تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

الأصحاب على شيء سوى ما ذكره الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله من أنّ الظاهر أنّه رخصة ، واستدلّ عليه بما ورد من أنّ الحائض إن شاءت أن تغتسل غسل الجنابة قبل الانقطاع تغتسل ، قال : وهذا لا يدلّ على أنّ حال إمكان المتداخلين معا كيف الحال كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرناه من تحقّق الامتثال يقتضي كونه عزيمة لأنّ بعد الامتثال لا معنى للاتيان به ثانيا كما هو الظاهر ، سواء كان الأمر للواحدة أو للطبيعة من غير وحدة ولا تكرار ، فحينئذ يتطرّق الإشكال في تعدّد الغسل للاحتياط لما فيه الخلاف في التداخل لحرمة العبادة الغير المتلقّاة من الشارع الغير الممتثلة بالأمر ، إلاّ أن يمنع كليّة هذه المقدّمة لعدم دليل عامّ عليها من الآية والرواية كما هو الظاهر وإنّما هي المشهورة في ألسنة القوم ، فلا يبعد إذن أن يقال : بعدم البأس في الإتيان بفعل أمر الشارع بنوعه على الكيفيّات المتلقّاة منه باحتمال أن يكون مراده احتياطا مع عدم الحكم بوجوبه أو ندبه » انتهى.

وقد يفصّل في المقام ويقال : بأنّه لو قلنا بتداخل الأسباب فالتداخل عزيمة ، لأنّ مآله ذلك إلى إنكار ثبوت التكليف بما زاد على الواحد ، أو إنكار التعدّد في المكلّف به وإن تعدّد التكليف.

ولو قلنا بتداخل المسبّبات فهو رخصة فيفتقر الامتثال إلى نيّة التعدّد فيما يفتقر إلى القصد والنيّة كالعبادات ، لمكان أخذه صدق الامتثال المفتقر إلى قصد الامتثال دليلا ، وأمّا فيما لا يفتقر إلى قصد الامتثال كالتوصليّات فدليل هذا القول ساكت عن ذلك.

وأنت خبير بأنّ إطلاق الحكم بالرخصة على القول بتداخل المسبّبات غير وجيه ، وإنّما يستقيم ذلك لو كان مراد القائل بذلك من صدق الامتثال ما لا ينافي بقاء التكليف بالنسبة إلى ما زاد على الواحد الّذي حصل الإتيان به.

فحينئذ يتوقّف ارتفاع ذلك التكليف أيضا على قصد امتثال الجميع ، وهذا كما ترى خلاف ما يظهر من هذا القائل ، بل ظاهره أنّ حصول الواحد يوجب قهرا سقوط التكليف عن الباقي كما في الكفائي ، كما يفصح عنه ما تقدّم عن الخوانساري من تعليل ما ادّعاه من العزيمة بقوله : « لأنّ بعد الامتثال لا معنى للاتيان به ثانيا » كما يظهر بأدنى تأمّل ، ولا ريب أنّ قضيّة ذلك صدق دعوى العزيمة.

وأمّا ما استشكل فيه المحقّق [ الخوانساري ] في قضيّة الاحتياط إلتفاتا منه إلى حرمة البدعة فليس على ما ينبغي ، لما قرّر في محلّه من أنّ عنوان الاحتياط لا يصادقه عنوان

٣٤١

وثانيها ـ أنّ التعليق بالشرط إنّما يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، إذا لم يظهر للشرط فائدة اخرى. ويجوز أن يكون فائدته في الآية ، المبالغة في النهي عن الإكراه ، يعنى أنّهنّ إذا أردن العفّة ، فالمولى أحقّ بارادتها. أو أنّ الآية نزلت فيمن يردن التحصّن ويكرههنّ الموالي على الزنا.

وثالثها ـ أنّا سلّمنا أنّ الآية تدلّ انتفاء حرمة الإكراه بحسب الظاهر نظرا إلى الشرط ، لكنّ الاجماع القاطع عارضه. ولا ريب أنّ الظاهر يدفع بالقاطع.

أصل

واختلفوا في اقتضاء التعليق على الصفة نفي الحكم عند انتفائها* (١).

________________________________

لبدعة بل بينهما بون بعيد كما لا يخفى على المتأمّل ، ومعه لا حاجة في تصحيح الاحتياط إلى ما ارتكبه من التكلّف والله العالم (١).

(١) * إعلم أنّ « التعليق » تفعيل من العلقة وهو الربط ، وتفعيلها فعل للمتكلّم لأنّه يربط الحكم بصفة ويلزمه ارتباطه بها ، فالتعليق يلزمه تعلّقه بها.

ووجه وقوع النزاع في حجّيّة المفهوم هنا أنّ ربط الحكم بصفة قد يكون ربطا سببيّا ملزوما لثبوت المفهوم ، وقد يكون ربطا موضوعيّا غير ملزوم له ، فنوزع في ظهوره في

__________________

(١) وأضاف إليها في الرسالة ما هذا لفظه : « وأمّا ما عرفته عن الفاضل الأردبيلى (ره) من توهّم دلالة الرواية على كون التداخل رخصة فلعلّ نظره إلى مجرّد أنّها تدلّ على جواز عدول الحائض في الاغتسال عن الواحد إلى المتعدّد ، بأن تغتسل قبل الانقطاع للجنابة ثمّ تغتسل ثانيا بعد الإغتسال عن الحيض وهو ضعيف ، لأنّ مورد الرواية مع هذه الدلالة ليس من موضوع التداخل ، لأنّ الحائض قبل انقطاع دم الحيض ليست مخاطبة بغسل الحيض وغاية ما هنالك أنّها من حيث المفهوم تدلّ على جواز تأخيرها لغسل الجنابة إلى ما بعد الانقطاع ، وحينئذ تصير الواقعة من موضوع التداخل ولا تعرّض فيها لبيان حاله أهو عزيمة أو رخصة؟ ولا دلالة لها على أحد الأمرين بل هي ساكتة عنهما بل في خبر حجّاج الخشّاب ما ربّما يكون ظاهره العزيمة ، حيث قال فيه الامام عليه‌السلام : « تجعله غسلا واحدا » بعد كلام الراوي السائل : « أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرّتين؟ »

ثمّ لا يذهب عليك إنّه بعد تسليم دلالة الرواية المذكورة على الرخصة فهو حكم خاصّ مقصور على موردها وهو تداخل الأغسال ولا يثبت به حكم عامّ مطّرد لجميع موارد التداخل ، وتحقيق المقام لاستفادة الحكم الكلّي المطرّد هو التفصيل ... ».

ثمّ ذكر بعد ذلك التفصيل الّذي ذكره في المتن بقوله : « وقد يفصّل في المقام ... الخ » مع اختلاف في العبارات.

٣٤٢

الأوّل ودلالته عليه وعدمه ، فلا حاجة مع ما بيّنّاه من التوجيه إلى تغيير العبارة ولا إلى تأويل فيها ، فلا وقع لما قد يعترض عليها من أنّ هذا الكلام يعطي وجود التعليق في القضيّة الوصفيّة كالتعليق الحاصل في القضيّة الشرطيّة ، وهو خلاف الوجدان لوضوح أنّ قوله : « أكرم عالما » أو « أكرم رجلا عالما » لم يعلّق فيه الحكم على الوصف كما علّق في الشرطيّة على الشرط ، بل حكم على الوصف أو الموصوف بأمر لا أنّه جعل الحكم معلّقا عليه ، ولو أبدل لفظ « التعليق » بالتعلّق أو يؤول كلامه بما يرجع إلى ما قلنا لسلم عن المناقشة ، وفيه ما فيه.

وممّا يفصح عمّا قرّرناه تعبير جماعة ـ منهم المنهاج وشرحه ـ عن العنوان بتقييد الحكم بالوصف أو تقييد الذات ببعض صفاتها ، وأقوى من ذلك تعبيرهم عن عنوان مسألة مفهوم اللقب بتعليق الحكم على الذات أو على الإسم مع إطباقهم عدا نادر أنّه لا مفهوم له ، فالتعليق في جميع عناوين مباحث المفاهيم يراد به الربط حتّى في عنوان التعليق على الشرط ، ولا ريب أنّه أعمّ من الربط السببيّ الّذي يقال له : العلقة السببيّة.

وكيف كان فتنقيح المبحث يستدعي رسم امور على وجه المبادئ :

الأمر الأوّل

ليس المراد بالوصف أو الصفة هنا ما يرادف النعت النحوي ولا ما يرادف المشتقّ ، بشهادة أنّه قد يمثل للتعليق على الوصف بما ليس من المشتقّ أو ما ليس من النعت النحوي ، كما في قوله عليه‌السلام : « وما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب منه » وقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )(١) وقوله أيضا : ( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً )(٢) أي أمثالا متزايدة ، بل المراد به ما يقابل الذات أو الاسم [ المعبّر عنه باللقب في عنوان ] بحث مفهوم اللقب ، وفسّر بما هو العمدة في الكلام كالمسند إليه بل المسند أيضا ، فيراد بالوصف المقابل له ما هو الفضلة في الكلام ممّا أفاد نوع تخصيص للحكم وتقليل للشركاء.

كما يرشد إليه ما عن البرهان من عدّ جميع جهات التخصيص منه.

وما عن التفتازاني : « من أنّ المراد بتخصيص الوصف ما يفيد نقص الشيوع وقصر العامّ على البعض ، لا مجرّد ذكر صفة لموصوف ، فلا يرد ما يكون لمدح أو ذمّ أو تأكيد أو نحو

__________________

(١) الإسراء : ٣١.

(٢) آل عمران : ١٣٠.

٣٤٣

ذلك على ما توهّمه صاحب الثقبة » انتهى.

فحاصل معنى الوصف أو الصفة على ما ذكرناه : كلّ قيد وارد في الكلام مفيد لنوع تخصيص راجع إلى الإسناد أو المسند أو المسند إليه من ظرف حقيقي أو حكمي أو حال أو تمييز أو شيء من المفاعيل أو نحو ذلك.

ولا يرد النقض بالشرط والغاية مع كونهما من قبيل القيود وقد أفردوهما بعنوان على حدة ، لأنّ إفرادهما بالعنوان لما فيهما من جهة امتياز باعثة على مزيد بحث ليس هذه الجهة وزيادة البحث في سائر القيود.

فما قد يقال بالقياس إلى الحال باعتبار كون الحال فيه كالحال في الوصف من حيث عدم ثبوت مفهوم له ، أو كالشرط من حيث ثبوته ـ من أنّ فيه وجهين : من جهة كونه قيدا للموضوع باعتبار أنّه يبيّن هيئة الفاعل أو المفعول فحاله كحاله ، ومن تعلّقه بالحكم فحاله كالشرط ـ كلام ظاهري لا ينبغي الالتفات إليه.

ولعلّه مبنيّ على ما ذكره النحاة في الفرق بين النعت والحال في نحو قولنا : « جاءني زيد الراكب » و « جاءني زيد راكبا » من أنّ الأوّل ما كان قيدا للموضوع والثاني ما كان قيدا للحكم نظير الفرق بين الواجب المقيّد والوجوب المقيّد ، وهذا البناء أيضا غير سديد ، لمكان القطع بأنّ المقصود بالخطاب في كلّ من العبارتين إفادة صدور المجيء في حال الركوب ، فالمعنى واحد والتعبير مختلف ، فإذا صلح الحال لإفادة المفهوم كان الوصف أيضا صالحا له ، لأنّهما بحسب المعنى باعتبار مفهوم القيديّة سيّان ، وإلاّ فلا يصلح شيء منهما لإفادته ، سواء اعتبرنا كون المقيّد بأحدهما الحكم وبالآخر هو الموضوع أو لا ، على أنّ رجوع القيد إلى الحكم لا يفيد شيئا أزيد من منطوق الكلام ، فدعوى ثبوت المفهوم معه تحتاج إلى وسط ، وثبوته في الشرط ليس لمجرّد كونه قيدا للحكم بل هو من مقتضى وضع الجملة ، بل الأداة للسببيّة الملزومة لانحصار السبب في الشرط ولو من جهة إطلاق الشرط أو انصراف المطلق حسبما تقدّم تفصيله ، فمقايسة المقام على الشرط على تقدير قيديّة الحال للحكم باطلة لوضوح الفرق بينهما حسبما بيّنّاه.

الأمر الثاني : في جملة اخر من مرتبطات المسألة :

منها : أنّه يعتبر في الوصف أن يكون له صورة انتفاء حتّى يجري فيه النزاع في انتفاء الحكم عند انتفائه ، بأن يكون أخصّ أو أعمّ من وجه من الموصوف : كـ « أكرم الرجل

٣٤٤

العالم » و « أكرم الإنسان الأبيض » مثلا ، فلا يعقل النزاع في مثل : « الإنسان الضاحك » و « الإنسان الماشي » وغيره ممّا كان الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا ، وفي نحو : « أكرم زيدا الراكب » ممّا كان عموم الموصوف حاليّا لا فرديّا وجهان ، أظهرهما الدخول في النزاع لوحدة المناط بالنظر إلى الأدلّة بل عدم صحّة الفرق أيضا.

ومنها : أنّه لا يعتبر في الوصف أن يعتمد على موصوف مذكور في الكلام كما في : « الغنم السائمة فيه زكاة » بل يجري النزاع فيما كان موصوفه مطويّا كما في : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا )(١) لعموم الأدلّة ، مضافا إلى شهادة جملة من الأمثلة كقوله : « مطل الغنيّ ظلم » وقوله : « ليّ الواجد يحلّ عرضه » وحيث إنّ الوصف لا يعقل انفكاكه عن موصوف فهو في محلّ النزاع أعمّ ممّا كان موصوفه مذكورا أو مطويّا ، وبذلك يوجّه ما في جملة من العناوين ممّا يوهم بظاهره خلاف ذلك كما في المنية وعن الآمدي : « من أنّه اختلفوا في الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ».

وما عن الغزالي : « من أنّ تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء هل يدلّ على نفيه عمّا يخالفه في الصفة ».

وما عن الكاظمي : « تعليق الحكم على الذات موصوفة بأحد الأوصاف » الخ.

وما في المنهاج من : « الحكم المقيّد بإحدى صفتي الذات » فتوهّم كون ما في نحو : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ )(٢) من باب الألقاب بقول مطلق ليس على ما ينبغي.

ومنها : أنّ المعتبر انتفاء الوصف عن الموصوف المعنون في الكلام ولو مطويّا كالغنم في : « الغنم السائمة زكاة » فالنزاع في دلالة التعليق على انتفاء الحكم في مثله عند انتفاء « السوم » لا في مثل الإبل والبقر.

فما عن بعض الشافعيّة من الدلالة على انتفاء الحكم في مثل ذلك أيضا محتجّا بأنّ « السوم » المعلّق عليه الحكم يجري مجرى العلّة فيثبت الحكم بثبوته وينتفي بانتفائه ، بمكان من الوهن ، لمنع استفادته أوّلا من نحو : « في الغنم السائمة زكاة » على وجه الانحصار ، وعدم مدخليّة الخصوصيّة ثانيا ، وما اشتهر من أهل العربيّة من أنّ تعليق الحكم على الوصف يشعر بعلّيّة مبدأ الاشتقاق لا يشهد لتوهّمه ، إذ الإشعار دون الدلالة.

ومنها : لا ابتناء لحمل المطلق على المقيّد في مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة »

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) الحجرات : ٦.

٣٤٥

فأثبته قوم ، وهو الظاهر من كلام الشيخ. وجنح إليه الشهيد في الذكرى* (١).

________________________________

ولا في تخصيص العامّ بالصفة في مثل : « أكرم العلماء العدول » على ثبوت المفهوم للوصف ليتوجّه إشكال التناقض على المانعين من حجّيّة مفهوم الصفة ، كما قد يتوهّم على ما أشار إليه البهائي في حاشية زبدته قائلا : « قد يقال : إنّ القائلين بعدم حجّيّة مفهوم الصفة قد قيّدوا المطلق بمفهومها في نحو : « أعتق في الظهار رقبة » و « أعتق في الظهار رقبة مؤمنة » فإذا لم يكن مفهوم الصفة عندهم حجّة كيف يقيّدون بها المطلق؟ وما هذا إلاّ التناقض؟ » انتهى.

ونحوه ما حكاه بعض الأعاظم عن بعض مشايخه في عدّهم الصفة من المخصّصات ، وكلاهما ضعيفان.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحمل منوط بالتنافي بين مدلول المطلق ومدلول المقيّد اللازم من وحدة التكليف ، ويكفي فيه في نحو المثال تنافي المنطوقين ولا حاجة فيه إلى إثبات مفهوم للصفة في المقيّد ، ضرورة أنّ مقتضى المطلق هو الوجوب تخييرا بين المؤمنة والكافرة ، ومقتضى المقيّد هو الوجوب تعيينا ، وهما مع وحدة التكليف في الواقعة متنافيان ، ولا يرتفع التنافي إلاّ بحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا الثاني : فلأنّ التخصيص عبارة عن قصر العامّ على بعض ما يتناوله ، ويكفي في حصوله إرادة البعض من العامّ الموجبة لعدم تناول حكمه للبعض الباقي كما في المثال المتقدّم ، وذكر الوصف قرينة عليه ، لا لأنّ التخصيص لا يتأتّى إلاّ باعتبار مفهوم له ، فتوهّم التناقض في المسألتين ضعيف جدّا.

وأضعف منه ما أجاب به البهائي عمّا نقله بقوله : « مفهوم الصفة إمّا أن يكون في مقابله مطلق كما في المثال المذكور ، أو لا نحو : « جاء العالم » ففي الثاني ليس مفهوم الصفة حجّة عندهم ، فلا يلزم من الحكم بمجيء العالم نفي مجيء الجاهل إلاّ إذا قامت قرينة على إرادة ذلك.

أمّا الأوّل : فقد أجمع أصحابنا على أنّ مفهوم الصفة فيه حجّة كما نقله العلاّمة في نهاية الاصول.

فالقائلون بعدم حجّيّة مفهوم الصفة يخصّون كلامهم بما إذا لم يكن في مقابلها مطلق ، لموافقتهم في حجّيّة ما إذا كان في المقابل مطلق ، ترجيحا للتأسيس على التأكيد » انتهى. وفيه ما فيه.

(١) * الأمر الثالث : في أقوال المسألة حسبما يشير إليه المصنّف.

٣٤٦

ونفاه السيّد ، والمحقّق والعلاّمة ، وكثير من الناس* (١) ، وهو الأقرب.

أصل

لنا : أنّه لو دلّ ، لكانت احدى الثلاث** (٢). وهي بأسرها منتفية. أمّا الملازمة فبيّنة. وأمّا انتفاء اللازم فظاهر بالنسبة إلى المطابقة والتضمّن ، إذ نفي الحكم عن غير محلّ الوصف ليس عين إثباته فيه ولا جزءه*** (٣) ؛ ولأنّه لو

________________________________

وعزاه في المنية إلى الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري ، وفي المفاتيح إلى البيضاوي والعضدي وغيرهما نقلا.

(١) * وعزاه في المفاتيح إلى أكثر الإماميّة وجمع كثير من العامّة ، والظاهر انحصار الخلاف فيهما ، إلاّ أنّه قد يحكى عن أبي عبد الله البصري قول ثالث وهو : أنّه لا يدلّ إلاّ إذا كان الخطاب قد ورد للبيان أو التعليم أو كان ما عدا الصفة داخلا تحتها كالحكم بالشاهدين ، فإنّه يدلّ على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين (١).

وعن العلاّمة رابع وهو : أنّه لا يدلّ على النفي إلاّ أن يكون علّة.

وفيهما : أنّهما من القول بالمنع مطلقا ، والمستثنى إثبات للمفهوم بقرينة ولا كلام فيه.

وأمّا ما نسب إلى الشهيد الثاني من إثبات المفهوم في الوصايا والأوقاف والنذور والأيمان كما لو قال : « أوقفت لأولادي الفقراء » مثلا ، ففيه : ما تقدّم في البحث السابق من أنّه أيضا إثبات للمفهوم بقرينة ، أو أنّه نفي لعموم الحكم عملا بالاصول ، فليس شيء ممّا ذكر تفصيلا في المسألة.

(٢) ** هذا إنّما ينهض لتمام المدّعى إذا كان المتنازع فيه خصوص الدلالة اللفظيّة ، وستعرف عند ذكر حجج المثبتين أنّ منهم من يدّعي الدلالة العقليّة ، كما يشهد به الاحتجاج باللغويّة والعراء عن الفائدة.

نعم إنّما ينهض ما ذكر قبالا لمن يدّعي الدلالة اللفظيّة استنادا إلى التبادر وفهم أهل اللسان وغيره ممّا يأتي ، فالدليل غير واف لتمام المدّعى.

(٣) *** فإنّ عدم كون نفي الحكم عن غير محلّ الوصف عين إثباته في محلّ الوصف

__________________

(١) أي : كان ما ليس له الصفة داخلا في ما له الصفة كما لو قال : « أحكم بالشاهدين » والشاهد الواحد داخل فيه ، فيدلّ على عدم الحكم به [ انظر الفصول : ١٥١ ].

٣٤٧

كان كذلك ، لكانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم ، والخصم معترف بفساده. وأمّا بالنسبة إلى الالتزام ، فلأنّه لا ملازمة في الذهن ولا في العرف ، بين ثبوت الحكم عند صفة* (١) ، كوجوب الزكاة في السائمة مثلا ، وانتفائه عند اخرى ، كعدم وجوبها في المعلوفة.

________________________________

ولا جزءه ضروريّ ، بل هو من البديهيّات الأوّلية فلا حاجة له إلى البرهان.

نعم يمكن الردّ ، بأنّه لو فرض المدلول المطابقي المجموع المركّب من الإثبات لمحلّ الوصف والنفي عن غيره ، كان النفي جزءا فدلّ التعليق عليه تضمّنا.

ولكنّه واضح الدفع : بأنّ مجرّد الاحتمال غير كاف في إثبات التضمّن على الوجه المذكور ، مع شهادة الاستقراء القطعي ببطلانه ، فإنّ الكلام الموجب بحسب الوضع لا يفيد إلاّ العقد الإيجابي والعقد السلبي زائد فيكون خارجا عن المدلول المطابقي.

(١) * اعترض عليه ـ كما في شرح المنهاج ـ : بأنّ ترتّب الحكم على الوصف يدلّ على كون الوصف علّة له ، وإذا دلّ على كونه علّة لزم منه انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف لزوما ذهنيّا ، لأنّ انتفاء العلّة ملزوم لانتفاء المعلول المساوي لها.

ويدفعه : منع الترتّب المقتضي للعلّيّة إذ لا دالّ عليه في الكلام ، فإنّ غاية ما في التعليق على الوصف أو التقييد به ـ على ما بيّنّاه في مفتتح المسألة ـ إنّما هو ربط الحكم بالوصف.

وقد عرفت أنّه أعمّ من الربط السببي والربط الموضوعي ، ومن الضروري عدم دلالة الأعمّ على الأخصّ ، ولا يقاس ما نحن فيه على الشرط ، لأنّه على ما عرفت مستفاد من أداة الشرط وهي بالوضع تفيد الترتّب بين الجزاء والشرط في الوجود ، ويلزمه انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط وهذا هو معنى العلّيّة.

فحاصل سند المنع : هو فقد الدلالة على الترتّب المقتضي للعلّيّة ، لقصور مجرّد التعليق ـ بمعنى الربط ـ عن الدلالة.

وقد يقال ـ في دعوى الملازمة هنا أيضا ـ : بأنّ كلّ ما يمكن التعبير عنه بالتركيب التوصيفي يمكن التعبير عنه بالشرطي أيضا ، ولا يكون شيء من اللفظين في شيء من الصورتين مجازا ، والتركيب الشرطي يقتضي انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، فيكون التركيب التوصيفي أيضا مقتضيا لانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف.

٣٤٨

وفيه ، أنّ إمكان التعبير عن التركيب التوصيفي بالتركيب الشرطي إن اريد به صحّته في موضع قيام قرينة على إرادة العلّيّة من الوصف فهو غير مجد ، إذ لا كلام لأحد في مفهوم الوصف حيث ورد التوصيف للتعليل ، لضابطة أنّ انتفاء العلّة علّة لانتفاء المعلول المساوي لها.

وإن اريد به صحّته مطلقا فهو غير مسلّم ، إلاّ إذا جرّد التركيب الشرطي عن معنى العلقة السببيّة ومعه لا مفهوم في شيء من التركيبين.

ويمكن أن يقال : إنّ مجرّد صحّة التعبير المذكور تنهض قرينة على تجريد التركيب الشرطي عن معنى العلقة السببيّة أو على القصد بالتوصيف إلى التعليل.

ثمّ إنّه نقل الاحتجاج على هذا القول بوجوه اخر واهية واضحة الدفع :

منها : ما في المختصر وشرحه من أنّه : لو ثبت أنّ تعليق الحكم بالصفة يدلّ على نفيه عمّا عداها لثبت بدليل ، إذ الحكم بثبوت الشيء من غير دليل باطل ، والتالي لازم الانتفاء ، لأنّ الدليل إمّا أن يكون عقليّا أو نقليّا ، والأوّل باطل إذ لا مجال للعقل في الدلالات الوضعيّة ، والثاني باطل لأنّ النقل افادته مشروطة بالتواتر ، إذ الآحاد لا تفيد إلاّ الظنّ والظنّ غير معتبر في إثبات اللغة ، والتواتر غير متحقّق وإلاّ لم يقع الخلاف.

وجوابه أوّلا : النقض بتعليق الحكم على الشرط الّذي صار المستدلّ إلى دلالته على النفي.

وثانيا : أنّ الدلالة إذا كانت عقليّة ـ كما عليه بعضهم ـ تثبت بالدليل العقلي ، وعليه مبنى الاستدلال بلزوم اللغويّة والعراء عن الفائدة ، والقدح فيه بمنع صغراه لكثرة الفوائد ويكفي احتمال بعضها غير دعوى عدم المجال للعقل.

وثالثا : أنّ الدلالات الوضعيّة تثبت بالتبادر وفهم العرف وغيرهما من أمارات الوضع الّتي هي أيضا أدلّة عقليّة ، ولكن إنّية لكونها معلولات للوضع ، والممنوع في الدلالات الوضعيّة إنّما هو العقل اللمّي لا غير.

وستعرف احتجاج أهل القول بالدلالة الوضعيّة بالتبادر وفهم العرف بالمعنى الأعمّ من فهم أهل العرف الحاضر وفهم أهل العرف القديم ، كما إليه مرجع التمسّك بعدّة من الأخبار حسبما يأتي ذكرها.

غاية الأمر كون هذا الدليل أيضا مخدوشا بما ستعرفه ، وهو غير ما ذكر في بيان بطلان التالي.

ومنها : ما فيهما أيضا من أنّه لو ثبت أنّ تعليق الحكم بالصفة يدلّ على نفيه عمّا عداها لثبت في الخبر ، والتالي باطل.

٣٤٩

أمّا الملازمة : فلكون كلّ منهما كلاما مقيّدا بالوصف ، وأمّا بطلان التالي : فلأنّا نقطع أنّ من قال : « في الشام الغنم السائمة » لم يدلّ على خلافه أي : « ليس في الشام الغنم المعلوفة »

واجيب عنه تارة : بمنع بطلان التالي ، واخرى : بمنع الملازمة ، فإنّ حاصل ما ذكر في بيان الملازمة هو القياس وهو غير معتبر في إثبات اللغة.

والحقّ أن يقال : إنّ الملازمة تثبت بعدم القول بالفرق وبطلان التالي أيضا مسلّم ، ولكنّه لا يجدي في ثبوت المطلوب ، لأنّ أقصى ما هنالك أنّ التعليق في هذا التركيب الخاصّ لا يدلّ على النفي وهو أعمّ من المدّعى ، إذ قد يكون عدم الدلالة من جهة القرينة ولعلّ قرينة المقام مانعة من الدلالة هنا ، وهي قضاء العادة بعدم انحصار غنم الشام في السائمة وأنّ فيه معلوفة أيضا البتّة ، وإنّما اقتصر المتكلّم على ذكر السائمة لغرض له مختصّ بها ، ولعلّه في المقام رفع ما عساه يتوهّم من خلوّ الشام عن السائمة.

ومنها : ما فيهما أيضا من أنّه لو صحّ أنّ تعليق الحكم على الوصف يدلّ على نفيه عمّا عداه لما صحّ « أدّ زكاة السائمة والمعلوفة » كما لا يصحّ « لا تقل لهما افّ واضربهما ».

أمّا الملازمة : فلعدم الفائدة ، لأنّه كان حينئذ يغني عن ذكر السائمة والمعلوفة قوله : « أدّ زكاة الغنم » وللزوم التناقض لأنّ وجوب زكاة السائمة لو كان دالاّ على عدم وجوبها في المعلوفة كان التعقيب بوجوب الزكاة في المعلوفة جاريا مجرى « لا تجب الزكاة في المعلوفة وتجب الزكاة فيها » وهو تناقض.

والجواب : أنّ التناقض إن اريد به الواقعي فالملازمة ممنوعة ، لأنّ الدلالة على تقدير ثبوتها مبنيّة على الظاهر والتخلّف عن الظاهر مع القرينة أمر جائز ، فذكر « المعلوفة » عقيب « السائمة » قرينة مرشدة إلى عدم اعتبار الظاهر ، فلا تناقض في الواقع كما هو الحال في مثل قولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن لم يجئك فأكرمه ».

ولا يقاس ذلك على قوله : « لا تقل لهما افّ واضربهما » لأنّ الدلالة في ذلك قطعيّة ناشئة عن الملازمة العقليّة الحاصلة من جهة الأولويّة القطعيّة ، والتخلّف في مثله غير جائز عقلا ، بخلاف الملازمة الظنّيّة المستندة إلى الوضع أو العرف ، فإنّها ممّا يجوز التخلّف عنها بقيام ما يوجب العدول عن مقتضى الوضع أو العرف.

وإن اريد به الظاهري فبطلان التالي ممنوع ، كيف وهو ليس بعادم النظير فيما بين الظواهر والدلالات اللفظيّة ، وإلاّ امتنع التعارض فيما بين النصّ والظاهر بجميع أنواعهما

٣٥٠

وهو كما ترى.

ومنها : ما فيهما أيضا ممّا قرّره في شرح العضدي من أنّه لو ثبت المفهوم لما ثبت خلافه.

أمّا الملازمة : فلأنّه لو ثبت لثبت التعارض بين الدليلين : دليل المفهوم ودليل خلافه وهو منتف بحكم الأصل.

وأمّا انتفاء اللازم ، فلثبوت خلافه في مثل : ( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً )(١) فإنّ قوله : ( أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) في معنى الوصف وقد تحقّق التحريم عند انتفائه فإنّ أكل الربا حرام وإن لم يكن أضعافا مضاعفة.

واجيب عنه أوّلا : بمنع الملازمة في أصل الدليل ، لجواز أن يكون المفهوم حقّا وثبت خلافه أحيانا بناء على دليل قطعي [ و ] لا يعارضه دليل المفهوم لكونه ظنّيّا.

وثانيا : بمنع انتفاء اللازم ، لجواز أن يثبت التعارض لقيام دليل عليه وإن كان الأصل عدمه.

ومنها : ما اعتمد عليه بعض الأعاظم من أنّ الأوصاف موضوعة لذوات ما ثبت له الأوصاف كالجوامد بالنظر إلى مدلولاتها بلا مرية ، مثلا « السائمة » لذات ما ثبت له الوصف كما أنّ أسماء الأجناس موضوعة لمعانيها الكليّة ، فإذا تعلّق الحكم بالأوصاف اقتضى ثبوته لها كالجوامد من دون فرق ، فكما لا يستلزم في الجوامد نفي الحكم فكذلك الأوصاف.

نعم استعمال الأوصاف فيما يستلزم النفي من باب إطلاق المطلق في المقيّد أحيانا يورث احتمالا وإشعارا ، بخلاف الجوامد فإنّها لم تستعمل في ذلك قطّ ولذا لا احتمال فيها ولا إشعار.

وفيه : أنّ ذلك ـ مع أنّه راجع إلى القياس ـ إنّما يتّجه إذا كان النفي عند القائل بالدلالة عليه من مقتضيات الوضع الإفرادي للوصف وهو غير ظاهر منه ولا من غيره ، بل ظاهرهم عنوانا ودليلا كون كلامهم في مقتضى الهيئة التركيبيّة المشتملة على وصف وموصوفه مذكورا أو مقدّرا ، فلم لا يجوز أن يكون الهيئة لها وضع نوعيّ متعلّق بها لغة أو عرفا؟ كما يومئ إليه استنادهم إلى التبادر ونحوه ، ولا يقاس عليه الهيئة المشتملة على الجوامد ، لأنّ الوضع لا يعرف بالقياس ، فيجوز أن لا تكون تلك الهيئة موضوعة لإفادة النفي بخلاف محلّ البحث.

وبذلك ينقدح الوهن فيما نقله في المفاتيح ممّا يقرب ممّا ذكر من أنّ الصفة كالإسم في أنّ الغرض في وضعها التمييز والتعريف ، وكما أنّ زيدا وضع ليمتاز عن عمرو فكذا

__________________

(١) آل عمران : ١٣٠.

٣٥١

احتجّوا* (١) :

___________________________

« الضارب » وضع ليميّز زيدا عن جميع ما يسمّى به ، ثمّ قال : « قال السيّد : وممّا بين الاسم والصفة أنّ المخبر قد يحتاج إلى أن يخبر عن شخص فيذكره بلقبه ، وقد يجوز أن يحتاج إلى أن يخبر عنه في حال دون اخرى فيذكره بصفته ، فصارت الصفة مميّزة للأحوال كما أنّ الاسم مميّزة في الأعيان ».

ومنها : ما قرّره في المفاتيح أيضا من أنّ تعليق الحكم على الصفة ورد تارة مع انتفاء حكمها عن غيرها كما « في الغنم السائمة زكاة » واخرى مع ثبوت مثل حكمها في غيرها كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )(١) فالأصل أن يكون للقدر المشترك وهو ثبوت الحكم عند الصفة دفعا للاشتراك والمجاز ، وهذا ممّا لا ضير فيه إن تحقّق شرائطه المقرّرة في محلّه.

ومنها : ما قرّره بعض الأعاظم أيضا من أنّه لو دلّ لزم المجاز على تقدير استعماله فيما لا مفهوم له وأن لا يحسن عرفا أن يقول : « السارق يجب قطع يده » إلاّ أن يعلم غيره لم يجب قطع يده ، وإلاّ يكون مخبرا بوجود ما لم يعتقد بوجوده ، وقبح الاستفهام عن حال المفهوم كأن يقول بعد قوله : « أكرم السادات أو العلماء » « أأكرم الزهّاد والعباد؟ » لكونه معلوما منه ، والكلّ باطل قطعا ، فإنّه لا مجاز فإنّه لم يستعمل شيء في الكلام في غير معناه ، ولا يتوقّف الحكم على السارق على العلم برفعه عن غيره ، كما أنّه يحسن الاستفهام عرفا.

والكلّ منظور فيه من جهة منع الملازمة في الكلّ كما يظهر بأدنى تأمّل.

(١) * نقل الاحتجاج عليه بوجوه :

منها : ما قرّره المصنّف مع جوابه.

ومنها : ما عن بعض الأجلّة من أنّ المتبادر من التعليق على الصفة عرفا إنّما هو النفي عمّا عدا تلك الصفة.

ألا ترى أنّه لو قال : « اشتر لي عبدا أسود » فهم منه عدم وجوب شراء غيره ، حتّى أنّه لو اشتراه لم يكن ممتثلا ، وإذا ثبت أنّه يدلّ على ذلك عرفا فكذلك لغة للأصل.

وجوابه : منع التبادر إن اريد به ما يعتنى بشأنه عرفا ، ومنع ابتناء عدم الامتثال فيما ذكر

__________________

(١) الإسراء : ٣١.

٣٥٢

من المثال على فهم الدلالة على النفي ، بل على عدم الإتيان بالمأمور به على ما سبق تحقيقه في دفع الإشكالات المتقدّمة.

ومنها : ما عنه أيضا من أنّ الغالب في المحاورات خصوصا في كلام البلغاء إرادة المفهوم من الأوصاف وقصد الاحتراز من القيود ، فيحمل عليه المشتبه إذ المظنون لحوقه بالأعمّ الأغلب.

وجوابه : منع الغلبة ، فإنّا لا نجد في غالب موارد التقييد بالصفة إلاّ عدم الدلالة على الثبوت وهو أعمّ من الدلالة على النفي ، والغالب في القيود كونها للتوضيح مع المعارف وللتخصيص مع النكرات ، وهو حاصل مع عدم إرادة المفهوم كما سبق ، وكون الأصل فيها الاحتراز لا يراد به الغلبة بل قاعدة أولويّة التأسيس من التأكيد ، وهذه القاعدة على إطلاقها ليست بمسلّمة عندنا.

ومنها : قول أبي عبيدة في قوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه » أنّه يدلّ على أنّ ليّ غير الواجد لا يحلّ عقوبته وعرضه ، وفي قوله (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مطل الغنيّ ظلم » أنّه يدلّ على أنّ مطل غير الغنيّ ليس بظلم ، وقوله حجّة لأنّه من أهل اللغة.

واجيب عنه تارة : بأنّه ليس حاكيا عن اللغة بل مجتهد فيها فلا اعتداد بقوله.

واخرى بأنّه معارض بما عن أخفش وجماعة من أهل العربيّة من أنّ وضع الصفة للتوضيح فقط لا للتقييد ، وأنّ مجيئها للتقييد خلاف الوضع ، وربّما يتأيّد ذلك بالشهرة بين الاصوليّين.

ومنها : ما عن ابن عبّاس من أنّه فهم من قوله تعالى : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ )(٣) منع توريثها مع الولد ، وليس ذلك إلاّ من جهة التوصيف.

وجوابه : منع استناد فهمه إلى حاقّ اللفظ ، كيف وأنّ التبادر إنّما يصلح للاستناد إليه إذا علم به في أغلب موارد استعمالات العرف كما قرّر في محلّه ، فلا يجوز التعويل عليه بمجرّد ثبوته في محلّ واحد ، لجواز استناده إلى قرينة خفيّة ، ولا أثر لأصل العدم بالنسبة إليه لابتناء اعتباره على الفحص والبحث.

ومنها : أنّه لو لم يدلّ على ذلك لزم الاشتراك بين المسكوت عنه والمذكور في الحكم

__________________

(١ و ٢) عوالي اللآلي ٤ : ٧٢ ومستدرك الوسائل ١٣ : ٣٩٧ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٩ ص ٧٠.

(٣) النساء : ١٧٦.

٣٥٣

بأنّه ، لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة ؛ لعرى تعليقه عليها عن الفائدة* (١) ، وجرى مجرى قولك : « الانسان الأبيض لا يعلم الغيوب ، والأسود إذا نام لا يبصر ».

والجواب : المنع من الملازمة ؛ فانّ الفائدة غير منحصرة فيما ذكر تموه ، بل هي كثيرة.

___________________________

واللازم باطل ، وأمّا الملازمة : فلعدم الواسطة بين النفي والإثبات ، وأمّا بطلان اللازم : فلأنّه ليس للاشتراك إتّفاقا.

وجوابه : أنّ النفي والإثبات وإن كان ليس بينهما واسطة ولكنّ الدلالة على النفي والدلالة على الإثبات بينهما واسطة ، وهو عدم الدلالة على شيء منهما والسكوت عنها نفيا وإثباتا ، وهذا هو مراد النافين للمفهوم ، فلا ملازمة بين عدم الدلالة على النفي ولزوم الاشتراك في الحكم بحسب دلالة اللفظ لجواز الواسطة ، وإن كان الواقع غير خال عن ثبوت الحكم أو عن انتفائه ، إذ الكلام ليس في الواقع بل في أمر راجع إلى اللفظ.

ومنها : أنّ أهل العربيّة فرّقوا بين الخطاب المطلق والخطاب المقيّد بالصفة ، كما أنّهم فرّقوا بين الخطاب المرسل والخطاب المقيّد بالاستثناء ، فكما أنّه يدلّ على أنّ حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه فكذلك الصفة.

وجوابه : بطلان القياس في اللغة ، ووضوح الفرق بين المطلق والمقيّد بالصفة من غير حاجة في ذلك إلى التمسّك بكلام أهل العربيّة بالتخصيص في الثاني دون الأوّل ، الّذي لا ينوط حصوله بإرادة المفهوم كما عرفت آنفا.

ومنها : أنّ الوصف ظاهر في علّيّة مبدئه للحكم ، والعلّيّة ظاهرة في العلّة المنحصرة ، وإلى ذلك ينظر ما اشتهر عن أهل العربيّة من أنّ تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلّيّة.

وجوابه : ما تقدّم مرارا ، مضافا إلى أنّه أخصّ كما يظهر بالتأمّل فيما قرّرناه في تحرير محلّ النزاع.

(١) * وربّما يقرّر ذلك على نحو ما أشار إليه العلاّمة في الاستدلال بآية النبأ من : أنّه لو لم يفد المفهوم يلزم اللغو والعبث ، سواء ذكر الوصف مسبوقا بالموصوف كـ « أكرم رجلا عالما » أو كان مجرّدا عنه كـ « أكرم عالما ».

أمّا في الأوّل : فواضح.

٣٥٤

منها شدّة الاهتمام ببيان حكم محل الوصف ، إمّا لاحتياج السامع إلى بيانه ، كأن يكون مالكا للسائمة مثلا دون غيرها ، أو لدفع توهّم عدم تناول الحكم له ، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) ؛ فانّه لولا التصريح بالخشية لأمكن أن يتوهّم جواز القتل معها ؛ فدلّ بذكرها على ثبوت التحريم عندها أيضا.

ومنها أن تكون المصلحة مقتضية لإعلامه حكم الصفة بالنصّ وما عداها بالبحث والفحص.

ومنها وقوع السؤال عن محلّ الوصف دون غيره ، فيجاب على طبقه ، او تقدّم بيان حكم الغير لنحو هذا من قبل.

___________________________

وأمّا في الثاني : فلأنّ حيثيّة الوصف إن لم تكن علّة للحكم لكان المناسب تركها والاقتصار على ما يفيد الذات فقط ، إذ تلك الحيثيّة إذا لم تكن لها علّيّة فينحصر العلّيّة في الذات ، فإذا انحصرت فيها كان ذكرها بمجرّدها أولى ، إذ التعليل بالذاتي أولى من التعليل بالعرضي ، لحصوله قبل حصول العرضي ، والحكم الّذي هو المعلول قد كان حاصلا قبل حصول العرضي فكان التعليل به خاليا عن الفائدة.

واجيب عنه : بأنّ العبث إنّما يثبت إذا لم يوجد للوصف فائدة اخرى والفوائد كثيرة غير منحصرة في الاحتراز ، كالاهتمام وعلم السامع بحكم الفاقد للوصف أو عدم حاجته ، أو وقوع السؤال عن واجد الوصف فاجيب على طبقه ، أو عدم المصلحة في بيانه ، أو دفع توهّم عدم شمول الحكم لمحلّ الوصف لخفائه كما في قوله تعالى : ( لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )(١) أو قضاء العادة بأنّ المحتاج إلى البيان بعض أفراد الموضوع أو غير ذلك ممّا لا يحصى.

ودعوى أنّ الاحتراز أظهر الفوائد غير مسموعة ، مع ما فيها من معارضتها لما حكي عن الأخفش من اختصاص الصفة بالتوضيح.

ولنختم المسألة بذكر أمور مهمّة يترتّب عليها فوائد كثيرة :

أحدها : أنّ المنطوق كائنا ما كان إذا كان عامّا فهل يتبعه فيه المفهوم حيث بنينا على حجّيّته ـ

__________________

(١) الإسراء : ٣١.

٣٥٥

واعترض : بأنّ الخصم إنّما يقول باقتضاء التخصيص بالوصف نفي الحكم عن غير محلّه ، إذا لم يظهر للتخصيص فائدة سواه ؛ فحيث يتحقّق ما ذكر تموه من الفوائد ، لا يبقى من محلّ النزاع في شيء.

وجوابه : أنّ المدعى عدم وجدان صورة لا تحتمل فائدة من تلك الفوائد ، وذلك كاف في الاستغناء عن اقتضاء النفي الّذي صرتم إليه ، صونا لكلام البلغاء عن التخصيص لا لفائدة ؛ إذ مع احتمال فائدة منها يحصل الصون ويتأدّى ما لا بدّ في الحكمة منه ؛ فيحتاج إثبات ما سواه إلى دليل. وأمّا تمثيلهم في الحجّة بالأبيض والأسود ، فلا نسلّم أنّ المقتضي لاستهجانه هو عدم انتفاء الحكم فيه عند عدم الوصف ، وإنّما هو كونه بيانا للواضحات.

___________________________

كالشرط على المختار والوصف على القول به ـ فيكون المفهوم أيضا عامّا أو لا؟ فيه خلاف ، فعن الأكثر كالشيخ في العدّة وغيرها والعلاّمة في الاصول والمصنّف في بحث الأسآر وجماعة من العامّة كالفخري والحاجبي والعضدي والتفتازاني والسبكي الأوّل.

وعن جماعة منّا الثاني كالعلاّمة في المختلف ، والمقدّس في مجمعه ، وتلميذه في المدارك ، والشيرواني في تعليقاته على المعالم حيث عدّ دلالة المفهوم أشبه بالدلالة العقليّة ، ثمّ عدّ من لوازمه انتفاء الحكم فيما عدا محلّ القيد في الجملة لا كلّيا ، حتّى عن السيّد صدر الدين في شرحه للوافية أنّه قال : إنّ مفهوم قولنا : « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » ليس كلّ غنم معلوفة فيه الزكاة ، وأنّ هذا يصدق على تقدير أن يجب في بعض المعلوفة الزكاة وعلى تقدير أن لا يجب في شيء منها ، ومفهوم قولنا : « بعض السائمة كذلك » هو عدم صدق قولنا : « بعض المعلوفة كذلك » ويلزمه أن يصدق قولنا : « لا شيء من المعلوفة كذلك ».

وعن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس أنّه ردّ على المصنّف حيث ادّعى إنّ مفهوم قولنا : « كلّ حيوان مأكول اللحم يتوضّأ من سؤره ويشرب منه » هو أنّه لا شيء ممّا لا يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب ، بأنّ هذه دعوى لا شاهد عليها من العقل والعرف ، وعن العلاّمة أنّه ردّ على الشيخ كذلك.

وقال بعض الأعلام : « بأنّ ذلك التوهّم يشبه بأن يكون إنّما نشأ من بعضهم من جعل

٣٥٦

المفهوم نقيضا منطقيّا للمنطوق ، وإن كان صدور مثل ذلك في غاية البعد من مثلهم بل ممّن دونهم بمراتب ، لاختلاف الموضوع ولذلك يتصادقان أيضا.

والظاهر أنّ مراد من أطلق النقيض على المفهوم ـ كفخر الدين الرازي ـ إنّما هو أنّ المفهوم رافع لحكم المنطوق ، فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه.

والمراد رفع ذلك الحكم عن غير الموضوع.

والحقّ هو ما فهمه الشيخ وصاحب المعالم ، فإنّ الحكم المخالف في جانب المفهوم إنّما يستفاد من جهة القيد في المنطوق ، فكلّ قدر يثبت فيه القيد وتعلّق به من أفراد الموضوع يفهم انتفاء الحكم بالنسبة إلى ذلك القدر ، وإلاّ لبقي التعليق بالنسبة إليه بلا فائدة » (١).

وعن المقدّس ـ فيما حكي عنه ـ التعليل له : بأنّ الخروج من العبث واللغو يحصل بعدم الحكم في بعض المسكوت عنه.

وعن تلميذه ـ فيما حكي عنه ـ التعليل بفقد اللفظ الدالّ على العموم قائلا : بأنّه لو سلّم فالخاصّ مقدّم عليه.

وعن المدقّق الشيرواني ـ فيما حكي عنه ـ التعليل بما محصّله : أنّه يكفي في دلالة المفهوم مخالفة المسكوت عنه للمنطوق في الجملة ، فجاز انقسامه إلى ما يوافق المنطوق وإلى ما يخالفه.

وأنت خبير بأنّ كلّ هذه التعليلات مصادرات لا ينبغي الالتفات إليها أصلا.

وعن بعضهم التفصّي عمّا أورد عليهم : من لزوم خروج القيد بلا فائدة كما تقدّم ذلك عن بعض الأعلام أيضا ، بأنّ ذلك لعلّه لعدم وجود أمر مشهور مشترك بين أفراد المنطوق وبعض أفراد المسكوت عنه ، يعني أنّ جميع أفراد ما يؤكل لحمه مثلا يجوز الشرب والتوضّؤ من سؤره فنطق به الكلام ، وإنّما لم يشرّك بعض الأفراد الغير المأكول أيضا مع كونه شريكا للمنطوق لأجل عدم لفظ مشهور جامع لهما فيبقى بيانه إلى وقت الحاجة.

وأجاب عنه بعض الأعلام ـ وتبعه بعض الأعاظم ـ : « بأنّه لا ينحصر الإفادة في وجود اللفظ المشهور المشترك ، فقد يصحّ أن يقال مثلا : « كلّ حيوان يجوز التوضّؤ من سؤره إلاّ الكلب مثلا ، وفي قوله : « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » مع ثبوت الحكم لبعض المعلوفة يمكن أن يقال : « كلّ غنم فيه الزكاة إلاّ النوع الفلاني » فلم ينقطع المناص حتّى

__________________

(١) القوانين ١ : ١٨٥.

٣٥٧

يلزم تأخير البيان وغيره من الحزازات » (١).

ثمّ قال في آخر كلامه : فالتّحقيق أن يقال : إن جعلنا السور (٢) من جملة الحكم وجعلنا الموضوع نفس الطبيعة المقيّدة فالأقرب ما ذكره هؤلاء ، وإن جعلناه جزء الموضوع بأن يرجع القيد إلى كلّ واحد ممّا يشمله السور فالأقرب ما اخترناه ، مثلا إمّا نقول : « الحيوان المأكول اللحم حكمه أنّه يجوز استعمال سؤر كلّ واحد من أفراده » أو نقول : « كلّ واحد من أفراد الحيوان المأكول اللحم حكمه جواز استعمال سؤره » فلا بدّ أن يتأمّل في أنّ معنى قولنا : « كلّ ما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره » موافق لأيّهما وأيّهما يتبادر منه في العرف؟ والأظهر الثاني للتبادر ، فيكون الوصف قيدا لكلّ واحد من الأفراد ، والمفهوم يقتضي نفي الحكم حيث انتفى ذلك القيد (٣).

وعن العلاّمة وغيره ممّن تقدّم من العامّة أنّهم صرّحوا بعدم الخلاف في أمر معنوي بل جعلوا الخلاف في أمر لفظي ، وهو أنّ العموم هل هو من عوارض اللفظ أو لا؟ وقالوا : فمن قال بالأوّل اختار الثاني ومن قال بالثاني اختار الأوّل.

وعن العضدي أنّه جعل النزاع في أنّ المفهوم ملحوظ فيقبل القصد إلى البعض منه أو لا ، بل حصل بالالتزام تبعا لثبوت ملزومه فلا يقبل.

وعن الباغنوي الاعتذار عنه بأنّه لما رأى أنّ النزاع الواقع بين العلماء الأعيان لا يليق أن يكون لفظيّا أوّله بما حاصله : أنّ المفهوم هل يكون ملحوظا عند التلفّظ بالمنطوق أو لا؟

وقد يقال : بأنّ مبنى هذا النزاع على أنّ لفظة « كلّ » هل هي جزء الموضوع حتّى يكون اللازم رجوع القيد إلى كلّ واحد من الأفراد الّتي سوّر بها ، أو أنّ الموضوع هو نفس الطبيعة المقيّدة ولفظة « كلّ » هي جزء للحكم.

وبعبارة اخرى : أنّ السور هل هو ملحوظ بعنوان كونه موضوعا ومتعلّقا للنفي والإثبات بحيث يكون الأفراد بوصف العموم موضوعا للقضيّة ، أو هو ملحوظ على وجه المرآتيّة ويكون الحكم في الحقيقة حاصلا بين مدخول السور وبين المحمول ، بحيث يكون كلّ فرد من أفراد الموضوع متعلّقا للنفي والإثبات ، فإن كان الثاني فالحقّ هو الأوّل وإن كان الأوّل فالحقّ هو الثاني ، فيجب أن يختلف المفهوم مع المنطوق في الكمّ أيضا كالكيف ، لأنّ مفاد المفهوم يكون حينئذ سلب هذا العموم لا عموم السلب كما كان في الثاني ، وذلك لأنّ الهيئة

__________________

(١ و ٢) القوانين ١ : ١٨٥ و ١٨٦.

(٣) والمراد بالسور هو لفظ « بعض » و « كلّ » وما شابههما.

٣٥٨

الاجتماعيّة على الوجه الأوّل قيد الموضوع في القضيّة دون الثاني ، ولذا كان المستفاد من القضيّة في الثاني كون الشرط سببا للحكم بالنسبة إلى كلّ فرد فرد ، وفي الأوّل كونه سببا للحكم بالنسبة إلى مجموع الأفراد من حيث المجموع ، فيكون مفهومه نفي الاجتماع إذا انتفى سببه ، ولا ينافي ثبوت الحكم بالنسبة إلى كافّة الأفراد إلاّ واحدا منها من جهة سبب آخر ، فإنّ مفهوم الموجبة الكلّية على هذا في حكم السالبة الجزئيّة وبالعكس ، ومفهوم السالبة الكلّية في حكم الموجبة الجزئيّة وبالعكس.

ثمّ إنّ الأمر واضح فيما لو اتّضح إرادة أحد المعنيين.

وأمّا لو تردّد فالأقرب هو الحمل على إرادة المعنى الثاني ، نظرا إلى غلبة الاستعمالات العرفيّة الموجبة للتبادر مثلا قولك : « إن جاءك زيد فأكرم العلماء » ينساق منه إلى الذهن إنّ المجيء سبب لوجوب إكرام كلّ فرد من أفراد العلماء ، والمنساق من قولك : « إن جاءك العلماء فأكرم زيدا » أنّ مجيء الكلّ سبب في وجوب إكرام زيد ، حتّى أنّه لو لم يجيء واحد منهم لم يجب الإكرام ، ومن قولك : « إن جاءك العلماء فأكرم البلغاء » إنّ مجيء الكلّ سبب لإكرام كلّ فرد فرد ، ومن قولك : « إن جاءك العلماء فأكرمهم » أنّ مجيء كلّ منهم سبب لإكرام الجائي بالخصوص لا لإكرام الغير الجائي ، كما أنّ المنساق من قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ )(١) التوزيع أيضا.

وممّا يرشد إليه ما قاله الطريحي في فوائد مجمعه : من أنّ العرب إذا قابلت جمعا بجمع حملت كلّ مفرد من هذا على كلّ مفرد من هذا مثل قوله : ( وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ )(٢) و ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(٣) أي ليأخذ كلّ واحد منكم سلاحه ، ولا ينكح كلّ واحد ما نكح أبوه.

فإن قيل : لازم ما ذكرت أوّلا أن يكون نقيض المحصورات الأربع على نوعين ، إذ على الثاني يكون نقيضها كنفسها في الكمّ وعلى الأوّل يكون كما قاله أهل الميزان ، وهذا مناف لما قرّروه وتسالموا عليه من اعتبار الاختلاف في الكمّ أيضا كالكيف.

قلنا : الأمر وإن كان كما ذكر في الحقيقة ، إلاّ أنّ نظرهم لمّا كان إلى الأخذ بالقدر المتيقّن الجاري في كافّة القضايا السيّال في جميع الموارد فاقتصروا على ما قالوا ، وقطعوا النظر عن ملاحظة دلالة اللفظ من حيث إنّها تجري على قسمين كما هو ديدنهم في كافّة مطالبهم.

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) النساء : ١٠٢.

(٣) النساء : ٢٢.

٣٥٩

هذا محصّل ما ذكره القوم في المسألة ولهم في النقوض والإبرامات والردود والاعتراض من كلّ على الآخر عبارات شتّى وكلمات مختلفة لا فائدة مهمّة في التعرّض لذكرها هنا ، والعمدة منها ما أشرنا إليها ليتشخّص بها مناط نزاعهم ومحصّل استدلالاتهم.

ولقد عرفت أنّ شيئا منها لم يرد على وجه التحقيق وليس في شيء منها ما يشفي العليل ويروي الغليل.

والأولى أن يقال في تنقيح هذا المقال : إنّ المنطوق مع المفهوم حيثما يثبت قضيّتان معقولتان إحداهما : مدلول للقضيّة الملفوظة ، والاخرى : لازم من هذا المدلول ، تتولّدان عن معنى حرفي رابطي مستفاد من التعليق بتوسّط الأداة كما في الشرط أو غيرها كما في الوصف معبّر عنه بالسببيّة المنحلّة إلى كون المقدّم أو الوصف ما يلزم من وجوده الوجود وما يلزم من عدمه العدم ، فيكونان بالقياس إلى ذلك المعنى الحرفيّ كالمعلولين لعلّة ثالثة ، أو لازمين من ملزوم واحد ، فلا ينفكّ شيء منهما عن الآخر ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن ملزومه.

فقضيّة ذلك كلّه أن يؤخذ مع المفهوم جميع ما هو مأخوذ في المنطوق من إطلاق أو تقييد أو جهة أو كمّيّة في الحكم المعلّق ، أو الشرط والوصف المعلّق عليهما ، أو موضوع الحكم أو متعلّقه ، أو موضوع الشرط أو الوصف وهو محلّهما ، وغير ذلك ممّا له تعلّق بعنوان السبب أو المسبّب أو غيرهما ، عدا كيف المسبّب وذات السبب فإنّ المعتبر فيهما اختلاف القضيّتين ، بأن يكون المعتبر من الحكم والشرط أو الوصف في القضيّة المنطوقيّة جانب الوجود وفي القضيّة المفهوميّة جانب العدم ، أداء لحقّ السببيّة وأخذا بموجب العلّيّة المستلزمة للزوم الوجود من الوجود ولزوم العدم من العدم.

وإن شئت فقل : يتعيّن فيما بين المنطوق والمفهوم جميع الوحدات الّتي لها مدخل في لحاظ المتكلّم في انعقاد القضيّة الملفوظة حسبما يجعله من الوحدات المعتبرة في التناقض وغيرها ، كالكمّ وغيره من إطلاق وتقييد بالزمان أو المكان أو حالة اخرى ، سوى وحدة الشرط أو الوصف أو وحدة الكيف ، نظرا إلى أنّ المعتبر فيهما الاختلاف ليكون المنطوق منطوقا والمفهوم مخالفا له على ما يومئ إليه تسميتهم له بمفهوم المخالفة.

وعلى هذا فلو كان الشرط أو الوصف مأخوذا في القضيّة على الإطلاق ولا بشرط شيء ممّا عداه فلا بدّ وأن يعتبر انتفاؤه الموجب لانتفاء الجزاء أو الحكم المعلّق على هذا

٣٦٠