تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

تفد إلاّ تأكيد الحكم ، والحصر على القول به على هذا التقدير يحصل من التأكيد وهو ليس بمدلول لكلمة « ما » لا مطابقة ولا تضمّنا بل هو مدلول لازم من التأكيد.

وعلى الثالث : يكون الدلالة مفهوميّة أيضا من غير فرق فيه بين قصر الصفة على الموصوف وبين عكسه ، نظرا إلى أنّ الحكم عبارة عن الإثبات والنفي وهو عارض وموضوعه عبارة عن معروضه.

فعلى الأوّل يكون معروض الإثبات مذكورا ومعروض النفي غير مذكور.

وكذلك على الثاني ، بناء على كون معروض النفي هو الصفة المنفيّة وهي غير مذكورة.

نعم لو جعل الحكم نفي غير الصفة المذكورة عن الموصوف كان من المنطوق كما أنّ الحكم في جانب الإثبات كان منطوقا ولكنّه خلاف المصطلح » انتهى (١).

ومبنى ذلك أيضا على جعل الحصر عبارة عن العقد السلبي ، ولكن في جعله موضوع النفي في قصر الموصوف الصفة المنفيّة أو الموصوف على تقدير جعل الحكم نفي غير الصفة المذكورة ما لا يخفى ، إذ المنفيّ إذا كان الزيديّة في مثل : « إنّما زيد قائم » كان غير الصفة المذكورة منفيّا منها وهو الموضوع لا غير.

ثالثها : لم نقف من الاصوليّين على من تعرّض لحكم « أنّما » بالفتح هنا إلاّ بعض من أواخر أصحابنا كبعض الأعاظم مع تصريحه بعدم إفادتها الحصر ، حيث قال : « قد توهّم أنّها للقصر أيضا وهو ضعيف ، بل الحقّ أنّها مركّبة من « أنّ » و « ما » الزائدة وليس مفادها إلاّ التأكيد بشهادة التبادر وقد نصّ عليه بعض المحقّقين » انتهى (٢).

وقد نصّ بكونها للحصر ابن هشام في المغني ، وعزاه إلى الزمخشري أيضا بل لم ينقل المخالفة إلاّ عن أبي حيّان حيث قال : « إنّ المفتوحة المشدّدة على وجهين :

أحدهما : أن تكون حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر والأصحّ أنها فرع عن « إنّ » المكسورة ، ومن هنا صحّ للزمخشري أن يدّعي أنّ « أنّما » بالفتح تفيد الحصر كإنّما بالكسر ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ )(٣) فالاولى لقصر الصفة على الموصوف والثانية بالعكس.

وقول أبي حيّان هذا شيء انفرد به الزمخشري ولا يعرف القول بذلك إلاّ في « إنّما » بالكسر مردود بما ذكرناه ، وقوله : « إنّ دعوى الحصر هنا باطلة لاقتضائها أنّه لم يوح إليه

__________________

(١ و ٢) إشارات الاصول : ٢٤٩.

(٣) الأنبياء : ١٠٨.

٤٢١

غير التوحيد مردود أيضا بأنّه حصر مقيّد ، إذ الخطاب مع المشركين فالمعنى ما اوحي إليّ في أمر الربوبيّة إلاّ التوحيد لا الاشراك » انتهى.

وفي كلام بعض الأعاظم حكاية ذلك عن الفيروز آبادي ، وهذا هو الّذي يمكن الاعتماد عليه لا قول ابن هشام ، لظهور كلامه في كونه اجتهادا منه مع استناده لذلك إلى مدرك فاسد وهو القياس ، ولذا قد يورد عليه : بأنّه لا يلزم من كونها فرعا إفادتها الحصر من حيث إنّ الفرع لا يلزم مساواته للأصل في جميع أحكامه.

وربّما قيل بأنّ الموجب للحصر في « إنّما » بالكسر عند القائل به قائم هنا ، وهذا أيضا ضعيف لضعف دليل القائل بالحصر في المكسورة بجميع وجوهه كما تقدّم ، فليتدبّر.

تنبيه

والحق بهذا الباب في الدلالة على الحصر ونفي الحكم عمّا عدا المثبت له ذلك الحكم امور : كلفظ « الحصر » و « القصر » و « الحبس » حيث اضيف إلى المعاني والأحداث لا إلى الجثث والأعيان ، ولفظ « الاختصاص » و « لام » الاختصاص كـ « الحمد لله » و « المال لزيد » و « الجلّ للفرس » وضمير الفصل ، و « لا » و « بل » و « لكن » والنفي والاستثناء بل مطلق الاستثناء وإن كان في الكلام الموجب ، ودلالته على الحصر مبنيّة على كون الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا كما عليه المحقّقون بل المعظم ، وهو الحقّ بل الثابت بضرورة من العرف واللغة ولا مخالف في المسألة إلاّ الحنفيّة في الاستثناء من النفي دون عكسه على ما هو المعروف من مذهبهم ، أو مطلقا على ما حكاه البهائي في حواشي زبدته وليس لهم إلاّ وجوه واهية.

ولتفصيل القول في تحقيق المقام ودفع وجوه الحنفيّة محلّ آخر يأتي في مباحث التخصيص إن شاء الله.

وينبغي أن يعلم أنّ دلالة الاستثناء على مخالفة ما بعده لما قبله في الحكم إنّما هو بالمنطوق لا المفهوم ، لوضع الأداة للإخراج ولا معنى له إلاّ إبداء المخالفة مع كون موضوع الحكم إثباتا أو نفيا مذكورا وهو المستثنى ، فما في كلام بعض الفضلاء من التعبير عنه بمفهوم الاستثناء ليس على ما ينبغي.

فائدة

لا كلام لأحد في دلالة « لا إله إلاّ الله » على التوحيد ومن ثمّ سمّي في لسان المتشرّعة كلمة التوحيد وكلمة الإخلاص ، وإنّما الإشكال في أنّ مفاده نفي الالوهيّة عمّا سوى

٤٢٢

الواجب الوجود بالذات المستجمع للصفات وإثباتها له ، أو نفي غيرها من الصفات كالوجود أو الإمكان (١) أو الاستحقاق للعبادة عمّا سواه وإثباته له؟ ففيه وجهان مبنيّان على استغناء كلمة « لا » في هذا التركيب عن الخبر أو افتقاره إليه ، فقيل بالأوّل بدعوى كونه في الأصل « الله إله » فقدّم الإله طلبا للحصر ثمّ أدخل عليه الحرفان تأكيدا أو لتصحيح الابتداء بالنكرة ، وقيل بالثاني نظرا إلى أنّ كلمة « لا » يستدعي اسما وخبرا والأصل عدم الزيادة.

واختلفوا في الخبر فقيل : يقدّر « ممكن » فأورد عليه : بأنّه لا يدلّ على وجوده تعالى ، بالفعل لأنّ الإمكان أعمّ من الوجود.

وقيل : يقدّر « موجود » فأورد عليه : بأنّه لا ينفي إمكان غيره لأنّ نفي الخاصّ لا يستلزم نفي العامّ.

وقيل : يقدّر « مستحقّ للعبادة » فأورد عليه : بأنّه لا ينفي التعدّد مطلقا لا إمكانا ولا وجودا.

وقيل : يقدّر « الجميع » فأورد : بأنّه أمر لم يثبت جوازه في اللغة بل هو أشبه شيء باستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فتأمّل.

وقيل : إنّها نقلت شرعا للدلالة على التوحيد بمعنى نفي إمكان إله غيره ووجوده وإثباتهما له تعالى وإن لم تدلّ عليه لغة ، فأورد عليه : ـ مع ما فيه من البعد الواضح ـ بأنّها كانت كلمة إسلام في صدر الإسلام مع عدم تحقّق نقل وتخصيص ثمّة.

والراجح في النظر القاصر هو القول بالاستغناء ، لا لأنّ كلمة [ لا ] زائدة للتأكيد أو غيره ، بل لكون معمول الاسم على النيابة عن الفاعل سادّ مسدّ خبره ، فإنّ المستثنى مفرّغ ورفعه على حسب اقتضاء العامل وهو « الإله » فإنّه مصدر بمعنى المفعول وهو « المألوه » بمعنى المعبود كالكتاب بمعنى المكتوب ، والمستثنى منه غير مذكور وهو « أحد » والمستثنى قائم مقامه في الإعراب على النيابة عن الفاعل ، والمعنى مع التقدير : « لا معبود أحد إلاّ الله ».

والظاهر المنساق منه في النفي والإثبات المعبوديّة على جهة الاستحقاق ، فلا ينافي نفيها ثبوت المعبوديّة في الآلهة الباطلة ، وإثباتها له تعالى يدلّ بالالتزام على وجوده بالفعل بل وجوب وجوده ، لأنّ المعدوم لا يعقل عبادته فضلا عن استحقاقه للعبادة.

وأمّا عدم إمكان غيره تعالى للالوهيّة حتّى بمعنى المعبوديّة على جهة الاستحقاق فيدلّ عليه هذه الكلمة باعتبار حذف المتعلّق ، فإنّ نفي المعبوديّة على جهة الاستحقاق

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأنسب بالعبارة « الوجوب » بدل « الإمكان » فتأمّل.

٤٢٣

أصل

قال أكثر مخالفينا : إنّ الأمر بالفعل المشروط جائز ، وإن علم الآمر انتفاء شرطه. (١)

___________________________

لا بدّ له من متعلّق اعتبر قيدا له وهو إمّا قولنا : « في الخارج » أو قولنا « عند العقل » فيكون التقدير على الأوّل : « لا معبود أحد على جهة الاستحقاق في الخارج إلاّ الله » وعلى الثاني : « لا معبود أحد على جهة الاستحقاق عند العقل إلاّ الله ».

والأوّل في معنى نفي وجوده الخارجي.

والثاني في معنى نفي إمكانه العقلي ، ولمّا كان المتعلّق محذوفا فالنفي باعتبار حذف المتعلّق عامّ في كلّ ما يحتمل كونه متعلّقا ، فينفي كلاّ من وجود غيره بالفعل وإمكان وجوده ، فتدلّ هذه الكلمة على التوحيد بجميع جهاته وحيثيّاته ، خذ هذا وكن من الشاكرين.

ولقائل أن يقول : بأنّ إثبات الدلالة بالتوجيه المذكور عدول عن القول باستغناء كلمة « لا » هنا عن الخبر ، لأنّ ما اعتبرته من المتعلّق المحذوف ظرف وهو باعتبار عامله المقدّر ـ وهو « موجود » ـ خبر.

وغاية ما هنالك أنّ ما ذكرته في التوجيه من اعتبار العموم من جهة حذف المتعلّق دفع للإيراد المتقدّم على القول بتقدير « موجود » خبرا ، لأنّ عموم النفي باعتبار حذف المتعلّق نفي لوجود معبود غيره على جهة الاستحقاق وإمكان وجوده أيضا فليتدبّر.

(١) * واعلم أنّ هذه المسألة وإن أدرجها جماعة منهم المصنّف في مباحث الأوامر غير أنّ القطع حاصل بكونها من توابع المسائل الكلاميّة ، تعرّض لذكرها الاصوليّين من باب المبادئ الأحكاميّة ، لوضوح رجوع البحث فيها عند التحقيق إلى ما هو من أحوال الآمر لا الأمر الّذي هو من موضوعات مسائل هذا الفنّ ، فإنّ مفاد العنوان يرجع بالأخرة إلى أنّ حكمة الآمر هل تمنع من الأمر بما علم انتفاء شرطه أو لا؟ فيكون بحثا عن منافاة حكمة الآمر وعدمها.

وكيف كان فتنقيح المبحث يستدعي رسم مقدّمات :

اولاها : أنّ الأمر إنّما يصحّ من الحكيم إذا كان ناشئا عن غاية مقصودة له لئلاّ يخرج عليه سفها منافيا للحكمة ، وهي على ما يساعد عليه النظر والوجدان والاستقراء إمّا مصلحة في المأمور به نفسه أو مصلحة في شيء آخر ممّا هو مرتبط به ، من العزم وتوطين

٤٢٤

النفس على أدائه أو أداء بعض مقدّماته الّتي قد تكون مقصودة بالأصالة ومطلوبة بالذات.

وعلى التقديرين فالمأمور إمّا أن يكون ممّن يطيع الآمر فيما هو مطلوب منه أو ممّن يعصيه.

وعلى التقادير فالآمر إمّا أن يكون عالما بحال [ المأمور ](١) من حيث إنّه يطيعه أو لا.

فالصور ثمانية مرتفعة عن اثنين في مرتفع اثنين في مثلهما ، غير أنّ أربع منها وهي صور الجهل ممّا لا يتأتّى فرضه في أوامر الشارع لاستحالة الجهل عليه ، كما أنّ الجاهل لا يتأتّى في أوامره غير ما يقصد به حصول المأمور به في الخارج أو ما يقصد به التوطين أو الامتحان استعلاما لمقام المأمور مع الآمر في جهتي الانقياد والطاعة أو الطغيان والمعصية.

وأمّا العالم فشرط صحّة الأمر منه في صوره الأربع تعلّق غرضه بحصول المأمور به في الخارج على تقدير اشتماله على المصلحة مع كون المأمور ممّن يطيعه ، أو بإتمام الحجّة وقطع العذر على المأمور وإلزامه على إذعان استحقاق العقوبة في حقّ نفسه على التقدير المذكور مع كونه ممّن يعصيه ، أو بحصول التوطين والعزم على الامتثال ليثاب به في الآخرة وينتفع به في الدنيا بالامتناع عن جهة الفساد ، أو حصول ما هو مقصود بالأصالة من المقدّمات أو إعلام حاله من جهة الإطاعة وكشف سريرته من حيث الانقياد لغيره ممّن لا يعرفه بهذه الصفة على تقدير خلوّ المأمور به عن المصلحة مع كونه ممّن يطيعه ، أو بإتمام الحجّة وقطع العذر عليه أو إلزامه على إذعان صفة الشقاوة والطغيان في نفسه ، أو إعلام مقامه هذا وسوء سريرته لغيره ممّن لا يعرفه في التقدير المذكور مع كونه من جملة العاصين.

والمعروف فيما بينهم التعبير عن الأوّلين بالأمر الحقيقي وعن الأخيرين بالابتلائي والتوطيني أيضا.

وقد يخصّ الأوّل باسم الحقيقي ، والثاني بالابتلائي الساذج ، والثالث بالتوطيني والابتلائي المشوب أيضا ، والرابع بالابتلائي ذي الجهتين جهتي المأمور به ومقدّماته.

والأوّل ممّا لا كلام في جوازه من الشارع بل وقوعه بل وجوب وقوعه.

كما أنّ الثاني أيضا كذلك من حيث إنّه لا يتصوّر ما يصلح مانعا عنه حينئذ إلاّ شبهة كونه تكليف ما لا يطاق من جهة انتفاء إرادة الامتثال ، أو كونه سفها من جهة عراه عن الفائدة.

ويدفعها : أنّ الامتناع بالاختيار مع بقاء الاختيار بالتمكّن عن الإرادة ورفع الصارف ممّا لا ينافي الاختيار ، على أنّ القدرة المأخوذة في شرائط التكليف أعمّ ممّا يكون

__________________

(١) وفي الأصل « اللفظ » بدل « المأمور » والظاهر أنّه سهو منه رحمه‌الله لعدم مناسبته السياق ولذا صحّحناه بما في المتن.

٤٢٥

بواسطة ، وإنّ تعلّق الغرض بما عرفت من الغايات ممّا يرفع السفهيّة بالمرّة.

وأمّا الأخيران فلم يعهد وقوعهما في خطاباته تعالى عدا الأوّل منهما في قضيّة إبراهيم عليه‌السلام على بعض الوجوه ، مع إمكان وقوعهما عقلا بلا شبهة فيه ولا شائبة ريب تعتريه ، بل لم نعثر على من أنكر ذلك سوى السيّد من أصحابنا في المنية مصرّحا : « بأنّ ذلك غير جائز لما يتضمّن من الإغراء بالجهل ، لاستلزامه اعتقاد المأمور إرادة الآمر الفعل المأمور به منه والواقع خلافه ، ولأنّ حسن الأمر لو كان لنفسه لا لمتعلّقه لم يبق في الأمر بالشيء دلالة على الأمر بمقدّماته بما لا يتمّ إلاّ به ، ولا على النهي عن ضدّه ، ولا على كون المأمور به حسنا » إلى آخره.

وجوابه : منع الملازمة أوّلا ، فإنّ الإغراء بالجهل إنّما يلزم لو بقي على هذا الاعتقاد إلى وقت الأداء ولم يلحقه نسخ وهو ليس بلازم ، كما في البيانات المتأخّرة عن زمن الخطاب إلى وقت الحاجة.

ومنع بطلان اللازم ثانيا ، فإنّ الإغراء بالجهل ليس بعلّة تامّة للقبح وعلى تقدير كونه مقتضيا فقد يطرأه ما يوجب حسنه على ما هو من شأن المقتضي كما في مفروض المقام ، والأخذ بوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ على القول بهما مع الحكم بحسن المأمور به أخذ بظاهر الأمر ولا يضرّه انكشاف الخلاف بعد مدّة كما في لحوق القرائن المتأخّرة عن زمن الخطاب الكاشفة عن عدم اعتبار الظاهر ، ومع عدمه يبنى عليه لأنّ الظاهر هو الحجّة ، مع أنّه لو صلح قدحا لسرى إلى الأوامر الحقيقيّة أيضا ، لندرة ما يتّفق فيها ممّا خلى عن احتمال مصادفة العذر الرافع للتكليف أو الكاشف عن عدم ثبوته رأسا ، مع أنّه يفضي إلى امتناع ما انعقد عليه إجماع أهل الإسلام مع سائر الامم في الجملة من جواز النسخ الّذي من شرائطه اقتضاء الخطاب بظاهره استمرار الحكم ودوام ثبوته.

نعم ربّما يمكن المناقشة فيه : بأنّ الأمر التوطيني إن قصد به الامتحان واستعلام الحال فهو ممتنع في حقّه تعالى ، وإن قصد به إيصال النفع والثواب فهو ممكن بدون التوطين والعزم ، نظرا إلى أنّ الموجب لاستحقاق ذلك ليس إلاّ حسن السريرة وتعريض النفس لمقام الانقياد والإطاعة.

والمفروض أنّ الحمل على التوطين بفعل بعض المقدّمات ونحوه إنّما يعتبر استكشافا عن هذا المعنى وقد عرفت امتناعه في حقّه تعالى.

٤٢٦

ولكن يدفعها : أنّ العزم والتوطين ربّما يوجب تأكّد الاستحقاق.

ولو سلّم فإذا انضمّ إلى قصد الإيصال إرادة إعلام الحال للغير كالملائكة ونحوهم ارتفع الإشكال ، مع أنّ إضمار مقام الإطاعة والانقياد في النفس غير تعريضها لإدراك هذا المقام في الخارج بالعزم المتأكّد وأداء المقدّمات كلاّ أم بعضا.

ولا ريب أنّ الثاني أدخل في حصول الاستحقاق وآكد في تأتّي المثوبات وربّما يكون ذلك هو المقصود في نظر العقل والحكمة.

ثمّ إنّ الأمر لا ريب في كونه على حقيقته في القسم الثاني ، لوقوع استعماله هيئة ومادّة ـ كالقسم الأوّل ـ على معناه الحقيقي.

غاية الأمر أنّ ما قصد فيه من الغاية ليس حصول المأمور به في الخارج على خلاف ما هو في الأوّل ، ولا يوجب ذلك تجوّزا في اللفظ ولا قبحا في العقل إذا قصد به غاية اخرى ممّا تقدّم إليها الإشارة ، كما لا يلزم بذلك كونه في الخطابات العامّة للمطيعين والعاصين مستعملا في معنيين بالنظر إلى تعدّد المقصود ، فإنّ التعدّد في غاية الاستعمال لا يقضي بتعدّد المستعمل فيه كما لا يخفى.

فالأمر لا يراد منه إلاّ طلب الفعل المخصوص على سبيل الحتم مطلقا ، غير أنّ الغاية المطلوبة من ذلك في أحد الفريقين حصول ذلك الفعل في الخارج. وفي الفريق الآخر شيء آخر ممّا ذكر.

وهل هو في التوطيني أيضا وارد على سبيل الحقيقة أو لا؟ فيه قولان ، أقربهما الثاني وفاقا لغير واحد من فحول الأصحاب ، مع كون التجوّز ما يحصل فيه باعتبار الهيئة دون المادّة بإرادة التوطين أو العزم أو فعل بعض المقدّمات كما يستفاد من بعض الكلمات ، لقضاء الوجدان مع شهادة العرف بأنّه إيراد لصورة الطلب بالصيغة الموضوعة له حملا للمخاطب على ما قصد منه من التوطين والعزم أو فعل بعض المقدّمات أو تحصيلا لأغراض اخر من كشف السريرة وإتمام الحجّة ونحوها.

ولا ريب أنّ قصد الشيء من باب العلّة الغائيّة غير قصده لإفادته من اللفظ نفسه ليقع مستعملا فيه ، فالاستعمال لا يقع إلاّ على الطلب الصوري للجزم بانتفاء الطلب الحقيقي الكاشف عن الإرادة النفسانيّة والمحبوبيّة القلبيّة ، وهو ليس ممّا وضع له الصيغة في شيء للتبادر في الحقيقي وعدمه في خلافه.

٤٢٧

ويؤيّده صحّة سلب « الطلب » و « الأمر » بجميع تصاريفهما عمّا انكشف كونه للتوطين والابتلاء.

خلافا لما في بعض الكلمات من التصريح بالحقيقيّة مع حمل التبادر المدّعى على كونه إطلاقيّا استنادا إلى عدم صحّة السلب ، حيث لا يصحّ في قضيّة إبراهيم عليه‌السلام أن يقال : « ما أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده » وهو كما ترى ، فإنّ الأمر والطلب من صفات النفس شيء بحسب الرتبة متأخّر عن الإرادة النفسانيّة ، وهي مقطوع بانتفائها من جهة خلوّ الفعل عن المصلحة الراجحة ، ومعه كيف يعقل الطلب الحقيقي حتّى يتفرّع عليه صدق « الأمر » بعنوان الحقيقة وعدم صحّة سلب الاسم عنه ، وفرض القضيّة فيما يتحقّق معه الطلب الحقيقي إخراج له عن موضع الكلام ، وكون الأمر في قضيّة إبراهيم عليه‌السلام على فرض صدق القضيّة فيها توطينيّا أوّل الدعوى.

وأعجب من ذلك التعدّي في هذا الحكم الثابت بما تبيّن فساده عن مادّة « الأمر » إلى الصيغة ، إستنادا إلى حكم الوجدان القطعي بعدم الفرق بينهما من هذه الجهة.

وأعجب من جميع ذلك تفريع المسألة فيما قبل ذلك على أنّ وضع الأمر هل لما اريد من المدخول مع كونه معتقدا للمتكلّم أو لمطلق ما اريد من المدخول وإن لم يكن معتقدا؟ فعلى الأوّل يكون التوطيني مجازا بخلاف الثاني ، فإنّ فساد ذلك غير محتاج إلى مؤنة الذكر ، ضرورة أنّ الاعتقاد ممّا لا مدخل له في مداليل الألفاظ مفردة ومركّبة لا شطرا ولا شرطا ، ولا سيّما الانشائيّات الّتي مبناها على الإرادة والكراهة النفسانيّتين.

وقد عرفت أنّ الإرادة في الأوامر التوطينيّة بالنسبة إلى الفعل المأمور به منتفية ، وظاهر أنّ انتفاء اللازم وما هو من ملزومه بمنزلة العلّة من المعلول يستلزم لانتفاء الملزوم.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يتبيّن أنّ النسخ حسبما هو مأخوذ في ماهيّته وشروطه ممّا لا يجري في الأوامر التوطينيّة ، ولا ينافيه وجوب لحوق البيان فيها ولو بعد زمن الخطاب ، لأنّ ذلك من باب القرينة الكاشفة عن عدم اعتبار الحقيقة.

وممّا يفصح عن ذلك أنّ من شرطه أن لا يتأخّر عن زمن الحاجة ، والنسخ على ما عليه الأكثر مشروط بما يخالف ذلك كما لا يخفى.

وممّا يشهد به أيضا ما ذكروه في دفع احتجاج أهل القول بجواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط بقضيّة إبراهيم استنادا إلى كون الأمر بالذبح أمرا بما علم انتفاء شرطه وهو النسخ من حمل الأمر فيها على كونه للابتلاء والتوطين ، ولو لا النسخ من خواصّ الأمر الحقيقي

٤٢٨

عندهم لما يجديهم ذلك نفعا كما لا يخفى على المتأمّل.

وثانيها : أنّ الشرط حسبما يرشد إليه التتبّع والاستقراء وعليه بناء كافّة العلماء على أنواع تقدّم الإشارة إليها في بحث المقدّمة ، ولنشر إليها في المقام إجمالا لكون معرفتها من مبادئ المسألة ، فإنّه إمّا شرط وجوبيّ فيكون الوجوب بالنسبة إليه مشروطا بمعنى اختصاصه بواجدي ذلك الشرط ، أو وجوديّ فيكون الواجب بالنسبة إليه مشروطا ، وكلّ منهما إمّا شرعيّ أو عقليّ.

أمّا الوجوبي الشرعي فكاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة ، وأمّا الوجوبي العقلي فكالإمكان الشأني للفعل المكلّف به ، بمعنى كونه ممّا يتأتّى فعله عادة عند دخول وقته واستجماع شرائطه عند الأشاعرة على ما يستفاد منهم في تلك المسألة كما ستعرفه وما يعمّه والإمكان الفعلي المعبّر عنه بالقدرة عند المعتزلة وأصحابنا الإماميّة.

ويظهر فائدة الفرق بين المذهبين فيما لو طرأه الامتناع بسبب انتفاء بعض شروط وقوعه فإنّه ينافي الإمكان بالمعنى الثاني دون المعنى الأوّل.

وأمّا الوجودي الشرعي فكالطهارة للصلاة والإيمان لكافّة العبادات ، وأمّا الوجوديّ العقلي فكإرادة الفعل المكلّف به عند الفريقين ، ونحوها الإمكان الفعلي عند الفريق الأوّل فإنّهم يجعلونه من شروط الوقوع فقط كما ستعرفه.

ثمّ إنّ كون الطهارة ونحوها من الشروط الشرعيّة الوجوديّة شروطا للوجود فقط مبنيّ على ما هو الحقّ من عدم كون حصول الشرط الشرعي شرطا في التكليف بالمشروط ، كما عليه أصحابنا الإماميّة وجمهور العامّة خلافا للحنفيّة المعبّر عنهم بـ « أصحاب الرأي » في مصيرهم إلى كون حصول الشرط الشرعي شرطا في التكليف أيضا.

وهذه المسألة وإن كانت مفروضة في تكليف الكفّار بفروع الشريعة ولكنّها غير مختصّة به كما أشار إليه الحاجبي وصرّح به شارح المختصر في بيانه.

وقد تقدّم منّا في بحث المقدّمة تحقيق القول في ذلك ، والّذي يستفاد منهم في مسألتنا هذه أنّ البحث فيها نظير البحث في المسألة المشار إليها ، غير أنّ إحداهما مفروضة في الشروط الشرعيّة والاخرى في الشروط العقليّة ، فيكون مرجع النزاع في الثانية إلى أنّ ما فرض كونه شرطا للوقوع عقلا هل هو شرط في التكليف أيضا أو لا؟ كما هو صريح مفاد

٤٢٩

النزاع في الاولى كما عرفت.

والّذي يكشف عن ذلك ما أجاب به أهل القول بجواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط عن نقض المعتزلة ـ بأنّه : لو صحّ التكليف بما علم انتفاء شرط وقوعه لم يكن إمكان المكلّف به شرطا في التكليف ، واللازم باطل بالاتّفاق ـ من أنّ الإمكان الّذي هو شرط في صحّة التكليف هو أن يكون الفعل المكلّف به ممّا يتأتّى فعله عادة عند دخول وقته واستجماع شرائطه ، والفعل الّذي علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ممكن بهذا المعنى ، وامتناعه بسبب انتفاء شرط وقوعه لا ينافي هذا الإمكان ، وإنّما ينافي الإمكان الّذي هو شرط وقوعه ، وكون هذا الإمكان شرطا لصحّة التكليف هو محلّ النزاع ، فإنّه عندنا شرط الامتثال وليس شرطا في صحّة التكليف ، فإنّ التكليف لا يقتضي حصول المكلّف به في الخارج بل قد يقع لأجل الابتلاء.

وبالتأمّل في ذلك تعرف كثيرا من الشبهات والزلاّت الّتي حصلت في تلك المسألة لغير واحد من أجلاّء الأصحاب عند تشخيص موضع النزاع هنا ، وسنبيّن تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله.

وثالثها : قد وقع بين العامّة خلاف في تعيين زمان انقطاع التكليف ، فعن إمام الحرمين والمعتزلة أنّه ينقطع حال حدوث الفعل وتبعهم ابن الحاجب أيضا ، وعن الشيخ أبي الحسين الأشعري وأتباعه أنّه لا ينقطع حال الحدوث.

وقد رأينا إيراد هذا البحث هنا مناسبا لكونه من مبادئ المسألة في الجملة ، لما سيأتي في أدلّة القول بجواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط من الاحتجاج بأنّه : لو لم يصحّ لم يعلم تكليف أصلا ، لأنّه بعد الفعل ومعه منقطع ، وقبله لا يعلم.

وتوضيحه ـ على ما في بيان المختصر ـ : أنّ التكليف بعد الفعل منقطع بالاتّفاق وكذلك مع الفعل عند المعتزلة ، فلا يكون العلم بالتكليف بعد الفعل ، وقبله لا يعلم بوقوع الشرط عند وقت الفعل.

وكيف كان فعن أبي الحسين ومن تابعه الاحتجاج : بأنّ الفعل حال حدوثه مقدور بالإتّفاق سواء قلنا بتقدّم القدرة على الفعل كما هو مذهب المعتزلة أو لم نقل ، وإذا كان مقدورا حال الحدوث صحّ التكليف به.

وأمّا الآخرون فلم نعثر عنهم على احتجاج بالخصوص. عدا ما في اعتراض الحاجبي

٤٣٠

على الشيخ بأنّه : إن أراد أنّ تعلّقه (١) به لنفسه فلا ينقطع بعده ، وإن أراد أنّ تنجّز التكليف باق فتكليف بإيجاد الموجود وهو محال ، ولعدم صحّة الابتلاء فتنتفي فائدة التكليف.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم على التقدير الأوّل أنّه يلزم أن لا ينقطع التكليف بعد حدوث الفعل بتمامه ، وذلك لأنّ المقتضي للتعلّق هو الطلب لأنّه معنى التكليف.

ولا ريب أنّ الطلب ينقطع بعد الفراغ عن الفعل لأنّ المفروغ عنه بعد الفراغ غير مطلوب وكذا غيره حيث إنّ الأمر ليس للتكرار ، مع أنّ لقائل أن يقول : إنّ المكلّف حال حدوث الفعل مكلّف بالإتيان بالكلّ المجموعي لا كلّ واحد من أجزاء الفعل وهو مراد الشيخ ، فلا يكون التكليف حال حدوث الفعل تكليفا بإيجاد الموجود ، لأنّ الكلّ المجموعي لم يوجد حال حدوث الفعل ، والابتلاء صحيح حال الحدوث لأنّ المكلّف لم يأت بتمام الفعل بعد ، وأيضا لا نسلّم انحصار فائدة التكليف فيما ذكر من الابتلاء.

والحقّ ما عليه الأشعري لقضاء ضرورة الوجدان وطريقة العقلاء بأنّ التكليف حيثما ثبت لا ينقطع إلاّ بزوال علّة حدوثه كما في مواضع النسخ ، أو طروّ مانع يرفعه من مصادفة عذر ونحوه ، أو حصول امتثاله في الخارج ، والكلّ مفروض الانتفاء.

أمّا الأوّل : فلا ختصاص البحث بغير مواضع النسخ ، مع منافاة انقطاعه حال الحدوث لما قرّر في شروطه من وجوب حضور وقت العمل ، على معنى انقضاء زمان يسعه الفعل بتمامه.

وأمّا الثاني : فلا ختصاص محلّ البحث بما لو بقي المكلّف على شرائط التكليف إلى زمان الفراغ عن العمل كما يفصح عنه ما تقدّم في احتجاج الشيخ.

وأمّا الثالث : فلتعلّق التكليف بأجزاء الفعل على هيئتها الاجتماعيّة ، والمفروض أنّه لم يحصل منها حال الاشتغال إلاّ بعضها الّذي لم يتعلّق به بالخصوص إلاّ أمر غيريّ من باب المقدّمة ، فما تعلّق به التكليف ليس بحاصل وما هو حاصل ليس بما تعلّق به التكليف ، ومعه كيف يعقل انقطاعه وهو يقتضي الامتثال الّذي هو دائر مدار حصول الفعل بجميع أجزائه ، وأيضا لو صحّ الانقطاع حال الحدوث لزم خروج المكلّف عن العهدة بمجرّد

__________________

(١) وتوضيحه : أنّه إن اريد أنّ تعلّق التكليف بالفعل لنفس التكليف ، والمتعلّق لنفسه بالشيء امتنع انقطاعه عنه ، فيلزم أن لا ينقطع التكليف بعد حدوث الفعل أيضا وهو باطل بالإجماع ، وإن اريد أنّ تنجّز التكليف بمعنى كون المكلّف مكلّفا بالإتيان بالمكلّف به باق حال حدوث الفعل لزم أن يكون مكلّفا بإيجاد الموجود وهو محال ( منه ) على ما في بيان المختصر.

٤٣١

وربّما تعدّى بعض متأخرّيهم ، فأجازه ، وإن علم المأمور أيضا ، مع نقل كثير منهم الاتّفاق على منعه.

___________________________________

الاشتغال ، فيلزم أن لا يجب عليه الإتمام وهو باطل بالإجماع ، إلاّ أن يراد به انقطاعه على سبيل المراعى فيعود النزاع لفظيّا كما لا يخفى.

وأمّا ما تقدّم من الاعتراض عن الحاجبي فإن أراد بتعلّق التكليف لنفسه كونه بالقياس إلى الفعل المكلّف به من الصفات النفسيّة ـ كما هو قضيّة قوله بلزوم عدم انقطاعه بعد الفعل أيضا ـ فهو ليس بلازم من مذهب الشيخ ، لثبوت مطلوبه بفرض كونه من الصفات العرضيّة لبداهة انقطاع الأمر العرضي كائنا ما كان بزوال علّة عروضه ، وإن اريد به كونه نفسيّا في مقابلة التكليف الغيري فالملازمة بيّنة المنع ، فإنّ نفسيّة التكليف لا تمنع عن انقطاعه بتأتّي الغاية المطلوبة منه ولا تكون إلاّ الامتثال وأداء المكلّف به في الخارج.

وأمّا لزوم عدم صحّة الابتلاء على تقدير كون المراد بقاء تنجّز التكليف فلا يرجع إلى محصّل ، إذ لو أراد أنّ بقاء تنجّز التكليف لا بدّ وأن يكون لغرض الابتلاء كما يظهر من قوله :

« فينتفي فائدة التكليف » فهو متّضح الفساد ، وإن أراد أنّ التكليف إذا لم ينقطع حال حدوث نفس الفعل ففي حال حدوث مقدّماته حيثما يراد به مجرّد الابتلاء أولى بعدم الانقطاع ، فلا يبقى للتكليف الابتلائي مورد فينتفي فائدة التكليف حيث لم يكن المكلّف به مشتملا على المصلحة.

ففيه : أنّ الفعل في مورد الابتلاء لم يتعلّق به تكليف بعنوان الحقيقة حتّى ينظر في أنّه هل ينقطع حال حدوثه أو حدوث مقدّماته أو لا ينقطع ، لما تقدّم من أنّ الابتلاء في موارده إبراز لصورة التكليف بالصيغة الدالّة عليه بالوضع لا أنّه تكليف حقيقة.

(١) * وتوضيح هذا المقال ليتّضح به الأقوال : أنّ الآمر والمأمور إمّا عالمان بانتفاء الشرط أو جاهلان به ، أو الآمر عالم دون المأمور ، أو المأمور عالم دون الآمر.

والمصرّح به من موضع النزاع في كلام غير واحد إنّما هو الصورة الثالثة ، فالقول بالجواز فيها منسوب إلى كثير من العامّة كما في كلام بعض الأعاظم ، أو أكثر المخالفين كما في عبارة المصنّف ، أو أكثر الاصوليّين كما في بيان المختصر ، أو القاضي أبي بكر والغزالي وأكثر الاصوليّين كما في المنية.

٤٣٢

وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء الشرط ، كون الآمر جاهلا بالانتفاء ، كأن يأمر السيّد عبده بالفعل في غد ، مثلا ، ويتّفق موته قبله. فانّ الأمر هنا جائز ؛ باعتبار عدم العلم بانتفاء الشرط ، ويكون مشروطا ببقاء العبد إلى الوقت المعيّن* (١). وأمّا مع علم الآمر ، كأمر الله تعالى زيدا بصوم غد ، وهو يعلم موته فيه ، فليس بجائز. وهو الحقّ** (٢).

___________________________________

وأمّا الصورة الاولى فالجواز فيها منسوب إلى بعض متأخّري المخالفين كما في عبارة المصنّف ، مع نقل الاتّفاق عن كثير منهم على المنع ، وكان سنده خلوّ التكليف حينئذ عن الفائدة بالمرّة ، كما يستفاد من عبارة الحاجبي وغيره في دفع اعتراض المعتزلة عليهم بأنّه : لو صحّ التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه لصحّ بما علم المأمور أيضا ، بجامع كون كلّ واحد منهما معلوما عدم حصوله. ومحصّل الدفع : الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فإنّ محلّ الوفاق إنّما لا يصحّ التكليف به من جهة انتفاء فائدة التكليف ، لأنّ فائدته إمّا الامتثال أو العزم عليه ، واذا علم المأمور امتناع الفعل يمتنع منه الامتثال ولم يعزم على الفعل أيضا فلا يطيع ولا يعصي ، بخلاف محلّ النزاع فإنّه إذا لم يعلم المأمور امتناع الفعل قد يطيع بالعزم والمباشرة وقد يعصي بالترك والكراهة.

وأمّا الصورة الثانية كالصورة الرابعة فادّعى كثير منهم الاتّفاق على الجواز فيها ، وفي المنية نفي الخلاف عنه في غير العالم بفوات الشرط ، وإطلاق العبارة يشمل الصورتين معا.

وإلى ذلك يشير المصنّف في قوله : « وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء الشرط كون الآمر جاهلا بالانتفاء ، كأن يأمر السيّد عبده بالفعل في غد ويتّفق موته قبله ».

(١) * وفي كونه مشروطا يكفي كون عامّة التكاليف مشروطة بالتمكّن من الامتثال فعلا الثابت بحكم العقل وجريان سيرة العقلاء في نوع التكاليف الصادرة عنهم ، ولا حاجة له إلى قصد الاشتراط في خصوص المورد ليتوجّه : أنّ السيّد في الفرض المذكور كثيرا مّا يأمر وهو غير ملتفت إلى احتمال الموت فضلا عن قصده الاشتراط واعتباره التعليق ، فلذا ترى أنّ الأمر لا يصدر منه غالبا إلاّ مطلقا.

(٢) ** وربّما يستفاد من كثير من العبائر كعبارة المصنّف فيما تقدّم دعوى اتّفاق أصحابنا عليه وعزاه السيّد في المنية إلى المعتزلة كافّة ، وفي كون مبنى الخلاف على دعوى كون

٤٣٣

العلم بانتفاء الشرط مانعا من صحّة التكليف أو على القول بكون الشرط المعلوم انتفاؤه شرطا في صحّة التكليف وجهان ، يستفاد أوّلهما عن التفتازاني في شرحه على الشرح ، غير أنّ المستفاد عن الحاجبي وغيره كما عرفت فيما تقدّم في المقدّمة الثانية هو الوجه الثاني.

وعلى ذلك ينبّه ما في تهذيب العلاّمة من أنّ الأصل في ذلك أنّ الأمر قد يحسن لمصلحة تنشأ من نفس الأمر لا من المأمور به ، وقد يحسن لمصلحة تنشأ منهما ويظهر منه هنا ارتضاؤه بذلك حيث أورده ولم يعقبه بما يزيّفه.

وبالتأمّل فيما ذكر ـ مضافا إلى ما تقدّم في المقدّمة المذكورة مع ما سيأتي عند ذكر الأدلّة ـ يظهر أنّ كلام المجوّزين في ما يعمّ الأمر الحقيقي والأمر الابتلائي ، فإنّ الحاجبي وغيره مع كونه من المجوّزين قد جمع في المقام بين الاحتجاج بأنّه لو لم يصحّ لم يعص أحد أبدا ، وبين دفع نقض المعتزلة عليهم بما تقدّم الإشارة إليه بما يقضي بأنّ الأمر قد يقع لأجل الابتلاء كما صرّح به بيان المختصر ، وظاهر أنّ تكليف العاصين ليس إلاّ حقيقيّا ، ولا يستقيم ذلك إلاّ مع إرادة الأعمّ ، غير أنّه يظهر منهم الفرق بينهما بحسب المورد فيخصّون الأوّل بما إذا كان الشرط المعلوم انتفاؤه ممكن الحصول كالإرادة ونحوها ، والثاني بما إذا لم يكن كذلك كما عرفت في المقدّمة وستعرفه أيضا.

نعم أدلّة المانعين بين صريحة وظاهرة في نفي الأمر الحقيقي.

ولعلّ النزاع بين الفريقين لأجل ذلك يعود لفظيّا وهو ليس بعادم النظير في المسائل الخلافيّة ، فإنّ الأوّلين يريدون إثبات الجواز ولو لأجل الابتلاء لزعمهم عدم كون ذلك الشرط المعلوم انتفاؤه من شروط التكليف.

والآخرون يمنعون عن جواز التكليف الحقيقي لئلاّ يفضي إلى تكليف ما لا يطاق ونحوه ، فيكون ما علم انتفاؤه شرطا في التكليف أيضا.

لكن يرد على الأوّلين : أنّكم إذا جعلتم الكلام في إثبات الشرطيّة وعدمها فتجويزكم التكليف لأجل الابتلاء بدعوى عدم الشرطيّة لا يجديكم نفعا في محلّ النزاع ، إذ الابتلاء ليس من التكاليف الحقيقيّة حتّى ينظر في حكمه ويجعل تجويزه مبنيّا على عدم الشرطيّة.

وعلى فرض رجوعه بالقياس إلى العزم والتوطين وفعل المقدّمات إلى التكليف الحقيقي ـ لا أنّها امور تتأتّى من باب الغاية المقصودة في التكليف الصوري ، فلا يستريب أحد في عدم الشرطيّة حينئذ إذا جاز التكليف الابتلائي من أصله حيث لا مقتضي لها

٤٣٤

أصلا ، فنحن نباحثكم في التكليف الحقيقي المتعلّق بالفعل نفسه لا بما هو خارج منه ، فإن جعلتموه شرطا له فقد عدلتم عمّا ادّعيتموه أوّلا ، وإن أنكرتم الشرطيّة أيضا فقد التزمتم بما يكون باطلا بحكم العقل الضروري من جواز التكليف بما لا يطاق إن كان ما علم انتفاؤه من الشرط ما لا يتعلّق بإيجاده قدرة المكلّف ، أو قلتم بعدم الشرطيّة فيما لا قائل بها أصلا إن كان ما علم انتفاؤه من الامور الداخلة تحت قدرة المكلّف ، حيث لم يذهب أحد إلى كون التكليف في مثل ذلك مشروطا ، بل ادّعي الاتّفاق في مثل ذلك على الجواز وإن علم المأمور بانتفاء الشرط ، فإنّ غايته استلزامه للتكليف بإيجاد الشرط أيضا تبعا من باب المقدّمة ، مع أنّه على تقدير اختصاص موضع كلامكم بما لا يكون مقدورا رجع البحث إلى مسألة جواز التكليف بالممتنع العرضي كما صرتم إليه ، بل هو في الحقيقة من جملة فروع تلك المسألة ، فلا وجه لتخصيصه هنا بعنوان مستقلّ بعد ما أوردتم البحث في أصل المسألة.

ثمّ إنّ الاصوليّين اضطربت عباراتهم في تشخيص موضع النزاع فمنهم من جعله أعمّ ، ومنهم من خصّه بالأمر الحقيقي ، ومنهم من خصّه بالأمر الابتلائي ، ومنهم من ردّد بين الاحتمالات فوافق في كلّ احتمال فريقا ، وأكثرهم تعرّضا لذكر الاحتمالات بعض الفضلاء (١) وكلّ ذلك نشأ عن اختلاف كلمات المتنازعين واستدلالاتهم والثمرات المذكورة لهم في هذا النزاع.

والأقرب ما قرّرناه من كون نظر المجوّزين في الأعمّ ونظر المانعين في خصوص الأمر الحقيقي ، وأمّا كون هذا النزاع في خصوص الأمر المشروط كما احتمله جماعة منهم بعض الفضلاء حيث أدرجه في الاحتمالات الّتي ردّد فيها فممّا لا يساعد عليه شيء من أطراف المسألة لا عنوانا ولا دليلا ، بل يأبى عنه ما تقدّم في عبارة بيان المختصر ، كيف وهو مبنيّ على تسليم الشرطيّة عند الفريقين ونزاعهم في جواز التعليق وعدمه.

وقد عرفت أنّ المستفاد من المجوّزين صراحة وظهورا نفي الشرطيّة رأسا ، ويتّضح ذلك بملاحظة ما قرّرناه سابقا من أنّ نزاعهم يرجع بالأخرة إلى النظر في أنّ ما فرض كونه شرطا في الوقوع عقلا هل هو شرط للتكليف أيضا أو لا؟ ولعلّ منشأ هذا الاحتمال ما يأتي في كلام المصنّف تبعا للسيّد وغيره فيما يأتي.

__________________

(١) الفصول : ١٠٩ ـ ١١٠.

٤٣٥

لكن لا يعجبنى الترجمة عن المبحث بما ترى ، وإن تكثّر إيرادها في كتب القوم* (١) ، وسيظهر لك سرّ ما قلته وإنّما لم أعدل عنها ابتداء قصدا إلى مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى ، حيث جعله على الوجه الّذي حكيناه.

___________________________________

(١) * وتوضيح ذلك : أنّ العنوان الوارد في كتب القوم مشتمل بظاهره على جهات لا يرضى المصنّف بشيء منها.

إحداها : ظهور الشرط بإطلاقه فيما يعمّ المقدور وغيره ، فجعل حقيقة النزاع في خصوص الثاني بقرينة ما يأتي منه في جواب الوجه الأوّل من حجج المجوّزين.

وثانيتها : ظهور الأمر فيما لا يكون بعبارة التعليق ، فجعل حقيقة النزاع راجعة إلى صحّة التعليق والاشتراط من العالم بانتفاء الشرط بقرينة ما أورده من عبارة السيّد واستحسنها.

وثالثتها : إطلاق الأمر بالقياس إلى ما اريد منه طلب الفعل وما اريد منه طلب غيره من العزم والتوطين ، فجعل حقيقه النزاع في خصوص ما اريد منه طلب الفعل بقرينة ما يأتي منه في جواب الوجه الرابع من حجج المجوّزين.

ولكن يرد عليه : أنّه إن أراد في كلّ من تلك الجهات أنّ محلّ النزاع في الحقيقة هو ما زعمه دون غيره ، ففيه : ما عرفت من أنّه ما لا يساعد عليه شيء من جهات المسألة لا عنوانا ولا دليلا ولا نقضا ولا إبراما ، كما اعترف به في قوله : « وإنّما لم أعدل عنها ابتداء قصدا إلى مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى » حيث جعله على الوجه الّذي حكيناه ، مع ما عرفت في كلام بعضهم من التصريح بخلاف ما زعمه في بعض الجهات.

وإن أراد أنّ القابل للنزاع الّذي من شأنه أن يبحث فيه العلماء هو ما زعمه دون غيره ، لسخافة النزاع فيه وعدم كونه لائقا بأن يورد في الكتب العلميّة الّتي مبناها على البحث في الامور النظريّة دون الامور الضروريّة الّتي لا يعتنى بشأنها عند أرباب النظر.

ففيه : أنّ سخافة البحث لا تقضي بوجوب تغيير المبحث وكم من هذا القبيل في المسائل الخلافيّة مع أنّه لو رجع المتنازع فيه إلى النظر في أنّ ما فرضه العقل شرطا في الوقوع هل هو شرط في التكليف أيضا ـ كما استظهرناه من كلماتهم فيما سبق ـ كان قابلا للنزاع فيه لائقا بأن يورد في الكتب العلميّة ولا سخافة فيه أصلا.

ولا ريب أنّ قضيّة هذا العنوان كون المراد بالشرط ما يعمّ المقدور وغيره ، وبالأمر

٤٣٦

ما يعمّ الحقيقي وغيره ، وبالتكليف خصوص التنجيزي دون التعليقي ولا ما يعمّهما.

وكيف كان فاختلفت كلمتهم في تعيين موضع النزاع بالنسبة إلى كلّ من الجهات المذكورة ، فأمّا من جهة الأمر بالقياس إلى قسميه الحقيقي والابتلائي فقد تبيّن الحال ومحصّل الأقوال فيها فيما سبق.

وأمّا من جهة التكليف بالقياس إلى قسميه التنجيزي والتعليقي فظاهرهم عنوانا ودليلا مع ملاحظة ما فرّعوا على القول بالجواز من الثمرات إرادة الأوّل.

وعزاه بعض الأعاظم إلى ظاهر كلام الأكثر ، لكن في المنية ما يقضي بإرادة الثاني حيث نقل كلام المجوّزين بقوله : « قال الآخرون لا نزاع في أنّه لا يجوز أن يقال للميّت حال موته : « إفعل » لكن لم لا يجوز أن يقال لمن هو موجود مستجمع لشرائط التكليف مع علم الآمر بأنّه سيموت في الغد : « صم غدا إن عشت؟ » بل الحقّ ذلك لما يتضمّن من المصالح الكثيرة ، فإنّ المكلّف قد يوطّن نفسه على الامتثال فيكون ذلك التوطين لطفا في المعاد نافعا في الدنيا ، لتأكّد انزجاره عن المعاصي المنافية ، وانحرافه عن طرق الفساد عاجلا ، ولأنّه يحسن أن يستصلح السيّد عبده بأوامر ينجّزها عليه مع عزمه على نسخها منه امتحانا له ؛ وأن يقول الإنسان لغيره : « وكّلتك على بيع عبدي » مع علمه بعزله إذا كان غرضه استمالة الوكيل وامتحانه في أمر العبد والأصل في ذلك أنّ الأمر كما يحسن لمصالح تنشأ من فعل المأمور به فقد يحسن لمصالح تنشأ من نفس توجّهه إلى المأمور » انتهى.

فإنّ قضيّة الجمع بين الأمثلة المذكورة كون مراد المجوّزين جوازه ولو بعبارة التعليق.

وأمّا من جهة الشرط فجزم جماعة من فحول أصحابنا المتأخّرين بكون النزاع في شرط الوجوب خاصّة ، حتّى أنّ منهم من ادّعى ظهور عدم الخلاف في جواز أمر الآمر عند علمه بفقدان شرط الوجود ، كما في ضوابط ابن عمنا السيّد ثمّ علّله : « بأنّه لو كان ذلك الشرط داخلا في النزاع يلزم على قول الخاصّة بعدم الجواز التزام كون الأوامر بأسرها مقيّدات وعدم وجود أمر يكون مطلقا ، فيرجع النزاع حينئذ إلى وجود الواجب المطلق وعدمه » وهو كما ترى فإنّ شرط الوجود أعمّ ممّا لا يكون مقدورا للمكلّف فكيف يدّعى عدم الخلاف في جواز الأمر مع العلم بالفقدان إذا كان ذلك الشرط غير مقدور للمكلّف ، وتوهّم أنّ ذلك شرط للوجوب أيضا فلا ينافي دعوى اختصاص النزاع بشرط الوجوب فقط.

يدفعه : ما عرفت من أنّ مرجع كلام المجوّزين إلى إنكار كون مثل ذلك شرطا

٤٣٧

للوجوب ، وكون الواجب بالنسبة إلى ما كان مقدورا من شرائط الوجود فقط مطلقا كاف في إزاحة ما ذكر من المحذور ، فلا يكون النزاع راجعا إلى وجود الواجب المطلق وعدمه بقول مطلق ، بل يرجع إليه في خصوص ما قيّد وجوده به عقلا من الشروط الغير المقدورة.

بل لنا أن نقول : إنّ النزاع لو كان فيما يعمّ المقدور أيضا لا يلزم المحذور على شيء من المذهبين.

أمّا على مذهب المجوّزين فواضح.

وأمّا على مذهب المانعين فلكفاية بنائهم على إطلاق الأمر بالنسبة إلى الشروط الشرعيّة ، فلا يرجع النزاع إلى ما ذكر أيضا على إطلاقه.

وتحقيق المقام : أنّ النزاع إنّما هو في شرط الوجود فقط لما هو المصرّح به في كلام غير واحد من أهل القول بالجواز عنوانا ودليلا.

وإن شئت فانظر إلى عبارة الحاجبي في أصل العنوان حيث قال : « يصحّ التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته ».

وأصرح منه ما نقله في دفع نقض المعتزلة بلزوم عدم كون الإمكان شرطا في التكليف من قوله : « واجيب : بأنّ الإمكان المشروط أن يكون ممّا يتأتّى فعله عادة عند وقته واستجماع شرائطه والإمكان الّذي هو شرط الوقوع محلّ النزاع ».

وقد وافقنا على ما ادّعيناه هنا الباغنوي على ما في محكيّ بعض الأعاظم (١) عنه من تخصيصه الشرط هنا بشرط الوجود الّذي لم يكن شرطا للوجوب ، معلّلا : « بأنّ عند انتفاء شرط الوجوب أو علم الآمر بانتفاء شرط الوجوب لا يتحقّق التكليف ، إذ لا يتصوّر التكليف بدون شرط الوجوب » وهو كما ترى في غاية المتانة فإنّ معنى كونه شرطا للوجوب أنّ الوجوب منتف بدونه ومعه كيف يعقل القول بجواز التكليف ، وهل هو إلاّ القول بجواز التناقض في كلام الحكيم ، بل القول بجواز اجتماع النقيضين؟ غير أنّه أورد عليه بعض الأعاظم (٢) بوجوه :

منها : أنّ كلماتهم فرعا ودليلا في بيان الشروط مشحونة بذكر الطهارة من الحيض والحياة والقدرة والعقل ونحوها من شرائط التكليف من غير نكير.

ومنها : أنّ غاية ما يلزم من ذلك بطلان التجويز ولا ينافيه ، فإنّ القائل به الأشاعرة وكم

__________________

(١ و ٢) إشارات الاصول : ٨٦.

٤٣٨

من هذا القبيل في كلماتهم.

ومنها : أنّ ما خصّصه به يجعل المنع غير متصوّر فإنّ انتفاء شرط الوجود إذا لم يكن شرط الوجوب ممّا لا يتصوّر وجه لمنع التكليف منه.

ولا يخفى ما في الجميع من ورودها على خلاف التحقيق.

أمّا الأوّل : فلأنّ كون الامور المذكورة من شروط التكليف عند الفريقين أوّل الدعوى ، بل المسلّم عندهما كونها من شروط الوجود.

وأمّا كونها من شروط التكليف أيضا فيرجع كلام المجوّزين ـ على ما عرفته ـ إلى إنكاره ولقد سبق عن الحاجبي ما هو صريح في ذلك ، ومع هذا كيف يقال : إنّها من شروط التكليف من غير نكير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأشاعرة بعد وضوح مرامهم وظهور كلامهم هنا في نفي الشرطيّة الوجوبيّة فكيف يسند إليهم تجويز التناقض واجتماع النقيضين الّذي يلزم من القول بالجواز مع تسليم الشرطيّة للوجوب.

وأمّا الثالث : فلأنّ المنع يتصوّر في صورة كون شرط الوجود غير مقدور للمكلّف مع توهّم كون مراد المجوّزين من ما قصد به أداء الفعل المشروط ، كما يشهد به الأمثلة المذكورة ، فإنّ الكلّ من هذا الباب فإنكار تصوّر المنع لا يخلو عن غرابة.

ثمّ إنّه على ما رجّحناه من كون النزاع في شرط الوجود فهل يعمّ ذلك لما يكون منه مقدورا أو يختصّ بما هو غير مقدور؟

والّذي يستفاد من أدلّة المانعين هو الثاني كما ستعرفه ، وكلام المجوّزين ظاهر بل صريح في الأوّل ، وممّا يرشد إليه احتجاجهم بأنّه لو لم يصحّ لما عصى أحد من المكلّفين لأنّ كلّ ما لم يحصل فإنّما هو من جهة انتفاء شرط من شروطه وأقلّها الإرادة الّتي هي من شروط الوقوع اتّفاقا.

ولا ريب أنّ الإرادة من الامور المقدورة للمكلّف.

فإن قلت : لا شهادة في ذلك بما ادّعيته من جهة أنّ المجوّز من الأشاعرة الّذين يقولون بالجبر في أفعال العباد ، ومن لوازم هذا المذهب كون الإرادة الّتي هي من شروط الوجود هي إرادة الله تعالى وهي كما ترى غير مقدورة للمكلّف.

قلنا : قد عمّموا الإرادة في تقرير الاستدلال بالقياس إلى إرادته تعالى وإرادة الخلق ليستقيم

٤٣٩

ولقد أجاد علم الهدى ، حيث تنحّى عن هذا المسلك ، وأحسن التأدية عن أصل المطلب!.

___________________________________

الدليل على كلا المذهبين.

وإن شئت فلا حظ عبارة الحاجبي المشتملة في بيان الملازمة على قوله : « لأنّه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة » وشرحه في بيان المختصر : « بأنّ وقوع كلّ واحد من الأفعال مشروط بإرادة قديمة وهي الإرادة القائمة بذات الله تعالى كما هو مذهب الجماعة ، أو بإرادة حادثة وهي إرادة الخلق كما هو مذهب المعتزلة ».

ومن هنا يتبيّن ما في كلام سلطان المحقّقين في شرح عبارة المصنّف فيما تقدّم المشتملة على قوله : « ولا تعجبني الترجمة » إلى آخره ، من قوله : « يعني من تعميم الشرط بالنسبة إلى المقدور وغير المقدور ، بل لا بدّ من تخصيص الشرط بما لا يكون مقدورا للمكلّف ، فإنّه لا خلاف في أنّه يصحّ التكليف مع انتفاء الشرط المقدور فإنّه تكليف بالشرط والمشروط ».

فتلخّص ممّا قرّرنا في تشخيص موضع النزاع أنّ النزاع من جهة الشرط أيضا يعود لفظيّا كما كان من جهة الأمر لفظيّا حسبما أشرنا إليه سابقا.

إلاّ أن يقال : إنّ الصور بملاحظة قسمي الأمر مع قسمي الشرط أربع وقع المخالفة في واحدة منها ، وهي ما لو كان الأمر حقيقيّا والشرط غير مقدور ، فإنّ المجوّزين يجوّزون الأمر في جميع تلك الصور والمانعون يمنعون الجواز في الصورة المذكورة خاصّة مع موافقتهم المجوّزين في الثلاث الباقية ، ولكن هذا حسن لولا ما تقدّم من أنّ المجوّزين يخصّون في الأمر الحقيقي بما لو كان الشرط مقدورا للمكلّف والأمر الابتلائي بما لو كان الشرط غير مقدور له ، والمفروض أنّ المانعين لا يمنعون شيئا منهما.

نعم لو كان في المجوّزين من يجوّز الأمر الحقيقي في الشرط الغير المقدور أيضا تمّ ما ذكر.

وعلى أيّ حال كان فقد عرفت أنّ الأمر في موضوع المسألة يراد به الأمر المنجّز المطلق وأمّا الأمر المشروط بما علم انتفاء شرط وقوعه فهو نزاع آخر معبّر عنه بجواز التعليق من العالم بالعواقب وعدمه ، وستعرف ما هو الحقّ في ذلك أيضا.

(١) * ظاهر العبارة كون كلام السيّد تعبيرا عن العنوان المعروف وتحريرا لهذا النزاع ، ولا خفاء أنّه بعيد بعد ما حرّرناه موضع النزاع في هذا العنوان ، فإنّ تعبير السيّد ممّا لا يساعد عليه أصل العنوان ولا كلماتهم في مطاوي البحث ولا أدلّة الفريقين ولا ثمرات القولين ،

٤٤٠