ قضيّة النهي المنع منه على كلا تقديري حصول سائر معادلاته وعدم حصوله ، وقضيّة توجّه الأمر التخييري إليه طلبه حتما على تقدير عدم حصول سائر المعادلات ، والخروج عن عهدة التكليفين على تقدير اختيار هذا الفرد محال ، بل هو بنفسه تكليف محال ضرورة مناقضة الإرادة على أحد التقديرين للكراهة على كلا التقديرين.

ومنها : الأمر التعييني مع النهي التخييري ، وهذان أيضا ممّا لا يظنّ بأحد تجويز اجتماعهما ، بل الحكم فيه أظهر منه في سائره لا لعدم صحّة التخيير في النهي لما عرفت من عدم مانع منه في التخيير الشرعي ، بل لأنّ الأمر على جهة التعيين يقتضي المنع من تركه على كلّ تقدير والنهي عنه تخييرا يستدعي طلب تركه حتما على أحد التقديرين ، وهذا مع أنّه تكليف بالمحال تكليف محال.

لا يقال : محلّ البحث في اجتماع الأمر والنهي ما كان للمكلّف مندوحة في الامتثال ، والمندوحة حاصلة نظرا إلى تمكّن المكلّف عن امتثال النهي باختيار ترك هذا الفرد.

لأنّا نقول : هل يجوز له اختيار هذا الفرد أيضا وهو مرخّص فيه أو لا؟ والاوّل التزام بالمحذور ، لأنّ المكلّف إذا اختار هذا الفرد امتثالا للنهي فليس ذلك من سوء اختياره ومع ذلك لا يمكن فعله لأجل امتثال الأمر ، فلو كان الامتثال باقيا والحال هذه كان يجب عليه الخروج عن عهدة ما استحال عليه ، والثاني خروج من مسألة التخيير والكلام على تقديره.

وإمّا مواضع الإشكال من الصور فثلاث :

٥٤٦

أحدها : الغيريّان ولم نقف على تصريح منهم بخروجه عن المبحث ، نعم جواز اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام على ما هو أحد الوجوه الفارقة بينه وبين الواجب التعبّدي قضيّة معروفة مصرّح بها في كلام غير واحد ، وظاهره كونه كذلك عند الجميع ، فإن صحّ وكان من الجميع شمل إطلاقه الصورة المفروضة ، بل لو اختصّ بما لو كان الحرام في مورد الاجتماع نفسيّا يشمل حكمه المقام بطريق أولى ، والّذي يمكن أن يستند إليه في الاحتجاج على الجواز على تقدير الاتّفاق عليه أو صحّة ثبوت القول به محقّقا هو أن يقال : إنّ الوجوب والحرمة ينبعثان عن الرجحان والمرجوحيّة والمحبوبيّة والمبغوضيّة وهما في الغيريّين للغير لا لأنفسهما ، ولا استحالة في كون شيء واحد راجحا ومرجوحا للغير ، وإنّما المستحيل كونه راجحا ومرجوحا لنفسه.

وفيه : أنّ الوجوب والحرمة المنبعثان عن الرجحان والمرجوحيّة للغير لا يمكن اجتماعهما لوضوح مناقضة مطلوبيّة الفعل ولو بالإضافة إلى الغير لمطلوبيّة الترك ولو للغير ، كمناقضة ممنوعيّة الفعل للمنوعيّة الترك ، وإذا ناقض الوجوب الحرمة جنسا وفصلا فكيف يتواردان على محلّ واحد ، ومجرّد الغيريّة ممّا لا يصحّح المحال العقلي ، بل الوجوب ممّا يستلزم إرادة الفعل وكراهة الترك كما أنّ الحرمة ممّا يستلزم عكس ذلك فكيف يجتمعان في النفس.

هذا مع لزوم التكليف بالمحال لتعذّر الامتثال الّذي لا يتأتّى إلاّ بالجمع بين الفعل والترك وهو محال ، والقضيّة المشتهرة في الواجب التوصّلي من اجتماعه مع الحرام ليست على ظاهرها بأن يكون الحرام مع اتّصافه بالحرمة متّصفا بالوجوب ، كيف وجهة الاستحالة وهي المضادّة مشتركة بين التعبّدي والتوصّلي والدليل العقلي لا يقبل التخصيص ، بل المراد به كون الحرام مسقطا للواجب إذا كان توصليّا كما نصّ عليه أيضا جماعة منهم بعض الأعلام (١).

وثانيها : الأمر الغيري مع النهي النفسي ، ولم نعثر فيه أيضا على ما يقضي بجواز اجتماعهما إلاّ ما عرفت من القضيّة المشتهرة في الواجب التوصّلي من دون قائل محقّق بظاهرها كما عرفت فضلا عن كونه متّفقا عليه.

نعم ربّما يستشمّ القول به من عبارة المصنّف في بحث الضدّ حيث قال : « الّذي يقتضيه التدبّر في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلقا ـ على القول به ـ أنّه ليس على حدّ غيره

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٨.

٥٤٧

من الواجبات » إلى آخره.

بل من الأفاضل (١) من جزم منه القول به لمجرّد هذه العبارة مع تصريحه بمنع الاجتماع ، وقد تقدّم منّا ثمّة منع كونها صريحة ولا ظاهرة في إرادة هذا المعنى ، ونزيد هنا أيضا أنّ من المحتمل احتمالا ظاهرا أن يكون المراد عدم كونه على حدّ غيره من الواجبات في عدم السقوط بفعل الحرام لا في عدم الاجتماع مع الحرام فإنّه في ذلك كغيره من الواجبات.

وكيف كان فحكم هذه الصورة أيضا كسابقتها من امتناع الاجتماع ، وتعدّد الجهة بالغيريّة والنفسيّة ممّا لا يجدي ، لأنّهما ليستا من الجهات المنوّعة والحيثيّات التقييديّة بل من الجهات التعليليّة الّتي لا تأثير لهما في تعدّد المحلّ.

وثالثها : الأمر النفسي مع النهي الغيري ، ولم نجد فيهما تصريحا بجواز اجتماعهما إلاّ ما في كلام بعض الأفاضل هنا وفي بحث الضدّ من الجزم بالجواز بعد إنكاره الجواز هنا في الصورة السابقة ، وقد أطنب في تقرير دليله وتتميمه بما يرجع محصّله إلى ما نقلنا عنه في البحث المذكور.

وملخّصه : أنّ رجحان فعل الشيء لذاته لا ينافي مرجوحيّته بالإضافة إلى الغير ، فيجوز كونه راجحا ومرجوحا بالاعتبارين ، فيجوز اجتماع الوجوب والحرمة الناشئين عنهما أيضا ، وليس يلزم منه تكليف المحال ، لأنّه إنّما يتّجه إذا قلنا بوجوب الضدّ الموسّع في مرتبة المضيّق وليس كذلك ، لأنّهما إنّما يجبان على الترتيب ويكون مطلوب الآمر أوّلا الإتيان بالمضيّق ، والضدّ مطلوب تركه من حيث أداء فعله إلى ترك المضيّق وعلى تقدير تركه وعدم الإتيان به كان الضدّ مطلوبا ، فلا مانع من اجتماع الوجوب والحرمة بهذا المعنى (٢).

وفيه : مضافا إلى ما سبق في بحث الضدّ من تزييف هذه المقالة بما لا مزيد عليه ، أنّ معنى مرجوحيّة الشيء بالإضافة إلى الغير كون ذلك الغير علّة لمرجوحيّة فعله بالإضافة إلى تركه ، وهذا ينافي رجحانه لذاته بالقياس إلى الترك أيضا فيعود المحذور ؛ ثمّ التكليف بفعل الضدّ إن كان ثابتا بالفعل حال التكليف بتركه للغير لزم تكليف المحال فيما بينهما لا فيما بين التكليف بفعله والتكليف بفعل المضيّق حتّى يقال : إنّه لا يجب مع وجوبه في مرتبة واحدة ، ضرورة أنّه كما يستحيل إمتثال التكليف بالمتضادّين في آن واحد كذلك يستحيل امتثال التكليف بالمتناقضين بل هذا أولى بالاستحالة لكون المنافاة فيما بين

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ٢٦٠.

(٢) هداية المسترشدين ٢ : ٢٥٤.

٥٤٨

المتناقضين ذاتيّة ، وإن كان ثبوت التكليف بالضدّ مشروطا بعصيان المضيّق وحصول تركه فهو ـ مع أنّه غير صحيح في نفسه ـ ليس من مسألة الاجتماع في شيء ، ضرورة عدم منافاة الأمر المشروط للنهي المطلق بل لا يكاد يجتمعان في آن واحد على فرضه ، فإنّ الضدّ حال عدم حصول شرط وجوبه محرّم صرف وليس بواجب ، وبعد حصول الشرط يصير واجبا وخرج عن كونه محرّما لارتفاع علّة التحريم ، ومع فرض عدم خروجه من التحريم يعود محذور التكليف بالمحال.

وبالجملة في هذا القول من السخافة وعدم الاستقامة ما لا يخفى.

المقدّمة الرابعة

الجهة في المأمور به أو المنهيّ عنه ـ اتّحدت أو تعدّدت ـ قد تكون تعليليّة وقد تكون تقييديّة ، والمراد بالاولى ما كان منشأ للحكم المجعول وهو العلّة الباعثة على جعله من وجوه المصالح والمفاسد النفس الأمريّتين اللتين حصول الاولى ودفع الثانية متقدّمان في التصوّر والوجود الذهني ومتأخّران في الوجود الخارجي لأنّهما يترتّبان على الأفعال والتروك في الخارج ، والمصلحة عبارة عن المنفعة العقلائيّة دنيويّة أو اخرويّة في الأفعال أو التروك تعلّق غرض الشارع بحصولها وعودها إلى المكلّف ، والمفسدة عبارة عن المضرّة العقلائيّة دنيويّة أو اخرويّة في الأفعال والتروك الّتي تعلّق غرض الشارع بدفعها ، فالغرض المقصود من جعل الأحكام موافقة لمنافع الأفعال والتروك ومضارّهما إنّما هو اجتلاب منافع الأشياء ودفع مضارّها ، فيكونان من قبيل العلل الغائيّة المقصودة من الأفعال والتروك الباعثة على جعل الأحكام ، ولأجل ذا يقال لهما : « الداعي » وقد يفسّر المصلحة والمفسدة بموافقة الغرض ومخالفته ويؤولان إلى ما ذكرناه ، فالجهات التعليليّة حينئذ هي العلل الغائيّة المعبّر عنهما بالدواعي.

والجهات التقييديّة ما ينشأ منها الجهات التعليليّة ولو بنحو من المدخليّة ، فموضوع الحكم مع الامور المعتبرة فيه من الأجزاء والشروط والقيود وجوديّة أو عدميّة سواء كانت راجعة إلى المكلّف أو فعله أو الأعيان الخارجيّة كلّها جهات تقييديّة.

وبالجملة الجهة التقييديّة عبارة عن كلّ ما له مدخليّة في منشأ الحكم وحصول العلّة الباعثة على جعله وترتّبه في الخارج على الأفعال والتروك.

ومن هذا البيان ينقدح عدم التنافي بين القول بأنّ علّة الحكم في الكذب النافع

٥٤٩

والصدق الضارّ هو النفع والضرر والقول بأنّ موضوعه هو الكذب النافع والصدق الضارّ ، بتقريب : أنّ النفع والضرر إذا كانا علّتين للحكم فكيف يؤخذان في موضوعه فإنّ الموضوع هو الذات المتّصفة على نحو دخول الاتّصاف وخروج الوصف لا الذات والوصف معا كالإضافة في ضرب التأديب الّذي يؤمر به وضرب التعذيب الّذي ينهى عنه.

وأمّا إطلاق العلّة والجهة التعليليّة على العالميّة في الأمر بإكرام زيد العالم فإنّما هو بعد استفادة العلّيّة من التعليق على الوصف المناسب ، باعتبار كون العالميّة من قبيل السبب المعرّف الكاشف عن مصلحة في إكرام زيد العالم فهي علّة الحكم في الحقيقة كما في سائر علل الشرع والأسباب الشرعيّة الّتي يقال لها : انّها معرّفات لا مؤثّرات.

وهذا هو السرّ في إطلاق السبب على ما يؤخذ شرطا في القضايا الشرطيّة كالمجيء في قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » فإنّ إكرام زيد إنّما يجب لغرض ينوط بمجيئه فهو السبب الحقيقي والعلّة الباعثة على جعل الوجوب.

وأمّا إطلاقهما على مثل إسكار الخمر ونحوها في حكم التحريم فلأنّ السكر بمعنى فساد العقل في الخمر وسائر المسكرات مفسدة تعلّق غرض الشارع بدفعها فهو العلّة الباعثة على جعل التحريم.

وبالتأمّل فيما ذكرنا من ضابط الفرق يعلم أنّ الصلاتيّة والغصبيّة للكون الشخصي الواقع في الدار المغصوبة على ما هو من أمثلة المسألة ليستا من الجهات التعليليّة بل من الموضوع.

ولا نظنّ بأحد أنّه يتوهّم خلاف ذلك ، فما يشعره بعض العبارات من توهّم ابتناء النزاع في المسألة على جعل الجهتين تقييديّتين أو تعليليّتين ليس على ما ينبغي ، كما أنّ ما يقال : إنّ مرجع كونهما تقييديّتين إلى تعلّق الأحكام بالطبائع ومرجع كونهما تعليليّتين إلى تعلّقها بالأفراد ليس على ما ينبغي ، إلاّ أن يراد به أنّ الغرض من تعليق الحكم على الفرد حصول الطبيعة في الخارج وإن كان ذلك الغرض مقصودا لغرض آخر من الامور المعنويّة ، غير أنّه لا ينطبق على مذهب من يرى تعلّق الأحكام بالأفراد لشبهة عدم وجود الطبائع في الخارج كما عليه مبنى هذا القول على ما تقدّم في محلّه.

المقدّمة الخامسة

اضطربت كلماتهم في معنى العنوان وإن اشتمل في كلام الأكثرين على التعبير « باجتماع الأمر والنهي » لأنّه متشابه بين أن يكون مرادهم به اجتماع الوجوب والحرمة

٥٥٠

في محلّ واحد على معنى كونه معروضا للحكمين ، وبين كونه اجتماع الواجب والحرام فيه على معنى كونه مصداقا لكلّيّين ورد بهما الأمر والنهي أصالة غير أنّ الأنسب بمقالة من يرى تعلّق الأحكام بالطبائع هو الثاني وبمقالة من يرى تعلّقها بالأفراد هو الأوّل ، ويمكن منع الملازمة من الطرفين.

أمّا الأوّل فلجواز قوله بوجوب الفرد وحرمته من باب المقدّمة ، أو جعله تعلّقها بالطبائع بمعنى تعلّقها بإيجاداتها كما هو المختار فيؤول الأمر بالأخرة إلى اجتماع الوجوب والحرمة أيضا.

وأمّا الثاني فلجواز كون مراده بالفرد في متعلّق الحكم مفهوم الفرد ، ومحلّ الاجتماع مصداق له فيجتمع فيه مفهومان أحدهما واجب والآخر حرام.

وقد جعل الفاضل النراقي كلاّ من المعنيين نزاعا على حدة قائلا في عبارة محكيّة عن مناهجه : « أنّ هاهنا مسألتين :

إحداهما : أنّه هل يجوز كون الشيء الواحد متعلّقا للوجوب والحرمة من جهتين » إلى أن قال : خصّوا النزاع بالجهتين العامّتين من وجه.

وثانيتها : أنّ أمر بعامّ ونهي عن آخر أعمّ من الأوّل من وجه فأتى المكلّف بالفرد الجامع فهل يحصل له الامتثال مع الإثم أم لا؟ » إلى أن قال : « وأمّا الكلام في المسألة الثانية هو بعد الكلام في الاولى ومتفرّع عليه ، فإنّا لو قلنا في الاولى بالجواز يتفرّع عليه الامتثال بهذا الفرد مع الإثم ، وإن قلنا فيها بالمنع فتحقيق حال ذلك الفرد يتوقّف على مسائل معنويّة :

إحداها : أنّ متعلّق الأوامر هل هو الطبائع أو الأفراد؟

وثانيتها : أنّ مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟

وثالثتها : أنّه لو توصّل إلى الواجب بالمقدّمة المحرّمة المحضة هل يحصل الامتثال بذي المقدّمة أم لا؟

فإن قلنا بأنّ المتعلّق هو الأفراد يتعيّن عدم الامتثال بالفرد ، وكذا إن قلنا بوجوب المقدّمة وعدم الامتثال بالمقدّمة المحرّمة المحضة.

وإن قلنا بأنّ المتعلّق هو الطبائع ولا تجب المقدّمة أو تجب ولكن لو توصّل بالمقدّمة المحرّمة المحضة يسقط وجوب المقدّمة الواجبة ويحصل الامتثال بذي المقدّمة أمكن القول بصحّة هذا الفرد وحصول الإثم به ، إذ لا يجتمع الوجوب والحرمة حينئذ » إلى أن

٥٥١

قال : « ثمّ لمّا كان بناء الأكثر على تعلّق الأوامر بالأفراد ووجوب المقدّمة فرّعوا المقدّمة الثانية على الاولى مطلقا وذكروها في خلالها لما ذكر ، ولأجل ذلك اشتبه الأمر على بعضهم وغفل وخلط واختلط ولم يفرّق بين المسألتين فعنون الاولى وحكم بالجواز فيها ، واستدلّ عليه بأنّ الفرد في الثانية ليس متعلّقا للأمر وما أدري ما المناسبة بين الدليل والمدلول؟ مع أنّه لو قلنا بالجواز في الاولى لم يحتج في تصحيح هذا الفرد إلى تعلّق الأمر بالطبيعة » إلى آخره.

وفيه : المنع من تعدّد العنوان في المسألة بل لا نزاع إلاّ في عنوان واحد.

غاية الأمر أنّه قد يعبّر عنه بالشيء الواحد من جهتين ، وقد يعبّر عنه بالفرد الجامع لعامّين من وجه فإنّه أيضا شيء واحد من جهتين ، بل الشيء الواحد من جهتين لا يراد منه هنا إلاّ ما كان فردا جامعا لعامّين من وجه فيكون كلّ منهما عبارة اخرى من الآخر ، وكأنّ الاختلاف في هذين التعبيرين أوقعه في توهّم تعدّد العنوانين.

نعم لو أراد بالشيء الواحد من جهتين نظير ما لو قال : « أكرم زيدا لعلمه » و « لا تكرم زيدا لفسقه » كان مغايرا للتعبير الثاني ، ولكنّه على ما عرفت سابقا ليس من محلّ كلامهم هنا ، هذا مع تطرّق المنع من ابتناء تحقيق المسألة على شيء من المسائل الثلاث المعنويّة كما ستعرفه.

وربّما يتخيّل احتمال كون نزاعهم صغرويّا ويكونوا متسالمين في الكبرى على جواز الاجتماع أو عدمه ويكون منشأ نزاعهم في الصغرى ، إنكار المجوّزين تعلّق التكليف بالأفراد لا أصالة ولا مقدّمة وإنّما الواجب عندهم الطبيعة فقط والتزام المانعين به إمّا أصالة أو مقدّمة.

وربّما يوهمه أيضا عبارة التوني في الوافية حيث قال بعد ذكر المثال المعروف وتحريره : « وقد وقع النزاع في صحّة هذه الصلاة وبطلانها بناء على أنّه هل يتعدّى الأمر المتعلّق بمطلق الصلاة إلى هذا الفرد المتعلّق للنهي أو لا؟ » (١) بل نصّ على ذلك السيّد الشارح لكلامه بقوله : « وتفصيل القول أنّ تعلّق الخطاب بالأفعال سواء كان اقتضائيّا أو تخييريّا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يكون المطلوب أو المأذون فيه إيجاد الماهيّة أو تركه من حيث هي من غير ملاحظة لخصوصيّات الأفراد لا إجمالا ولا تفصيلا.

__________________

(١) الوافية : ٩٢.

٥٥٢

والثاني : أن يكون المطلوب أو المأذون فيه الخصوصيّات ».

إلى أن قال : « فعلى الأوّل يجوز صدق ماهيّتين على فرد معيّن تكون إحداهما موضوعة للوجوب واخراهما للحرمة.

وعلى الثاني يجوز اجتماع حكمين من تلك الأحكام في أمر واحد شخصي إذا كان له جهتان يكون مع واحدة محلاّ لحكم ومع الاخرى لآخر ، ولكنّه لا يجوز التكليف بهذا الفرد بعينه إذ لا يمكن للمكلّف الإتيان بمقتضى الأمر والنهي ، فمن يقول بأنّ التكليف بالصلاة مثلا فعلا وتركا يكون من قبيل الأوّل يلزمه القول بالجواز ، ومن يقول بأنّه من القسم الثاني يلزمه القول بعدمه إمّا للزوم اجتماع الضدّين أو التكليف بالمحال بطريق منع الخلوّ.

فظهر أنّ النزاع ينبغي أن يقع في أنّ المكلّف به ماذا؟ وبعد تحقيقه يتّضح المسألة » انتهى.

ولا خفاء في ضعف هذا البناء ومنع الابتناء ، بل كلّ من القولين يجامع القول بتعلّق الأحكام بالطبائع على ما سنقرّره في تحرير دليل المانعين ، كما أنّهما يجامعان القول بتعلّقها بالأفراد ، ولذا ترى أنّ من القائلين بذلك من وافق المجوّزين هنا كابن الحاجب وغيره ، ومن القائلين بتعلّقها بالطبائع من وافق المنكرين كالعلاّمة على ما تقدّم عنه من مصيره إلى الامتناع في المنتهى مع ذهابه في التهذيب إلى التعلّق بالطبائع ، مع أنّ إرجاع النزاع إلى الصغرى على الوجه المذكور يوجب الاستغناء عن عقد هذه بعقد مسألة متعلّق الأحكام فيلغو تعدّد عنوان المسألتين ، بل الواجب عليهم جعل جواز الاجتماع وامتناعه من فروع مسألة متعلّق الأحكام ، وهذا كلّه كما ترى خلاف ما اتّفقت عليه الكتب الاصوليّة.

نعم يمكن بالنظر إلى ما بيّنّاه من تشابه مقصودهم في عنوان المسألة ودورانه بين المعنيين إرجاع النزاع إلى الصغرى بمعنى آخر وهو : أنّ المجوّزين يجوّزون اجتماع الأمر والنهي بدعوى أنّه من اجتماع الواجب والحرام ولا محذور فيه ، والمانعون يمنعونه بدعوى أنّه من اجتماع الوجوب والحرمة الأصليّين أو المقدّميين أو المختلفين وهو محال ، كما ربّما يساعد عليه كثير من كلماتهم في الاستدلال والنقض والإبرام ، وإليه يرجع أيضا لو قرّر صغرويّة النزاع بأنّ متعلّق الحكمين في محلّ الاجتماع هل هو أمر واحد في الواقع أو أمران متمايزان وإن خفي تمايزهما على الحسّ؟ وها هنا معنيان آخران لصغرويّة النزاع :

أحدهما : ما عن ذريعة السيّد من قوله : « فأمّا الضيعة المغصوبة فالصلاة فيها مجزية لأنّ

٥٥٣

العادة جرت بأنّ صاحبها لا يحظر على أحد الصلاة فيها ، والتعارف يجري مجرى الإذن فيجب الرجوع إليه ».

وقال : « وأمّا من ليس بغاصب ولكنّه دخل الدار المغصوبة مجتازا فيجب أن لا يفسد صلاته ، لأنّ المتعارف بين الناس أنّهم يسوّغون ذلك لغير الغاصب ويمنعونه في الغاصب » انتهى (١).

ومحصّل كلامه ـ رفع مقامه ـ : أنّ شبهة المسألة ناشئة عن أنّ الصلاة في المكان المغصوب هل تقع مقرونة برضا المالك الرافع لعنوان الغصبيّة فتكون صحيحة لخلوصها عمّا يزاحمها حينئذ أو لا فتقع فاسدة لمزاحمة النهي؟ ولمانع أن يمنع ذلك بدعوى أنّ ما ذكره السيّد إخراج لبعض فروض الشبهة عن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي من باب الاستثناء عمّا أسّسه أوّلا من بطلان الصلاة في الدار المغصوبة ، تنبيها على عدم تحقّق المنهيّ عنه مع الصلاة ليوجب بطلانها في تلك الفروض من دون نظر إلى بيان أنّ مرجع النزاع في المسألة إلى هذا الأمر الصغروي ، بل الخلاف واقع فيما لو قارنت عدم رضا المالك ، فقيل : بالصحّة اعتمادا على جواز اجتماعهما ، وقيل : بالبطلان تعويلا على امتناعه.

وممّن حكم بالبطلان هو رحمه‌الله على ما حكي عنه في الوافية (٢) من أنّه بعد الاستدلال على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة قال : « وقد قيل في التمييز بين الصلاة وغيرها في هذا الحكم : أنّ كلّ عبادة ليس من شرطها أن يتولّى الفعل بنفسه بل ينوب فعل الغير مناب فعله ، أو ليس من شرطها أن تقع منه بنيّة الوجوب ، أو ليس من شرائطها النيّة أصلا ، لم يمتنع في المعصية عنها أن تقوم مقام الطاعة. وهذا قريب » (٣).

وبالتأمّل في جميع ما نقلنا عنه يظهر كذب ما استظهره بعض الأعلام (٤) عنه من القول بجواز الاجتماع كما تقدّم الإشارة إليه ، فإنّه لو صحّ ذلك لم يحتج في الفرضين المتقدّمين في تصحيح الصلاة إلى تكلّف إحراز الإذن والرضاء كما لا يخفى ، ولا إلى التزام الفرق المذكور حيث استقربه ، مع أنّه استدلّ على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة كما عرفت عن التوني نقله عنه ، وكأنّ الداعي إلى هذا التوهّم أمران :

أحدهما : ما ذكره في الذريعة ـ على ما في محكيّ التوني (٥) أيضا ـ من قوله : « وقد [ يصحّ أن ] يقبح من المكلّف جميع أفعاله على وجه ويحسن على وجه آخر ، وعلى هذا الوجه يصحّ القول : بأنّ من دخل زرع غيره على سبيل الغصب أنّ له الخروج عنه بنيّة التخلّص وليس

__________________

(١ و ٣) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٩٤ و ١٩٣.

(٤) القوانين ١ : ١٤٠.

(٢ و ٥) الوافية : ٩٨.

٥٥٤

له التصرّف بنيّة الفساد ، وكذلك من قعد على صدر حيّ إذا كان انفصاله منه يؤلم ذلك الحيّ كقعوده ، وكذلك المجامع زانيا ، له الحركة بنيّة التخلّص وليس له الحركة على وجه آخر » (١).

وثانيهما : ما حكاه عنه الشهيد في قواعده (٢) ـ على ما في محكيّ التوني أيضا (٣) ـ من صحّة الصلاة الواقعة على جهة الرياء وعدم ترتّب الثواب عليها لكن يسقط المؤاخذة بفعلها (٤).

قال رحمه‌الله : وهو يؤذن بتجويزه تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين (٥).

ويدفعه : أن ليس مراده في الأوّل بيان كون ما يصدر من المكلّف في الأمثلة الثلاثة من الفعل الشخصي ـ أعني الخروج عن الزرع ، والانفصال عن صدر الحيّ ، وإخراج الآلة عن الفرج ـ محكوما عليه بالحكمين مع وحدته الشخصيّة ، بل غرضه بذلك إبداء تعدّد العنوان في كلّ من هذه الأفعال ، فيكون كالسجود المضاف تارة إلى الله تعالى واخرى إلى الصنم ، فهو معنون تارة بالتخلّص عن المحظور أو برفع الإيلام فيكون واجبا ولا حرمة فيه أصلا ما دام واقعا بهذا العنوان ، بناء على أنّ عناوين الأحكام تتمايز بالقصد والنيّة ، فالحركة بنيّة التخلّص عن الغصب ليس بغصب لأنّه عبارة عن التصرّف في ملك الغير عدوانا ونيّة التخلّص ممّا يرفع عنوان العدوان ، فلذا لو دخل ملك الغير لا بقصد الغصب بل لأغراض اخر من مشاهدة أو أخذ شيء أو اجتياز أو نحو ذلك لا يكون غصبا ، واخرى بالغصبيّة والإيلام فيكون حراما صرفا ولا وجوب فيه أصلا مادام واقعا بهذا العنوان ، فيكونان عنوانين متبادلين حكم على كلّ منهما بحكم ، نظير سائر الأفعال الّتي يلحقها عناوين مختلفة متبادلة ، وهي مع كلّ عنوان محكوم عليها بحكم غير حكمها مع عنوان آخر كما أشار إليه في صدر العبارة ، بل ليس للمكلّف فعل إلاّ وهو محظور في وجه ومرخّص فيه في وجه آخر ، فهو مع كلّ منهما عنوان على حدة غيره مع الآخر ولو من جهة الجعل والاعتبار.

كما أنّه ليس مبنى كلامه في تصحيح الصلاة الواقعة على جهة الرياء على تجويز الاجتماع ، لجواز ابتنائه على توهّم توجّه النهي إلى أمر خارج عن الصلاة مقارن لها في الوجود كما في النظر إلى الأجنبيّة إذا اتّفق حال الصلاة ، نظرا إلى أنّ الرياء أمر قلبي وليس بنفس الصلاة ولا من أجزائها الّتي منها الأكوان المخصوصة ولا من شروطها ، والممتنع ما لو اجتمع الأمر والنهي في محلّ واحد لا في محلّين متقارنين في مورد واحد اتّفاقا.

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٧٨.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٧٩ ـ الفائدة الثانية.

(٣ و ٥) الوافية : ٩٩.

(٤) الانتصار : ١٧.

٥٥٥

ولعلّه إلى ذلك ينظر ما نقله الكليني في كتاب الطلاق عن الفضل بن شاذان من التصريح بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة بقوله : « كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله وصلاته جائزة ، لأنّ ذلك ليس من شرائطها ، لأنّه منهيّ عن ذلك صلّى أو لم يصلّ » انتهى (١).

وملخّصه يرجع إلى أنّ الصلاة مع النهي إنّما لا تقع صحيحة إذا تعلّق النهي بها لأمر غير خارج عنها من جزء أو شرط ، لا لأمر خارج عنها مقارن لها في الوجود كالغصب ، فإنّه ليس من شرائطها ولا ما يختصّ بها بدليل عموم النهي عنه.

ومن هنا يظهر ما في نسبة القول بالجواز إليه والى الكليني كما سبق عن بعض الأعلام (٢) أيضا ، تعليلا في الثاني بعدم طعنه على الفضل عند نقل كلامه ، إذ لعلّه من جهة عدم فهمه الجواز منه أو فهم خلافه بتقريب ما ذكر.

وثانيهما (٣) : ما يوهمه بعض عبارات بعض الأعلام من كون النزاع في مسألة الإسقاط وعدمه بعد تسليم كون المسقط محرّما صرفا ، الملازم لتسليم امتناع اجتماع الوجوب مع الحرمة حيث قال ـ عند دفع ما أورده على نفسه من لزوم المحذور باجتماع الوجوب التخييري المقدّمي في الفرد مع التحريم ولو كان هو أيضا من جهة المقدّميّة ـ : « إنّا نمنع التخيير بين كلّ ما يصدق عليه الفرد ، بل نقول : إذا أمر الشارع بالكلّي فإن انحصر في فرد أو انحصر الفرد المباح في فرد فيصير الفرد والشخص أيضا عينيّا كأصل الكلّي ، وإلاّ فإن كان الكلّ مباحا فالتخيير بين الجميع وإلاّ ففي الأفراد المباحة ، فليس ذلك الفرد الغير المباح مطلوبا ، ولكنّه لا يلزم منه بطلان الطبيعة الحاصلة في ضمنه ، لأنّ الحرام قد يكون مسقطا عن الواجب في التوصّليّة ، بل التحقيق أنّ قولهم : إنّ الواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام على مذاق الخصم لا بدّ أن يكون معناه : أنّه مسقط عن الواجب لا أنّه واجب وحرام » انتهى (٤).

ولكن يدفعه أيضا : أنّ ذلك ليس إرجاعا للنزاع إلى ما ليس من معقد المسألة ، بل هو مصير إلى أحد المعنيين المتقدّم إليهما الإشارة من اجتماع الواجب والحرام ، وتجويز له على ما هو لازم القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٩٤.

(٢) القوانين ١ : ١٤٠.

(٣) وهذا ثاني المعنيين لصغرويّة النزاع الّذي مرّ أولهما في الصفحة ٥٥٣. بقوله : « أحدهما : ما عن ذريعة السيّد » الخ.

(٤) القوانين ١ : ١٤١.

٥٥٦

ويمكن تنزيل كلام القاضي وفخر الدين من العامّة في دعوى سقوط الفرض بالعبادة المنهيّ عنها إلى دعوى هذا المعنى من الاجتماع ، ولا ينافيه ما عزي إليهما من القول بامتناع الاجتماع فيما تقدّم ، لجواز كون الممتنع عندهما اجتماع الوجوب والحرمة ولا ملازمة بينه وبين امتناع اجتماع الواجب مع الحرام.

فما يورد على بعض الأعلام ومن وافقه في دعوى السقوط ـ من أنّه خروج من عنوان المسألة نظرا إلى أنّه فرار عن محذور ما يرد على كبرى قياسهم من جواز الاجتماع إلى إنكار صغراه وهو الاجتماع ـ ليس في محلّه ، لأنّه إنّما يتّجه إذا انحصر صغرى القياس في اجتماع الوجوب والحرمة ، وأمّا لو كانت دائرة بينه وبين اجتماع الواجب والحرام فلا ، إذ لا ملازمة بين إنكار اجتماع الوجوب والحرمة وإنكار اجتماع الواجب والحرام ، نظرا إلى أنّه لا منافاة بين عدم وجوب الفرد وكونه جامعا لعنوانين كلّيّين أحدهما واجب والآخر حرام ، فيحصل به امتثال الأمر بالكلّيّ المأمور به مع لزوم العصيان بالنظر إلى النهي عن الكلّي الآخر على ما يدور عليه البحث إثباتا ونفيا من حصول الإطاعة والعصيان معا وعدمه ، وظاهر أنّ الإطاعة كما تتحقّق مع الإتيان بالواجب نفسه فكذلك مع الإتيان بما ينطبق من أفراده.

المقدّمة السادسة

قد ظهر بالتأمّل في تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ محلّ النزاع على تقدير التعبير باجتماع الواجب والحرام ما لو اجتمع المأمور [ به ] والمنهيّ عنه واتّحدا في الوجود.

وأمّا لو اجتمعا وتعدّدا في الوجود فلا خلاف في الجواز كما صرّحوا به وأشرنا إليه سابقا.

فما في كلام المجوّزين من الاحتجاج على مدّعاهم بأنّه : لو أمر السيّد عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص فخاطه في ذلك المكان ، فإنّا نقطع بحصول الإطاعة من جهة أنّه خاطه ، والمعصية من جهة أنّه خاطه في ذلك المكان ، فيكون مأمورا به [ و ] منهيّا عنه من جهتين فكذلك يجوز ذلك فيما نحن فيه ، ليس في محلّه لكونه احتجاجا بما هو خارج عن المتنازع فيه لعدم كون الكون المنهيّ عنه في المثال مرادا به ما هو مصطلح أهل المعقول الّذي هو القدر الجامع بين الحركة والسكون ليشمل الخياطة الّتي هي عبارة عن الحركات المخصوصة القائمة باليد بتوسّط الآلة الخارجيّة الّتي هي الإبرة

٥٥٧

والخيط ، بل المراد به ما هو من لوازم الجسم ـ وهو المبغوض في نظر السيّد ـ وليس بعين الخياطة ولا متّحد معها في الوجود ، بل له وجودا آخر نظير النظر إلى الأجنبيّة مع الصلاة لشهادة الحسّ والعيان ، مضافا إلى أنّه يجامع كلاّ من وجود الخياطة وعدمها ، كالقاعد الساكن في المكان المذكور الغير المتشاغل بالخياطة والقاعد فيه المتشاغل بها ، فإنّهما متشاركان في الكون فيه مع تشاغل أحدهما بالخياطة دون صاحبه ، فالخياطة ليست بعين الكون فيه بل شيء زائد عليه بخلافه مع الغصب ، وسيلحقك زيادة بيان في ذلك.

ثمّ إذ قد عرفت أنّ مرجع البحث في هذه المسألة إلى التنافي بين الوجوب والحرمة أو الواجب والحرام فيما تعلّق الأمر والنهي بكلّيّين بينهما عموم من وجه ، فاعلم أنّه ذكر بعض من قاربنا عصره في الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية وجوها بعيدة لا ينبغي الالتفات إليها.

ويظهر من بعض الأعلام (١) الجزم بكون الفرق بينهما في كون النسبة بين المأمور به والمنهيّ عنه هنا عموما من وجه وفي ما يأتي عموما مطلقا. وهذا بحسب العنوان وإن كان كذلك في الجملة لكون المنهيّ عنه فيما سيأتي أخصّ مطلقا من المأمور به إذا كان عبادة ، إلاّ أنّه لا يحسم مادّة الإشكال المتوهّم في المقام من كون البحث الآتي مستغني عنه بالبحث هنا.

ومن الفضلاء (٢) من فرّق بينهما بأنّ النزاع هاهنا فيما إذا تعلّق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان بينهما عموما مطلقا ، وثمّة فيما إذا اتّحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرّد الإطلاق والتقييد ، بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد ، ونبّه على ذلك أيضا في مبادئ المسألة مصرّحا : « بأنّه لا فرق في موضع النزاع بين أن يكون بين الجهتين عموم من وجه كالصلاة والغصب. وبين أن يكون بينهما عموما مطلقا مع عموم المأمور به ، كما لو أمره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص فتحرّك إليه ، فإنّ الحركة والتداني طبيعتان مختلفتان وقد أوجدهما في فرد واحد » (٣) ووافقه على ذلك بعض مشايخنا قدس‌سره.

وربّما يتخيّل الفرق بينهما بكون مسألتنا هذه عقليّة والمسألة الآتية لفظيّة منوطة بالعرف.

ويمكن أن يقال في الفرق بينهما : بأنّ النزاع في المقامين إنّما هو في التنافي بين مقتضي النهي وعدمه ، غير أنّ النزاع في المقام الآتي مخصوص بالمجوّزين لاجتماع الأمر

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٥.

(٢) الفصول : ١٤٠.

(٣) الفصول : ١٢٥.

٥٥٨

والنهي هنا وواقع بينهم ، فإنّهم بعدما أثبتوا عدم التنافي بينهما في شيئين بينهما عموم من وجه بحثوا فيما يكون بينهما عموما مطلقا استعلاما للحال فيه من حيث التنافي وعدمه.

وهذا أردأ الوجوه لوضوح فساده بعموم البحث للفريقين في المسألتين لاختلاف جهة البحث فيهما ، وأمّا الوجوه الاخر فكلّها متلازمة ، فإنّ كون هذه المسألة عقليّة كما نبّهنا عليه في مفتتح البحث ممّا لا سترة عليه بخلاف المسألة الآتية فإنّها لفظيّة اصوليّة ، وكون المأمور به في عنوان هذه المسألة أعمّ من وجه من المنهيّ عنه وفي المسألة الآتية أعمّ مطلقا أيضا واضح لا سترة عليه كما عرفت ، فالتعميم المصرّح به في كلام الفاضل المتقدّم غير سديد ، وإن كان ما ذكره من كون النزاع هنا فيما تعلّق الأمر والنهي بطبيعتين متغائرتين بحسب الحقيقة حقّا ، بناء على أن يكون مراده من التغاير تغايرهما بحسب المفهوم مع اتّحادهما في مورد الاجتماع مصداقا.

وأمّا ما ذكره من مثال الأمر بالحركة والنهي عن التداني إلى موضع مخصوص فهو خارج عن المسألتين ، أمّا المسألة الآتية فلعدم كون المأمور به ولا المنهيّ عنه عبادة ولا معاملة فلا يصحّ النزاع في دلالة النهي في نحوه على الفساد.

وأمّا هذه المسألة فلأنّ الدنوّ إلى الموضع المخصوص وإن لم يكن من حقيقة الحركة ولكنّه مستلزم له بل متوقّف عليه إذ لا طريق له إلاّ الحركة فيحرم هذه الحركة مقدّمة ، فيرجع فرض شمول الأمر لها أيضا إلى اجتماع الأمر النفسي والنهي الغيري ، وهو مع ذلك من اجتماع الأمر التخييري والنهي التعييني وقد تقدّم بيان عدم الخلاف في امتناع كلّ منهما وإن كان التخيير في الأمر عقليّا.

المقدّمة السابعة

في تأسيس الأصل وهو يؤسّس من جهات :

الجهة الاولى

الأصل العقلي الجاري فيما إذا دار الشيء بين إمكانه وامتناعه ، فقد يقال : إنّ الأصل مع المجوّزين لأصالة الإمكان فيما لم يقم على امتناعه برهان ، وهذا الأصل معروف وربّما خفي مدركه ومعناه ، فوجّه بأنّ معناه ما يكشف عنه احتياج المدّعي للامتناع إلى تجشّم الاستدلال فهو مطالب بالدليل ، بخلاف المدّعي للإمكان بعد اتّفاقهما على أنّ الشيء ما لم يوجد دليل على وجوده يحكم عليه بعدم الوجود ، فإنّه في فسحة عن تجشّم الاستدلال

٥٥٩

لنا : أنّ الأمر طلب لا يجاد الفعل ، والنهي طلب لعدمه ؛ فالجمع بينهما في أمر واحد ممتنع* (١).

_______________________________

ولا يطالب بالدليل ، والسرّ فيه : أنّ ضرورة العدم قيد زائد على أصل العدم وقد ادّعاه القائل بالامتناع ، وعلى المدّعي للزيادة إقامة الدليل عليها والمدّعي للإمكان منكر للزيادة والأصل عدم الزيادة فلا محمل له إلاّ القاعدة العقلائيّة ، فيكون مدركه بناء العقلاء وقد أمضاه الشرع كما يكشف عنه في الجملة أصالة عدم الزيادة وقاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ، فتأمّل.

الجهة الثانية

الاصول اللفظيّة المعمولة عند الشكّ في حكم اللفظ من جهة احتمال تطرّق تصرّف إليه بتقييد أو تخصيص أو غيرهما ، وظاهر أنّ أصالة عدم تقييد المأمور به أو المنهيّ عنه بما عدا مورد الاجتماع من أفراد إحدى الماهيّتين يساعد على القول بالجواز أيضا.

الجهة الثالثة

الاصول العمليّة من براءة أو اشتغال أو استصحاب أو تخيير ولا يجري من هذه الاصول إلاّ أصل الاشتغال ، لمكان الشكّ في كون الإتيان بمادّة الاجتماع مبرئا للذمّة عن المأمور به باعتبار الشكّ في شمول الأمر له وعدمه ، والشغل اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة ولا يتأتّى إلاّ بأداء ما عدا ذلك ، ويعضده استصحاب الاشتغال.

وتوهّم جريان أصل البراءة لرجوع الشكّ إلى كونه في شرطيّة شيء للعبادة كإباحة المكان للصلاة في المثال المعروف.

يدفعه : دليل الخلف ، إذ الشكّ في الإبراء وعدمه ليس من جهة الشكّ في الشرطيّة والإخلال بما احتمل كونه شرطا شرعيّا ، بل من جهة الشكّ في مزاحمة النهي للأمر عقلا ، ولا يمكن نفي احتمال المزاحمة بأصل البراءة كما لا يخفى.

(١) * لا يخفى أنّ العبارة في قوله : « فالجمع بينهما » في بادئ الرأي متشابه المقصود ، وإن كان في قوله بعد ذلك : « إذ الامتناع ينشأ من لزوم اجتماع المتنافيين في شيء واحد » إلى آخره ، ما يوجب البيان ورفع الاشتباه ، لاحتمال عود الضمير المثنّى إلى طلب الإيجاد وطلب عدم الإيجاد ، فالجمع المحكوم عليه بالامتناع يراد به حينئذ ما هو فعل المكلّف

٥٦٠