تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

حيث كون أحدهما منتهى للآخر ، مع أنّا نجد من أنفسنا في قولنا : « سرت من البصرة إلى الكوفة » أنّا لا نريد منه إلاّ الإخبار عن أنفسنا بالسير المحدود بهذا الحدّ الممتدّ من البصرة إلى الكوفة وهو المنساق منه في متفاهم العرف أيضا ، وإبداء الفرق بين الإخبار والإنشاء ـ مع أنّه لا قائل به مكابرة ـ لا يلتفت إليها بل شبهة في مقابلة البديهة ، كما أنّ دعوى كون المتعلّقات قيودا للمادّة قد يكون بحيث يلاحظ المادّة متعلّقة للوجوب ثمّ يلحق بها التقييد مكابرة يكذبها الوجدان ، لتقدّم لحوق القيد على عروض الحكم وضعا وطبعا ، مع أنّ الغاية المتنازع فيها على ما سبق تحقيقه هي النهاية. والمراد بها ـ على ما هو المصرّح به في كلام النحاة في مسألة أنّ « إلى » لانتهاء الغاية مكانا أو زمانا أو غيرهما نهاية المسافة ، والمسافة إمّا مكان أو زمان أو ما هو بمنزلتهما ، كمحلّ القراءة من الآيات والسور في قولك : « قرأت الكتاب إلى آية كذا أو سورة كذا » وأيّا مّا كان فهو ظرف للحدث المحكوم عليه بحكم إخباري أو إنشائي ، أو كالظرف له وهو مطلق المحلّ فيكون قيدا له لا غير.

ولا ينافيه تعبيرهم في عناوين المسألة على القول بمفهوم الغاية بتقييد الحكم صراحة وظهورا ، لأنّ موضوع الحكم معروض له ، وتقييد المعروض يستلزم تقييد العارض تبعا باعتبار أنّه يعرض موضوعا مقيّدا بالغاية ، فالتقييد يلحق الموضوع أوّلا وبالذات ، ويصحّ إسناده إلى الحكم العارض له ثانيا وبالعرض ، وبالنظر إلى هذا الاعتبار يقال : تقييد الحكم بالغاية ، فتأمّل.

فلا يرد : أنّه لا فائدة في هذا النزاع بعد إرجاع تقييد الموضوع بالأخرة إلى تقييد الحكم وظاهر أنّ تعلّق الحكم ، بموضوع مقيّد بالآخر المعيّن لا ينافي ثبوت مثله لموضوع آخر نحوه من باب تعدّد المكلّف به ، على حسب تكليفين منفصلين ثبت كلّ منهما بخطاب غير خطاب الآخر ، نظير صلاة العصر المأمور بها عقيب صلاة الظهر المأمور بها.

لا يقال : إذا كان مبنى انتفاء الحكم على تقدير جعل الغاية قيدا له على استلزام انتفاء القيد لانتفاء المقيّد ، فهذا الاعتبار يجري بعينه في جانب الموضوع على تقدير جعلها قيدا له ، فلا يبقى فرق بين التقديرين فخرج النزاع بلا فائدة أيضا.

لأنّا نقول : معنى استلزام انتفاء القيد لانتفاء المقيّد على تقدير إرجاعه إلى الموضوع أنّ هذا الموضوع ينتفي فيما بعد الغاية ، ولا ينافي ذلك كون ما بعدها موضوعا آخر لحكم آخر مثل الحكم الأوّل الثابت للموضوع الأوّل.

فإن قلت : لو صحّ ما قرّرته من كون الغاية قيدا للموضوع لرجع المسألة إلى مسألة

٣٨١

وفاقا لأكثر المحقّقين* (١). وخالف في ذلك السيّد رضى الله عنه فقال : « تعليق الحكم بغاية ، إنّما يدلّ على ثبوته إلى تلك الغاية ، وما بعدها يعلم انتفائه أو إثباته بدليل » ** (٢). ووافقة على هذا بعض العامّة.

لنا : أنّ قول القائل : « صوموا إلى الليل » ، معناه : آخر وجوب الصوم مجيئ الليل*** (٣).

___________________________

مفهوم الوصف على معنى مطلق القيد ، فلا داعي إلى إفرادها بعنوان مستقلّ إلاّ ثبوت الامتياز بينهما بكون الغاية ثمّة قيدا للموضوع وهنا قيدا للحكم.

قلت : قد عرفت بناء النزاع في هذه المسألة على النزاع في أمر صغروي ليس بمتّفق عليه ، فلا ضير في تعدّد العنوانين.

ولو سلّم كونه كذلك عند الجميع فالداعي إلى تعدّد العنوان حينئذ هو كون احتمال الانتفاء هنا أقوى منه ثمّة ، حتّى أنّه زعمه الأكثرون ظهورا عرفيّا حتّى قيل : إنّه مفهوم أقوى من مفهوم الشرط ، نظرا إلى أنّ تراكيب الكلام تختلف في نظر العرف من حيث الدلالة والظهور وعدمهما ، وكلّ تركيب له خصوصيّة لا توجد في غيره ، وكون مبنى بعض التراكيب على انتفاء الحكم بانتفاء قيد الموضوع لا يستلزم كون مبنى غيره أيضا على ذلك.

(١) * وفي المنية : ذهب إليه جماعة من الفقهاء والمتكلّمين كالقاضيين وأبي الحسين البصري ، واختاره فخر الدين والمصنّف ، وقد يعزى إلى الغزالي أيضا وقد ينسب إلى الأكثرين.

(٢) ** وعزاه في المنية إلى أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء ، وقد يضاف إليهم أبو حنيفة والآمدي ، واختاره من متأخّري أصحابنا الفاضل التوني والسيّد في شرحه للوافية ، وقد يحكى عن الشيخ أيضا.

(٣) *** وتبعه في هذا التقرير جماعة منهم بعض الأعلام وبعض الأعاظم ، وهو ظاهر البهائي أيضا ، وكأنّه اريد من مجيء الليل دخوله بحيث يكون الآخريّة قائمة بالجزء الأوّل من الليل.

ويرد عليه أوّلا : ابتناؤه على جعل الغاية قيدا للحكم ، وقد عرفت أنّه خلاف التحقيق.

وثانيا : استحالة كون الجزء من الليل آخر وجوب الصوم ، لأنّ آخر الشيء كأوّله جزءان منه فيجب أن يكون من جنس ذلك الشيء ، والبينونة بين الوجوب والليل واضحة

٣٨٢

لا حاجة إلى بيانها.

ولو وجّه : بوقوع هذا التعبير مسامحة ، وإلاّ فالمراد عند التحقيق بيان كون آخر وجوب الصوم الجزء المتّصل منه بالليل بحيث لم يلحقه جزء آخر.

ورد عليه : أنّ الوجوب إن اريد به الإيجاب الّذي هو من فعل المتكلّم فهو غير قارّ بالذات فلا إمتداد له حتّى يفرض له أوّل وآخر ، وإن اريد به الأثر الحاصل منه القائم بالفعل فهو عرض من مقولة الكيف فلا يقبل لذاته قسمة ولا نسبة ، بل القابل للقسمة محلّه الّذي هو الصوم أو زمان وقوعه ، إذ الامتداد المعتبر في انقسام الشيء إلى أوّل وآخر ووسط يطرأ أحدهما لا غير ، فانقسام الوجوب حينئذ تكون بالعرض والمجاز ، وكلمة « إلى » أو « حتّى » ظاهرة في الآخريّة اللاحقة للشيء على سبيل الحقيقة فلا يكون محلّها إلاّ أحد الأمرين.

وإن وجّه أيضا : بأنّ المراد من آخر وجوب الصوم آخر الصوم الواجب الّذي يفرض له أوّل وآخر وما بينهما.

توجّه إليه أيضا أوّلا : عدم كون الليل من جنس الصوم فلا يكون جزء أخير منه.

وثانيا : أنّ مرجع الدليل على هذا التقرير حينئذ إلى ما قرّره السيّد في المفاتيح ـ كما في تهذيب العلاّمة ومنية السيّد ـ من أنّ معنى « صوموا إلى الليل » بحكم التبادر صوما يكون آخره الليل ، فلو وجب بعدها لم يكن الليل آخرا بل وسطا.

ويرد عليه حينئذ : ما أشرنا إليه سابقا من أنّ تعلّق الوجوب بصوم آخره الليل لا ينافي وجوب ما بعده بتكليف آخر من باب تعدّد المكلّف به على حسب تعدّد التكليف ، ولا يوجب ذلك خروج آخر الأوّل عن كونه آخرا إلى كونه وسطا ، كما لا يوجب وجوب صلاة العصر عقيب الظهر خروج آخر الظهر عن كونه آخرا إلى كونه وسطا ، وهذا واضح.

واعترض المدقّق الشيرواني على تقرير المصنّف : بأنّه على ما ذكره المصنّف يلزم أن يكون المفهوم من جملة المنطوق ، لأنّه إن أراد بآخر وجوب الصوم ما ينتهي إليه وينقطع عنده فقد صار المفهوم منطوقا ، وإن أراد ما ينتهي إليه سواء انقطع عنده أو لم ينقطع فلا يلزم خلاف المنطوق.

وفيه : ـ بعد الإغماض عن كون إطلاق آخر وجوب الصوم على الليل أو مجيئه مسامحة ، نظرا إلى أنّ آخر وجوبه الجزء المتّصل منه بالليل وهو جز ، أخير من المنطوق ـ بطلان الترديد بكلا شقّيه ، لأنّ كون الشيء آخر شيء آخر معناه كونه الجزء الأخير منه

٣٨٣

فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه ، لم يكن الليل آخرا ، وهو خلاف المنطوق* (١).

___________________________

الّذي لم يلحقه جزء آخر ، وكونه جزءا أخيرا منه بهذا المعنى يستلزم انتفاؤه فيما بعده ، فكون آخر وجوب الصوم مجيء الليل يستلزم انتفاؤه بعد مجيئه.

ودليل الملازمة : ما أشار إليه المصنّف من أنّه لو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيء الليل لم يكن الليل آخر ـ ولو على معنى أنّه لم يكن ما اتّصل بالليل آخرا ـ وهو خلاف المنطوق من حيث ابتنائه على كون ذلك آخرا ، فلا يلزم صيرورة المفهوم منطوقا ، لأنّه إنّما يلزم ذلك على تقدير جعل الآخريّة المدلول عليها بكلمة « إلى » مفهوما.

وقد عرفت أنّه ليس بمراد ، بل المراد جعل المفهوم ما يستلزمه تلك الآخريّة وقوله : « فلو فرض » إلى آخره ، دليل على الملازمة لا أنّه دليل على الملزوم.

ودفعه السيّد في شرحه للوافية : « بأنّه يمكن أن يقال : إنّه لم يرد بالآخر المنتهى مع ملاحظة أنّ نفسه أو ما بعده حكمه خلاف حكم ما قبله ، فلا يلزم المحذور الأوّل ، ولا المنتهى مع ملاحظة كونه أو كون ما بعده أعمّ من أن يكون موافقا أو مخالفا ، بل أراد المنتهى لا بشرط شيء آخر من تخصيص أو تعميم ، ويدّعى أنّ كون الشيء منتهى يستلزم بنفسه كونه أو كون ما بعده محكوما عليه بحكم مخالف لما قبله ، وبيّنه على ذلك أنّه لو ارتفع ذلك اللازم لارتفع الملزوم الّذي هو المنطوق.

ويفصح عن مراده ما قاله في جواب السيّد : « أنّ اللزوم هاهنا ظاهر ، إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل مثلا عن عدمه في الليل » انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه : أنّ ذلك توجيه بما لا يرضى به المصنّف ، لأنّ لا بشرط شيء من التخصيص والتعميم لا ينافيه شيء من التخصيص والتعميم وإن لم يكونا ملحوظين معه بالخصوص ، فيكون أعمّ والعامّ لا يعقل فيه دلالة على الخاصّ ، فيكون محصّله إلى إنكار الدلالة ، ومعه كيف يدّعى أنّ كون الشيء منتهي بهذا المعنى يستلزم بنفسه كونه أو كون ما بعده محكوما عليه بحكم مخالف لما قبله ، على أنّ كون شيء منتهى لشيء لا ينافيه ثبوت ذلك الشيء فيما بعده ، كما لا يخفى على المتأمّل.

(١) * وعن المدقّق الاعتراض عليه أيضا : بأنّ فيه نظرا ظاهرا ، فإنّه لو كان خلاف المنطوق لكان الكلام مع التصريح بعدم إرادة المفهوم مجازا ولم يقل به أحد.

وفيه : منع الملازمة لعدم انحصار مخالف الظاهر في المجاز ، وكما أنّ إيراد ما ظاهره

٣٨٤

الإطلاق مع إرادة التقييد ارتكاب لخلاف الظاهر ، فكذلك إيراد ما ظاهره التقييد مع إرادة الإطلاق مصير إلى خلاف الظاهر ، والكلام المشتمل على أداة الغاية ظاهره التقييد وهو منطوق الكلام ، وفرض عدم الانتفاء عمّا بعد الغاية مفض إلى إرادة الإطلاق وهو خلاف المنطوق الّذي هو المقيّد ، فيكون التصريح بعدم إرادة المفهوم تنبيها على رفع اليد عن هذا الظاهر الّذي هو المقيّد ، وهو لا يوجب المجاز بل يوجب كون المراد المطلق في موضع المقيّد.

ومن الأعاظم من احتجّ ـ مضافا إلى التبادر وما سبق في كلام المصنّف ـ بقبح الاستفهام فيما لو قال لعبده : « لا تعط زيدا حتّى تقوم ».

وفيه : منع واضح ، فإنّ الاستفهام إنّما يصحّ في موضع الاحتمال ولو مرجوحا ، ولا ريب أنّ قول القائل : « سر من البصرة إلى الكوفة » موضع احتمال أن يريد منه مثل ما يراد في « سرت من البصرة إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الحلّة ، ومن الحلّة إلى بغداد » وهكذا فيصحّ الاستفهام عن حقيقة الحال لرفع هذا الاحتمال ، وهكذا يقال في مثل « لا تعط زيدا حتّى يقوم »

ومن الفضلاء من احتجّ فيما وافق القائلين بإثبات الدلالة : « بأنّ المفهوم من قول القائل : « صم إلى الليل » انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية من أوّل الليل أو آخره ، إذ لو فرض بقاؤه بعدها لم يكن ما فرض غاية غاية ، إذ غاية الشيء ما ينتهي عنده الشيء وهو خلاف ظاهر المنطوق.

وتحقيق ذلك : أنّ توابع الفعل من متعلّقاته هي قيود لمدلول مادّته ، فمعنى « صم إلى الليل » طلب إمساك مقيّد بكون نهايته الليل ، فلو أنّ المطلوب إنّما هو إمساك ما زاد عليه لم يكن الإمساك إلى الليل مطلوبا لنفسه ، وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فلا بدّ حينئذ إمّا من حمل الأمر على الطلب الغيري وهو عندنا وإن كان حقيقة إلاّ أنّه خلاف الظاهر من الإطلاق ، أو حمل الليل على الجزء المتأخّر عنه ، أو معنى آخر حيث يصحّ ، أو ارتكاب التجوّز في « إلى » بحملها على معنى بلوغ الفعل المطلوب إلى الليل سواء انقطع عنده أو لا.

وكيف كان فهو يستدعي مخالفة أصل من تقدير أو تجوّز أو خروج عن الظاهر ، فقول القائل : « سر إلى البصرة ومنها إلى الكوفة ومنها إلى مكّة » إن جعل كلّ سير تكليفا برأسه فلا إشكال ، وإلاّ تعيّن فيه أحد الوجوه المذكورة » إلى آخره (١).

وأصل هذا الاحتجاج مستقيم ولكن على تقدير كون المراد بالحكم المتنازع في

__________________

(١) الفصول : ١٥٤.

٣٨٥

انتفائه عمّا بعد الغاية وعدمه الحكم المذكور ، على معنى الحكم المقصود من هذا الخطاب كما هو مفروض هذا الفاضل ، فإنّ ظاهر التقييد انتفاؤه جزما ، ولكنّه لا يفيد انتفاء نوع الحكم ولو ما ثبت منه بخطاب آخر كما لا يخفى.

واعترف به الفاضل في احتجاجه على ما وافق فيه أصحاب القول بنفي الدلالة وهو واضح ، غير أنّ الإشكال في كون مراد القوم من [ الحكم ] المتنازع فيه هو هذا المعنى لا نوع الحكم القابل لكونه مقصودا من هذا الخطاب وغيره ، بل النزاع المثمر إنّما هو النزاع في نوع الحكم كما يظهر من ثمراتهم المذكورة في المقام.

ثمّ إنّ أوّل ما ذكره ذلك الفاضل من الوجوه المستطرفة في إخراج الكلام إلى خلاف الأصل من حمل الأمر على الطلب الغيري ممّا لا مجال إليه في المقام ، إذ لا يرجع ذلك إلى معنى محصّل إلاّ كونه أمرا بجزء المطلوب ، نظرا إلى أنّ الأمر الأصلي بأجزاء المأمور به النفسي غيريّ ، إذ كون ذلك الأمر أمرا بالجزء مع فرض كون المطلوب بذلك الخطاب إمساك ما يعمّ الغاية وما بعدها ممّا لا يتحمّله العبارة ، بل هو عند التحقيق ممّا ينافيه فرض كون الطلب المقصود منه طلبا لمطلق الإمساك ، فإنّ ذلك فرض لكون الأمر أمرا بتمام المأمور به ومعه كيف يصحّ حمله على طلب الجزء.

نعم إنّما يتّجه ذلك لو كان النظر في نوع الحكم كما هو الظاهر لا في خصوص المقصود بذلك الخطاب ، وكأنّه إلتبس عليه الأمر حين ما التفت إلى ذلك الاحتمال فأخذ به غفلة عن منافاته لما هو مفروض كلامه.

وأمّا الوجه الآخر وهو احتمال كون المراد بالليل الجزء المتأخّر منه وإن لم يناف الفرض غير أنّه لا داعي إليه ، لقوّة احتمال كون المراد به المجموع من أجزائه ، بناء على دخول الغاية في المغيّا وإن كان خلاف ما يظهر منه في هذا التركيب في نظر العرف ، من جهة ظهوره في مجيء الليل لا فيه بجميع أجزائه ، ولا تجوّز فيه على هذا الحمل لكونه باعتبار وضعه الإفرادي ـ كالنهار ـ إسما لقطعة من الزمان لا للمقدار المعيّن ، فلذا يكون قابلا للزيادة والنقصان بحسب الساعات المقدّرة ويصدق مع الزائد والناقص صدقا حقيقيّا ، والظاهر كونهما « كالقرآن » للأعمّ من المجموع وكلّ جزء ، لا « كاليوم » في عدم صدقه إلاّ على المجموع ، فلذا لا يصحّ سلبهما عن كلّ جزء وعن المجموع بخلاف اليوم.

ويظهر فائدة الفرق بينه وبينهما في الإجارات والنذور وغيرها من التعليقيّات.

٣٨٦

واحتجّ السيّد رضى الله عنه بنحو ما سبق في الاحتجاج على نفي دلالة التخصيص بالوصف* (١) ، حتّى أنّه قال : « من فرّق بين تعليق الحكم بصفة وتعليقه بغاية ، ليس معه إلاّ الدعوى. وهو كالمناقض ؛ لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما ؛ فان قال : فأيّ معنى لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم؟ قلنا : وأيّ معنى لقوله عليه السلام : « في سائمة الغنم زكاة » والمعلوفة مثلها. فان قيل : لا يمتنع أن تكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النصّ ، ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر. قلنا : لا يمتنع فيما علّق بغاية ، حرفا بحرف ».

___________________________

نعم في مثل : « إغسلوا أيديكم إلى المرافق » لو أردنا حمل « المرافق » على ما يعمّها وما بعدها يكون مجازا ، والوجه واضح.

(١) * وأجود تقارير ذلك ما في منية السيّد من : « أنّ تقييد الحكم بالغاية لو دلّ على نفي الحكم فيما بعد الغاية لدلّ إمّا بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام ، والتالي بأقسامه باطل فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة : فبيّنة ، لانحصار الدلالة اللفظيّة في الأقسام الثلاثة.

وأمّا بطلان الأوّلين من أقسام التالي : فظاهر ، إذ انتفاء الحكم فيما بعد الغاية ليس موضوع اللفظ ولا جزءه.

وأمّا بطلان الثالث : فلاشتراط الدلالة الالتزاميّة بلزوم المعنى الالتزامي لموضوع اللفظ ذهنا وهو مفقود هاهنا ، فإنّ تصوّر وجوب الصيام إلى الليل قد ينفكّ عن عدم وجوبه في الليل لإمكان شمول لها ، فإنّه لا مانع من ورود خطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق ».

واجيب عنه : بمنع عدم اللزوم بل اللزوم ظاهر بالتبادر ، وبأنّه لولا المخالفة لما كان الغاية غاية بل وسطا.

وأورد عليه : بأنّا لا ننكر أنّ « إلى » و « حتّى » لانتهاء الغاية وأنّها جارية مجرى « صوموا صياما آخره الليل » غير أنّ الخلاف إنّما هو في أنّ تقييد الحكم بالغاية هل يدلّ على نفي الحكم فيما بعد الغاية وذلك غير لازم من التقييد بها ، على أنّ ما بعدها غير

٣٨٧

متعرّض فيه بالخطاب الأوّل لا بنفي ولا بإثبات ، ولا يلزم من وجوب صوم بعد الغاية أن تصير الغاية وسطا ، بل هي غاية للصوم المأمور به أوّلا ، وإنّما يصير وسطا أن لو كان الحكم فيما بعد الغاية مستندا إلى الخطاب الّذي قبل الغاية وليس كذلك.

وأجاب عنه بعض الأعاظم : « بالخروج من المتنازع فيه في وجه ، ولزوم النسخ قبل حضور وقت العمل في آخر.

أمّا الأوّل : فلأنّ المطلوب من الأمرين إن كان فعلا واحدا لا يتمّ ما ذكره من كون الغاية غاية للصوم المأمور به أوّلا ، فإنّ المأمور به في الخطابين واحد فرضا وهو ظاهر ، وإن كان فعلين لا ينافي حجّيّة المفهوم ، فإنّ اعتبار المفهوم يقتضي نفي وجوب ما ثبت من منطوقه لا نفي واجب آخر لمصلحة اخرى مغايرة له ، فإنّه لو قال : « إضرب زيدا حتّى يتوب من الزنا » لا ينافي وجوب الضرب بعد التوبة منه لأجل حكمة ومصلحة اخرى ، بل ينفي المفهوم الوجوب الثابت بذلك الأمر ، فلا ينافي إيجاب الإمساك في الليل لمصلحة اخرى بأمر آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان المتعلّق في الأمرين واحدا وأراد تحديد أوّلهما بغاية حقيقة ويكون الغاية في الآخر غيرها يكون نسخا قبل حضور وقت العمل وهو خلاف الفرض مع كونه باطلا كما يأتي » انتهى (١).

والمتأمّل في كلام المورد يقطع بعدم جريان احتمال كون المطلوب بالأمرين ومتعلّقهما فعلا واحدا في عبارة الإيراد ، بل هي كالصريحة في جعله فعلين ، فيسقط عنه كلّ من الخروج عن المتنازع ولزوم النسخ قبل حضور وقت العمل.

وكيف كان فقد حكى (٢) الاحتجاج على النفي أيضا بالاستعمال فيهما معا فيكون للقدر المشترك ، لكون المجاز والاشتراك خلاف الأصل ، وبأنّه لو دلّ فإمّا أن يدلّ بصريح اللفظ ، أو بأنّه لو لم يكن دالاّ لما كان للتقييد فائدة ، أو من جهة اخرى.

والأوّل : ظاهر البطلان.

وأمّا الثاني : فإنّما يلزم لو لم يكن للتقييد فائدة اخرى ، وليس كذلك لاحتمال أن يكون الفائدة تعريف بقاء ما كان بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب ، بمعنى أنّه غير متعرّض فيه لإثبات أو نفي.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٤٢.

(٢) الحاكي هو صاحب إشارات الاصول : ٢٤٢.

٣٨٨

وأمّا الثالث : فالأصل عدمه.

وبأنّه لا مانع من ورود الخطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق قبل الغاية بالإجماع ، وعند ذلك إمّا أن يكون تقييد الحكم بالغاية نافيا للحكم فيما بعدها أو لا؟

والأوّل يلزم منه إثبات الحكم مع تحقّق ما ينفيه وهو خلاف الأصل ، وإن كان الثاني فهو المطلوب.

وأجاب بعض الأعاظم عن الأوّل : بأنّ خلاف الأصل ربّما يثبت بالدليل كما هنا.

وعن الثاني : باختيار الشقّ الثالث ، فإنّه يدلّ بالالتزام على النفي فيما بعد الغاية.

وعن الثالث : باختيار الشقّ الأوّل والتزام أن يثبت الحكم بالظاهر مع تحقّق ما ينفيه من الأصل ، وظاهر أنّه لا إشكال فيه بل هو المتّبع في كلّ مقام » (١).

وبالتأمّل في جميع ما ذكر من الاحتجاجات والأجوبة عنها مع النقوض والإيرادات يظهر أنّ النزاع بين الفريقين لفظيّ ، لكون كلّ مدّعيا لما لا ينكره الآخر ، فإنّ نظر من ينفي الدلالة على النفي إنّما هو إلى نوع الحكم ولو ما ثبت منه بخطاب آخر ، كما يظهر ذلك من تقرير الاحتجاج الأوّل المتقدّم في عبارة المنية ومن الإيراد المتقدّم على الجواب عن ذلك الاحتجاج.

ويفصح عن ذلك أيضا ما عن الشيخ والسيّد من : « أنّ من فرّق بين تعليق الحكم بصفة وبين تعليقه بغاية ليس معه إلاّ الدعوى ، وهو كالمناقض لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما ».

وأصرح منه في الدلالة على ذلك ما عن السيّد في محكيّ المصنّف (٢) من أنّه قال : فأيّ معنى لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٣) إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم؟

قلنا : وأيّ معنى لقوله عليه‌السلام : « في سائمة الغنم الزكاة والمعلوفة مثلها ».

فإن قيل : لا يمتنع أن يكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النصّ ويعلم ثبوتها بدليل آخر.

قلنا : لا يمتنع فيما علّق بغاية حرفا بحرف ».

كما أنّ نظر من يثبتها إنّما هو إلى خصوص الحكم المذكور ، على معنى ما هو مقصود من منطوق الخطاب ، كما ظهر ذلك عن بعض الأعاظم في دفع الإيراد على الجواب المتقدّم

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٤٣.

(٢) المعالم : ٢٣٨.

(٣) البقرة : ١٨٧.

٣٨٩

عن الاحتجاج الأوّل المتقدّم عن المنية.

وأصرح منه ما ذكره في السابع من التنبيهات ـ الّتي تعرّض لذكرها بعد الفراغ عن المسألة ـ : « من أنّ الحكم المتنازع في رفعه بالغاية أو عدم دلالتها عليه ما ثبت بالمنطوق لا مطلقا لعدم الدلالة فيه أصلا ، ولذا يجوز أن يكون الحكم فيما بعدها كالحكم فيما قبلها بالنظر إلى خطاب آخر ، كما في المحرم فإنّ تحريم وطء امرأته عليه بعد الطهر ثابت ما دام محرما ، لكن لا بالنسبة إلى الخطاب الموجب لتحريم الوطء في الحيض ، بل من آخر وهو الدليل على تحريم الوقاع على المحرم » (١).

ويظهر ذلك أيضا عن بعض الأعلام في توجيه مثل قول القائل « سر إلى البصرة ومنها إلى الكوفة ومنها إلى بغداد » من أنّ أمثال ذلك يقال في العرف لتحديد المنازل أو لإعلام المعالم فيتحدّد المسافة من كلّ علم ومنزل ، فلكلّ مسافة مبدأ ونهاية يلاحظان بالنسبة إليه ويعتبر بخصوصها ، فلا يرد تجوّز ولا يحصل منه نقض على القاعدة.

ومحصّل مراده : أنّ لكلّ واحد من الغايات المترتّبة مفهوما ، فإنّ كلاّ يدلّ على نفي حكمها المنطوقي عمّا بعدها ، ولا ينافيه ثبوت مثل ذلك فيما بعدها إلى غاية اخرى لأنّ ذلك حكم آخر ثبت بخطاب آخر ، نظرا إلى أنّ المثال المذكور ينحلّ إلى خطابات عديدة لكلّ واحد منها منطوق ومفهوم غير منطوق ومفهوم الآخر ، فلا يكون واردا على خلاف ما ادّعيناه من دلالة التقييد بالغاية على نفي الحكم عمّا بعدها فلا يكون موردا للنقض.

وأنت خبير بأنّ ذلك لا تستقيم إلاّ إذا كان مراده بالحكم الّذي ينفيه التقييد بالغاية عمّا بعدها خصوص الحكم المقصود من العبارة المتضمّنة لتلك الغاية لا مطلقا ، وإلاّ فلو كان نظره إلى نوع الحكم فلا إشكال في منافاة المثال لما ادّعاه.

ويمكن لفظيّة النزاع بين الفريقين من وجه آخر ، وهو : كون نظر النفاة إلى جعل الغاية قيدا للموضوع فيكون التقييد بها كالتقييد بالصفة ، وكون نظر المثبتين إلى جعلها قيدا للحكم إمّا لنوعه فيدلّ التقييد بها حينئذ على انتفائه مطلقا ، أو لخصوص ما قصد بالخطاب فيدلّ التقييد بها على عدم تناول ذلك لما بعدها ، وإن فرض ثبوت حكم آخر مثله فيه بغير ذلك الخطاب ، ولكنّ الأظهر هو الوجه الأوّل على ما يستفاد من العبارات المتقدّمة حسبما عرفت.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٤٣.

٣٩٠

والجواب : المنع من مساواته للتعليق بالصفة ؛ فإنّ اللزوم هنا ظاهر ؛ إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل ، مثلا ، عن عدمه في الليل ، بخلافه هناك ، كما علمت* (١). ومبالغة السيّد ـ رحمه الله ـ في التسوية بينهما لا وجه لها.

والتحقيق ما ذكره بعض الأفاضل ، من أنّه أقوى دلالة من التعليق بالشرط. ولهذا قال بدلالته كلّ من قال بدلالة الشرط وكلّ من لم يقل بها** (٢).

___________________________

(١) * وفيه : أنّه إن أراد أنّه لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد عن عدم مطلق الصوم في الليل ولو ما ثبت وجوبه بغير ذلك الخطاب ، فهو في حيّز المنع كيف وهو مبنيّ على جعل الغاية قيدا للحكم مع كون المراد بالحكم نوعه لا خصوص ما قصد منه بالخطاب ، وقد تقدّم منعه بما لا مزيد عليه.

وإن أراد عدم انفكاك تصوّره عن عدم الصوم في الليل على فرض ثبوت وجوبه بذلك الخطاب ، فهو مسلّم غير أنّه لا يصلح جوابا عن مقالة السيّد ، لما عرفت من أنّ نظره إلى مطلق الحكم لا خصوصه.

(٢) ** وهذا الكلام وإن تكرّر وروده في كلام جماعة غير أنّه منظور فيه ، فإنّ الحكم المنفيّ في الشرط على القول بدلالته على النفي إنّما هو نوع الحكم ـ وهو الّذي ينكره النافي للدلالة ـ لا خصوص ما ثبت في محلّ النطق ، فإنّ انتفاءه عن غير محلّ النطق ممّا لا ينكره أحد ، بل قد تقدّم أنّ توقّف وجود الجزاء على وجود الشرط ممّا لا ينكره أحد.

وأمّا المقام فإن اريد بالحكم المدّعى دلالة الغاية على نفيه خصوص ما نطق به الكلام وقصد ثبوته في محلّ الغاية فهو ممّا اتّفق الفريقان على انتفائه كما هو كذلك في الشرط أيضا ، فلا فرق بين المقامين من هذه الجهة حتّى يكون أحدهما أقوى من الآخر.

وإن اريد به نوعه فأصل الدلالة بمكان من المنع فضلا عن كونها أقوى ، بل ربّما تكون ـ بناء على ما عرفت من لفظيّة النزاع ـ متّفقا على عدمها.

ومع الغضّ عن ذلك فهي ـ على ما سبق أيضا ـ مبنيّة على رجوع الغاية قيدا للحكم.

وقد عرفت أنّ الأظهر كونها قيدا للموضوع ، والتعليق عليها على هذا غير دالّ على انتفاء نوع الحكم عمّا بعدها ، فلا يعارضه ما لو دلّ على ثبوت مثله فيما بعدها من غير فرق في ذلك بين الإنشاء والإخبار.

٣٩١

وعلى هذا فيسهل الخطب في مثل ما لو قيل : « سر من البصرة إلى الكوفة ، ومنها إلى الحلّة ومنها إلى بغداد » وما لو قيل : « سرت من البصرة إلى الكوفة » إلى آخر المثال ، لأنّ الأوّل يحمل على تكاليف عديدة والثاني على إخبارات عديدة من دون أن يلزم مخالفة ظاهر ولا خلاف أصل من تجوّز أو تقييد ، بخلافه على القول بكونها قيدا لنوع الحكم كما رجّحه بعض مشايخنا.

فإنّه حينئذ يقع التعارض بين الخطابين لا محالة ، فيجب المراجعة حينئذ إلى المرجّحات الداخليّة أوّلا ثمّ الخارجيّة كما هو الشأن في غير المقام من موارد التعارض بين الدليلين.

وقد يرجّح الدليل الثاني هنا بجعل الغاية في الأوّل قيدا للموضوع ارتكابا لخلاف الظاهر فيه دون الثاني تعليلا بأنّه أولى من العكس ، والظاهر أنّها لكون الثاني في متفاهم العرف حاكما على الأوّل من باب حكومة النصّ على الظاهر ، أو حكومة الأظهر على الظاهر.

فعلى المختار وعلى القول الآخر بعد الجمع المذكور لا يحتاج في نحو المثال الأوّل ما دام الحمل على تعدّد التكليف الموجب لتعدّد المكلّف به ممكنا إلى تصرّفات اخر ، من حمل الأمر فيه على الطلب الغيري فيما بين أجزاء المكلّف به اللازم للوجوب النفسي بالقياس إلى نفس المكلّف به ، أو ارتكاب التجوّز في الغاية ، أو كلمة « حتّى » و « إلى » بحملها على معنى « مع » المفيدة للمشاركة ، وإلاّ كما في موضع القرينة على وحدة التكليف والمكلّف به فلا بدّ من الالتزام بأحد الوجوه الثلاث.

وأمّا تعيين بعض هذه الوجوه فيحتاج إلى قرينة اخرى من أقربيّة عرفيّة وغيرها.

وبجميع ما بيّنّاه ينقدح ما في كلام بعض الأعاظم موافقا لما سمعت من المصنّف من قوله : « مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الشرط ، والشرط أقوى من مفهوم الوصف عند من يقول بحجّيّته ، نظرا إلى ندرة استعمال أدواتها في غير ما يفيد المفهوم بخلاف الشرط والوصف.

ولذا قال بحجّيّة الأوّل كلّ من قال بحجّيتهما وبعض من لم يقل بهما ومثل ذلك يأتي بين الشرط والوصف.

ويظهر الثمرة في الجميع في التعارض بتقديم الأقوى على الأضعف » (١) فإنّه ممّا لا يرجع إلى محصّل ، بناء على ما بيّنّاه من أنّ الأكثر إنّما يقولون في الغاية بالدلالة على نفي الحكم المذكور وهذه الدلالة يشاركها فيها الشرط والوصف أيضا ، بل لا قائل فيهما بجواز

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٤٣.

٣٩٢

ثبوت مثل ذلك الحكم في غير محلّ الشرط والوصف ، لما تقرّر من رجوع مقالة المنكرين للدلالة فيهما إلى إنكار الدلالة على نفي نوع الحكم.

وعلى هذا فلا يتحقّق المقابلة على القول بالحجّيّة في الجميع بين مفهومها ومفهومي الشرط والوصف حتّى يتحقّق التعارض فيجدي كونها أقوى دلالة ، فإنّها إنّما تفيد المفهوم في الحكم المذكور فقط على معنى سكوتها عن مطلق الحكم نفيا وإثباتا ، حتّى أنّها في حدّ ذاتها قابلة لأن يلحق ما بعدها مثل حكم ما قبلها أو غيره ، والمفروض أنّ الشرط يفيد المفهوم في نوع الحكم ، فيجوز أن يكون ما نفاه ذلك المفهوم موافقا لما قبل الغاية كما يجوز كونه مخالفا له.

نعم ربّما يحصل التعارض بين منطوقيهما كما لو كان ما نفاه موافقا لما قبلها فلو قال :« يحرم إكرام زيد إلى أن يجيء » وقال أيضا : « إن لم يجئك زيد فلا يحرم إكرامه » فلا يتحقّق تعارض بينهما بحسب المفهوم ، وإنّما يتعارضان منطوقا من حيث قضاء الأوّل بتحريم الاكرام ما دام زيد غير جاء وقضاء الثاني بنفي تحريمه ، وهذا خارج عن مفروض القائل ، مع أنّه لا يتفاوت الحال بين المنطوقين من حيث القوّة والضعف.

وبقي في المقام امور ينبغي التنبيه عليها :

أحدها : أنّ ما قبل البداية كما بعد الغاية في جواز مخالفة الحكم وموافقته وصلاحيّته للبحث في أنّ تعليق الحكم على البداية في مثل : « سرت من البصرة أو « سر من البصرة إلى الكوفة » هل يدلّ على مخالفة ما قبلها لما بعدها في ذلك الحكم أو لا؟ وإن كان المذكور في الكتب الاصوليّة هو ما بعد الغاية واختصاص البحث عنوانا ودليلا به من غير أن يتعرّض لما قبل البداية إلاّ قليل من الأواخر.

فالتحقيق في ذلك أيضا نظير ما سبق في الغاية ، فإن اخذت البداية قيدا للحكم باعتبار نوعه فلا ينبغي الاسترابة في كونها ملزومة للنفي عمّا قبلها وإلاّ لم تكن البداية بداية ، وإن اخذت قيدا للموضوع فلا ينبغي التأمّل في دلالتها على نفي الحكم المذكور دون غيره ، حتّى أنّه يجوز أن يكون ما قبلها محكوما عليه بمثل حكم ما بعدها من باب تعدّد التكاليف ، والتشكيك في ذلك شبهة في مقابلة البديهة غير لائقة للالتفات إليها ، وإنّما العمدة النظر في الموضوع والكلام في ذلك أيضا نظير ما سبق في الغاية ، فإنّ البداية في مقابلة النهاية وهما طرفان لما قيّد بهما وليس ذلك إلاّ الموضوع ، أخذا بشهادة العرف والوجدان

٣٩٣

مع ما يستفاد من كلمات أهل العربيّة في مواضع عديدة.

ثانيها : قد أشرنا في مقدّمات المسألة إلى أنّ انتهاء شيء إلى شيء مقول بالاشتراك على بلوغه إيّاه بحيث لم يتجاوزه إلى غيره وعلى انقطاعه عنده بحيث لم يبلغه ، غير أنّ ذلك إنّما هو إذا اعتبرناه بمعناه الاسمي ، وأمّا لو اعتبرناه بمعناه الحرفي المأخوذ في وضع « إلى » و « حتّى » على حدّ وضع الحروف من خصوص الموضوع له لأمر عامّ.

ففيه الخلاف المتقدّم إليه الإشارة عن النحاة المعبّر عنه بأنّ : الغاية هل تدخل في المغيّا مطلقا أو في الجملة أو لا تدخل كذلك؟

وهذا البحث في الحقيقة راجع إلى دلالة هذه اللفظة على الآخريّة في مدخولها ، على معنى كون محلّ الآخر هو المدخول كما في قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(١) أو على الآخريّة فيما قبل مدخولها كما في قوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٢) فمن قال بدخول الغاية في المغيّا يرجع كلامه إلى دعوى أنّ المأخوذ في وضع هذه اللفظة هو الانتهاء بمعنى البلوغ ويلزمه الدلالة على الآخريّة في مدخولها.

ومن قال بخروجها عنه يرجع كلامه إلى دعوى أنّ المأخوذ في وضعها هو الانتهاء بمعنى الانقطاع ، ويلزمه الدلالة على الآخريّة فيما قبل مدخولها ، والمفصّل بأحد الوجوه الآتية يرجع كلامه إلى دعوى أنّ المأخوذ في وضعها كلّ من المعنيين على وجه الاشتراك أو المعنى العامّ المشترك بينهما على وجه التواطؤ ، والمتوقّف إمّا يتوقّف من حيث عدم تبيّن المراد فيختصّ بمواضع تجرّد اللفظ عن قرينة التعيين كما في قول القائل : « قرأت القرآن إلى آية كذا أو سورة كذا » فيكون من أهل القول بالاشتراك لا مقابلا له ، أو من حيث عدم تبيّن الموضوع له مع البناء على كونها وضعا لأحدهما فيكون مقابلا للقول بالاشتراك.

والمنقول من أقوال المسألة حسبما ضبطه بعض الأعاظم (٣) سبعة :

الأوّل : الدخول مطلقا.

والثاني : عدمه كذلك ونسب إلى الأكثر.

والثالث : الخروج إن كانت الغاية منفصلة عن ذيها بمفصّل محسوس كـ ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٤) وإلاّ فالدخول كآية الوضوء ، كما عن العلاّمة والفخري ، ولكن قيل أنّ الأوّل في مختصريه والثاني في المحصول جعلا ذلك في موضع للتفرقة فيما بعد الغاية لا نفسها

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢ و ٤) البقرة / ١٨٧.

(٣) إشارات الاصول : ٢٤٢.

٣٩٤

وكأنّه لم يكن مرادا.

والرابع : التفرقة بين ما كانت من جنس المغيّا فتدخل وعدمه فلا تدخل ، كما عن المبرّد.

والخامس : الجمع بينهما كما عن الشهيد.

والسادس : الفرق بين ما اقترنت بكلمة « من » وعدمه فتدخل في الثاني دون الأوّل.

والسابع : التردّد والتوقّف وهو عن الزمخشري ، وعن البهائي في مشرقه والخوانساري أنّهما تبعاه.

والظاهر أنّ مراد الشهيد من الجمع هو الجمع بين احتمالي الدخول والخروج بإجراء حكم المغيّا في الغاية عملا بالاحتياط وقاعدة الاشتغال ، فيخرج عن مقابلته للقول بالتوقّف.

ومن الأعلام من زعم كون مبنى القول الرابع على وجوب المقدّمة من جهة عدم التمايز.

وفيه نظر واضح ، لأنّ مدرك وجوب المقدّمة العلميّة قاعدة الاشتغال ، وهي لا تصلح دليلا على الحكم في المسألة اللغويّة ، بل دليل هذا القول عدم إمكان الآخريّة في غير الجنس ، باعتبار أنّ آخر الشيء جزؤه فلا بدّ وأن يكون من جنسه ، فقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(١) ونظائره مخرج عن الظاهر لقرينة.

ونحو هذا التوجيه يجري في القول الثالث أيضا.

والحقّ هو القول الأوّل للتبادر ، فإنّ المتبادر المنساق في متفاهم العرف في الكلام المشتمل على حرفي الابتداء والانتهاء كونه لتحديد الفعل المغيّا في أوّله وآخره ، فيفيد استيعاب ذلك الفعل لكلّ من مدخول حرف الابتداء ومدخول حرف الانتهاء ، ويلزمه أن يكون مدخول الأوّل أوّلا ومدخول الثاني آخرا ، وقد يقصد بالتحديد بيان الأوّل فقط من دون تعرّض للآخر كقولك : « سرت من البصرة » وقد يقصد به بيان الآخر من دون تعرّض للأوّل كقولك : « سرت إلى الكوفة ».

فما ذكرناه هو الأصل والظاهر في لفظة « إلى » و « حتّى » ولا يخرج عنه إلى غيره إلاّ لقرينة معتبرة ، ومن القرائن مغائرة مدخولها لما قبلها في الجنس لاستحالة الآخريّة مع المغايرة.

وعلى هذا فمثل : « صوموا إلى الليل » و ( لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ )(٢) و « بعت هذه الأرض من هذا الشجر إلى ذلك الحجر ، أو من هذا النهر إلى ذاك النهر » وما أشبه ذلك كلّها مخرجة عن الظاهر لقرينة.

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

٣٩٥

وعلى هذا فيكون دخول « المرفق » في آية الوضوء مبنيّا على الأصل اللفظي لا باعتبار الأصل الاعتباري من جهة المقدّميّة.

وقضيّة ذلك هو الالتزام بالدخول في مثل : « قرأت القرآن إلى آية كذا أو إلى سورة » كذا عملا بظاهر اللفظ إلاّ إذا قام قرينة معتبرة على الخروج.

ويندفع بما ذكرناه من الأصل اللفظي التمسّك لعدم الدخول بأصالة عدمه ، وإن قرّر : بأنّ اللفظ لا يدلّ على الدخول والأصل عدم إرادة المتكلّم ذلك.

وأضعف منه ما اعتمد عليه ابن هشام في المغني من أنّ الأكثر مع القرينة عدمه فيجب الحمل عليه عند التردّد.

وما استند إليه بعض الأعاظم (١) من حسن الاستفهام وعدم فهم الدخول في مدلولها.

وأضعف من الجميع دعوى كون المتبادر من اللفظ عدم الدخول.

ولا يذهب عليك أنّ ما اخترناه ليس تفصيلا في المسألة ، لأنّ التجوّز لقرينة لا ينافي الحقيقة في غير المعنى المجازي.

ولعلّه إليه يرجع القول الثالث والرابع فلا مخالفة بينهما ، ولا بين كلّ منهما والقول بالدخول مطلقا ، إذ لا يظنّ بقائله إرادة الدخول مطلقا حتّى مع قرينة عدم الدخول.

نعم ما استدلّ للثالث والرابع بالنسبة إلى الدخول بأنّ عدم التمايز باتّحاد الجنس أو عدم مفصّل محسوس يقتضي الدخول وإلاّ لزم التحكّم ، وبالنسبة إلى الخروج بما تقدّم للقائلين به مطلقا ، واضح الضعف في شقّه الأوّل.

ونحوه ما للخامس من مثل ما ذكر ، ولم ينقل للسادس ما يعتدّ به ، وللسابع الاستعمال فيهما من غير تردّد وظهر جوابه بما بيّنّاه.

وعن الفخري توهّم كون التوقّف مبنيّا على توهّم الاشتراك فنفاه بامتناع الاشتراك بين وجود الشيء وعدمه في حكمة الحكيم تعليلا ، بعراء الكلام حين التردّد بين الوجود والعدم عن الفائدة ، نظرا إلى أنّ التردّد بين النفي والإثبات حاصل لكلّ أحد قبل إطلاق اللفظ.

وفيه : منع كلّ من الابتناء وفساد المبنى.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاشتراك يوجب التوقّف عن الحمل في المسألة الفرعيّة لا عن اختيار القول به في المسألة الاصوليّة ، ولأنّ الاستعمال فيهما الّذي هو مستند التوقّف أعمّ من

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٤٢.

٣٩٦

الاشتراك والحقيقة والمجاز مع عدم التمييز بينهما.

وأمّا الثاني : فلجواز الاشتراك بين الوجود والعدم إن اريد به ما يعمّ العدم والملكة كما في « القرء » مع أنّ الدخول والخروج أمران وجوديّان فلا مانع من الجواز كما في « الجون » مع أنّ التردّد بين النفي والاثبات قبل استماع الكلام الخبري الحاصل لكلّ أحد غير التردّد بين المعنى المراد من اللفظ المفرد قبل إطلاقه ، فإنّ الثاني غير معقول لأنّه عبارة عن تردّد السامع فيما أراده المتكلّم من اللفظ أهو الأمر الوجودي أو الأمر العدمي من معنيي المشترك؟ فكيف يعقل قبل إطلاقه ، مع أنّ فائدة الوضع الاشتراكي تحصل عند وجود القرينة المعيّنة للمراد كما في سائر صور الاشتراك ، إذ ليس الغرض من الوضع الاشتراكي أن يحصل الدلالة على المعنى المراد بعينه مطلقا ولو مع التجرّد عن القرينة.

ثمّ إنّ الظهور اللفظي في الدخول ـ حسبما رجّحناه ـ لا ينافيه غلبة عدم الدخول باعتبار القرينة إن سلّمناها ، كما ادّعاها ابن هشام في كلمة « إلى » حيث فرّق في المغني بينها وبين « حتّى » : بأنّ « حتّى » إذا لم تكن معها قرينة تقتضي دخول ما بعدها أو عدم دخوله حمل على الدخول ، ويحكم في مثل ذلك لما بعد « إلى » بعدم الدخول حملا على الغالب في البابين.

قال : هذا هو الصحيح في البابين.

وفيه : أنّ غلبة استعمال لفظ مع القرينة في معنى مجازي لا تزاحم ظهوره في المعنى الحقيقي مع عدمها كما حقّق في محلّه ، فلا وجه لحمل « إلى » على عدم الدخول مع عدم القرينة على الدخول ، فالفرق تحكّم.

ويؤكّد ما ذكرناه الغلبة المدّعاة في « حتّى » في جانب الدخول ، بل قد ينفى الخلاف فيها عن الدخول كما عن الشيخ شهاب الدين القرافي النحويّ على ما نقله عنه في المغني قائلا : إنّه زعم أنّه لا خلاف في وجوب دخول ما بعد « حتّى » وإن ردّه فيه بقوله : « وليس كما ذكر بل الخلاف فيها مشهور ، وإنّما الاتّفاق في « حتّى » العاطفة لا الخافضة والفرق أنّ العاطفة بمنزلة الواو ».

ثالثها : قال في مفاتيح الاصول ـ بعد ما صرّح بكون « إلى » حقيقة في الانتهاء ـ : « بأنّ الأصل دلالتها على انتهاء الكيفيّة ، تمسّكا بتبادره منها عند الإطلاق وغلبة استعمالها فيه الموجبة للظنّ بلحوق المشكوك فيه ، وأنّها لو كانت لانتهاء الكميّة لوجب اضمار ما يتعلّق

٣٩٧

به ، لأنّها من الحروف الجارّة الّتي تحتاج إلى المتعلّق وليس في الكلام المذكور قطعا.

ونقل عن جماعة من الأصحاب كالمحقّق الثاني والسيوري وخاله المجلسي القول بكونها مجملة في الدلالة على أحد الأمرين لاستعمالها فيهما معا » انتهى.

والظاهر أنّه أراد من انتهاء الكميّة انتهاء نفس المسافة مكانا أو زمانا بمعنى الامتداد الخطّي والامتداد الزماني ، لكونهما من مقولة الكمّ المتّصل القارّ بالذات كالأوّل أو الغير القارّ بالذات كالثاني ، ومن انتهاء الكيفيّة انتهاء الفعل المتعلّق بهما بنحو من أنحاء التعلّق كالسير في الأرض والصوم في النهار ، فإنّه لتعلّقه بأحدهما كيفيّة عارضة له ، فيكون الخلاف في أنّ كلمة « إلى » الدالّة على الانتهاء الملازم للآخريّة هل هي ظاهرة في الجزء الأخير من الفعل الواقع في المسافة أو لا ظهور لها فيه؟ بل غايتها الدلالة على أصل الانتهاء المردّد بين الجزء الأخير من الفعل والجزء الأخير من المسافة.

ويظهر ثمرة الخلاف في قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(١) من حيث ظهورها في وجوب الابتداء في الغسل من الأصابع والانتهاء إلى المرفقين وعدمه ، فعلى قول الجماعة بإجمال الدلالة كان مفادها مردّدا بين انتهاء الغسل وانتهاء المغسول ، فقد ترى بعضهم في باب الوضوء أنّه يجعل « إلى المرافق » لانتهاء المغسول لينطبق الآية على مذهب أصحابنا الإماميّة من وجوب الابتداء من المرافق ، ومن يجعلها ظاهرة في انتهاء الفعل يحملها في الآية عليه من باب التأويل ، نظرا إلى الإجماعات المنقولة والوضوءات البيانيّة وغيرها.

وفي بعض النصوص المعتبرة أنّه ليس تأويلها هكذا بل : « من المرافق » فينهض ذلك شاهدا بصدق ما ادّعاه السيّد في المفاتيح من ظهورها في انتهاء الكيفيّة ، أعني الفعل لا نفس المسافة فقط.

وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، لما بيّنّاه في المسألة السابقة من تبادر تحديد الفعل المغيّا في أوّله وآخره من الكلام المشتمل على حرفي الابتداء والانتهاء ، فيقصد من حرف الانتهاء بيان آخر الفعل وهو الجزء الأخير منه المقارن لمدخول الحرف إن كان من جنس ما قبله ، أو لما قبل مدخولها إن غاير ما قبله في الجنس.

والسرّ في ذلك : ما ذكرناه سابقا من كون « إلى » باعتبار الوضع العامّ وضعا للنسبة بين

__________________

(١) المائدة : ٦.

٣٩٨

مدخولها والفعل المقيّد بالغاية بمعنى المسافة ، من حيث كون الأوّل منتهي إليه للثاني ، ومعنى ذلك : أنّ الانتهاء بالمعنى الملازم للآخريّة وصف في الجزء الأخير من الفعل المغيّا ، ومحلّه ـ على معنى معروضه أو ظرفه ـ مدخول « إلى » وهذا هو الأصل بمعنى الظاهر فلا يصرف عنه إلى غيره ـ وهو جعلها لانتهاء نفس المسافة كما في الآية على تقدير كون تنزيلها « إلى المرافق » مع عدم التجوّز في « إلى » بجعلها بمعنى « مع » ـ إلاّ لقرينة دعت إلى التزام إضمار ما يكون متعلّقا للجارّ والمجرور ، على أن يكون ذلك العامل المقدّر حالا مؤكّدة لمعمول الفعل وهو أصل المسافة كما أشار إليه السيّد المتقدّم (١) في استدلاله الثاني ، ضرورة أنّه إذا كانت « إلى » لانتهاء نفس المسافة لا الفعل المغيّا لم يكن عاملها ذلك الفعل ، فلا بدّ من تقدير عامل تتعلّق به ، فيكون تقدير الآية على التأويل المذكور : « إغسلوا أيديكم كائنة إلى المرافق ».

وربّما احتمل نحو هذا التأويل في قوله تعالى : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(٢) استظهارا له من دليل جواز النكس في المسح فيكون تقدير ذلك أيضا : « امسحوا أرجلكم كائنة إلى الكعبين ».

وبما بيّنّاه ينقدح ما في مستند القول بإجمال الدلالة على أحد الأمرين من الاستعمال فيهما ، فإنّ الاستعمال في انتهاء الكمّيّة في بعض الأحيان لقرينة لا يعارض الظهور اللفظي فيما لا قرينة فيه ، على أنّه لم يثبت في الاستعمالات ما ينافي ذلك الظهور إلاّ عدّة أمثلة كقوله : « ذرعت الأرض إلى المكان الفلاني ، وملكتها من الشام إلى العراق » و « اغسل المسجد إلى الموضع الفلاني » ونحو ذلك ، أوجبت عروض الاشتباه وتوهّم الإجمال.

ويردّه : أنّ اللفظ في هذه الأمثلة أيضا في نفسه ظاهر فيما ذكرناه ، على أنّ القرينة الخارجيّة من عادة ونحوها قامت فيها على أنّ غرض المتكلّم لم يتعلّق فيها إلاّ بإفادة وقوع أصل الفعل من غير قصد إلى إفادة أوّله ولا آخره ، مع أنّ كثيرا من الاستعمالات ما لا تتحمّل كونها لانتهاء الكمّيّة فقط ، كما في قولك : « إضرب زيدا إلى أن يقوم » و « صم إلى الليل » و « ذهبت إلى الشام » وما أشبه ذلك ، ضرورة أنّه لو لا قيام زيد ودخول الليل والشام ما اتّصل به أو وقع فيه الجزء الأخير من الضرب والصيام والذهاب مع بقاء الذهاب على حقيقته ولم يتجوّز فيه بإرادة الخروج لزم في الأوّلين تقدّم حدوث الشيء على عدمه ، وفي الأخير تقدّم وجود الشيء على زمان وجوده ، والكلّ محال والملازمة تظهر بالتأمّل.

__________________

(١) أي : السيّد المجاهد فى المفاتيح.

(٢) المائدة : ٦.

٣٩٩

فهذه الأمثلة ونظائرها صريحة في كون « إلى » لانتهاء الكيفيّة وهو الفعل المتعلّق بالمسافة ، فتفيد الجزء الأخير من الفعل.

ـ تعليقة ـ

ومن المفاهيم المذكورة في الكتب الاصوليّة مفهوم الحصر الّذي تركه المصنّف هنا ، ولعلّه لشذوذ المخالف في ثبوته وندور منكره.

وظاهر أنّ الإضافة هنا نظير الإضافة فيما تقدّم من مفهوم الشرط ومفهوم الوصف ومفهوم الغاية ، فيراد به مفهوم الكلام المشتمل على الحصر كمفهوم الكلام المشتمل على الشرط أو الوصف أو الغاية ، فالمضاف إليه ليس بعين المضاف ليكون الإضافة بيانيّة.

والحاصل : أنّ الحصر شيء وهو قصر صفة على موصوف أو قصر موصوف على صفة ، ومفهومه شيء آخر وهو نفي تلك الصفة عن غير هذا الموصوف أو نفي هذا الموصوف عن غير تلك الصفة.

نعم على القول بكون الحصر مفهوما ـ بناء على تفسيره بالنفي المذكور ـ إتّجه كونها بيانيّة على حدّ ما في « خاتم فضّة » ونزاعهم في إثبات دلالة الكلام على ذلك النفي ونفيها سواء جعلناه نفس الحصر أو جعلنا الحصر عبارة عن الإثبات الملازم للنفي ، ولا ينافيه كون أدلّة الباب إثباتا ونفيا متعرّضة للدلالة على الحصر ونفيها ، لرجوعه على الاعتبارين إلى الملازمة بين الإثبات ـ [ و ] هو المدلول المطابقي ـ والنفي [ و ] هو على تقدير ثبوت الملازمة مدلول التزامي.

ومن هنا يعلم النكتة في تعرّض القوم لذكر الحصر بـ « إنّما » أيضا من دون ذكر الحصر بالنفي والاستثناء ، لكون الدلالة على الحصر في الأوّل التزاميّة يمكن إدراجها في عداد المفاهيم ، بخلاف الثاني لكون كلّ من الحكمين الإيجابي والسلبي فيه ـ كما في كلّ كلام استثنائي ـ مدلولا عليه بالمطابقة مع كون موضوعه مذكورا في الكلام ، وإن لم يكن ملفوظا كما في الاستثناء المفرّغ ، فيكون من قبيل المنطوق.

فما صنعه بعض الفضلاء من جعله مفهوم الحصر على أقسام منها مفهوم الاستثناء ليس بسديد ، ودعوى كون الحصر بالاستثناء ممّا يسمّى مفهوما في عرفهم وإن لم يساعد عليه حدودهم غير مسموعة ، حيث لا شاهد عليها من كلماتهم.

وكيف كان فعنوان كلامهم في هذا الباب على ما حرّره جماعة من أواخر أصحابنا أن

٤٠٠