تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

كلّ من جهات الاختيار والاضطرار ، كيف والفرد الاضطراري بدل اضطراري للاختياري فلا يعدل إليه إلاّ مع عدم التمكّن عن الاختياري ، لكون الأمر الوارد به على فرضه واردا على هذا الوجه قاضيا باعتبار الترتيب بينه وبين الأصل معلّقا على عدم التمكّن عنه ، ومفروض المقام خلافه ، لكفاية التمكّن عن الاختياري في الجملة ولو في بعض آنات وقته في صحّة التكليف به وإلزام المكلّف عليه عقلا ، وهو حاصل ولو في الجزء الأخير منه.

وقضيّة ذلك وجوب تأخير الفعل إلى آخر الوقت على اولي الأعذار كما عليه المرتضى وابن الجنيد وسلاّر على ما في المحكيّ عنهم ، ولعلّه إلى ذلك ينظر الأخبار الواردة في المتيمّم الآمرة بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ، بل عليه نقل الإجماع كما عن المرتضى.

هذا كلّه على حسب قواعد العقل ، فلو فرض حينئذ أنّ المأمور به الواقعي ما لا بدل له في الشريعة ليقوم مقامه عند تعذّره ـ كالصلاة لفاقدي الطهورين ـ تعيّن الإتيان به عند زوال العذر ولو اتّفق في الجزء الأخير من الوقت ، لوجود المقتضي وهو عموم الجمع في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) ونحوه ، وارتفاع المانع الّذي لولاه لا نكشف عدم توجّه الخطاب رأسا.

ولو فرض ورود بدل له كالصلاة بالتيمّم عند تعذّر المائيّة ، والصلاة بثوب نجس عند تعذّر غيره وتعذّر تطهيره ، والصلاة عريانا عند تعذّر الساتر وما أشبه ذلك ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة دليل ذلك البدل فإن لم يثبت فيه إطلاق أو عموم قاض بتساوي العذر المنقطع مع العذر المستمرّ في الحكم بثبوت البدليّة كان دليل الأصل حينئذ سليما عن المعارض كالصورة الاولى فيتعيّن الأخذ به جزما.

وقضيّة ذلك عدم التخيير بينه وبين بدله ، وإن ثبت فيه إطلاق أو عموم على الوجه المذكور يقع التعارض بينه وبين دليل الأصل ، فلا بدّ من مراجعة قواعد الترجيح حينئذ فيحكم بصحّة توهّم التخيير على فرض تحكيم دليل البدل على دليل الأصل.

وأمّا المقام الثاني : فقد يتوهّم فيه الإطلاق في الأدلّة الواردة لاعطاء حكم البدليّة كقوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا )(٢) وغيره ممّا ورد فيه وفي سائر الأبدال من الأخبار إطلاقا قاضيا بجواز الاكتفاء بالبدل عند طروّ العذر عن الأصل ، سواء وقع أوّل الوقت أو وسطه أو آخره ، وكأنّه من هنا نشأ ما عليه الشيخ والشهيدين وغيرهما من تجويز الإتيان بالصلاة أوّل الوقت لذوي الأعذار ، على خلاف ما عرفت عن السيّد وابن الجنيد وسلاّر من

__________________

(١) المزمّل : ٢٠.

(٢) النساء : ٤٣.

٢٠١

إيجاب تأخيرها إلى آخر الوقت ـ كما هو أحد الوجوه المحتملة في تعليل ثاني الشهيدين بمخاطبتهم بالصلاة من أوّل الوقت بإطلاق الأمر فتكون مجزية للامتثال ـ وهو كما ترى في غاية الإشكال لتطرّق المنع إلى دعوى ذلك الاطلاق في تلك الأدلّة ، لوضوح أنّ مفادها عند العرف حسبما يشهد به السياق قضيّة وردت لتشريع حكم البدليّة في الجملة ، وبيان أنّ هذه الأبدال ما يجوز الاكتفاء بها عمّا هو مأمور به في الواقع من دون نظر فيها إلى تعميم الحكم بالقياس إلى من لحقه زوال العذر فيما بعد أوّل الوقت ، ليكون ذلك قاضيا بخروج المفروض عن عموم دليل الأصل ، وظاهر أنّ هذه القضيّة يكفي في صدقها ثبوتها على سبيل الجزم واليقين بالنسبة إلى من استمرّ عذره إلى آخر الوقت ، فيبقى الباقي تحت عموم دليل الأصل.

فبجميع ما قرّرناه تبيّن أنّ ما في كلام ثاني الشهيدين وغيره من التعليل المذكور عليل ، لوروده على خلاف التحقيق.

فإنّه لو أراد بما ذكره من إطلاق الأمر إطلاقه بالنسبة إلى المأمور به الواقعي فهو ممّا ينبغي القطع بفساده ، لأنّ الأخذ بإطلاق الأمر على هذا المعنى حمل لخطاب الشرع على اعتبار التكليف بغير المقدور ، لعدم القدرة على المأمور به الواقعي ما دام العذر ، وهو باطل بضرورة العقل.

ولو أراد إطلاقه بالنسبة إلى بدله الّذي أثبته الشرع ، ففيه : أنّه ظاهر في المأمور به الواقعي ولا يتناول غيره ، وتعيّن العدول عنه إلى بدله إنّما يعرف بدليل آخر لا بمجرّد ذلك الأمر ، فلذا أشرنا سابقا إلى أنّ المكلّف لو طرئه العذر الرافع للتكليف لا يقضي فيه العقل إلاّ بخروجه عن عموم الخطاب من غير أن يستقلّ باثبات بدل له.

ولو أراد إطلاق الأمر بالبدل فقد تبيّن منعه ، ولو سلّم فيقع التعارض بينه وبين دليل الأصل وبينهما عموم من وجه ، لتناول دليل الأصل كلاّ ممّن تمكّن عنه في تمام الوقت ومن تمكّن عنه في بعضه بداية أو أثناء أو نهاية ، وشمول دليل البدل كلاّ ممّن له العذر في تمام الوقت ومن له العذر في بعض أجزائه.

ولا ريب أنّ التصرّف في الثاني أولى ، لاستناد دلالة الأوّل على العموم إلى الوضع فيكون أقوى من دلالته على الاطلاق من جهة استناده إلى حكم العقل الناشئ عن السكوت في معرض البيان.

٢٠٢

فالقول بوجوب التأخير إلى آخر الوقت على ذوي الأعذار متّجه جزما ، ولا يمكن دفعه ما لم يرد على خلافه نصّ بالخصوص.

ولا يذهب عليك أنّ المراد بالوجوب هنا ليس الوجوب التعبّدي ، بل الوجوب التوصّلي المقدّمي الّذي يحكم به العقل إلزاما للمكلّف على تحصيل اليقين بالامتثال في موضع اليقين بالاشتغال ، فيكون التأخير حينئذ مقدّمة علميّة فتجب حيث يجب العلم كما في المقام ، من غير فرق في ذلك [ بين علمه ](١) بزوال العذر مع التأخير وبين رجائه ، فإنّ اليقين بالبراءة في كلّ منهما موقوف على التأخير وإن كان بينهما يحصل الفرق من جهات اخر ، مثل أنّ الأوّل قاطع بعدم البراءة مع عدم التأخير والثاني شاكّ فيه ، والأوّل فاعل للمحرّم حينئذ بالنظر إلى التشريع دون الثاني ، بناء على تفسير « البدعة » بمعناها الأخصّ كما هو الظاهر.

نعم يمتاز عنهما في جميع تلك الأحكام من كان من أوّل الوقت قاطعا بعدم زوال العذر إلى آخره ، فهو حينئذ قاطع بعدم تكليف له إلاّ بما يناسب عذره من الأبدال ، فلو أتى به من دون تأخير لم يكن فاعلا للمحرّم ولا أنّه مخاطب من جانب العقل بالتأخير من باب المقدّمة ، لأنّه حين العذر لا يعتقد في حقّه التكليف بغير ما يناسب حاله ، وهو في اعتقاده ما لا مقدّمة له ، لأنّه يقطع بالبراءة في جميع أجزاء الوقت ومعه لا يعقل مخاطبته بالتأخير من باب المقدّمة العلميّة.

غاية الأمر أنّه إذا انقطع عذره في الأثناء انكشف له فساد اعتقاده من جميع الجهات المذكورة.

نعم لو استفدنا وجوب التأخير عن الروايات ـ على فرض ورودها في الباب ـ نظير الأخبار الواردة في تأخير المتيمّم فربّما يحتمل كونه تعبّديا ويتساوى فيه حينئذ من قطع بزوال العذر ومن قطع بعدمه ومن شكّ فيهما كما لا يخفى.

وإذا تمهّد هذا كلّه فاعلم أنّ إشكال المسألة وهي كون أداء المأمور به الاضطراري مفيدا للإجزاء مطلقا إنّما ينشأ عن الشبهة في أنّ المكلّف المعذور الّذي يلحقه في الوقت زوال العذر هل هو بحسب الواقع ونفس الأمر مكلّف بما يناسب عذره أو لا ، بل هو مكلّف في متن الواقع ـ ولو حال العذر ـ بالمأمور به الواقعي الّذي ينوط حصوله بلحوق زوال العذر؟

فعلى الأوّل لا إشكال في أنّ الإتيان بالبدل الاضطراري على وجهه ممّا يفيد امتثال

__________________

(١) أثبتناه استظهارا ، والأصل هنا مطموس.

٢٠٣

الأمر به ، فيستلزم الإجزاء وفراغ الذمّة عنه وعن المأمور به الواقعي جزما.

أمّا الأوّل فلعين ما تقدّم من الوجوه القاضية بالإجزاء.

وأمّا الثاني : فلعدم اشتغال الذمّة به ما دام العذر وحصوله بعد زواله مبنيّ على ورود أمر متجدّد ، والأصل عدمه مع أصالة البراءة.

وعلى الثاني لا إشكال في عدم الإجزاء ، بل هو حينئذ من جهة عدم كونه في متن الواقع مكلّفا بالبدل الاضطراري ممّا لا يفيد الامتثال فضلا عن الإجزاء ، فإنّ ما حصل منه حينئذ لم يكن بما امر به وما امر به لم يحصل بعد ، فيجب عليه الخروج عن عهدة هذا الأمر ولا يتأتّى إلاّ بأدائه على ما أمر به.

ولا يذهب عليك أنّ هذا في الحقيقة خارج عن موضوع مسألة الإجزاء ، فالقول بوجوب الإتيان بالمأمور به الواقعي حينئذ لا ينافي المختار ، ونحن حيث رجّحنا فيما تقدّم من المقامين ثاني الاحتمالين أخذا بموجب أدلّة المأمور به الواقعي ، إمّا لأنّه لا معارض لها في محلّ البحث ، أو لتحكيمها على معارضها على الفرض المتقدّم كان الراجح عندنا في أصل المسألة القول بعدم كفاية الإتيان بالبدل الاضطراري في سقوط المأمور به الواقعي عن الذمّة ، بل هي باقية بعد على اشتغالها به إلى أن يحصل أداؤه على وجهه.

هذا كلّه حسبما يقتضيه القواعد الاصوليّة ، مع إمكان ورود دليل من الخارج على خلافها في الدلالة على الكفاية والسقوط وفراغ الذمّة بالمرّة ، بكشفه عن كون التكليف الواقعي فيما حصل أداؤه من البدل الاضطراري ، فإنّه على تقدير وروده ممّا يجب الأخذ به ، وأمّا النظر في وروده والعدم فليس من وظيفة هذا الفنّ.

المسألة الثانية

إذا أتى المكلّف بالصلاة مع عدم تيقّن الطهارة تعويلا على استصحابها ثمّ تبيّن عدم مصادفته للواقع بانكشاف انتفاء الطهارة في نفس الأمر ، فالظاهر أنّه لا يجزيه في سقوطه القضاء بالنسبة إلى الصلاة مع الطهارة الواقعيّة ، وإن كان يجزيه بالقياس إلى المأمور به الظاهري.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم لا يدخل في مداليل الألفاظ ، وخطاب الشرع لا يتعلّق إلاّ بالامور الواقعيّة ، والأصل في الشرط ـ حيثما ثبت اشتراط شيء بشيء أخذا بما ينساق من القضيّة في العرف والعادة ـ كونه شرطا واقعيّا من غير مدخليّة للعلم فيه بغير عنوان

٢٠٤

الطريقيّة إلاّ فيما دلّ على خلافه دليل خاصّ ، كما في أحكام لباس المصلّي ومكانه من حيث الطهارة والنجاسة والاباحة وغيرها ، فالمكلّف بالصلاة مع الطهارة مخاطب بها مع الطهارة الواقعيّة على ما هو مفاد ظاهر الخطاب ، ولمّا كان الاشتغال اليقيني ممّا يستدعي اليقين بالبراءة وهو ما لا يحصل إلاّ مع إحراز الطهارة الواقعية بطريق اليقين فالعقل يلزمه من باب الهداية والارشاد على تحصيل اليقين بها ، فهذا اليقين ما يثبت اعتباره بحكم العقل طريقا إلى الواقع ومرآتا على إحراز المكلّف به الواقعي ، من غير أن يكون له مدخليّة في الموضوع ، ولكنّ الشرع لكمال رأفته على المكلّف أضاف إليه طريقا آخر وهو الاستصحاب الّذي يرجع مفاده إلى الأخذ بمقتضى الحالة السابقة في ترتيب الأحكام وعدم الاعتناء باحتمال خلافها ، ونزّله في ترتيب تلك الأحكام منزلة اليقين قائما مقامه في كونه طريقا إلى إحراز الواقع ، وحكم بأنّه أيضا ممّا يحرز به الواقع تعبّدا منّي ، كما أنّ اليقين ممّا يحرز به الواقع تعبّدا من العقل ، فإذا اعتمد المكلّف على كلّ منهما في موضع جريانه يحصل له العلم بالبراءة ، غير أنّه في أحدهما علم حقيقي وفي الآخر علم شرعيّ ، فوجوب الأخذ به في إحراز الطهارة وغيرها ممّا يقع العلم الحقيقي طريقا إليه حكم ظاهري ثبت التعبّد به من الشرع ، وظاهر أنّه لا ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي المعبّر عنه بـ « القضيّة الشأنيّة » الثابتة في متن الواقع المتوجّهة إلى المكلّف حيثما جامع شرائط التكليف ، بل هو معه حكمان قد يتوافقان وقد يتخالفان ، وحيثما حصل الموافقة بينهما خرج المقام عن موضوع الكلام ، للجزم بتعلّق الحكم الواقعي به فعلا من جهة وجود مقتضيه وفقد مانعه كتعلّق الحكم الظاهري به ، والمفروض أنّه خرج عن عهدته بطريق شرعي تعبّده الشارع على العمل به في إحراز الواقع ، فقد عمل بمقتضى كلّ من الحكمين ومعه ليس عليه شيء في الوقت ولا في خارجه ، لعين ما تقدّم من أدلّة الإجزاء ، كما أنّه لو حصل المخالفة بينهما بعدم مصادفة الاستصحاب للواقع مع عدم تبيّن ذلك للمكلّف خرج عن موضوع الكلام ، وليس عليه شيء بالنظر إلى الواقع مطلقا لا من جهة أنّه قد أحرزه وخرج عن عهدته ليكون على خلاف الفرض ، بل لكون السالبة في حقّه حينئذ منتفية الموضوع ، فإنّه من جهة تعبّده شرعا على العمل بطريقه المجعول وعدم علمه بالمخالفة بمنزلة الغافل.

ومن البيّن قبح تكليف الغافل ، فليس عليه بالنظر إلى الواقع تكليف ليستدعى منه الخروج عن العهدة ، والّذي ثبت عليه من التكليف الظاهري الناشئ عن هذا التعبّد قد خرج

٢٠٥

عن عهدته ، ومجرّد ثبوت القضيّة الشأنيّة في متن الواقع ما لم تنته إلى الفعل لا يكفي في ترتّب آثار التكليف عليه.

وأمّا لو حصلت المخالفة فيها وعلم بها أيضا بعد العمل على مقتضى تكليفه الظاهري مع بقاء الوقت فهو محلّ البحث في المقام.

فنقول حينئذ : لا مانع في حكم العقل من تعلّق الحكم الواقعي به في تلك الصورة ، وكونه مخاطبا بالصلاة مع الطهارة الواقعيّة ولو كان ذلك قبل تبيّن المخالفة ، لكونه على فرض ثبوته من باب الأمر بما علم الآمر بلحوق زوال العذر والمانع عن التكليف.

وقد تقدّم أنّه ممّا يجوّزه العقل ، والمفروض أنّ المقتضي أيضا وهو عموم الخطاب موجود ، فيكون في متن الواقع مكلّفا بغير ما أتى به وإن كان هو لا يعلم به ما دام عدم تبيّن المخالفة ، ولا يستلزم ذلك محذورا بعد لحوق تبيّن المخالفة الكاشف عن كون تكليفه بحسب الواقع في غير ما أتى به.

ومن المعلوم أنّ هذا التكليف أيضا ممّا يقتضي الخروج عن العهدة ولم يحصل ، ولا يجزيه الإتيان بما وافق تكليفه الظاهري ، ولا ينافيه دليل ذلك التكليف لما عرفت من قضيّة كونه معتبرا من باب الطريقيّة.

وقد تبيّن كذبه وعدم إيصاله للمكلّف إلى ما هو مطلوب منه في الواقع ، مع إمكان استفادة هذا الحكم عن نفس ذلك الدليل ، كما يفصح عنه ملاحظة الغاية في جملة من الأخبار الاستصحابيّة كما لا يخفى ، وخصوص قوله عليه‌السلام في خبر زرارة وغيره : « وإنّما تنقضه بيقين آخر » ونحو ذلك بعد قوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ».

هذا كلّه على حسب القواعد الاصوليّة المفروضة مع الاغماض عمّا يرد عليها من الأدلّة الشرعيّة فيكون كلاما تامّ الجريان في جميع موارد مخالفة الحكم الظاهري للواقعي ولا اختصاص له بالمقام.

ومن جملة تلك الموارد ما لو عمل المجتهد على مقتضى ظنّه الاجتهادي فانكشف له بعد العمل مخالفة ظنّه للواقع ، وفي حكمه مقلّده العامل على مقتضى هذا الظنّ ، فمع بقاء الوقت يجب عليهما الإعادة ، ومع خروجه يبتنى على مسألة القضاء ، ولا ينافيه قيام الدليل الشرعي من اجماع ونحوه على الخلاف ، لأنّه حكم على تقديره ثبوته وارد على خلاف الأصل.

ومن هنا تبيّن عدم منافاة ما في خبر زرارة في الصحيح الّذي عدّوه من أدلّة حجيّة

٢٠٦

الاستصحاب الوارد في دم الرعاف من الحكم بعدم الإعادة استنادا إلى الاستصحاب بقوله عليه‌السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذاك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » مع ما فيه أيضا من خروجه عن محلّ الكلام من كون طهارة الثوب من الشرائط العلميّة المخرجة على خلاف الأصل من وجه آخر كما عرفت.

المسألة الثالثة

اعتقاد المكلّف فيما يأتي به على وفق معتقده لا يؤثّر في حصول الإجزاء ما لم يطابق المعتقد الواقع ، إذ الإجزاء فرع الإتيان بالمأمور به على وجهه والمعتقد بما هو معتقد في موضع المخالفة ليس بمأمور به في الواقع ، ولا يعقل من مجرّد الاعتقاد تأثير في كون ما ليس بمأمور به في الواقع مأمورا به واقعا ولا ظاهرا ، لا في حكم العقل ولا في حكم الشرع ، وعليه بناء العقلاء كافّة ويساعد عليه القوّة العاقلة ، مضافا إلى فقد دليل عليه من الشرع ، وما هو في اعتقاد المكلّف أمر خيالي وليس بأمر حقيقي واقعي ولا ظاهري ، فالتعبير عنه بـ « الأمر الظاهري العقلي » ـ كما في بعض العبائر ـ وارد على خلاف التحقيق أو مراد به المعنى المجازي بتقريب ما ذكرناه.

وتوهّم مخاطبة العقل للمكلّف بقوله : « إعمل بمعتقدك » غفلة عن أنّه الزام له على العمل بالمعتقد بعنوان أنّه واقع ، والمفروض في المقام كون المعتقد فاقدا للعنوان فيكون فاقدا للالزام الصادر من العقل أيضا.

ولا ينافيه لحوق المدح في بعض الأحيان بسبب العمل بالمعتقد وإن خالف الواقع ، لأنّه مدح على الفاعل من حيث كشف عمله عن كونه مع المولى في مقام الاطاعة والانقياد ، لا أنّه مدح على الفعل ليوجب فيه حسنا كاشفا عن الأمر به من العقل أو الشرع ، وتفصيل القول في ذلك موكول إلى محلّه ، فحينئذ لو عمل المكلّف على طبق معتقده ولم ينكشف له فساد اعتقاده أبدا ليس عليه شيء بالنظر إلى الواقع لا إعادة ولا قضاء لقبح خطاب الغافل ، ولو انكشف له فساد اعتقاده فإن كان في الوقت يجب عليه الإعادة ادراكا للواقع الّذي لا مانع من خطابه به حينئذ عملا بعموم المقتضي السليم عن مصادفة المانع ، وإن كان في خارجه يجب عليه القضاء فيما ثبت له القضاء بحسب الشريعة.

وربّما يتوهّم العدم بدعوى الامتثال المقتضي للإجزاء تمسّكا بامور :

٢٠٧

الأوّل : إطلاق المعظم بأنّ امتثال الأمر يقتضي الإجزاء بمعنى الخروج عن عهدة التكليف وسقوط التعبّد به ثانيا.

والثاني : أنّه حين العمل كان مكلّفا بمعتقده ولم يكن مكلّفا بما في الواقع لأنّه تكليف بما لا يطاق ، فالمأمور به في الصورة المفروضة هو هذا العمل الّذي أتى به على وجهه ، فيلزم منه أن يترتّب عليه جميع ما يترتب على الإتيان بما هو متعلّق الأمر الشرعي بحسب الواقع.

والثالث : أنّه حين العمل وبعده كان متيقّنا ببراءة ذمّته عن الواقع ، واتيانه بالمأمور به وسقوط التكليف عنه ، فيجب استصحاب المذكورات بعد كشف الخطأ عملا بعموم قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين إلاّ بيقين مثله » ونحوه.

والرابع : أنّ في لزوم الإعادة حرجا عظيما في كثير من الصور.

والجواب عن الأوّل : إنّ اطلاق المعظم وارد في امتثال الأمر الحقيقي الواقعي أو الظاهري فلا يتناول الأمر الخيالي ، وقد عرفت عدم ثبوت الأمر بالنسبة إلى المعتقد بما هو معتقد بحسب الحقيقة ، فما حصل الإتيان به ليس بمأمور به وما أمر به في الواقع لم يحصل الإتيان به.

وعن الثاني : منع كونه مكلّفا حين العمل بمعتقده إن اريد به الحقيقي ، ومنع كون التكليف بالواقع تكليفا بما لا يطاق ، وإنّما يلزم ذلك لو اريد منه الإتيان به حال الاعتقاد وأمّا لو اريد منه حال الاعتقاد الإتيان به بعد انكشاف فساده فلا ، لكونه من باب الأمر بما علم الآمر بزوال علّة المنع حال حصول الفعل ، وهذا شيء لا يأبى عنه العقل كما عرفت ، ولا يندرج في عنوان التكليف بما لا يطاق ، فلا يلزم منه أن يترتّب عليه جميع ما يترتّب على الإتيان بما هو متعلّق الأمر الشرعي بحسب الواقع.

وعن الثالث : بأنّ انكشاف فساد الاعتقاد ممّا يقضي بعدم تحقّق المعتقد في الآن السابق ومعه لا يعقل الاستصحاب ، كيف وقد عرفت أنّ ما يثبت مع الاعتقاد الكاذب أمر خيالي ، فيكون كلّ من المذكورات في ترتّبه على ذلك الاعتقاد مبنيّا على مجرّد الخيال ولا واقعيّة له ليمكن استصحابه في الزمان اللاحق ، مع أنّ من أركان الاستصحاب كون الزمان اللاحق ظرفا للشكّ وانكشاف فساد الاعتقاد ممّا يوجب اليقين بالخلاف فيخرج عن مجرى الاستصحاب.

وعن الرابع : بأنّ وجوب الإعادة والقضاء إنّما يلتزم به في غير موضع المنع ، ولزوم

٢٠٨

العسر والحرج في كثير من الصور ـ على فرض تسليمه ـ مانع شرعي قائم في المقام من باب الطواري فلا يكون منافيا لما قرّرناه ، على أنّ الكلام إنّما هو في مقتضى القواعد الكلّيّة والقاعدة كثيرا مّا يلحقه التخصيص كما هو الحال في أصل التكاليف الواقعيّة الخارجة عن محلّ البحث ، فلذا يخصّص ذلك الكلام بغير ما لو أخذ الاعتقاد فيه من باب الموضوعيّة ، فإنّ المأمور به حينئذ في موارد ثبوته إنّما هو المعتقد بما هو معتقد وقد خرج عن عهدة التكليف به فليس عليه شىء من الإعادة والقضاء بعد تبدّل الاعتقاد ، وهذا كما ترى ممّا لا ربط له بما لو أخذ الاعتقاد فيه من باب الطريقيّة وهذا هو محلّ الكلام دون غيره ، والله الهادي.

٢٠٩

ـ تعليقة ـ

اختلف الاصوليّون في أنّ الأمر بالموقّت هل يقتضي فعله خارج الوقت مع فواته في الوقت أو لا؟ على قولين :

أوّلهما : ما عزاه في المنية إلى بعض الفقهاء وجماعة من الحنابلة.

وثانيهما : ما عزاه إلى محقّقي الاصولييّن وعليه العلاّمة والحاجبي ، وعزاه في الزبدة إلى الشيخ والأكثر ، وأضاف إليه السيّد الخراساني في شرحها العضدي والبيضاوي وعليه البهائي أيضا.

وهذه المسألة وإن فرضوها في خصوص الموقّت وعبّروا عنها في أكثر الكتب الاصوليّة بكون القضاء تابعا للأداء ، على معنى ثبوته بالأمر الأوّل أو كونه بأمر جديد ، على معنى افتقار ثبوته إلى ورود أمر آخر به غير الأمر الأوّل ، غير أنّ ضابطه ودليله على النفي والاثبات يجري في جميع المقيّدات عند فوات قيودها زمانا أو مكانا أو غيرهما ، فإنّ سياق الاستدلال في الجميع واحد ، وكيف كان فتحقيق المسألة يقتضي رسم امور :

أحدها : انّ « القضاء » يطلق لغة على معان ليس شيء منها من محلّ البحث هنا ولا فائدة مهمّة في ذكرها أيضا ، كما أنّه ليس من محلّ الكلام ما عن الشهيد من اطلاقاته الاخر في لسان العلماء إلاّ بعضها ، كفعل ما فات في الوقت المحدود بعد ذلك الوقت ـ سواء وجب عليه في الوقت أو لم يجب أو وجب على غيره ـ والإتيان بالفعل ، واستدراك ما تعيّن وقته إمّا بالشروع فيه كالاعتكاف أو بوجوبه فورا كالحجّ إذا أفسد ، وما وقع مخالف لبعض الأوضاع المعتبرة فيه كما يقال ـ فيمن أدرك ركعتين مع الإمام ـ : يقضي ركعتين بعد التسليم ، وفي السجدة والتشهّد يقضي بعد التسليم ، وما كان بصورة القضاء المصطلح عليه ، ومنه قولهم في الجمعة : يقضي ظهرا.

٢١٠

وهو على المعنى المبحوث عنه هنا ما يقابله « الأداء » أو يقابلهما الإعادة في بعض الوجوه ، ومن الأعاظم من صرّح بكون الإعادة والقضاء من مستعملات الشارع بالقياس إلى ما يأتي من معنييهما مدّعيا عليه القطع ، بل المستفاد منه ثبوت الحقيقة الشرعيّة فهما خلافا لما حكاه عن بعضهم من دعوى كونهما من اصطلاحات القوم ، وهذا صحيح على فرض تحقّق ما قرّرناه في محلّه من مناط ثبوت الحقيقة الشرعيّة وهو موضع إشكال.

نعم لا ينبغي الاسترابة في ثبوت الحقيقة المتشرّعيّة فيهما ، بل وفي « الأداء » المقابل لهما ، غير أنّهم اختلفوا في تحديدها بما هو معتبر في مفاهيمها العرفيّة من القيود زيادة ونقيصة على ما يأتي.

ومن هنا جاء الخلاف بينهم في اعتبار النسبة فيها بين كلّ مع الآخر ، حيث إنّ الحاجبي جعل كلاّ مبائنا لصاحبيه ، ففرّق بين القضاء وأخويه بوقوعهما في الوقت ووقوعه خارج الوقت ، وفرّق بينهما بأوّلية وقوع الأداء وثانويّة وقوع الإعادة ، والسيّد في المنية جعل الأداء أعمّ من الإعادة بعدم اعتبار الأوليّة فيه مع مبائنتهما للقضاء بوقوعه خارج الوقت خاصّة وهو الّذي يقتضيه ظاهر العلاّمة أيضا.

وعن بعض الاصولييّن عدم اعتباره الفعل في الوقت في الإعادة ، فيكون النسبة بينها وبين كلّ واحد من الأداء والقضاء عموم من وجه ، لصدقها مع الأداء دون القضاء إذا فعلت العبادة في الوقت ومع القضاء دون الأداء إذا فعلت في خارجه ، وصدق كلّ واحد منهما بدونها إذا لم يكن مسبوقا باتيان شيء آخر.

ومن الاصوليّين (١) من جعل العبادات على أنواع ثلاث ، منها : ما لا يوصف بشيء من الأداء والإعادة والقضاء ، وهو ما لم يعيّن له في الشريعة وقت كالأذكار والنوافل المطلقة.

ومنها : ما يوصف بالأداء والإعادة دون القضاء ، وهو ما عيّن له وقت ولم يكن الوقت محدودا كالحجّ ، ولا ينافيه إطلاق القضاء على الحجّ المستدرك لحجّ فاسد ، لأنّه مجاز من حيث إنّه يشابه المقضي في الاستدراك.

ومنها : ما يوصف بالأداء والإعادة والقضاء ، وهو ما عيّن له وقت محدود كالفرائض اليوميّة.

فتقرّر بما ذكر أنّ مورد هذه الأوصاف بأجمعها ما يكون من العبادات موقّتا دون ما يكون موسّعا بمعناه الأعمّ المتناول للمضيّق باعتبار الرخصة دون الإجزاء وهو غير موقّت ،

__________________

(١) شارح المختصر في بيانه ( منه ).

٢١١

وهل يعتبر فيه كونه واجبا؟ ـ كما يوهمه ظاهر عبارة العلاّمة في التهذيب حيث أخذ الواجب موردا للقسمة إلى تلك الأوصاف ، أو لا يعتبر فيه الوجوب كما يستفاد عن الحاجبي في تعبيره عن المقسم بالموصول.

وصرّح به في البيان والمنية معلّلا بكون بعض المندوبات ممّا يلحقه تلك الصفات ـ وجهان ، أقواهما الثاني.

ويمكن كون ورود الواجب في كلام العلاّمة من باب المثال أو كونه من الفرد الغالب ، فصورة التقسيم ـ على ما في كلامه ـ أنّ الواجب إن اتي به في وقته سمّي الإتيان أداء ، وإن كان بعد وقته المضيّق أو الموسّع سمّي قضاء ، وإن فعل ثانيا في وقته لوقوع الأوّل على نوع من الخلل سمّى إعادة ، فيكون الإعادة على هذا التفسير أخصّ من الأداء.

وعلى ما في مختصر الحاجبي « الأداء » ما فعل في وقته المقدّر له شرعا أوّلا ، « والقضاء » ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا.

« والإعادة » ما فعل في وقت الأداء ثانيا لخلل ، فيكون الإعادة على هذا التفسير مبائنة للأداء ، والأوّل أظهر نظرا إلى صدق « الأداء » عند المتشرّعة على العبادة المعادة في وقته.

ثمّ الظاهر أنّ « القضاء » ممّا لا يتأتّى صدقه إلاّ مع صدق قضيّة الفوات في الوقت ، فيخرج به ما لو لم يكن المكلّف خارج الوقت مكلّفا في الوقت لجنون مستمرّ أو عدم بلوغ ، ولا ينوط صدق الفوات بسبق الوجوب في الوقت كما يقتضيه إطلاق العلاّمة ، فيشمل ما لو كان واجبا على المستدرك في الوقت وتركه عمدا أو سهوا ، وما لو لم يكن واجبا عليه تمكّن منه كالصوم في حقّ المسافر أو لم يتمكّن منه لمانع شرعي كصوم الحائض ـ ويمكن اندراج صوم المسافر في ذلك أيضا كما لا يخفى ـ أو عقلي كصلاة النائم ، وما كان واجبا على غير المستدرك كقضاء الولي ، خلافا لما في عبارة الحاجبي من اعتبار سبق الوجوب ، فيخرج صومي المسافر والحائض وصلاة النائم ، إلاّ أن يؤول العبارة بحمل سبق الوجوب على إرادة سبق سببه كما فسّرها به في البيان. فيدخل الجميع.

ويشهد به ما في ذيل العبارة من التعميم بقوله : « أخّره عمدا أو سهوا ، تمكّن من فعله كالمسافر أو لم يتمكّن لمانع من الوجوب شرعا كالحائض أو عقلا كالنائم ».

وعن بعض الاصوليّين أنّه فرّط في تفسير القضاء حيث قيّده بكونه استدراكا لما سبق وجوبه على المستدرك ، فيخرج به صوم المسافر وفعل الحائض والنائم وعمل المولى ، وهو

٢١٢

ضعيف جدّا وارد على خلاف العرف.

ثمّ أنّ لهم خلافا في الإعادة حيث إنّ العلاّمة كالحاجبي فسّرها بما فعل في وقت الأداء ثانيا لخلل في الأوّل أي لفوات ركن أو شرط احترازا عن صلاة من صلّى صلاة مستجمعة لشرائط الصحّة.

وعن بعضهم أنّها ما فعل وقت الأداء ثانيا لعذر وهو أعمّ من الخلل ، فصلاة من صلّى مع الإمام بعد أن صلّى صلاة صحيحة منفردا إعادة على الثاني دون الأوّل ، وهو الأظهر أخذا بقضيّة الصدق عند المتشرّعة.

وقد عرفت عن بعضهم خلافا آخر فيها من حيث عدم اعتبار الوقوع في الوقت بل العبرة بوقوعه ثانيا ولو في خارج الوقت ، وهو أيضا ضعيف لا يلتفت إليه.

وثانيها : قد تبيّن بما تقدّم أنّ القضاء الّذي يعبّر عنه باستدراك ما فات في الوقت أعمّ بحسب الاصطلاح من استدراك ما فات عن عمد أو عن عذر من مانع عقليّ أو شرعي ، ومن استدراك ما فات عن المستدرك أو عن غيره ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ تعبيرهم عن العنوان بكون القضاء بالفرض الأوّل أو بفرض جديد مع احتجاج الطرفين بكون مفاد الخطاب الأمر بشيئين لا يفوت أحدهما بفوات الآخر أو بشيء واحد ، وخصوص ما يأتي عن العضدي من البناء ، يعطي اختصاص البحث في المسألة بما لو فات عن المكلّف عن عمد ـ بعد وجوبه عليه ـ بتركه في الوقت بالمرّة أو اخلاله ببعض ما اعتبر فيه من ركن أو شرط.

وقضيّة ذلك رجوع الخلاف إلى الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، فيكون وجوب القضاء ممّا يثبت بدليل خارج ممّا اتّفق عليه الفريقان في الجملة ، كما في صلاة النائم وصوم المسافر وفعل الحائض وعمل الولي ، كيف لا ولم يثبت في هذه الفروض أمر في الوقت بالنسبة إلى المستدرك حتّى ينازع في كونه مقتضيا للقضاء وعدمه ، وعلى هذا القياس في الخروج عن المتنازع فيه باتّفاق الفريقين صلاة الجمعة والعيدين.

وثالثها : عن العضدي أنّه بنى المسألة على أنّ قولنا : « صم يوم الخميس » المركّب في الذهن واللفظ من شيئين هل المأمور به فيه الشيئان فيبقى أحدهما بعد انتفاء الآخر أو الشيء الواحد ، مع قوله : بأنّ هذا الخلاف ـ أعني كون المطلق والمقيّد شيئين في الوجود الخارجي أو شيئا واحدا ـ مبنيّ على الخلاف في أنّ الجنس والفصل متمايزان في الوجود أم لا.

وتوضيح مرامه ما في عبارة التفتازاني من أنّه لا خفاء في أنّا إذا تعقّلنا صوما

٢١٣

مخصوصا وقلنا : « صم يوم الخميس » فقد تعقّلنا أمرين وتلفّظنا بلفظين. وأمّا أنّ المأمور به هو هذان الأمران أو شيء واحد يصدقان عليه ويعبّر عنه باللفظ المركّب عنهما مثل « صوم يوم الخميس » فمختلف فيه.

فمن ذهب إلى الأوّل جعل القضاء بالأمر الأوّل ، لأنّ المأمور به شيئان فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر.

ومن ذهب إلى الثاني جعل القضاء بأمر جديد ، لأنّه ليس في الوجود إلاّ شيء واحد فإذا انتفى سقط المأمور به.

ثمّ اختلافهم في هذا الأصل وهو أنّ المطلق والمقيّد بحسب الوجود شيئان أو شيء واحد يصدق عليه العينان ناظر إلى الاختلاف في أصل آخر وهو أنّ تركّب الماهية من الجنس والفصل وتمايزهما هل هو بحسب الخارج أم بمجرّد العقل ، فإن قلنا بالأوّل كان المطلق والمقيّد شيئين لأنّهما بمنزلة الجنس والفصل ، وإن قلنا بالثاني ـ وهو الحقّ ـ كانا بحسب الوجود شيئا واحدا.

وعن بعض المحقّقين (١) ردّ ذلك بأنّ كونهما شيئين في الخارج لا يقتضي كون القضاء بالفرض الأوّل ولا ينافي كونه بفرض جديد ، لاحتمال أن يكون غرض الآمر إتيانهما مجتمعا فمع انتفاء أحدهما ينتفي الاجتماع ، وكذا لا يجدي كونهما شيئا واحدا في نفي كون القضاء بالفرض الأوّل واثبات كونه بفرض جديد ، لاحتمال كون المراد المطلق لا بشرط الخصوصيّة ، وذكر الخاصّ لكونه محصّلا للمطلق بلا نظر إلى خصوصيّة الشيء المذكور ، فلا ينتفي المطلق بانتفاء هذا القيد ، فالنافي لكون القضاء بالفرض الأوّل مستظهر لثبوت الاحتمال الغير المستلزم للقضاء وعلى المثبت نفي ذلك.

والتحقيق في ردّه أن يقال : بمنع ابتناء الأصل الأوّل على الأصل الثاني ، فإنّ الفصل وما هو بمنزلته من القيود ممّا لا يصلح لأن يتعلّق به الحكم الشرعي جزما ، وإن سلّمنا تمايزهما بحسب الوجود عن الجنس وفرضناه مع كلّ منهما في الخارج موجودين متمايزين ، كيف وأنّ الحكم لا يتعلّق إلاّ بما كان من مقولة الأفعال ، ومبنى القول بكون المأمور به شيئا واحدا على فرض تعلّقه بالماهيّة المقيّدة على نحو دخول التقييد وخروج القيد.

ومبنى القول الآخر على توهّم حصول ملاحظة الماهيّة في نظر الآمر باعتبارين :

__________________

(١) سلطان العلماء في حاشية العضدي.

٢١٤

أحدهما : اعتبارها مطلقة معرّاة عن الزمان وغيره.

والآخر : اعتبارها مقيّدة بزمان أو مكان أو غيرهما.

وقضيّة ذلك عدم انتفاء الأوّل بانتفاء الثاني لفوات قيده ، فالتركّب الخارجي على القول الأوّل بمجرّده لا يوجب كون أحد الجزءين ـ وهو الزمان أو المكان ـ موردا للحكم من حيث عدم صلوحه له ، كما أنّ مجرّد التركيب العقلي لا يقضي بكون مورد الحكم شيئا واحدا من حيث كون المقام صالحا لأن يلحقه الاعتباران في لحاظ الآمر ، فلا ملازمة في شيء من التقديرين.

ورابعها : لا خفاء في أنّ القول بكون القضاء بالفرض الجديد لا يكون موقوفا على القول بحجّية مفهوم الزمان ونحوه ، لما تبيّن في محلّه من أنّ مرجع ثبوت المفاهيم بأسرها إلى قضاء الخطاب بانتفاء سنخ الحكم عن غير محلّ النطق حتّى ما يثبت منه بخطاب آخر ، فلذا يقع التعارض بينه وبين المفهوم وهذا هو الّذي ينكره نفاة المفاهيم.

وأمّا الحكم الشخصي الّذي سيق لافادته الخطاب فلا خلاف بين الفريقين في بحث الحجّية وعدمها في انتفائه عمّا عدا محلّ النطق ، لكون العبارة الصادرة قاصرة عن إفادة ثبوت ذلك الحكم فيه وغير وافية بمشاركته لمحلّ النطق في الحكم المقصود منها.

ولا ريب أنّ الحكم بتوقّف القضاء على أمر جديد ممّا يتمّ بمجرّد الحكم باختصاص ذلك الحكم بمحلّ القيد ، ولو فرض الخطاب بالنسبة إلى نوعه ساكتا عن الدلالة على النفي.

نعم ربّما يشكل ما تقدّم منّا في بحث المفاهيم غير مرّة من دعوى عدم الخلاف في انتفاء الحكم الشخصي المقصود من القضيّة عن غير محلّ النطق كما نبّهنا عليه هنا أيضا ، نظرا إلى القول بكون القضاء تابعا للأداء ، فإنّ مرجع هذا القول بقرينة المقابلة إلى إنكار انتفاء الحكم الشخصي ، فيكون كلّ من النوع والشخص ممّا اختلف في الدلالة على انتفائه عن غير محلّ النطق وعدمها ، غير أنّ الخلاف على الأوّل بين قول بالدلالة على النفي وقول بمنع الدلالة عليه ، وعلى الثاني بين قول بالدلالة على الثبوت وقول بانكار تلك الدلالة ، فهذا في الحقيقة خلاف في المنطوق راجع إلى تعيين مقدار ما يستفاد من الخطاب من الحكم المنطوقي فليتدبّر.

وبعد ما عرفت هذه الامور ، فاعلم : أنّ الحقّ في المسألة ما عليه المحقّقون والأكثر من توقّف القضاء على ورود أمر جديد به.

٢١٥

لنا على ذلك : تبادر وحدة التكليف في مثل « صم يوم الخميس » وظهور التقييد عرفا ولغة في مدخليّة القيد في الحكم ودخوله في موضوعه ، وقضيّة ذلك انتفاؤه بفواته ، ضرورة أنّه يدور وجودا وعدما على تحقّق موضوعه.

وبذلك يندفع ما توهّم في المقام من الاستصحاب ، واستدلّ به على القول بكون القضاء من مقتضى الفرض الأوّل ، فإنّ الاستصحاب مع ارتفاع موضوع المستصحب ممّا لا معنى له ، فيبقى أصل البراءة سليما عن المعارض من جهة الأمر الأوّل.

واحتمال كون ورود القيد من جهة أنّه محصّل للمطلق كاحتمال كون اعتبار المقيّد من جهة أنّه أفضل أفراد المطلق وأكملها ، ممّا لا يلتفت إليه بعد قيام ظهور المدخليّة.

وتوهّم تعلّق الأمر بشيئين لا يلزم من انتفاء أحدهما ـ وهو الماهيّة المقيّدة ـ انتفاء الآخر وهو الماهيّة المطلقة.

يدفعه : أنّه إن اريد به أنّ ذلك ممّا يقتضيه العبارة على حسب الدلالة العرفيّة ، فيردّه : أنّ الدلالة إمّا منطوقيّة أو مفهوميّة ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الاولى : فلما عرفت من قصور العبارة الواردة لإفادة المنطوق عن إفادة ما زاد على حكم الماهية المقيّدة.

وأمّا الثانية : فلعدم جريان ما عدا مفهوم الموافقة هنا جزما ، وهو أيضا غير جار لفقد المقام ما هو ضابطه الكلّي من أولويّة المسكوت عنه بالحكم الوارد على محلّ النطق ، وبدونها يكون التعدّي قياسا وهو باطل.

وإن اريد به أنّ ذلك ما يعتبره الآمر كذلك عند إرادة الإنشاء وإن قصرت العبارة عن إفادته.

فيرّده : أنّ ذلك خلاف ما يقضي به الوجدان في نظائر تلك العبارة وعليه بناء العرف من كون الهيئة ما يوردها المتكلّم على المادّة بعد ما اعتبر معها القيود والحيثيّات ، فإنّ ذلك هو المعلوم من بناء العرف عند إرادة التقييد والعبارة ظاهرة فيه. فيجب حملها عليه ، ولم يثبت من اللفظ بشيء من الدلالات ولا من العقل بشيء من الملازمات ما يقضي باعتبار الإطلاق معه أيضا فلا وجه للالتزام به.

ودعوى أنّ الزمان ظرف من ضروريّات المأمور به غير داخل فيه ، فلا يؤثّر اختلاله في سقوطه.

يدفعه : أنّه إن اريد بعدم دخوله فيه عدم كونه من ذاتيّاته أو عدم كونه معه ممّا تعلّق به

٢١٦

الأمر فهو مسلّم ، ولكنّه لا يقدح فيما ادّعيناه لعدم ابتنائه على شيء من الأمرين.

وإن اريد به عدم مدخليّته بالمرّة في وصفه العنواني ، فهو مع أنّه مصادرة ما ينبغي القطع ببطلانه من حيث إنّ التقييد بالزمان وغيره من ضروريّات المأمور به كثيرا ما يدخل في المأمور به وينوط به وصفه العنواني ، ويكون القيد ممّا يدور عليه حسن المأمور به ويتوقّف عليه المصلحة الواقعيّة المعتبرة في حسنه كما يشهد به الوجدان السليم والعقل المستقيم ، ومنكره مكابر خارج عن طريق العقل والانصاف فلا يعبأ به.

وممّا ذكر يتّضح ما لو قرّر الوجه المذكور : بأنّ الزمان المقدّر ظرف ، والظرف لا يكون مطلوبا لأنّه ليس بمقدور ، وما لا يكون مطلوبا فإخلاله لا يؤثّر في سقوط التكليف كما في بعض العبائر ، إذ لا يدّعي أحد تعلّق الطلب بما يكون من مقولة الزمان بل المقصود تعلّقه بما يكون مقيّدا به على نحو يكون القيد خارجا بمعنى تعلّق غرض الآمر بإيجاد الفعل في خصوص هذا الزمان بحيث لا غرض له أصلا فيما يخرج عنه ، ولا ريب أنّه أمر جائز عند العقل أو متعارف فيما بين العقلاء والخطاب دالّ عليه بظاهره إن لم نقل بكونه صريحا فيه ، فيجب المصير إليه حذرا عن مخالفة الحجّة.

وما في احتجاج الخصم ـ مضافا إلى ما ذكر ـ من مقايسة زمان المأمور به هنا على أجل الدين الّذي لا يلزم من انقضائه سقوط الدين ولا يؤثّر في سقوط وجوب الأداء ، واضح الدفع بكونه قياسا ومع الفارق ، فإنّ الأجل إنّما يعتبر في الدين ظرفا للرخصة فقط فلا ينافيه بقاء زمان الإجزاء بعد فوات زمن الرخصة كما ثبت في الشرعيّات نظيره في الحجّ ، وهو كما ترى خارج عن موضوع الكلام ، لعدم كون ما يقع في الزمن المتأخّر قضاءا ، مضافا إلى فرق آخر بين المقامين وهو القطع ببقاء العلّة الداعية إلى أصل الأمر في مسألة الدين وهو اشتغال الذمّة بحقّ الغير الّذي لا يسقط إلاّ بأدائه أو حصول المسقط من قبل الغير ، بخلاف المقام الّذي لم يكن هذه المقدّمة محرزة فيه ، فلا مناص فيه من الاقتصار على ما يساعد عليه ظاهر الخطاب ، وليس ذلك إلاّ ثبوت التكليف في الوقت خاصّة ، فلا بدّ في ثبوت القضاء في جميع موارده من أمر جديد.

وما يقال في دفعه ـ مضافا إلى ما مرّ ـ من أنّه لو كان بأمر جديد لكان أداءا كما في الأمر الأوّل لوقوع كلّ منهما في وقته والتالي باطل ، غفلة عمّا تقدّم من معنى القضاء فإنّه عبارة عمّا يقع خارج وقت الأمر الأوّل بعنوان كونه استدراكا لما فات فيه.

٢١٧

ولا ريب أنّ هذه قضيّة تصدق مع الفرض المذكور ومعه كيف يقال بكونه أداء.

والقول بأنّ الأمر الأوّل لو لم يكن موجبا للقضاء لكان إيجاب القضاء مخالفا للظاهر ، واضح المنع بما أشرنا إليه سابقا من كون العبارة الواردة في إفادة الأمر الأوّل ساكتة عن حكم خارج الوقت نفيا وإثباتا ، فثبوت ذلك الحكم بخطاب آخر لا ينافيه ، مع أنّه لو قلنا بالدلالة على النفي بناء على حجّية مفهوم الزمان وغيره اتّجه المنع إلى بطلان التالي ، ضرورة أنّ الظاهر ربّما يدفع بالنصّ والأظهر.

وقد يستدلّ على ما ذهب إليه الخصم مضافا إلى الوجوه المتقدّمة بوجوه اخر أوضح فسادا.

منها : كقوله عليه‌السلام : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » و « الميسور لا يسقط بالمعسور » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » وأنّ الغالب وجوب القضاء فلابدّ له من مقتض والأصل عدم ما سوى الأمر الأوّل ، وأنّ الغالب في الأوامر ثبوت القضاء على تقدير فوات الفعل في وقته فيحمل عليه غيره.

والجواب عن الرواية الاولى ـ بعد سلامة سندها ـ : بأنّ الفعل المقيّد بما خرج من الوقت ليس ممّا يستطاع عليه في خارج الوقت.

نعم إنّما يستطاع على أصل الفعل لا بشرط الوقت وهو ليس بمأمور به على ما هو مفروض المقام.

وعن الثانية ـ مع القدح في سندها ـ : بأنّ المنساق منها كون كلّ من الميسور والمعسور مأمورا به على الاستقلال أو كونهما فردين من الكلّي المأمور به والمقام لا يندرج في شيء منهما.

لا يقال : أمر صوم يوم الخميس مع صوم يوم الجمعة فردان من الصوم المطلق فيندرج في الصورة الثانية وتشمله الرواية ، إذ لا يسقط صوم يوم الجمعة بتعسّر صوم يوم الخميس ، لأنّ ذلك إنّما يجدي إذا كان المأمور به الصوم المطلق وهذا هو محلّ البحث ، إذ المفروض تعلّق الأمر بالصوم المقيّد بالخميس وتعلّقه معه بالمطلق أوّل الكلام ، كما أنّ تعلّقه بالمقيّد بالجمعة مقطوع بعدمه.

فإن قلت : المطلق في ضمن المقيّد بعد فوات المقيّد ميسور ، والمفروض أنّه جزء من المقيّد والّذي خرج معسورا إنّما هو جزؤه الآخر وهو القيد فيشمله الرواية.

٢١٨

قلنا : القيد ليس ممّا يؤمر به ليندرج في المعسور الّذي هو في الرواية عبارة عمّا عسر من المأمور به ، بل المأمور به هو المقيّد بوصف أنّه مقيّد وقد صار معسورا بفوات قيده ، والمطلق بوصف أنّه مطلق وإن كان ميسورا غير أنّه ليس جزءا من المأمور به ، ومعنى كون المطلق جزءا من المقيّد اشتمال المقيّد على حصّة منه ، فالميسور ليس من المأمور به في شيء والمأمور به معسور ، فالمقام ليس من مورد هذه الرواية.

وعن الثالثة : بمنع تناولها لما عدا المركّب الخارجي الّذي يمتاز أجزاؤه بعضها عن بعض في نظر العرف ولو في لحاظ الفرض والاعتبار ، كالأجزاء الكسريّة الّتي تعرض في الجسم ، ولا ريب أنّ لفظ « الكلّ » المتكرّرة في الرواية من المفاهيم العرفيّة الّتي لا تصدق إلاّ على ما له تركّب خارجي وإطلاق « الكلّ » و « الجزء » على المقيّد والمطلق اصطلاح محدث فلا عبرة به ، نظرا إلى أنّ الخطابات الشرعيّة تنزّل على المفاهيم العرفيّة دون الامور الاصطلاحيّة والمقيّد ممّا لا يصدق عليه « الكلّ » عند العرف.

ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال : « شربت الماء البارد كلّه » عند إرادة المقيّد مركّبا من المطلق وتقيّده بالبرودة ، ولا أن يقال : « صمت يوم الخميس كلّه » في موضع إفادة حصول ذلك المقيّد ، بل ولو قيل ذلك لا تصرف إلاّ إلى شرب تمام الماء وصوم تمام اليوم ، ولا يفهم منه العموم بالقياس إلى جزئهما العقليّين فيكون مورد الرواية حينئذ غير محلّ البحث على ما ستعرفه.

وعن الغلبة الاولى : بأنّ الأمر الأوّل إذا كان بحسب العبارة قاصرا عن تناول ما بعد الوقت فكيف يقال بأنّ الأصل عدم ما عداه ، فإنّ القطع بوجوب القضاء في الغالب مع ملاحظة قصور عبارة الأمر الأوّل قاطع لذلك الأصل ، وموجب لكون وجوب القضاء ثابتا بما عداه وإلاّ لزم خلاف الفرض ، مع أنّه لا اشكال لأحد في ثبوت الأمر المتجدّد بالقضاء ولو بنحو العموم في مثله قوله عليه‌السلام : « اقض ما فاتتك كما فاتتك » فلو فرض مع ذلك وجوب القضاء مستفادا من الأمر الأوّل لزم حمل ذلك الأمر المتجدّد على التأكيد وهو خلاف الأصل ، لأنّ التأسيس أولى من التأكيد.

وعن الغلبة الثانية : بكونها أجنبيّة عن محلّ البحث ، فإنّها إنّما تجدي إذا ثبت وجوب القضاء في مورد الغالب بنفس الأمر الأوّل وهو أوّل الكلام ، إذ لم يثبت إلى الآن من وجوب القضاء ما يستندها إلى الأمر الأوّل ، مع أنّ تحقّق مورد الشكّ المحتاج إلى إلحاقه بمورد الغالب ممّا يشهد بعدم قضاء الأمر الأوّل بوجوب القضاء ، وإلاّ كان مغنيا عن النظر في وسط آخر.

٢١٩

وقد يستدلّ على المذهب المختار بوجوه اخر :

منها : ما أشار إليه العلاّمة وغيره من أنّ الأمر تارة يستتبع القضاء ، واخرى لا يستتبعه كصلاة الجمعة والعيدين فيكون الأمر المطلق بالموقّت أعمّ من المستتبع للقضاء ومن غيره ، فلا يصلح دليلا على أحدهما عينا لعدم دلالة العامّ على الخاصّ.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لم يكن عدم استتباع ما لا يستتبعه ناشئا عن دليل خارجي ، وإلاّ انحصر الأمر المطلق بما هو هو في المستتبع.

ومنها : ما أشار إليه ابن الحاجب وحاصله ما قرّره شارح المختصر في بيانه من أنّه لو كان الأمر الأوّل مقتضيا لوجوب الفعل بعد وقته المقدّر لكان وقوعه بعد الوقت أداء ، لكون وقوعه كذلك كوقوعه في الوقت من حيث إنّ كلاّ منهما مقتضى الأمر ، والمفروض أنّ وقوعه في الوقت أداء فكذلك وقوعه فيما بعد الوقت والتالي باطل بالاتّفاق.

وفيه : ما تبيّن سابقا من أنّ القضاء ما يقع خارج الوقت بعنوان كونه استدراكا لما فات في الوقت ، وهذا العنوان ممّا يتأتّى ولو استفيد الوجوب من الأمر الأوّل ، فإنّ خصوصيّة المدرك ممّا لا تأثير له في اختلاف العنوان.

ومنها : ما أشار إليه أيضا ومحصّل تقريره ما في البيان من أنّه لو كان وجوب القضاء بالأمر الأوّل لكان وقوع الفعل في الزمان الأوّل متساويا لوقوعه في الزمان الثاني ، لأنّ المقتضي واحد ، والتالي باطل لأنّ المكلّف يأثم بالتأخير قصدا.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يرد إذا قال الخصم بكون مفاد الأمر الأوّل في إيجاب الأداء والقضاء التخيير بينهما حسبما هو ثابت في خصال كفّارة الإفطار ، وهو ليس بلازم من مذهبه ، لجواز أن يقول باعتبار الترتيب بينهم حسبما هو ثابت في خصال كفّارة الظهار فلا يجوز العدول عن الأداء إلى غيره اختيارا ، وعلى فرضه مع الاختيار يلزم الاثم فلا يكون وقوعه في الزمان الأوّل متساويا لوقوعه في الزمان الثاني.

فالمناقشة فيه بأنّ اعتبار الترتيب ممّا لا يستفاد من الأمر الأوّل على فرض إفادته لوجوب القضاء مع الأداء.

يدفعها : جواز أن يقول الخصم بأنّ اعتبار التوقيت على ما هو مفروض المقام كاف في ثبوت اعتبار الترتيب ، فإنّه ممّا لا بدّ له من فائدة لئلاّ يخرج لغوا ، فإذا فرضنا أنّ فائدته ليست إفادة انتفاء الحكم عمّا بعد الوقت فلا جرم ينحصر الفائدة في الدلالة على اعتبار الترتيب.

٢٢٠