تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

ليعتبر له أجزاء.

فيندفع الأوّل : بمنع اندراج ما استعمل في الاستغراق مجازا في العامّ وإن اطلق عليه العامّ في بعض الأحيان باعتبار كونه في حكم العامّ لا أنّه عامّ حقيقة لدخول الوضع في مفهوم العامّ عندهم ، وكونه معتبرا في مصاديقه لكون كلماتهم بين ظاهرة وصريحة في ذلك ، ومن الصريحة ما يأتي في المسألة الآتية من اختلافهم في أنّ ما ادّعي كونه للعموم هل هي حقيقة في العموم ومجاز في الخصوص أو بالعكس أو مشتركة بينهما؟

ومنها : ما سيأتي أيضا من اختلافهم في كون العامّ المخصّص حقيقة في الباقي أو مجازا فيه؟

ومنها : ما سيأتي أيضا من استدلال القائلين بعدم حجّيّة العامّ المخصّص بأنّه صار بالتخصيص مجازا ولتعدّد المجازات صار مجملا فخرج عن الحجّيّة إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ويندفع الثاني : بأنّ المستعمل فيه في العامّ المجموعي هو مصداق الجماعة وهو عبارة عن الآحاد المجتمعة فيكون كلاّ اعتباريّا وآحاده أجزاء اعتباريّة.

فإن قلنا بأنّ الجمع المعرّف باللام حقيقة في العموم المجموعي أيضا يصدق عليه اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه هذا.

وأمّا سائر التعاريف فلا جدوى في التعرّض لما يرد عليها من انتقاض طرد أو عكس أو غير ذلك هذا كلّه في تعريف العامّ.

وأمّا الخاصّ فلم يتعرّض الأكثرون لتعريفه وأكثر الكتب الاصوليّة خلوّ عن بيان معناه.

وأمّا الأقلّون فذكروا له تعاريف :

منها : ما في أحكام الآمدي من : « أنّه اللفظ الواحد الّذي لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه كأسماء الأعلام من زيد وعمرو ونحوه ».

وفيه : انتقاض عكسه بل خارجه من أفراد المعرّف أكثر من داخله ، فإنّه لا يتناول ما عدا الجزئيّات الحقيقيّة.

ومنها : ما فيه أيضا من أنّه : « اللفظ الّذي يقال على مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة كلفظ « الإنسان » فإنّه خاصّ يقال على مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار لفظ « الحيوان » من جهة واحدة ».

٧٠١

وفيه من الخلط بين الاصطلاح الاصولي والاصطلاح المنطقي في الخاصّ والعامّ ما لا يخفى ، فيرجع إلى التعريف بالمبائن فإنّ ما ذكروه منطبق على الخاصّ المنطقي قبالا للعامّ المنطقي كما يرشد إليه التمثيل بالنوع والجنس المقول على أنواعه.

ومنها : ما عن ذريعة السيّد من : « أنّه ما يتناول شيئا واحدا » (١).

وفيه : انتقاض العكس إن اريد بقيد واحد الوحدة بشرط لا ، لأنّه لا ينطبق إلاّ على الأعلام الشخصيّة وانتقاض طرده إن اريد به الوحدة لا بشرط ، أي سواء تناول أزيد من واحد أو لا لأنّه يشمل العامّ بجميع أفراده فإنّه يتناول الواحد لا محالة لأنّه القدر المتيقّن ممّا يندرج تحته ولو على القول بجواز التخصيص إلى واحد.

ومنها : ما يستفاد من الشيخ في العدّة حيث قال : « ومعنى قولنا في اللفظ : « أنّه خاصّ » يفيد أنّه يتناول شيئا مخصوصا دون غيره ممّا كان يصحّ أن يتناوله ».

وفيه أيضا انتقاض العكس لأنّه لا يشمل إلاّ العامّ المخصّص كقولنا : « أكرم العلماء العدول » أو « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » أو « أكرم العلماء إن جاؤوك أو إلى أن يفسقوا » فإنّه الّذي يتناول الشيء المخصوص وهو البعض المراد من اللفظ دون غيره من سائر الأفراد لوجود مانع التخصيص مع صحّة تناوله لو لا التخصيص.

ومنها : ما حكاه الآمدي من : « أنّه كلّ ما ليس بعامّ » وفي معناه ما أشار إليه الحاجبي فإنّه بعد ما عرّف العامّ بما تقدّم قال : « والخاصّ بخلافه ».

واعترض عليه بما حكاه بعض الأعاظم (٢) من أنّ العامّ والخاصّ متبائنان فتعريف أحدهما بالآخر دوري.

ويدفعه : منع لزوم الدور ما لم يكن التوقّف من الجانبين وهو أن يعرف كلّ منهما بالآخر وهاهنا ليس كذلك ، لعدم كون الخاصّ مأخوذا في تعريف العامّ فمعرفة الخاصّ حينئذ موقوفة على معرفة العامّ ولا عكس.

والّذي يظهر لي أنّ ما ذكر تعريف تامّ لا يرد عليه انتقاض طرد وانتقاض عكس ، فإنّ العامّ والخاصّ من الامور الإضافيّة فلو ورد في الخطاب : « أكرم الناس ، وأكرم الرجال ، وأكرم العلماء ، وأكرم الاشتقاقيّين ، وأكرم الصرفيّين ، وأكرم زيدا » فكلّ واحد ممّا عدا

__________________

(١) الذريعة في اصول الشريعة ٢ : ١٩٧.

(٢) إشارات الاصول : ١١٤.

٧٠٢

الأخير عامّ بالإضافة إلى ما اندرج تحته ، فيصدق على كلّ أنّه اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق الحكم المعلّق عليه أجزاء موضوعه وجزئيّاته ، وكلّ واحد ممّا عدا الأوّل خاصّ بالإضافة إلى ما هو أعمّ منه لأنّه لم يوضع للدلالة على نحو الاستغراق الّذي وضع ما هو إسم أعمّ منه للدلالة عليه ، فإنّ « الناس » بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه النساء ولم يوضع « الرجال » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « الرجال » أيضا بمقتضى وضعه يستغرق حكمه للعوام ولم يوضع « العلماء » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « العلماء » أيضا بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه لغير الاشتقاقيّين ولم يوضع « الاشتقاقيّون » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « الاشتقاقيّون » أيضا بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه لغير الصرفيّين ولم يوضع « الصرفيّون » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « الصرفيّون » أيضا بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه لغير زيد ولم يوضع « زيد » للدلالة على هذا الاستغراق.

وهذا هو المراد من نفي العامّ المأخوذ في تعريف الخاصّ ، ومحصّله نفي وضعه للدلالة على نحو العموم الّذي كان ما هو أعمّ منه موضوعا للدلالة عليه.

والسرّ فيه : أنّ الإضافة المذكورة تقتضي أن يؤخذ في تعريف المضاف ما اعتبر ثبوته في تعريف المضاف إليه وهو النحو الخاصّ من الاستغراق المنتفي في وضع ما هو خاصّ بالإضافة إليه.

ولا يرد على ما وجّهناه للتعريف انتقاض طرده بالمهمل ، نظرا إلى أنّه أيضا لم يوضع للدلالة على الاستغراق ، لعدم كون جنس التعريف مطلق ما لم يوضع بل اللفظ الموضوع الّذي لم يوضع للدلالة على استغراق الحكم لأجزاء موضوعه أو جزئيّاته.

وإن شئت قلت : بملاحظة إضافته إلى ما هو أعمّ أنّه اللفظ الموضوع لا للدلالة على استغراق حكم ما هو أعمّ أجزاء موضوعه أو جزئيّاته ، فليتأمّل في ذلك فإنّه دقيق.

تذنيب

في أنّ الاصولييّن بعد اتّفاقهم على أنّ العموم يعرض الألفاظ عروضا حقيقيّا وأنّ الألفاظ تتّصف به على وجه الحقيقة يقال : « لفظ عامّ » أو « هذا اللفظ عامّ » أو « أنّه يعمّ كذا وكذا » مثلا كما حكي نقل الاتّفاق عليه عن النهاية والمنية وكشف الرموز ، اختلفوا في عروضه المعاني أيضا وعدمه على قولين ، أحدهما عروضه لها والآخر منع عروضه لها كما في المنية ناسبا لثانيهما إلى الأكثرين كالسيّد المرتضى وأبي الحسين البصري والغزالي ، أو على ثلاثة أقوال كما في مختصر الحاجبي وشروحه :

٧٠٣

أحدها : عدم عروضه لها لا حقيقة ولا مجازا.

وثانيها : عروضه لها مجازا لا حقيقة.

ثالثها : عروضه لها حقيقة واختاره الحاجبي.

وفي المفاتيح أيضا جعل الأقوال ثلاثة مع اختلاف في نفس القول :

أحدها : أنّه مجاز في المعاني نسبه إلى ظاهر الفاضلين في المعتبر والتهذيب والنهاية والشهيد في الذكرى والبهائي وأبي الحسين البصري والغزالي والبيضاوي والمحكيّ عن السيّد والأكثر.

وثانيها : أنّه حقيقة فيما يعمّ الأمرين وهو لظاهر الحاجبي والعضدي والطوسي وصاحب الصراح.

وثالثها : أنّه مشترك لفظي بين الأمرين وهو لظاهر الشيخ في العدّة وقوم من الاصوليّين ، وفي نسبته إلى ظاهر الشيخ منع لأنّه نفى البعد عن ذلك بعد ما استقرب المجازيّه قائلا : « فأمّا استعمال تلك اللفظ ـ يعني العامّ ـ في المعاني نحو قولهم : « عمّهم البلاء والقحط والمطر » وغير ذلك فالأقرب في ذلك أن يكون مجازا لا يطّرد في سائر المعاني ، فلو أنّ قائلا قال : إنّ ذلك مشترك ، لم يكن بعيدا انتهى.

وبعض الأعاظم جعل الأقوال خمسة : كونه مجازا في المعاني ، ومشتركا بينهما معنى أو لفظا ، وعدم صحّة الإطلاق على المعاني حقيقة ومجازا ، والتوقّف.

أقول : هذا النزاع بظاهره لا يخلو عن غرابة ، إذ العامّ والعموم المأخوذان في عنوان المسألة إن اريد بهما المعنى المصطلح في لسان الاصوليّين وهو ما اخذ في مفهومه اللفظ ـ ففسّر الأوّل باللفظ الموضوع لاستغراق الأجزاء والجزئيّات والثاني بشمول اللفظ للأجزاء والجزئيّات ـ فعدم لحوقهما باعتبار قيد اللفظ للمعاني المقابلة للألفاظ لا حقيقة ولا مجازا ضروريّ لا ينبغي أخذ مثله مسألة في العلوم النظريّة وإن اريد ما لا يدخل في مفهوميهما اللفظ ، ليكون الأوّل عبارة عن الأمر الشامل للمتعدّد من الأجزاء أو الجزئيّات والثاني عبارة عن شمول أمر للمتعدّد من الأجزاء أو الجزئيّات ، فلحوقهما المعاني أيضا على وجه الحقيقة بالتواطؤ والاشتراك المعنوي ضروري لا ينبغي عدّ مثله مسألة علميّة ، لوضوح أنّ العموم ومشتقّاته من الألفاظ اللغويّة المتداولة في استعمالات العرف عامّا وخاصّا فهو في

٧٠٤

اللغة والعرف ليس مهملا بل موضوع ومستعمل يقال : « البليّة إذا عمّت طابت » و « البلاء عامّ » و « عمّ القحط » و « عمّ الخصب » و « عمّ الجدب » و « عمّ المطر » و « عطاؤه عامّ ».

وفي الحديث : سهم المؤلّفة والرقاب عامّ (١) أي يعمّ العارف وغير العارف والباقي خاصّ أي مخصوص بأهل المعرفة.

وفي الدعاء : « نتوب إليك من عوامّ خطايانا » (٢) وهو جمع عامّة بمعنى كافّة ويقال أيضا :« الإنسان عامّ لمصاديقه أو يعمّ أفراده » كما يقال : « العلماء أو الكلّ عامّ » ويراد الشمول للأشياء المتعدّدة الكثيرة في الجميع.

غاية الأمر أنّ كلاّ من الأخيرين شائع في عرف أهل الاستدلال وعلماء الاصول والبواقي شائعة في العرف العامّ ، ويمتاز الثلاثة في أنّ العموم بمعنى الشمول حيث يضاف إلى اللفظ كما في عرف علماء الاصول يراد به دلالته على تمام المتعدّدين من الأجزاء أو الجزئيّات ، وحيث يضاف إلى المفهوم الكلّي كما في لسان أهل الاستدلال يراد به صدقه على جميع مصاديقه أو أفراده ، وحيث يضاف الى سائر المعاني من الأعيان الخارجيّة كالمطر ، أو المفاهيم الذهنيّة كالقحط والبلاء والعطاء كما في لسان أهل العرف العامّ يراد به حصوله ووجوده في محالّه وموارده ولو باعتبار حصول الجامع المشترك بينها كما في المطر ونحوه ، لاختصاص كلّ جزء منه بمحلّ غير محلّ الجزء الآخر وإنّما الحاصل في الجميع الجامع المشترك بين الأجزاء.

ولقد تنبّه بما بيّنّاه بعضهم ـ على ما حكي عنه ـ قائلا : بأنّه إن اريد بالعموم استغراق اللفظ لمسمّياته على ما هو مصطلح أهل الاصول فهو من عوارض الألفاظ خاصّة.

وإن اريد به شمول أمر لمتعدّد عمّ الألفاظ والمعاني.

وإن أريد به شمول مفهوم لأفراد كما هو مصطلح أهل الاستدلال اختصّ بالمعاني » انتهى (٣).

ومن الأفاضل من وافقه في هذا التقسيم وذكر ما يقرب منه ثمّ قال في آخر كلامه : « فليس هناك معنى يصحّ وقوع النزاع فيه فيمكن أن يعود النزاع فيه لفظيّا كما نبّه عليه بعض الأعلام » انتهى (٤).

أقول : جعل النزاع لفظيّا كما احتمله قدس‌سره أبعد من أصل النزاع بناء على الأخذ بظاهره.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٩٦.

(٢) مصباح المتهجّد : ٥٢٨ ومن لا يحضره الفقيه ١ : ٥٢٣.

(٣) حكاه عن بعض الأعلام في هداية المسترشدين ٣ : ١٥٥.

(٤) هداية المسترشدين ٣ : ١٥٤.

٧٠٥

والّذي يظهر لي بعد إمعان النظر والتأمّل الثاقب ـ والله يعلم بالصواب ـ أن ليس المراد بالألفاظ المتّفق على كون العامّ حقيقة فيها مطلقها على معنى جميع ألفاظ العالم (١) ، ولا بالمعاني المقابلة لها المختلف في إطلاق العامّ عليها مطلقها أعني جميع معاني العالم (٢) ، بل المراد بالألفاظ إنّما هي الألفاظ المخصوصة المدّعى كونها موضوعة للعموم ، بدليل أنّهم إنّما تعرّضوا لتلك المسألة عقيب الفراغ عن تعريفات العامّ وبيان معناه المصطلح عليه عندهم ، وقبل التعرّض لعنوان المسألة الآتية المعبّر عنها : بأنّه هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟ فلا معنى لكون نظرهم فيما عدا هذه الألفاظ المخصوصة ، مضافا إلى تمسّك المانعين من عروض العامّ للمعاني بالتبادر بمعنى سبق اللفظ إلى الذهن الّذي لا يثبت به إلاّ دخول اللفظ في وضعه في عرفهم لا مطلقا ، وهذا أيضا آية كون نظرهم مقصورا على الألفاظ المخصوصة الّتي اصطلحوا العامّ فيها ، فيكون المراد بالمعاني أيضا معاني هذه الألفاظ لا غير ، وهي مداليلها الّتي يعبّر عنها بالأجزاء أو الجزئيّات الّتي اعتبروا عموم الألفاظ وشمولها بالقياس إليها.

فيكون حاصل معنى العنوان : أنّ العموم الّذي يعرض هذه الألفاظ المخصوصة على وجه الحقيقة هل يعرض معانيها ، على معنى مداليلها من الأجزاء أو الجزئيّات بل الجزئيّات خاصّة أو لا؟

وعلى الأوّل فهل هو على وجه الحقيقة أو المجاز؟ وعلى الأوّل فهل هو باعتبار الاشتراك المعنوي أو الاشتراك اللفظي ومرجع هذا النزاع إلى ما قد يوجد في بعض الكتب الاصوليّة في تضاعيف الكلام في الجمع المحلّى باللام وما بمعناه من الجمع المضاف وإسم الجمع المعرّف باللام أو بالإضافة من التكلّم في أنّ عمومه هل هو أفرادي أو جمعي؟ على معنى أنّ « العلماء » مثلا في نحو : « أكرم العلماء » يفيد شمول الحكم لكلّ فرد أو يفيد شموله لكلّ جماعة؟ مع تصريحهم على الثاني بأنّ ثبوت الحكم لكلّ جماعة يستدعي ثبوته لكلّ واحد من آحاد الجماعة.

وعلى هذا التقدير فالجمع عامّ في الجماعات والجماعة أيضا عامّ في آحادها ، وقضيّة ذلك تحقّق عامّين في الجمع المعرّف وما بمعناه ، ومنه « أكرم القوم » و « أكرم كلّ العلماء » أحدهما لا حق باللفظ على وجه الحقيقة والآخر بمعناه ومدلوله على وجه المجاز أو الحقيقة أيضا باعتبار الاشتراك بينهما معنى أو لفظا.

فحاصل معنى العنوان حينئذ : أنّ هذه الألفاظ المخصوصة المفيدة لاستغراق الحكم

__________________

(١ و ٢) كذا في الأصل.

٧٠٦

لجزئيّات موضوعه هل تفيد العموم في الأفرادـ على تقدير كون الجزئيّات المستغرق لها الجزئيّات الحقيقيّة ولازمه أن لا يعرض العموم لها لا حقيقة ولا مجازا ، فلا يصحّ إطلاق العامّ على شيء من الجزئيّات المستغرق لها ـ أو في الأصناف أو الطوائف أو الجماعات ، على تقدير إرادة الجزئيّات الإضافيّة من الجزئيّات المستغرق لها ، ولازمه عروض العموم لكلّ من الجزئيّات الإضافيّة الّتي هي مداليل العامّ اللفظي بأحد الوجوه المذكورة ، بتقريب ما تقدّم من كون اللفظ عامّا في الجزئيّات الإضافيّة الّتي هي الأصناف أو الجماعات وكلّ صنف أو جماعة أيضا عامّا في آحاده مجازا أو حقيقة اشتراكا معنويّا أو لفظيّا.

فمرجع القول بعدم عروضه لها أصلا وعدم إطلاق العامّ عليها لا حقيقة ولا مجازا إلى أنّ ألفاظ العموم بأسرها موضوعة [ للعموم ] الأفرادي والفرد لكونه جزئيّا حقيقيّا لا يقال له العامّ أصلا ، ولعلّ دليله فقد مناط صدق العموم بمعنى الشمول وهو التعدّد عن الجزئي ومرجع [ القول ] بالمجاز إلى أنّها للأعمّ من العموم الأفرادي والجمعي بمعنى استغراق [ الأفراد ] والجماعات ، فيطلق العامّ على كلّ صنف أو جماعة لشمولهما آحادهما ولكن مجازا ، ودليله التبادر بمعنى سبق اللفظ إلى الذهن عند الإطلاق.

قال في المنية : « ولو كان حقيقة في المعنى أو في القدر المشترك بينهما لم يتحقّق ذلك السبق » مضافا إلى عدم الاطّراد وقرّره في المنية : بأنّه لو كان حقيقة في شيء من المعاني لاطّرد والتالي باطل فالمقدّم مثله.

وأمّا الشرطيّة : فلأنّ الاطّراد دليل الحقيقة ، وأمّا بطلان التالي : فلأنّه لا يوصف « زيد » و « عمرو » بالعموم حقيقة ولا مجازا.

والأصحّ هو هذا القول والعمدة من دليله عدم تبادر المعنى أو تبادر الغير وهو اللّفظ من إطلاق العامّ في عرف الاصوليّين.

وأمّا عدم الاطّراد بالتقرير المذكور فضعيف ، لعدم تحقّقه بالمعنى المعهود بالنسبة إلى « زيد » و « عمرو » وغيرهما من الجزئيّات الحقيقيّة ، وهو كون اللفظ المستعمل في مورد لوجود معنى فيه غير جائز الاستعمال في كلّ مورد وجد فيه ذلك المعنى ، فإنّ استعمال العامّ في الجزئيّات الإضافيّة كما في موارد العموم الجمعي إنّما هو لوجود معنى وهو شمول أمر لمتعدّد وهذا المعنى غير موجود في الجزئيّات الحقيقيّة من « زيد » و « عمرو » ونحوهما كما في موارد العموم الأفرادي ، ولو تمسّك الخصم حينئذ بالاطّراد في الجزئيّات الإضافيّة

٧٠٧

الفصل الأوّل

في الكلام على ألفاظ العموم

أصل

الحقّ : أنّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه* (١). وهو اختيار الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة ، وجمهور المحقّقين.

_______________________________

أمكن دفعه بثبوت المجازيّة بعدم التبادر أو تبادر الغير فلا حكم معه للاطّراد.

واحتجّ القائل في المعاني أيضا : بأنّ أهل اللغة أطلقوا العموم على المعاني إطلاقا ظاهرا شائعا كقولهم : « عام العطاء » و « عام الجدب » و « عام الخصب » و « مطر عامّ » و « خير عامّ » وغير ذلك من موارد إطلاقهم ، وشيوع هذا الإطلاق يأبى كونه مجازيّا.

وزاد عليه القائل بالاشتراك المعنوي أمرين آخرين :

أحدهما : أنّ حقيقة العموم شمول أمر لمتعدّد وهو موجود في المعاني أيضا كعموم المطر والخصب ونحوهما.

وثانيهما : أنّ الاتّفاق قائم على كونه حقيقة في الألفاظ والمفروض وقوع استعماله في المعاني أيضا ، والاشتراك والمجاز مخالفان للأصل فيجب كونه للأعمّ.

وفي الأوّل : أنّ شيوع الإطلاق على المعاني مع كونه على وجه الحقيقة في العرف العامّ مسلّم ، وهو لا ينافي اختصاص الحقيقة في اصطلاح الاصوليّين باللفظ وكونه في المعاني مجازا بدليل ما تقدّم من التبادر وعدمه.

وفي الثاني : أنّ كون حقيقة العموم هو ما ذكر إنّما يسلّم في العرف العامّ لا الخاصّ.

وفي الثالث : أنّ كون المجاز كالاشتراك مخالفا للأصل وإن كان مسلّما إلاّ أنّه إذا قام عليه دليل وهو عدم التبادر أو تبادر الغير بالقياس إلى عرف الاصوليّين لا مناص من المصير إليه.

واحتجّ القائل بالاشتراك لفظا : بالاستعمال فيهما والأصل فيه الحقيقة ، وجوابه ظاهر.

(١) * اختلفوا في الألفاظ والصيغ المدّعى كونها للعموم على أقوال :

أحدها : بل أصحّها ما اختاره المصنّف وعبّر عنه : « بأنّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه » بمعنى أنّ في هذه الألفاظ ما كان بصيغته موضوعا للعموم وحقيقة فيه بحيث لو

٧٠٨

وقال السيّد ـ رحمة الله ـ وجماعة : إنّه ليس له لفظ موضوع إذا استعمل في غيره كان مجازا ، بل كلّ ما يدّعى من ذلك مشترك بين الخصوص والعموم* (١). ونصّ السيّد على أنّ تلك الصيغ نقلت في عرف الشرع إلى العموم ، كقوله بنقل صيغة الأمر في العرف الشرعيّ إلى الوجوب** (٢). وذهب قوم إلى أنّ جميع الصيغ الّتي يدّعى وضعها للعموم حقيقة في الخصوص ، وإنّما يستعمل في العموم مجازا*** (٣).

_______________________________

استعمل في غيره وهو الخصوص كان مجازا ، وعليه الشيخ والمحقّق والعلاّمة وجمهور المحقّقين كما في عبارة المصنّف.

وفي مناهج النراقي : أنّ عليه الشيخ في العدّة والعلاّمة والعميدي في التهذيب والمنية وعزى إلى الأكثر.

وفي المنية نسبه إلى جماعة من المعتزلة والشافعي وكثير من الفقهاء ، وفي العدّة إلى الفقهاء بأسرهم وأكثر المتكلّمين ، وفي إحكام الآمدي إلى الشافعي وجماهير المعتزلة وكثير من الفقهاء.

(١) * هذا ثاني أقوال المسألة وعزي أيضا إلى المرجئة كما في الإحكام ، وإلى المرجئة والسيّد المرتضى والواقفيّة كما في المنية ، وإلى الأشعري في أحد قوليه وقوله الآخر الوقف كما في شرح المختصر للعضدي وغيره.

(٢) ** ويعدّ ذلك مع قوله بالاشتراك لغة ثالث الأقوال ، وهو التفصيل بين اللغة فالاشتراك وعرف الشرع فالاختصاص بالعموم.

(٣) *** هذا رابع الأقوال.

وخامسها : التفصيل بين الأمر والنهي فالعموم والأخبار والوعد والوعيد فالوقف ، حكاه الحاجبي والعضدي من غير تعيين لقائله.

وسادسها : الوقف صار إليه الآمدي في الإحكام وعزاه العضدي وغيره إلى القاضي.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالا في مراد القائل بالحقيقيّة في الخصوص لم نقف على من تنبّه عليه ولا على من تعرّض لدفعه ، وهو : أنّ الخصوص عبارة عمّا عدا العموم بدليل المقابلة ويتأتّى ذلك بخروج بعض أفراد العامّ عن تحته واحدا كان أم متعدّدا قليلا أم كثيرا ، وله بهذا الاعتبار مراتب كثيرة أوّلها ما خرج منه فرد واحد وآخرها منتهى التخصيص المختلف

٧٠٩

في تعيينه على ما سيأتي في محلّه ، وعلى القول بجواز التخصيص إلى الواحد يكون الواحد آخر المراتب ، ولا يدرى أنّ مراد هذا القائل من الوضع للخصوص أهو الوضع له بجميع مراتبه على طريقة الاشتراك المعنوي؟ على معنى أنّ الواضع تصوّر الخصوص بمعنى ما عدا العموم بمفهومه فوضع اللفظ بإزائه ، أو على طريقة الاشتراك اللفظي على معنى أنّ اللفظ موضوع لمراتبه المتدرّجة بأوضاع متعدّدة على حسب تعدّد المراتب ، أو على طريقة الوضع العامّ للموضوع له الخاصّ كما في أسماء الإشارة وغيرها على رأي المتأخّرين ، بدعوى : أنّ الواضع لا حظ الخصوص بعنوانه الكلّي آلة لملاحظة مراتبه المتدرّجة فوضع اللفظ لتلك المراتب بحيث لو استعمل في كلّ منها كان استعمالا فيما وضع له.

ويحتمل ضعيفا أن يقول بالوضع لمرتبة معيّنة من مراتبه وهي إمّا أوّل المراتب أو آخرها أو شيء من المتوسّطات.

وأضعف منه أن يقول بالوضع لإحدى المراتب لا على التعيين على حدّ وضع النكرة لفرد واحد لا بعينه.

وأضعف من الجميع أن يقول بالوضع لمجموع المراتب من حيث هو على نحو يكون كلّ مرتبة بخصوصها جزءا للموضوع له ، وهذه احتمالات ستّ لم نقف منه على ما يقضي بتعيين أحدها صريحا ولا ظهورا ولا إشارة.

نعم ما يأتي منه في الاحتجاج لمذهبه من دليله الأوّل من كون الخصوص متيقّن الإرادة فهو الموضوع له ، ربّما يومئ إلى مصيره إلى تخصيص الوضع بآخر المراتب كائنا ما كان على حسب الأقوال في منتهى التخصيص ، لأنّه الّذي يتيقّن دخوله في المراد على كلا تقديري إرادة العموم وارادة الخصوص دون غيره ، ضرورة أنّه على تقدير التخصيص بغير آخر المراتب لا يلزم من فرض عدم إرادة العموم تيقّن إرادة ذلك الّذي خصّ به الوضع سواء كان أوّل المراتب أو غيره من المتوسّطات ، لبقاء احتمال إرادة غير ما خصّ به الوضع ممّا لا يندرج فيه الموضوع له كآخر المراتب ونحوه ممّا هو أقلّ عددا من الموضوع له ، ولكن يأباه دليله الثاني المقرّر ، بأنّ العامّ غلب استعماله في الخصوص ، مستشهدا فيه بما اشتهر من أنّه : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » لوضوح أنّ الغلبة لم تتحقّق في بعض معيّن من المراتب بل هي منتزعة عن مجموع الاستعمالات الواقعة على جميع المراتب على طريقة التوزيع.

وقضيّة ذلك عموم الحقيقة لجميع المراتب إمّا من باب الاشتراك المعنوي أو اللفظي أو

٧١٠

الوضع العامّ للموضوع له الخاصّ وإن كان كلّ من هذه الثلاث في نفسه عند دقيق النظر فاسدا كما سنشير إليه بعيد ذلك.

ولم نقف من القوم أيضا على كلام متكفّل لبيان مراده من الاحتمالات المذكورة.

نعم في عبارة الشيخ في العدّة عند حكاية هذا القول ما يعطي فهمه الوجه الرابع في خصوص آخر المراتب حيث قال : « وقال قوم من المرجئة وغيرهم أنّه ليس للعموم صيغة أصلا بل كلّما يدّعى أنّه للعموم فهو للخصوص وإنّما يفيد آخر ما يمكن أن يكون مرادا ، فإنّ آخر ما يمكن كونه مرادا ظاهر في منتهى التخصيص وهو آخر مراتب الخصوص على ما بيّنّاه » وكأنّه استظهره من دليله الأوّل حسبما بيّنّاه.

وقد عرفت أنّه معارض بدليله الثاني المقتضي لخلافه.

ويظهر من بعض عبارات العميدي في المنية أنّه فهم منه إرادة أحد الوجوه الثلاث الأوّل حيث إنّه عند إبطال احتمال كون « من » الاستفهاميّة مشتركة بين العموم والخصوص أخذ بالاستدلال على بطلانه وقال : « وأمّا بطلان كونها مشتركة بينهما فلأنّه لو كان كذلك لم يحسن الجواب إلاّ بعد السؤال عن كلّ مرتبة من مراتب الخصوص.

فإن قيل : من عندك؟ يقول : من الرجال أو من النساء؟ فإن قال : من الرجال ، يقول : من العرب أو من العجم؟ وإذا قيل : من العرب ، قيل : من ربيعة أو مضر؟ وهلمّ جرّا ، ومن المعلوم أنّ ذلك مستقبح عند أهل اللسان ، وإنّما قلنا : إنّه لابدّ من السؤال عن كلّ مرتبة لأنّ القائل بكونها موضوعة للخصوص وحده أو له وللعموم على سبيل الاشتراك لم يخصّ ذلك بمرتبة مخصوصة من مراتب الخصوص » انتهى.

وهذا ظاهر في أنّ مراده الحقيقيّة في جميع مراتبه وهي لا تخلو عن إحدى الثلاث ومن ملاحظة كلامه يظهر أنّ الإشكال المذكور يجري بعينه على القول بالاشتراك أيضا.

ثمّ إنّ الوجوه المذكورة المحتملة في مراد هذا القائل بأسرها باطلة وببطلانها يبطل أصل قوله المردّد بينها الغير الخارج عنها ، فيستغني بذلك عن إقامة الدليل على المذهب المختار ولو أقمنا مع ذلك دليلا عليه كان تفضّلا أو مبالغة في إحراز حقيّة المختار أو اقتفاء لإثر العلماء الأخيار.

فأمّا بطلان الوجه الأوّل : فلأنّ قضيّة الحقيقيّة في جميع المراتب على وجه الاشتراك المعنوي أن يكون المستعمل فيه في جميع موارد استعمالات كلّ من الألفاظ في الخصوص

٧١١

هو القدر الجامع بين المراتب وهو مفهوم « ما عدا العموم » مثلا باعتبار تحقّقه في ضمن مرتبة مخصوصة كائنة ما كانت ليكون الاستعمال بالقياس إلى المرتبة المخصوصة على وجه إطلاق الكلّي على الفرد.

وهذا ممّا ينادي ببطلانه ضرورة العرف في الاستعمالات الدائرة بينهم لتلك في الخصوص ، لعدم وقوعها قطّ على مفهوم الخصوص بمعنى مفهوم « ما عدا العموم » بل كلّ استعمال للفظ في الخصوص فإنّما يراد به مصداق الخصوص وهو المرتبة المخصوصة بوصف الخصوصيّة من غير نظر إلى المفهوم ولا ملاحظته تفصيلا ولا إجمالا.

والسرّ في ذلك : أنّ الخصوص في لحاظ الاستعمال ليس إلاّ كالعموم في هذا اللحاظ من حيث الكيفيّة ، فكما أنّ اللفظ عند استعماله في العموم يراد به استغراق الحكم لكلّ فرد ليكون الدلالة بالنسبة إلى كلّ فرد فرد تامّة ، فكذلك عند استعماله في الخصوص أيضا يراد به استغراق الحكم لكلّ واحد من آحاد الخصوص ليكون دلالته على كلّ واحد واحد تامّة.

وقضيّة ذلك أن لا يكون المستعمل فيه إلاّ المصداق بمعنى نفس المرتبة المخصوصة ، فحينئذ لو فرض وضعها للمفهوم مع عدم وقوع استعمال في الموضوع له قطّ بل وقوع الاستعمالات بأسرها في خلاف الموضوع له لزم كون ألفاظ العموم بأسرها مجازات بلا حقيقة ، وهذا مع بطلانه في نفسه عدول إلى قول الأكثر وهو المجازيّة في الخصوص وإن غايره في مجازيّته في العموم أيضا ، مع استلزامه لغويّة الوضع للخصوص بمعنى المفهوم المشترك ، بل حكمة الواضع تأبى أن يعدل عن الوضع للعموم ليكون مجازا في مراتب الخصوص إلى الوضع لمفهوم الخصوص ليكون مجازا في كلّ من العموم ومراتب الخصوص من دون أن يكون له حقيقة في الاستعمال.

وأمّا بطلان الوجه الثاني : فلأنّ الاشتراك اللفظي ـ مع ندرته ومخالفته الأصل ـ يقتضي أوضاعا متعدّدة حسب تعدّد مراتب الخصوص وهي غير محصورة بل في الغالب غير متناهية سيّما ما كان عامّا في الأمكنة وما كان عامّا في الأزمنة ، وزمان الوضع متناه ويستحيل وقوع أوضاع غير متناهية في زمان متناه.

ومع الغضّ عن ذلك فلمخالفته الأصل لا يصار إليه إلاّ لدليل ولا دليل للقائل إلاّ تيقّن الإرادة وغلبة الاستعمال ولا ينهض شيء منهما لإثباته ، أمّا تيقّن الإرادة فلأنّه على تقدير صلاحيّته لإثبات الوضع غير متحقّق إلاّ في آخر المراتب الّذي هو منتهى التخصيص

٧١٢

فكيف به الوضع لسائر المراتب ، وأمّا غلبة الاستعمال فلعدم تحقّقها بالنسبة إلى كلّ مرتبة مرتبة من مراتب الخصوص.

نعم مجموع الاستعمالات الواقعة على مراتبه أغلب وأكثر من استعمالاته في العموم ولكنّه لا يجدي نفعا في حصول الوضع المستقلّ لكلّ مرتبة مرتبة بانفرادها.

وأمّا بطلان الوجه الثالث : فلأنّ الوضع العامّ للموضوع له الخاصّ في ألفاظ العموم مطلقا أو في غير « من » و « ما » الموصولتين ما اتّفق الفريقان من قدماء أهل العربيّة والمتأخّرين على بطلانه ، أمّا القدماء فلأنّهم يستحيلون هذا الوضع من أصله ، وأمّا المتأخّرون فلأنّهم أثبتوه في ألفاظ مخصوصة ليس المقام منها.

ولو قيل : إنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه فإنّ المتأخّرين إنّما أثبتوا هذا الوضع لألفاظ مخصوصة ولم ينفوه عن غيرها وإذا ساعد عليه دليل في الغير أيضا وجب المصير إليه لسلامته عن مخالفة الاتّفاق.

قلنا : ننقل الكلام إلى دليله وقد عرفت أنّ القائل لا دليل له إلاّ الوجهان المتقدّمان وقد أوضحنا حالهما مرارا من أنّ أوّلهما غير متحقّق فيما عدا آخر المراتب وثانيهما غير متحقّق في شيء منها بالخصوص ، فلا ينهضان لإثبات نحو هذا الوضع.

وأمّا بطلان الوجه الرابع : فلأنّ المرتبة المعيّنة المحتملة في وضع هذه الألفاظ على قول هذا القائل إن اريد بها المرتبة الاولى أو إحدى المتوسّطات فدليلاه لا يجريان بالنسبة إليهما ، وإن اريد بها المرتبة الأخيرة فدليله الثاني غير متحقّق بالنسبة إليها ، وأمّا دليله الأوّل المتوهّم جريانه فيها فهو فاسد الوضع وفاسد الأصل ، أمّا فساد وضعه ، فلأنّ تيقّن الإرادة أمر مشترك منتزع عن احتمالين

أحدهما : احتمال كونها من المراد.

والآخر : احتمال كونها مرادة بخصوصها ، وهي مردّدة بينهما فينتزع منهما تيقّن كونها مرادة بإسقاط القيدين ، فإن اريد من تيقّن الإرادة المستدلّ به لإثبات الوضع للمرتبة الأخيرة تيقّن كونها مرادة بخصوصها فهو فاسد بدليل الخلف ، لأنّ كونها مرادة على هذا الوجه غير متيقّن ، وإن اريد به تيقّن الإرادة المنتزع عن الاحتمالين حسبما بيّنّاه فهو بضابطة أنّ الأعمّ لا يدلّ على الأخصّ لا ينهض دليلا على الوضع للمرتبة الأخيرة بخصوصها.

وأمّا فساد أصله : فلأنّ تيقّن إرادة الخصوص ليس من آثار الوضع ومعلولاته كالتبادر

٧١٣

لنا : أنّ السيّد إذا قال لعبده : « لا تضرب أحدا » فهم من اللّفظ العموم عرفا ، حتّى لو ضرب واحدا عدّ مخالفا. والتبادر دليل الحقيقة* (١) ؛ فيكون كذلك لغة ؛

_______________________________

وعدم صحّة السلب والاطّراد ليكون كاشفا عن الوضع بل من علله وبواعثه ، بمعنى أنّه في زعم هذا القائل حكمة باعثة للواضع على اختيار وضع هذه الألفاظ للخصوص على وضعها للعموم ، فيرجع الاستناد إليه إلى ترجيح اللغة بالعقل وهو باطل بالضرورة.

والسرّ فيه : أنّ الوضع لكونه من فعل الواضع الحكيم فتحقّقه فيما بين كلّ لفظ ومعناه الموضوع له يتبع حكمة لاحظها الواضع فاختار لأجلها هذا اللفظ لذلك المعنى وهذه الحكمة هي العلّة الباعثة ، ولا ريب أنّ الواضع حين وضعه لألفاظ العموم لا حظ حكمة البتّة ، وأمّا كونها تيقّن الإرادة المقتضي لاختيار وضعها [ للخصوص ](١) لا حكمة اخرى دعته إلى اختيار وضعها للعموم لابدّ له من دليل ، ولا يكفيه الاحتمال ولا دليل عليه من نصّ الواضع ولا حكم العقل.

أمّا الأوّل : فلعدم بلوغ نصّ من الواضع في ذلك ، وأمّا حكم العقل : فلأنّ بملاحظة قيام احتمال ملاحظة حكمة اخرى باعثة على اختيار الوضع للعموم لا يحكم بالوضع للخصوص من جهة تيقّن الإرادة لا بعنوان الجزم ولا بعنوان الظنّ.

وأمّا بطلان الوجه الخامس : فلأنّ احتمال الوضع لمرتبة غير معيّنة احتمال سخيف لا ينبغي الالتفات إليها ، مع أنّ الوضع لها يوجب كون الألفاظ بأسرها مجازات بلا حقيقة واللازم باطل ، مضافا إلى أنّه لو صحّ ذلك لزم كون ألفاظ العموم مفيدة للعموم البدلي بين مراتب الخصوص وهذا أيضا باطل بضرورة من العرف واللغة.

وأمّا بطلان الوجه السادس : فلأنّه مع سخافته أيضا يستلزم المجاز بلا حقيقة ، لعدم وقوع استعمال شيء من ألفاظ العموم في مجموع مراتب الخصوص من حيث المجموع قطّ ، مع أنّ الالتزام بوضعها لمجموع المراتب ليس بأولى من الالتزام بوضعها للعموم المندرج فيه المراتب.

(١) * هذا ـ مضافا إلى ما سيأتي من الحجّة التفصيليّة عند البحث عن كلّ صيغة صيغة من صيغ العموم ممّا اتّفق على كونه للعموم عند أهل القول بوضعها له وممّا اختلف فيه ـ حجّة

__________________

(١) وفي المصدر : « للعموم » وهو سهو من قلمه الشريف ولذا صحّحناه بما في المتن.

٧١٤

يحتجّ بها إجمالا في نبذة من الألفاظ إثباتا للإيجاب الجزئي الرافع للسلب الكلّي الّذي يدّعيه الخصم وهو التبادر الّذي أشار إليه المصنّف ، ويقرّر من وجوه :

أحدها : أنّه لو قال السيّد لعبده : « لا تضرب أحدا » فضرب العبد واحدا ، عدّ عاصيا عند أهل العرف ويستحقّ الذمّ والعقاب في نظر العقل ، فلو لا أنّه فهم العموم من خطاب السيّد لم يكن كذلك.

وثانيها : أنّه لو قال : « اشتريت كلّ عبد » أو « أعتقت كلّ العبد » أو « ضربت رجلا » وأنت أردت تكذيبه. قلت : « ما اشتريت العبد الفلاني » أو « ما اعتقت ثلث العبد » أو « ما ضربت أحدا » فلو لا أنّ الأوّلين يفيد الإيجاب الكلّي الّذي يناقضه السلب الجزئي لم يحصل الغرض ، كما أنّه لو لا نفي النكرة في الثالث يفيد السلب الكلّي الّذي يناقضه الإيجاب الجزئي لم يحصل الغرض والتالي باطل بضرورة من العرف واللغة قاضية بحصول الغرض الّذي هو التكذيب بما ذكر عرفا ولغة.

وثالثها : أنّه لو قال : « جاءني القوم كلّهم » أو « ما ضربت أحدا » ثمّ عقّبه بقوله : « ما جاءني زيد » وهو من القوم ، أو « ضربت زيدا » فهم منه المناقضة ، ولذا لو وقع نحو ذلك في كلام حكيم بادر الذهن بتأويله بحمله على البداء أو المجاز ، ومنه فهم المعارضة عرفا بين « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا العالم » ظاهرا ، وفهم التناقض من الكلام الاستثنائي معروف بحيث صار من الإشكالات المشهورة حتّى أنّه عنون له في الاصول باب على حدة وتصدّى لحلّه أهل الحلّ والعقد فذكروا فيه وجوها يأتي ذكرها في محلّه.

ورابعها : أنّهم اتّفقوا على لزوم الحنث فيمن حلف أن لا يضرب أحدا ثمّ ضرب واحدا ، فلو لم تكن عبارة الحالف مفيدة للسلب الكلّي لم يلزم الحنث بضرب واحد ، لأنّ الحنث عبارة عن مخالفة الحلف وصدقها عرفا مبنيّة على انفهام السلب الكلّي من قوله : « والله لا أضرب أحدا ».

وقد يقرّر التبادر بفهم العموم من قوله : « من دخل داري فله درهم » و « متى جاء زيد فأكرمه » وهذا وإن كان في محلّه غير أنّه لا ينهض لإلزام الخصم ، لإمكان أن يتعلّق في منع كون اللفظ للعموم بأنّ فهمه من مقتضيات السببيّة المستفادة من الشرطيّة بضابطة أنّ السبب حيث يتحقّق لا ينفكّ عنه المسبّب ، ولذا لو قال : « إن جاءك زيد فأكرمه » كان مفاده بالدلالة الالتزاميّة ثبوت الجزاء في جميع أزمنة وجود الشرط ، بل في جميع أمكنة وجوده أيضا مع

٧١٥

عدم اشتماله على شيء من ألفاظ العموم.

وبذلك يتّضح أنّ الاستدلال بأنّ العلماء لا يزالون يستدلّون بمثل قوله تعالى : ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما )(١) و ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا )(٢) على كون المفرد المعرّف بلام الجنس مفيدا للعموم ـ كما في كلام الحاجبي والعضدي وغيرهما ـ غير ناهض على مطلوبهم ، لاستناد فهم العموم من الآيتين إلى الشرطيّة المفيدة للسببيّة.

وأمّا المناقشة في سائر تقارير التبادر بإمكان كون فهم العموم من الأمثلة المذكورة من جهة القرينة لا من حاقّ اللفظ ، فيدفعها : فرض الاحتجاج بها في موارد القطع بانتفاء القرائن حاليّة ومقاليّة ، فإنكار التبادر وفهم العموم فيها مكابرة.

وقد يستدلّ أيضا بقصّة إبن الزبعرى (٣) في اعتراضه على قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ )(٤) حيث إنّه لما سمعه قال : لأخصمنّ محمّدا ، ثمّ جاء وقال : يا محمّد أليس عبد موسى وعيسى والملائكة؟ فأجاب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « ما أجهلك بلسان قومك أما علمت أنّ « ما » لما لا يعقل ».

وفي رواية اخرى : أجاب بأنّ المراد عبادة الشياطين الّتي أمرتهم بعبادة هؤلاء ، فنزل قوله تعالى : ( الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ )(٥) وهذا على تقدير صحّة السند أو القطع به في محلّه ، ومرجعه أيضا إلى الاستدلال بالتبادر غير أنّه تبادر في العرف القديم وما تقدّم تبادر في العرف الحاضر ، ومن فوائد تطابق العرفين في التبادر قوّة الأصل الّذي يشير إليه المصنّف فيما بعد ذلك لدفع احتمال تطرّق النقل إلى الألفاظ المذكورة إثباتا لاتّحاد العرف واللغة فيها ، وتقريب الاستدلال بما ذكر : أنّ ابن الزبعرى كان من أهل اللسان وقد فهم من لفظة « ما » في قوله تعالى : ( وَما تَعْبُدُونَ )(٦) أمرين :

أحدهما : أنّ ما يشمل العاقل وغيره.

وثانيهما : أنّ الحكم بواسطتها يشمل جميع مصاديق كلّ من العاقل وغيره الّتي منها موسى وعيسى عليهما‌السلام والملائكة ، فانقدح في نفسه الاعتراض لما علمه من أنّ الأنبياء والملائكة لا يدخلون النار.

ثمّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بناء على الرواية الاولى خطّأه في فهمه الأوّل بقوله : « ما أجهلك

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) النور : ٢.

(٣) الصراط المستقيم ١ : ٤٧.

(٤) الأنبياء : ٩٨.

(٥) الأنبياء : ١٠١. (٦) الأنبياء : ٩٨.

٧١٦

لأصالة عدم النقل ، كما مرّ مرارا. فالنكرة في سياق النفي للعموم لا غير ، حقيقة ، وهو المطلوب.

وأيضا ، لو كان نحو : « كلّ » و « جميع » من الألفاظ المدّعى عمومها ، مشتركة بين العموم والخصوص ، لكان قول القائل : « رأيت الناس كلّهم أجمعين » مؤكّدا للاشتباه* (١) ، وذلك باطل بيان الملازمة : أنّ « كلاّ » و « أجمعين » مشتركة عند القائل باشتراك الصيغ ، واللّفظ الدالّ على شيء يتأكّد بتكريره ؛ فيلزم أن يكون الالتباس متأكّدا عند التكرير.

_______________________________

بلسان قومك » وصوّبه في فهمه الثاني حيث قرّره ولم ينكره عليه بمثل ما أنكر فهمه الأوّل ، وبناء على الرواية الثانية صوّبه في كلا الفهمين حيث قرّره ولم ينكر هما عليه ، بدليل الجواب بالتخصيص لعدم إرادة العموم على الوجه الثاني ، ثمّ نزلت لتصديقه الآية الثانية ولئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وظهر ممّا بيّنّاه أنّ الاستدلال بالقصّة المذكورة من وجهين :

أحدهما : فهم أهل اللسان وهو حجّة ، والآخر : تقرير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي هو أيضا من أهل اللسان فيكون حجّة اخرى.

ويندفع بما قرّرناه ما أورد الآمدي في الإحكام على الاستدلال بها بقوله : « وأمّا قصّة ابن الزبعرى فلا حجّة فيها أيضا ، لأنّ سؤاله وقع فاسدا حيث ظنّ أنّ « ما » (١) عامّة فيمن يعقل وليس كذلك ، ولهذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منكرا عليه : ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أنّ « ما » لما لا يعقل ».

(١) * فإنّ المشترك من حكمه عند تجرّده عن قرينة تعيين المراد أن يدلّ على أحد المعنيين على وجه اشتباه المراد ، وهذا الاشتباه قائم في كلّ من المؤكّد والمؤكّد لثبوت الاشتراك فيهما معا على فرض القائل بالاشتراك ، فيكون التأكيد باللفظين تأكيدا للاشتباه ـ أي للمعنى المشتبه ـ غير رافع للاشتباه عنه ، لدلالة كلّ منهما على أحد المعنيين مع اشتباه المراد ، فالمصدر اريد به المشتبه وضعا له موضع اسم الفاعل بقرينة ما ذكره في بيان

__________________

(١) وفي الأصل : « من » بدل « ما » والصواب ما أثبتناه.

٧١٧

وامّا بطلان اللاّزم : فلأنّا نعلم ضرورة أنّ مقاصد أهل اللّغة في ذلك تكثير الإيضاح وإزالة الاشتباه* (١).

احتجّ القائلون بالاشتراك بوجهين.

الاوّل أنّ الألفاظ الّتي يدّعى وضعها للعموم تستعمل فيه تارة وفي

_______________________________

الملازمة بقوله : « بيان الملازمة : أنّ « كلّ » و « أجمعين » مشترك عند القائل باشتراك الصيغ ، واللفظ الدالّ على شيء يتأكّد بتكريره ، فيلزم أن يكون الالتباس متأكّدا عند التكرير » فإنّ الاشتباه ليس مدلولا للفظ لأنّه وصف يعرض المدلول بواسطة الأسباب الخارجيّة الموجبة لإجمال اللفظ الّتي منها الاشتراك حيث تجرّد اللفظ في الاستعمال عن قرينة التعيين ، بل مدلوله المعنى المشتبه وهو الّذي يتأكّد بتكرير اللفظ لا نفس الاشتباه ، فيكون التأكيد بالنسبة إلى نفس الاشتباه إبقاءه على حاله.

فاندفع بما بيّنّاه في توجيه الدليل ما اعترضه بعض المحقّقين من أنّه : « إن أراد أنّه موجب لزيادة الاشتباه فباطل ، إذ تأكيد المشتبه بالمشتبه يؤكّد الموصوف بالاشتباه لا صفة الاشتباه فضلا عن زيادتها ، إذ تأكيد صفة الاشتباه وتقريرها في الذهن غير زيادتها ، وإن أراد أنّه موجب لبقائه فمع أنّه موجب لخلاف ظاهر العبارة يمكن منع بطلان التالي عند الخصم.

والأولى أن يقال بدل قوله : « مؤكّدا » : « غير رافع للاشتباه » ودعوى بطلان التالي بالضرورة » انتهى.

لعدم بقاء محلّ لهذا الترديد بعد حمل الاشتباه على إرادة المشتبه ، كما يندفع أيضا ما اعترضه ثانيا على قوله : « واللفظ الدالّ على شيء » إلى آخره ، « بأنّه خلط عظيم ، إذ فرق عظيم بين الاتّصاف بالشيء والدلالة عليه ، واللفظ هنا متّصف بالإجمال دالّ على معنى متّصف بالاشتباه لا دالّ على الإجمال والاشتباه » انتهى ، فإنّ المراد على ما بيّنّاه كونه دالاّ على المعنى المشتبه لا على نفس الاشتباه.

(١) * يمكن منع البطلان بأنّ كون مقاصد أهل اللغة من التأكيد في المثال المذكور ما ذكر مسلّم ، ولكنّه لا ينافي الاشتراك في المؤكّد والمؤكّد بين العموم والخصوص ، بدعوى أنّ اجتماعهما في مقام التأكيد ينهض قرينة على إرادة العموم ، نظرا إلى ما صرّح به أهل العربيّة من أئمّة اللغة من أنّ التأكيد بهذه الألفاظ تابع يفيد شمول متبوعه لأفراد [ ه ] ويدلّ على إرادة العموم منه رفعا لتوهّم إرادة الخصوص ، فتأمّل.

٧١٨

الخصوص اخرى. بل استعمالها في الخصوص أكثر ، وظاهر استعمال اللفظ في شيئين أنّه حقيقة فيهما* (١). وقد سبق مثله.

الثاني أنّها لو كانت للعموم ، لعلم ذلك إمّا بالعقل ، وهو محال ؛ إذ لا مجال للعقل بمجرّده في الوضع ؛ وإمّا بالنقل ، والآحاد منه لا تفيد اليقين. ولو كان متواترا لاستوى الكلّ فيه** (٢).

والجواب عن الأوّل : أنّ مطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، والعموم هو المتبادر عند الاطلاق. وذلك آية الحقيقة ، فيكون في الخصوص مجازا ، إذ هو خير من الاشتراك حيث لا دليل عليه*** (٣).

وعن الثاني منع الحصر فيما ذكر من الأوجه ؛ فانّ تبادر المعنى من اللّفظ

_______________________________

(١) * وللسيّد في تتميم هذا الدليل وإصلاحه بزعمه كلام طويل نقله بعض الأعاظم ولا يرجع الإطناب بنقله هنا إلى طائل.

(٢) ** ولهم وجه ثالث لم يلتفت إليه المصنّف وهو حسن الاستفهام عن المراد بتلك الألفاظ أهو العموم أو الخصوص؟ وموضوع الاستفهام إذا وقع طلبا للعلم والفهم يقتضي احتمال اللفظ واشتراكه ، بدلالة أنّه لا يحسن دخوله فيما لا احتمال فيه ولا اشتراك ، ولتتميمه أيضا كلام طويل للسيّد حكاه بعض الأعاظم ولا حاجة إلى الإطناب بنقله هنا.

(٣) *** وفيه من سوء التأدية ما لا يخفى ، لأنّ تبادر العموم وعدم تبادر الخصوص في نفسه دليل مستقلّ على المجازيّة في الخصوص ، وكون المجاز خيرا من الاشتراك دليل آخر مرجعه إلى القاعدة المستندة إلى الأصل والغلبة ، ففي تعليل الدليل الأوّل بها خلط بين الدليلين وإدخال لأحدهما في الآخر.

ويمكن جواب آخر بمعارضة الظهور الّذي ادّعاه المستدلّ بظهور خلافه ، نظرا إلى أنّ استعمال اللفظ في معنيين الّذي يغلب في نوعه الحقيقة والمجاز ظاهر باعتبار الغلبة في كونه حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر.

غاية الأمر أنّه لا يعيّن الحقيقة من المجاز ونرجع في التعيين إلى التبادر وغيرهما من الأمارات المميّزة بينهما.

٧١٩

عند إطلاقه دليل على كونه موضوعا له ، وقد بيّنّا أنّ المتبادر هو العموم* (١).

حجّة من ذهب إلى أنّ جميع الصيغ حقيقة في الخصوص : أنّ الخصوص متيقّن ؛ لأنّها إن كانت له فمراد ، وإن كانت للعموم فداخل في المراد ، وعلى التقديرين ، يلزم ثبوته. بخلاف العموم ، فإنّه مشكوك فيه ؛ إذ ربّما يكون للخصوص ؛ فلا يكون العموم مرادا ، ولا داخلا فيه ؛ فجعله حقيقة في الخصوص المتيقّن أولى من جعله للعموم المشكوك فيه** (٢).

_______________________________

(١) * ومرجعه إلى منع الملازمة المفيدة لانحصار المقدّم في قسمي التالي وهو في محلّه ، وحاصله وجود الواسطة بينهما وهي لوازم الوضع ومعلولاته المقرّرة في محالّها المعبّر عنها بأمارات الحقيقة والمجاز الّتي منها التبادر وعدم التبادر أو تبادر الغير.

وممّا يرد على الدليل أنّ بطلان الوضع للعموم لا ينتج الاشتراك لبقاء احتمال الوضع للخصوص ، ولو قيل بإمكان إبطاله أيضا بمثل هذا الدليل ورد عليه أيضا عدم إنتاجه الاشتراك واللازم منهما التوقّف ، مضافا إلى جواب آخر بطريق المعارضة بالمثل فإنّها لو كانت مشتركة لعلم إمّا بالعقل وهو محال إذ لا مجال للعقل بمجرّده في الوضع ، أو بالنقل والآحاد منه لا يفيد اليقين ولو كان متواترا لاستوى الكلّ فيه.

وقد يجاب أيضا بمنع عدم كفاية النقل الآحادي في إثبات الوضع وإن لم يفد اليقين ، ومنع افتضاء التواتر لاستواء الكلّ في حصول العلم من جهته لجواز اختلاف الأشخاص في الشرائط والموانع ، فمن احتوى الشرائط الّتي منها تخلية الذهن عن الشبهات وفقد الموانع الّتي منها سبق الشبهة إلى الذهن ورسوخها فيه حصل له العلم ومن لا فلا ، ولعلّه لاختلال شرط التتبّع في تحصيل التبادر لعدم أدائه حقّه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثالث : فبأنّ حسن الاستفهام لا يتبع الاشتراك بالخصوص بل يكفي فيه مطلق الاحتمال ولو مرجوحا كما في الحقيقة والمجاز بالقياس إلى المجاز احتياطا عن الوقوع في مخالفة المراد ، فحسن الاستفهام إذا كان من توابع الاحتمال الغير المنافي للظهور ولو نوعا كان أعمّ من الاشتراك ، والأعمّ لا يدلّ على الأخصّ.

(٢) ** ومن الأعلام من وجّه الأولويّة : بأنّه لمّا كان الوضع مسلّما للخصم فلابدّ له من مرجّح فالأولى أن يقول : إنّه موضوع للمتيقّن المراد فإنّه أوفق بحكمة الوضع حيث

٧٢٠