تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

واعلم : أنّ بعض الأصحاب توقّف في وجوب العزم ، على الوجه الذي ذكر. وله وجه ، وإن كان الحكم به متكرّرا في كلامهم. وربّما استدلّ له بتحريم العزم على ترك الواجب ، لكونه عزما على الحرام ، فيجب العزم على الفعل ، لعدم انفكاك المكلّف من هذين العزمين ، حيث لا يكون غافلا ، ومع الغفلة لا يكون مكلّفا. وهو كما ترى.

حجّة من خصّ الوجوب بأوّل الوقت : أنّ الفضلة في الوقت ممتنعة ؛ لأدائها إلى جواز ترك الواجب ؛ فيخرج عن كونه واجبا. وحينئذ فاللازم صرف الأمر إلى جزء معيّن من الوقت ، فإمّا الأوّل أو الأخير ، لانتفاء القول بالواسطة. ولو كان هو الأخير ، لما خرج عن العهدة بأدائه في الأوّل. وهو باطل إجماعا ، فتعيّن أن يكون هو الأوّل.

________________________________

الفرد الاضطراري فإمّا أن يكون مكلّفا بما لا يسعه من الفرد الاختياري أو بما يسعه من الفرد الاضطراري ، أو لا تكليف له بالصلاة في أوّل الوقت بل يجب عليه انتظار الآخر ليصادفه زوال العذر الموجب للتمكّن عن الفرد الاختياري ، والأوّل تكليف بما لا يطاق ، والثالث موجب للتقييد في دليل التوقيت ، وهو ممّا لا دليل عليه إلاّ ما قرّر من الأصل الّذي لا يصلح لذلك لارتفاع موضوعه الّذي هو الشك بملاحظة إطلاق التوقيت الّذي هو دليل اجتهادي فتعيّن الثاني.

لا يقال : لو اخترنا وجوب التأخير إلى زوال العذر لا يلزم خلوّ الأوّل عن التكليف لينافيه إطلاق دليل التوقيت ، بناءا على جواز التكليف بالشيء قبل مجيء وقته ، على نحو يكون التكليف مطلقا والمكلّف به مقيّدا نظير وجوب الصيام في نهار رمضان الّذي يتعلّق قبل الفجر.

لأنّا نقول : بأنّ المنافاة إنّما تحصل بالنسبة إلى الأجزاء ، فإنّ قضيّة إطلاق التوقيت حصول التكليف في كلّ جزء وتساوي نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض في كون إيقاع الفعل في كلّ مجزيا وموجبا للامتثال.

ومن هنا يتحصّل تحقيق إجمالي بالقياس إلى مسألة الإجزاء في الأمر ، ومثله الكلام فيما لو كان في أوّل الوقت بلا عذر عالما بطروّه فيما بعده أو محتملا له فأخّر الصلاة إلى

١٨١

والجواب : أمّا عن امتناع الفضلة في الوقت ، فقد اتّضح ممّا حقّقناه آنفا ، فلا نطيل باعادته. وأمّا عن تخصيص الوجوب بالأوّل ، فبأنّه لو تمّ لما جاز تأخيره عنه ، وهو باطل أيضا ، كما تقدّمت الاشارة إليه.

واحتجّ من علّق الوجوب بآخر الوقت : بأنّه لو كان واجبا في الأوّل لعصى بتأخيره ؛ لأنّه ترك للواجب ، وهو الفعل في الأوّل ، لكنّ التالي باطل بالاجماع ، فكذا المقدّم.

وجوابه : منع الملازمة ، والسند ظاهر ممّا تقدّم ؛ فانّ اللزوم المدّعى إنّما يتمّ لو كان الفعل في الأوّل واجبا على التعيين. وليس كذلك ، بل وجوبه على سبيل التخيير. وذلك أنّ الله تعالى أوجب عليه إيقاع الفعل في ذلك الوقت ، ومنعه من إخلائه عنه ، وسوّغ له الاتيان به في أي جزء شاء منه. فان اختار المكلّف إيقاعه في أوّله أو وسطه أو آخره ، فقد فعل الواجب.

________________________________

أن صادفه ذلك ، فحينئذ إمّا أن يكون مكلّفا أو لا؟ والثاني باطل لإفضائه إلى تقييد دليل التوقيت من غير دليل.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون مكلّفا بما يناسب العذر أو بما لا يناسبه.

والثاني باطل لإدّائه إلى التكليف بما لا يطاق فتعيّن الأوّل.

فإن قلت : بعد ما أنكرت الإطلاق في المقام الأوّل كيف يمكنك التمسّك به هنا.

قلنا : قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(١) له إطلاق من جهات عديدة :

منها : ما ادّعي بالنسبة إلى الصلاة وقد أنكرناه.

ومنها : ما ادّعيناه بالنسبة إلى أجزاء الوقت المحدود بالدلوك والغسق ، وهذا الإطلاق ممّا لم يطرئه جهة اجمال.

ولا ورد عليه تقييد فيكون سليما عن المعارض ومحلا للاستناد إليه فلا منافاة بين الكلامين كما أنّه لا فرق في الحكم بين المقامين.

فإن قلت : القول بالتخيير في أوّل الوقت بين فردي الاختياري والاضطراري ينافي

__________________

(١) الاسراء : ٧٨.

١٨٢

وكما أنّ جميع الخصال في الواجب المخيّر يتّصف بالوجوب ، على معنى أنّه لا يجوز الاخلال بالجميع ولا يجب الاتيان بالجميع ، بل للمكلّف اختيار ما شاء منها ، فكذا هنا لا يجب عليه إيقاع الفعل في الجميع ، ولا يجوز له إخلاء الجميع عنه. والتعيين مفوّض إليه مادام الوقت متّسعا ؛ فاذا تضيّق تعيّن عليه الفعل.

وينبغى أن يعلم : أنّ بين التخيير في الموضعين فرقا ، من حيث انّ متعلّقه في الخصال الجزئيات المتخالفة الحقائق ، وفيما نحن فيه الجزئيّات المتّفقة الحقيقة ؛ فانّ الصلاة المؤدّاة مثلا في جزء من أجزاء الوقت مثل المؤدّاة في كلّ جزء من الأجزاء الباقية ، والمكلّف مخيّر بين هذه الأشخاص المتخالفة بتشخّصاتها ، المتماثلة بالحقيقة. وقيل : بل الفرق أنّ التخيير هناك بين جزئيّات الفعل وها هنا في أجزاء الوقت. والامر سهل.

________________________________

اشتراط الاكتفاء بالاضطراري بالعجز عن الاختياري.

قلنا : إنّما ينافيه لو قلنا بذلك التخيير في حالة واحدة وهو باطل بالضرورة كما لا نقول به في القصر والإتمام بل نقول بالتخيير في أوّل الوقت بين إيقاع الصلاة في جزء يناسبه الفرد الاختياري لمصادفة ذلك الجزء حالة الاختيار وجزء يناسبه الفرد الاضطراري لمصادفته حالة الاضطرار وظاهر أنّ ذلك لا يستلزم التخيير في وقت حالة الاختيار بين ما يناسبه وما يناسب حالة الاضطرار وذلك واضح.

ـ تعليقة ـ

اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء مع الإتيان به على وجهه أو لا؟ على قولين أو أقوال.

ظاهر العناوين من اشتمالها على اقتضاء الأمر وعدمه كون المسألة من المسائل الأصوليّة ، لرجوع البحث فيها نفيا واثباتا على حسب هذا الظهور إلى الاقتضاء الّذي هو مرادف للدّلالة أو قريب منها ، بل وفي بعض العبائر التصريح بالدلالة ونفيها ، ولكن سياق

١٨٣

الأدلّة من الطرفين ـ على ما يأتي ـ ومفادها أيضا كونه بحثا عن حكم من أحكام المأمور به الّتي يثبتها العقل بملاحظة الأمر ، ككونه موجبا لاستحقاق الثواب في تقدير وكونه موجبا لاستحقاق العقاب في تقدير ، ومن هذا القبيل كونه موجبا للإجزاء بالمعنى الآتي وعدمه ، فتكون من المبادئ الأحكاميّة وهو الأقرب بملاحظة ما سيأتي.

ولا بدّ قبل الخوض في أصل المطلب من رسم امور :

أوّلها : أنّ فعل المكلّف باعتبار لحوق الحكم الشرعي به يطرءه التقسيم عندهم باعتبارات شتّى.

منها : تقسيمه إلى ما يكون مجزيا وما لا يكون مجزيا ، والإجزاء لغة ـ حسبما صرّح به أهل اللغة ـ الكفاية ، واصطلاحا ـ على ما في تهذيب العلاّمة وشرحه المنية ـ كون الإتيان بالفعل كافيا في سقوط التعبّد به.

ومحصّله : كفاية الفعل في سقوط التعبّد ، وقريب من ذلك ما في المنهاج وشرحه من أنّه الأداء الكافي في سقوط التعبّد به.

وقضيّة ذلك كون النقل على فرض تحقّقه من باب النقل من العامّ إلى الخاصّ وقالوا : إنّما يحصل الإجزاء بهذا المعنى إذا أتى به المكلّف مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه شرعا ، فغير المجزي على هذا ما لا يكون كذلك إذا لم يوقعه على الوجه المطلوب منه.

وفي المنية عن قوم : أنّ الإجزاء عبارة عن سقوط القضاء ، ومثله ما في شرح المنهاج عن الفقهاء.

غير أنّه أورد عليه : بصدق الإجزاء حيث أتى المكلّف بالفعل في وقته ، وعدم صدق سقوط القضاء لعدم موجب القضاء وهو خروج الفعل عن الوقت ، كما انّ السيّد نقل ردّ ما حكاه بأنّ سقوط القضاء قد يتحقّق بدون الإجزاء فيغايره ، كما لو أتى المكلّف بالفعل مجرّدا عن بعض شروطه ثمّ مات ، فإنّه يسقط عنه القضاء ولا يكون هذا الفعل مجزيا بالاتّفاق.

ثمّ نقل الجواب عنه : بأنّ المسقط للقضاء هنا إنّما هو الموت لا الفعل ، فلا يصدق على الفعل أنّه مسقط ، كما لا يصدق عليه أنّه مجز فلا يغايره.

ويمكن دفع الإيراد المذكور أيضا : بأنّ المراد بسقوط القضاء سقوط ما يلزم المكلّف على تقدير إخلاله بالفعل في بعض الامور المعتبرة فيه أو تركه إيّاه في الوقت.

فالقضيّة هنا شأنيّة فلا ينافيها عدم تحقّق الفعليّة لعدم حصول الموجب ، ولذلك يتناول

١٨٤

الحدّ لما لا قضاء له أصلا كصلاة العيدين مثلا ، حيث يراد بسقوط القضاء بالنسبة إليه ـ حسبما ذكروه في تحديد « الصحّة » عند الفقهاء بما سيأتي في بحث النهي ـ سقوطه على تقدير ثبوته فيه شرعا ، وهذا المعنى عند التحقيق يرجع إلى المعنى الأوّل لمكان الجزم بأنّ سقوط التعبّد ممّا لا محصّل له إلاّ بسقوط القضاء ، بناء على كون المراد بالقضاء هنا الإتيان بالمأمور به ثانيا في الوقت أو في خارجه كما ستعرفه.

نعم يشكل ذلك بكون الإجزاء على المعنى الأوّل على ما يظهر منهم وصفا للفعل ، فلذا حصل التعبير عنه بما يكون من المبادئ المتعدّية بخلاف سقوط القضاء.

ولكن الخطب في ذلك سهل بعد ملاحظة توسّع باب المسامحة والتوسّع في العبارة ، فلعلّ مراد من فسّره بذلك اسقاط القضاء فيتّحد المعنيان لكونهما تعبيرين عن هذا المعنى ، مع إمكان كون نظره في ذلك إلى تفسير الإجزاء بالمعنى المتنازع فيه على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم في تلك الأمثلة من كون مرادهم بالإجزاء سقوط القضاء ، كما يفصح عن ذلك ما في جملة من عناوينهم من التعبير بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء كما في بعضها ، أو يوجبه كما في آخر ، أو يستلزمه كما في ثالث ، فلولا المراد هذا المعنى لكان المناسب التعبير بـ « أنّ الإتيان بالمأمور به مجز » ونحوه كما لا يخفى ، وكأنّه إلى ذلك ينظر ما في مختصر الحاجبي وبيانه لشارحه من التعبير عن العنوان بـ « أنّ الإجزاء الامتثال ، فالاتيان بالمأمور به على وجهه تحقّقه اتّفاقا ، وقيل : الإجزاء سقوط القضاء فيستلزمه ، وقال عبد الجبّار : لا يستلزمه ».

فتبيّن من ذلك أنّ الإجزاء قد يطلق عندهم على سقوط القضاء الّذي هو معنى الصحّة على اصطلاح الفقهاء ، بل على الامتثال أيضا الّذي هو معناها عند المتكلّمين كما يأتي بيانه في بحث النهي.

كما تبيّن بملاحظة ما في عبارة المختصر وغيره أنّ النزاع في تلك المسألة مخصوص بالإجزاء بمعنى سقوط القضاء ، وهو المصرّح به في كلام غير واحد من أصحابنا المتأخّرين مع دعوى الاتّفاق أو نفي الخلاف في الإجزاء بمعنى الامتثال ، كما يتبيّن أيضا بملاحظة جميع ما قرّرناه بعض الاشتباهات الحاصلة في المقام لبعض الأعلام ، حيث ذكر للإجزاء عند تحرير موضع النزاع معنيين

أحدهما : كون الفعل مسقطا للتعبّد به ثانيا.

١٨٥

وثانيهما : إسقاط القضاء ، ثمّ أخذ بالتصرّف في الأوّل بحمله على إرادة حصول الامتثال ، مستشهدا باتّفاقهم على الإجزاء بهذا المعنى ، بزعم أنّ المعنى الأوّل الّذي خرج عن المتنازع هو هذا المعنى ولا يستقيم ذلك إلاّ بصرفه عن ظاهره ، وهو كما ترى ليس في محلّه فإنّ المعنيين على ما عرفت تعبيران عن معنى واحد.

والّذي ادّعى عليه الاتّفاق إنّما هو الإجزاء بمعنى الامتثال وهو إطلاق آخر ، لا الإجزاء بمعنى كون الفعل مسقطا للتعبّد به حتّى يحتاج إلى تكلّف التأويل بما ذكر.

وبالتّأمّل فيما قرّرناه تعرف أنّ وصف الفعل بالإجزاء بالمعنى المتنازع فيه يرادف وصفه بالصحّة في العبادات على اصطلاح الفقهاء ، كما أنّ وصفه بالإجزاء بالمعنى المتّفق عليه يراد وصفه بالصحّة فيها على اصطلاح المتكلّمين ، إذ لا يراد بالامتثال إلاّ ما يرجع محصّله إلى موافقة الأمر كما لا يخفى.

وأمّا وصفه بالاجزاء بمعنى إسقاط التعبّد أو إسقاط القضاء فهو وصف له بما يلازم الصحّة على اصطلاح الفقهاء لا بما يرادفها.

فما في كلام بعض الأعلام ـ من أنّ الظاهر أنّ الإجزاء في العبادات هو اللازم المساوي للصحّة فيها ـ على إطلاقه ليس بسديد.

ولكن يشكل ما ذكرنا : بأنّ الإجزاء بالمعنيين المتّفق عليه والمتنازع فيه ليس وصفا للفعل كما أشرنا إليه إجمالا فيما سبق ، مع أنّ ظاهرهم في تقسيم الفعل باعتبار الصحّة وخلافها إلى الصحيح وغيره كون الصحّة بكلّ من المعنيين وصفا له.

ويمكن دفعه : بالتزام كون الإجزاء بهذين المعنيين أيضا وصفا للفعل ، ولا ينافيه وصفه بالإجزاء بمعنى الإسقاط في كلّ من تعبيريه بعد ملاحظة اعتبار تعدّد الجهة ، نظرا إلى أنّ الصحّة على اصطلاح المتكلمين عبارة عن موافقة الأمر على معنى موافقة المأتيّ به للمأمور به.

وإنّما يتأتّى ذلك بإيجاد ما يوافق المأمور به عنوانا وقيودا ، بأن يكون فردا من الكلّي المأمور به ـ بناء على ما سبق تحقيقه من تعلّق الأحكام بالطبائع ـ فالفعل حينئذ له اعتباران : اعتبار الإيجاد الّذي هو وصف إضافي فيما بينه وبين الفاعل ، لاضافته إليه من حيث تعلّقه به وإلى الفاعل من حيث صدوره عنه ، واعتبار الوجود وهو الحاصل بالايجاد المتحقّق بعده ، فالإجزاء بمعنى الاسقاط وصف يلحقه باعتباره الأوّل ، والصحّة بمعنى

١٨٦

موافقة الأمر وصف يلحقه باعتباره الثاني ، فإنّ مفادها بالأخرة يرجع إلى الصفة الحاصلة في الموجود الثابت في ظرف الخارج.

والفرق بين الوصفين كالفرق بين وصفي العلّة والمعلول والتأثير والأثر ، لكون الاعتبار الثاني متأخّرا بحسب الرتبة عن الأوّل.

غير أنّ هذا التوجيه لا يتمشّى في الإجزاء بالمعنى المرادف للصحّة على اصطلاح الفقهاء ولا يدفع الاشكال بالنسبة إليه ، فلا بدّ في دفعه من منع ظهور كون الصحّة بهذا الاصطلاح وصفا للفعل على نحو الحقيقة ، ولا ينافيه إطلاق الصحيح عليه أيضا بهذا الاعتبار ، لأنّه إطلاق يرد على سبيل المجاز ويراد به الموجب للصحّة ، فإنّ أداء الفعل على ما هو مأمور به هو المسقط للقضاء مطلقا ، فيكون الإطلاق من باب وصف الشيء بما يكون مسبّبا منه بواسطة اللفظ الموضوع للذات المتّصفة بالصحّة بعلاقة السببيّة ، كما في إطلاق « القاتل » على سبب القتل.

ولو فسّرنا المعنى في اصطلاح الفقهاء بإسقاط القضاء كما في جملة من العبائر تعيّنت في كونها وصفا للفعل على نحو الحقيقة وتوجّه الاشكال فبطل بذلك دعوى الترادف بين وصفه بالإجزاء بالمعنى المتنازع فيه ووصفه بالصحّة على هذا الاصطلاح ، غير أنّ هذا التفسير بعيد عن كلماتهم ، ولا سيّما بملاحظة تفسيرهم للصحّة عند إرادة بيان ما هو القدر المشترك بين صحّة العبادات وصحّة المعاملات بترتّب الأثر كما في كلام الأكثر ، أو متابعة الغاية كما في المنهاج وشرحه ، ضرورة أنّ الأثر المترتّب على صحيح العبادة عند الفقهاء إنّما هو سقوط القضاء لا إسقاطه ، فإنّ الاسقاط وصف للفعل ووصف الشيء لا يكون أثرا مترتّبا عليه كما لا يخفى.

وثانيها : صورة المسألة على وجه ينطبق عليه كلّ من محلّ الوفاق ومحلّ الخلاف ما لو أتى المكلّف بالمأمور به على الوجه المعتبر فيه شرعا ، بأن يكون جامعا لجميع الأجزاء والشرائط وخاليا عن كلّ الموانع ، كما وقع التصريح به في مفاتيح السيّد ، وهو المستفاد عن غيره من أهل الاصول تصريحا وتلويحا كما لا يخفى على المتتبّع البصير ، فمحلّ الوفاق من ذلك أنّه يصير بذلك ممتثلا.

وقد عرفت عن الحاجبي فيما سبق دعوى الاتّفاق ، ووافقه على هذه الدعوى شارح المختصر في بيانه ، وحكى ذلك عن شارحه العضدي أيضا ، وعن شارح المنهاج أيضا ، بل

١٨٧

عن العضدي التعليل : بأنّ معنى الامتثال وحقيقته ذلك.

ومحلّ الخلاف من ذلك خروجه عن التكليف بالمرّة بذلك وفراغ ذمّته عمّا كانت مشغولة به ، وعدم وجوب إعادته عليه لا في الوقت ولا خارجه وعدمه.

فالأوّل ما عزاه في المنية إلى المحقّقين ، وبعض الأعلام عزاه إلى المشهور ، والسيّد في مفاتيحه عزاه إلى السيّد في الذريعة والشيخ في العدة والمحقّق في المعارج والمعتبر ، والعلاّمة في المنتهى والنهاية والتهذيب والمبادي ، والشهيدين في الذكرى والروض ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ، وسبط ثاني الشهيدين في المدارك ، والفاضل الخراساني في الذخيرة ، والمحدّث الكاشاني في المعتصم ، والرازي في المحصول ، وعليه الحاجبي في المختصر ، والبيضاوي في المنهاج ، وشارحاهما وأصحابنا المتأخّرين كافّة بل عن الإحكام : هو مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة ، وعن العدة : ذهب إليه الفقهاء بأجمعهم وأكثر المتكلّمين ، وعن نهاية السؤول : قال به الجمهور ، وعن النهاية : ذهب إليه المحقّقون.

والثاني ما نسب إلى القاضي عبد الجبّار ، وأضاف إليه بعض الأعلام وغيره أبا هاشم ، بل يستفاد عن بعض العبارات ـ كما يأتي ـ أنّ لهما أتباعا في ذلك فقالا : « أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يقتضي سقوط القضاء » غير أنّهم اختلفوا في تقرير هذا المذهب عنهما ، فعن إحكام الآمدي : « أنّ القاضي قال : بأنّه لا يقتضي اسقاط القضاء ولا يمتنع من الأمر به » واحتمله بعض الأعلام ، وصرّح به التفتازاني بقوله : « فإنّ مذهب عبد الجبّار هو أنّه قد أدّى الواجب وأتى بالمأمور به ، ومع ذلك يحتمل عدم خروجه عن العهدة ، قال : لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول : إذا فعلت أثبت عليه وأدّيت الواجب ويلزمه القضاء مع ذلك ، وهذا مشعر بأن ليس النزاع في الخروج عن عهدة الواجب بهذا الأمر بل في أنّه هل يصير بحيث لا يتوجه إليه تكليف بذلك الفعل بأمر آخر » انتهى.

وعن العدّة : قال كثير من المتكلّمين أنّه لا يدلّ على ذلك ولا يمتنع أن لا يكون مجزيا ويحتاج إلى القضاء.

وعن نهاية السؤول : قال أبو هاشم وعبد الجبّار وأتباعهما أنّه لا يمتنع الأمر بالقضاء مع فعله ، فلزم من ذلك أنّه لا يدلّ على عدم وجوبه بل يكون عدم الوجوب مستفادا من الأصل.

وعن النهاية : قال أبو هاشم وأتباعه والقاضي عبد الجبّار أنّه لا يقتضي الإجزاء بمعنى

١٨٨

سقوط القضاء.

وثالثها : قد تحصّل بالتأمّل في جميع ما قرّر في الأمر السابق من البداية إلى النهاية امور :

الأوّل : اختلاف الاصولييّن في فهم مراد القاضي وتقرير مذهبه على وجهين :

أحدهما : نفي الاقتضاء مجرّدا عن دعوى اخرى متضمّنة لقضيّة إيجابيّة منضمّة إلى القضيّة السلبيّة.

وثانيهما : نفيه مع دعوى عدم اجتماع أمر آخر بالقضاء غير الأمر الأوّل.

وربّما يحتمل في هذا المذهب القول باقتضاء الأمر لعدم الإجزاء وعدم سقوط القضاء في الجملة ، ولعلّ وجهه أنّ عدم الاقتضاء في قول هذا القائل مفهوم له فردان :

أحدهما : سكوته عن الإجزاء نفيا وإثباتا ، فيقابله قول الآخرين باقتضائه للإجزاء.

وثانيهما : اقتضاؤه لعدم الإجزاء ، فيقابله قول الآخرين باقتضاء الإجزاء أو بعدم اقتضاء عدم الإجزاء ، ولا يخفى بعده بل سقوطه ووضوح فساده ، حيث لم يرد لبيان ذلك في كلامهم تصريح ولا تلويح ولا إشارة ، بل هو ما ينافيه الأدلّة من الطرفين ، بل التحقيق أنّ الوجه الثاني أيضا سهو ، لكون أدلّة الطرفين متّفقة على الوجه الأوّل ، ولعلّه وهم نشأ عمّا تقدّم في عبارة عبد الجبّار ـ على ما في محكيّ التفتازاني ـ من قوله : « ويلزمه القضاء » بتوهّم أنّ هذه قضيّة يراد بها إيجاب القضاء فيكون خطابا آخر غير الأوّل مثبتا للقضاء.

وفيه : منع إفادة ذلك هذا المعنى وإلاّ لكان عليه الإتيان بضمير الخطاب موضع الغيبة ويقول : « ويلزمك القضاء » فالعدول عن الخطاب إلى الغيبة قرينة واضحة على إرجاع الضمير إلى ما قبله وهو « الواجب » ، فيكون المراد بتلك القضيّة حينئذ أنّ الواجب من لوازمه القضاء.

ولا ريب أنّ تعليق الحكم على الوصف ممّا يشعر بعلّيّة مأخذ الاشتقاق وهو هنا وصف الوجوب ، وهو كما ترى وصف حصل في الواجب بالأمر الأوّل ، فيكون ثبوت القضاء من مقتضيات هذا الوصف لا من مقتضيات ما حصل فيه بأمر آخر ، بل لا يبعد انطباق ذلك على الوجه الثالث الّذي زيّفناه كما لا يخفى.

ويمكن كون ذلك التوهّم ناشئا عن توهّم كون الامتثال المتّفق على حصوله عبارة عن الخروج عن عهدة التكليف كما صرّح به التفتازاني ، فعلى هذا لا بدّ وأن يرجع مفاد هذا المذهب إلى أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه المستلزم للخروج عن العهدة لا يستلزم امتناع أمر آخر بالقضاء ، ولمّا كان إنكار ذلك ممّا يقرب من إنكار الضروري فلا بدّ وأن

١٨٩

يرجع كلام المثبتين للإجزاء إلى دعوى عدم تسمية المأمور به بالأمر الثاني قضاء في الاصطلاح ، فيعود النزاع بين الفريقين حينئذ لفظيّا راجعا طلى أمر لفظيّ اصطلاحي كما صرّح به بعض الأعلام.

ولا يخفى بعده عن طريقة أهل النظر ، ولا سيّما المحقّقين وفحول العلماء المتقدّمين والمتأخّرين من العامّة والخاصّة ، مع عدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من أطراف المسألة ، ولا سيّما أدلّتها الّتي العمدة في تحصيل موضع النزاع في خلافيّات المسائل اصوليّة وفروعيّة ، بل الراحج في النظر القاصر القريب من كونه مقطوعا به أنّ الخلاف حاصل على الوجه الأوّل.

وعليه فلعلّ منشأ الخلاف ـ حسبما يرشد إليه التأمّل ـ أنّ الأمر له مدلول مطابقي وهو الطلب الحتمي المتعلّق بايجاد الفعل في الخارج الّذي يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة وعلى موافقته استحقاق المثوبة ، ومدلول التزامي يثبته العقل وهو حصول الامتثال بفعله على معنى موافقة الأمر لو أتى به المكلّف على وجهه الرافع لاستحقاق العقوبة [ و ] الموجب لاستحقاق المثوبة ، ومدلول آخر التزامي أيضا من جهة العقل على تقدير ثبوته وهو حصول الإجزاء الموجب لفراغ ذمّة المكلّف عمّا استقلّت به أوّلا بالمرّة ، فمرجع دعوى المثبتين إلى اثباته أيضا من جهة العقل كما يشهد به أدلّتهم الآتية وجعله كسابقه من توابع أداء المأمور به على وجهه ، كما أنّ مرجع دعوى النافين إلى نفي ذلك ، بدعوى عدم منافاة حصول الامتثال وموافقة الأمر لبقاء المأمور به بعد في الذمّة المحتاج رفعه إلى الإتيان به ثانيا في الوقت وخارجه.

فالمسألة حينئذ عقليّة لا مدخل لها بما يرجع إلى ما هو من أحوال الدليل ، والّذي يفصح عن ذلك ـ مضافا إلى عدم مساعدة أدلّة الطرفين غيره أكثر العناوين المشتملة على التعبير بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أو لا يقتضيه؟ يستلزمه أو لا يستلزمه؟ يوجبه أو لا يوجبه؟

نعم في تهذيب العلاّمة التعبير عنه بأنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، غير أنّه لا ينافي ما ذكرناه بعد حمله على المسامحة في التعبير أو أنّ الاضافة يكتفي فيها بأدنى الملابسة ، نظرا إلى أنّ الأمر أيضا له مدخليّة في الجملة في حصول الإجزاء ، لاستناده إلى حصول الأداء المأمور به على هذا الوصف ، وهو وصف أعطاه الأمر ، وممّا ينتهض قرينة على ذلك

١٩٠

ورود هذا البحث في ذلك الكتاب في فصل أحكام المأمور به الّتي ثالثها هذا الحكم.

ومع ما ذكرنا فنحن نتكلّم في المسألة على كلّ من الوجهين المذكورين ، ونقرّر ما هو التحقيق فيهما خروجا عن شبهة الاحتمال.

الثاني : أنّ النزاع لا ينوط بظهور نقص في المأتيّ به بالقياس إلى المأمور به الواقعي ، بل هو عند التحقيق مخصوص بما يكون المأتيّ به الموجب للامتثال هو المأمور به الواقعي كما هو صريح العبارة المحكيّة عن عبد الجبّار فيما تقدّم وهو المصرّح به في مطاوي كلمات القوم ، كما يفصح عنه تصريحهم بكون المأتيّ به جامعا لجميع الأجزاء والشرائط خاليا عن جميع الموانع ، وعليه ينبّه تعبيرهم عن العنوان بـ « إتيان المأمور به على وجهه ».

فما في كلام بعض الأواخر ـ من تخصيص الخلاف بغير الواقعي الأوّلي من الواقعي الثانوي والظاهري الشرعي والظاهري العقلي بدعوى رجوعه إلى أمر صغروي ، وهو أنّ البدليّة المأخوذة في هذه الأنواع بالقياس إلى الواقعي الأوّلي هل هي بدليّة دائميّة فلا يجب إعادتها بعد زوال العذر أو تبيّن الفساد ، أو بدليّة مشروطة بما دام العذر أو ما لم يتبيّن الفساد والنقص فيجب إعادتها مع زوال العذر أو تبيّن الفساد والنقص ـ ليس على ما ينبغي ، كيف وهو ما لم يتعرّض لذكره أحد ولم يقع إشارة إليه في كلام أحد ممّن تعرّض لتحرير موضع النزاع ونقل الأقوال.

نعم حصل في بعض المذكورات نزاع آخر غير مرتبط بهذا النزاع وسنشير إلى ما هو التحقيق فيه أيضا ، وتنزيل هذا البحث إلى ذلك النزاع ممّا لا يساعد عليه شيء من أطراف المسألة ، ولعلّه وهم نشأ عن ملاحظة تمسّك النافين بوجوب القضاء في الصلاة المأتيّ بها مع ظنّ الطهارة المتعقّب لانكشاف كذبه ، ولا ريب أنّ ذلك ليس مبنيّا على إناطة الحكم عند المستدلّ بجعل البدليّة مشروطة ، بل ظاهر الاستدلال أنّه غافل بالمرّة عن هذا المعنى كما يفصح عنه أدلّة المثبتين.

الثالث : أنّ الكلام في هذه المسألة لا يرتبط بما يأتي البحث عنه من تبعيّة القضاء للأداء وعدمها ، ولا بما تقدّم البحث عنه من كون الأمر للماهيّة أو المرّة أو التكرار ، حتّى يكون البحث في هاتين المسألتين مغنيا عن هذا البحث ، بتوهّم رجوع القول بعدم الإجزاء إلى القول بتبعيّة القضاء للأداء ، ورجوع القول الآخر إلى القول بعدم التبعيّة ، وكون القول بالإجزاء متفرّعا على القول بالماهيّة أو المرّة والقول بعدم الإجزاء إلى القول بالتكرار ،

١٩١

لوضوح الفرق بينه وبينهما كما بين السماء والأرض ومغايرته لهما موضوعا ومحمولا وعنوانا ودليلا ، فإنّ البحث عن المسألتين بحث عن حال الدليل وهذا البحث بحث عن حال المأمور به ، ومسألة القضاء مفروض ـ على ما ستعرفه ـ فيما لو فات المأمور به في وقته بتركه بالمرّة أو حصول إخلال فيه موجب لفساده من جهة الأجزاء أو الشرائط ، وهذه المسألة مفروضة فيما لو حصل الإتيان بالمأمور به على ما امر به ، ومسألة القضاء مخصوصة بما لو كان المأمور به موقّتا ، وهذه المسألة عامّة له ولغيره وللقائل بالإجزاء أن يقول بتبعيّة القضاء للأداء ، كما أنّ للقائل بعدمه أن يقول بمنع تبعيّة القضاء للأداء ، ومحمول القول بالماهيّة أو المرّة دلالة الأمر على كون المطلوب بالأمر إيجاد الماهيّة من حيث هي أو من حيث وجودها في ضمن المرّة ، ومحمول القول بالإجزاء حصول فراغ الذمّة للمكلّف عمّا امر به من ماهيّة أو مرّة بعد ما أتى به على وجهه ، ومحمول القول بالتكرار دلالة الأمر على كون المطلوب إيجاد الماهيّة في ضمن مرّات متكرّرة حسبما يقتضيه الإمكان عقلا وشرعا بحيث لو انحلّ الأمر لرجع إلى أوامر متعدّدة على حسب تعدّد المرّات الممكنة ، موجبة لكون كلّ مرّة مأمورا بها على الاستقلال ، ومحمول القول بعدم الإجزاء بقاء ذمّة المكلّف مشغولة بما أتى به على وجهه من المأمور به حتّى يأتي به ثانيا في الوقت أو خارجه حتّى أنّه يلزم من ذلك لزوم القضاء في كلّ مرّة أتى بها على وجهها من المرّات المأمور بها على الاستقلال.

فلذا يورد عليه بامور ، منها : لزوم تحصيل الحاصل المبنيّ على إعادة المعدوم ، أو عدم كون المأتيّ به تمام المأمور به الّذي هو خلاف الفرض ، فيجري هذا القول على القول بالماهيّة والمرّة أيضا كما يجري القول بالإجزاء على القول بالتكرار أيضا ، ولازمه كفاية كلّ مرّة اوتي بها على وجهها وعدم وجوب الإتيان بها ثانيا بعنوان القضاء الّذي يقول به الخصم.

الرابع : كون القضاء المتنازع في سقوطه وعدمه مرادا به الإتيان بالمأمور به ثانيا في الوقت أو خارجه لا معناه المصطلح المبحوث عنه في المسألة الآتية ، ولا ما يعمّه والإعادة على معناها المصطلح أيضا ، فما في بعض العبائر ـ من أنّ المراد به مطلق التدارك الشامل للإعادة والقضاء ، أو أنّ المراد بالإجزاء سقوط فعل المأمور به ثانيا أعمّ من الإعادة والقضاء ـ ليس بسديد إن أراد بهما المعنى المصطلح عليه فيهما ، فإنّ الإعادة على هذا المعنى عبارة عن فعل المأمور به ثانيا ، لوقوع الأوّل على نوع من الخلل ، والقضاء عبارة

١٩٢

عن إدراك مافات في الوقت في خارجه.

ولا ريب أنّ موضوع البحث على ما تقدّم بيانه ينافي كلاّ من المعنيين.

وإذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ أهل القول بعدم اقتضاء الإجزاء إن أرادوا أنّ الإتيان بالمأمور به أوّلا لا يوجب امتناع ورود أمر آخر بإتيانه ثانيا ولا ينافيه بل يمكن معه توجّه أمر آخر ، وأنّ الأمر الأوّل ساكت نفيا وإثباتا عن الإتيان بالمأمور به ثانيا ، بحيث لو ورد أمر آخر به لا يعارضه الأمر الأوّل ، فنصدّقهم على ذلك وفاقا لبعض الأجلّة وجماعة من الأعاظم ـ على ما حكاه ـ كالسيّد وابن زهرة والشيخ والآمدي وغيرهم ، ثمّ نسأل القائلين بالاقتضاء فإن رجع دعواهم إلى امتناع ذلك بالنظر إلى دلالة اللفظ أو العقل فهو دفع للضرورة ولا ينبغي صدوره عمّن هو دونهم فضلا عنهم ، وإن رجعت إلى منع تسمية ذلك قضاء في الاصطلاح فهو كلام خال عن المحصّل ، إذ ليس غرض الخصم إثبات أمر لفظي ليتوجّه إليه المنع ، بل هو مدّع لأمر معنوي وهو مسلّم بينه وبينهم فلا معنى للنزاع.

وإن أرادوا أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يلازم فراغ الذمّة عنه وإن كان يلازم امتثال الأمر به.

فيدفعه : أنّ كفاية أداء المأمور به على هذا الوجه في سقوط المأمور به عن الذمّة وفراغها عنه بالمرّة ممّا يقضي به ضرورة الوجدان والقوّة العاقلة وجرت عليه سيرة العقلاء كافّة ، مضافا إلى أنّ تجويز بقائه في الذمّة مع فرض حصول امتثال الأمر به ممّا يفضي إلى تجويز اجتماع النقيضين ، لوضوح أنّ امتثال الأمر ممّا لا يتأتّى إلاّ بتأدّي المأمور به ، على معنى انتقاله من الذمّة إلى الخارج ، ومعه لا يعقل تجويز بقائه فيها إلاّ على تجويز الاجتماع بينه وبين عدمه وهو محال ، مع أنّ بقاءه فيها لا بدّ له من موجب وهو إمّا الأمر الأوّل أو أمر آخر غيره ، ولا سبيل إلى شيء منهما ، أمّا الأوّل : فلا بتنائه على بقاء الاستدعاء الأوّل على حاله ، وهو مع حصول امتثاله ووجود مورده في الخارج ـ كما هو المفروض ـ سفه لانقضاء المصلحة الداعية إليه.

وأمّا الثاني : فلكونه خلاف الفرض ، مع أنّ الأوامر منوطة بمصالح النفس الأمريّة ، والمصلحة في المقام إمّا أن تكون ممّا يتأتّى بالأداء الأوّل أو بالأداء الثاني أو بهما معا ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلإفضائه إلى لغويّة تعلّق الأمر بالثاني.

١٩٣

وأمّا الثاني : فلإفضائه إليها في تعلّقه بالأوّل.

وأمّا الثالث : فبدليل الخلف ، فإنّ المفروض كفاية الإتيان الأوّل في حصول المصلحة المقصودة منه ، مع أنّ الباقي في الذمّة إمّا أن يكون عين ما أتى به أوّلا أو غيره.

وعلى الثاني فإمّا أن يجب الإتيان به على أنّه متمّم للأوّل أو على مطلوب آخر برأسه ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلاستحالة تحصيل الحاصل.

وأمّا الثاني : فلخروجه عن مفروض الكلام من حصول المأمور به في الخارج بكماله فلا يحتاج إلى متمّم.

وأمّا الثالث : فلابتنائه على دلالة الأمر عليه وهي منتفية بضرورة العرف والوجدان ، ولا سيّما مع ما قرّرناه في محلّه من كون المطلوب بالأمر إيجاد الماهيّة الّتي تتحصّل بحصول فرد منها.

مع أنّ بقاءه في الذمّة إمّا لبقاء المصلحة المطلوبة منه أو لا.

وعلى الثاني فإمّا أن تكون تلك المصلحة ممّا يمكن حصولها بالإتيان به ثانيا أو لا.

ولا سبيل إلى الأوّل لقضاء عدم بقاء المصلحة في الذمّة بارتفاع الأمر ومعه لا قاضي بالإتيان به ثانيا.

ولا إلى الثاني لاستلزام إمكان حصولها بذلك لإمكان حصولها بالأوّل إذ لا فرق بينهما في الامور المعتبرة جزءا وشرطا وقد فرضنا عدم حصولها به ، وذلك يكشف عن عدم إمكانه ، وإلاّ لم يعقل لعدم حصولها بعد الإتيان به على وجهه وجه.

ولا إلى الثالث لرجوع بقاء التكليف به على هذا الوصف إلى التكليف بما انتفى عنه شرط وقوعه وقد عرفت امتناعه.

مع أنّ أداء المأمور به على وجهه لو لم يكن كافيا في خروج الذمّة عن الاشتغال لكان رافعا للعلم بالامتثال ، والتالي باطل بالضرورة والمقدّم مثله.

وبيان الملازمة : أنّ الامتثال ما لا يتأتّى إلاّ مع موافقة المأتيّ به للمأمور به ، وقيام احتمال بقاء الذمّة مشغولة ممّا لا يستقيم إلاّ في موضع احتمال عدم الموافقة ، وهو مع خلاف الفرض مناقض للعلم بالامتثال.

وقد يقرّر الملازمة : بأنّه لو لم يكن مجزيا لبقى احتمال توجّه التكليف ومع احتماله

١٩٤

يحتمل عدم الامتثال ، إذ لا يتصوّر توجّه التكليف مع تحقّق الامتثال ، واحتمال عدم الامتثال ملازم لعدم العلم بالامتثال ، لأنّ العلم بالشيء ينافيه احتمال نقيضه.

وأورد عليه : بمنع استلزام احتمال توجّه التكليف لاحتمال عدم الامتثال ، فإنّ فاقد الطهورين إذا صلّى يتحقّق به الامتثال ومع هذا يتوجّه إليه التكليف ، ولا يخفى ما فيه من الوهن.

ثمّ انّ للقوم احتجاجات بين ما هو فاسد وما هو ناقص تعرّض لذكرها السيّد في مفاتيحه.

فمن الفاسد ما عن الشيخ في العدّة من أنّ النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه فينبغي أن يكون الأمر مقتضيا للإجزاء لأنّه ضدّه وكأنّه وارد لإلزام الخصم من حيث أنّه يعمل بالقياس ، أو أنّه معارضة في دليله من حيث انّه تمسّك بمثل ذلك فيما يأتي.

ومن الناقص ما عن نهاية العلاّمة من أنّه فعل المأمور به فيخرج عن عهدة التكليف ، أمّا المقدّمة الاولى فبالفرض ، وأمّا الثانية فلأنّه لو بقي مكلّفا فإمّا بالفعل الّذي فعله أوّلا فيلزم منه تحصيل الحاصل ، أو بغيره فيلزم أن يكون الأمر متناولا لغير المأتيّ به فلا يكون المأتيّ به تمام متعلّق الأمر وقد فرضنا خلافه.

والوجه في نقصانه : أنّه يستقيم لو قال الخصم بكون صحّة المأتيّ به مقيّدة بلحوق الإتيان به ثانيا ، ولعلّه يزعم الإتيان الثاني مأمورا به برأسه ، فلا بدّ من بيان ما يرفع هذا الاحتمال أيضا كما قرّرناه.

وقد أورد عليه أيضا : بأنّ فعله ثانيا مثل المأتيّ به أوّلا لا نفسه ، فلا يكون تحصيلا للحاصل.

وفيه : أنّ لزوم الإتيان بالمثل إمّا بالأمر الأوّل أو بغيره ، والأوّل باطل لحصول امتثال ذلك الأمر فيكون مرتفعا ، مع فرض عدم دلالته على كون المأتيّ به ثانيا مأمورا به برأسه ، والثاني خارج عن مفروض الكلام.

وقد يقال في ردّه أيضا : بأنّ المطلوب هو الماهيّة لا الأفراد ولا شكّ في أنّ الإتيان بالماهيّة بعد حصولها أوّلا تحصيل للحاصل.

ودفعه بعض الأعلام : بكونه قريبا من الهذيان ، لاستلزام ذلك كون فعل جميع الأنواع المندرجة تحت جنس بعد فعل واحد منها تحصيلا للحاصل ، ولا يخفى وهنه على المتأمّل.

فإنّ مبنى الردّ على أنّ لزوم إيجاد الماهيّة ثانيا عملا بالأمر الأوّل ممّا لا معنى له إلاّ لزوم إيجادها على أنّها مأمور بها بذلك الأمر ، والمفروض أنّها حاصلة على هذا الوجه ،

١٩٥

فإيجادها ثانيا كذلك ممّا لا يتأتّى إلاّ مع إعادة الحاصل.

ولا ريب أنّه عين تحصيل الحاصل المحكوم عليه بالاستحالة ، كما صرّح به هو رحمه‌الله فيما سبق في كلامه عند بيان الملازمة في تقرير الاستدلال بقوله : « فتحصيل الامتثال الثاني لا يتمّ إلاّ بإعادة الامتثال الأوّل وهو تحصيل للحاصل ».

وعن القول بعدم الإجزاء الاحتجاج بوجوه :

منها : ما قرّره في شرح المنهاج عن أبي هاشم من مقايسة الأمر على النهي ، فكما أنّه لا يوجب فساد المنهيّ عنه بدليل صحّة البيع عند نداء الجمعة وإن كان منهيّا عنه فكذلك الأمر في عدم اقتضائه للإجزاء.

وفيه : مع أنّه قياس أنّ الفرق واضح بين المقامين ، من حيث انّ مناط الحكم فيهما بعد انتفاء الدلالة اللفظيّة نفيا واثباتا إنّما هو العقل ، فكما أنّ عدم الفساد في نهي المعاملات يستند إلى حكم العقل بعدم منافاة مبغوضية شيء لترتّب الأثر الشرعي عليه ، إذا كان بنفسه مقتضيا لذلك الأثر الّذي لا ينوط وجوده على المحبوبيّة ، فكذلك الإجزاء في الأمر بها وبالعبادات فإنّه حكم يستقلّ به العقل إذا كان المأتيّ به بنفسه هو المأمور به.

واجيب أيضا ـ على ما في شرح المنهاج ـ : بمنع هذا القياس ، تعليلا بعدم العلّة الجامعة بين الأمر والنهي.

فإن قيل : بأنّ العلّة الجامعة كونهما حكمين شرعيّين.

فجوابه : الفرق بينهما ، فإنّ النهي عن الشيء قد يكون سببا لتحقّق أمر آخر كالنهي عن البيع وقت النداء في كونه سببا لتحقّق الجمعة ، بخلاف الأمر فإنّه اقتضاء فعل فإذا حصل أداء ذلك الفعل انقطع ذلك الاقتضاء.

ومنها : ما حكاه السيّد في مفاتيحه من أنّ الأمر لا يفيد إلاّ كونه مأمورا به وأمّا دلالته على سقوط التكليف فلا.

وفيه : عدم دلالة الأمر مسلّم ، ومع دلالة العقل عليه يثبت المطلوب ولا حاجة إلى دلالة اخرى.

وإلى ذلك ينظر ما عن نهاية العلاّمة من الجواب : بأنّ الإتيان بتمام ما اقتضاه الأمر يقتضي أن لا يبقى الأمر مقتضيا لشيء آخر ، وهو المراد بالإجزاء.

ومنها : ما حكاه السيّد أيضا من أنّه لو وجب الإجزاء لاكتفي باتمام الحجّ الفاسد

١٩٦

والصوم الّذي جامع فيه عن القضاء ، والاحتجاج بالحجّ الفاسد أيضا مذكور في كلام الحاجبي.

واجيب عنه ـ كما عن العلاّمة ، والمحقّق والرازي ، والآمدي ـ : بمنع كون إتمام الحجّ والصوم الفاسدين مجزيا عن الأمر بهما حيث لم يقعا على الوجه المطلوب شرعا ، ولا نزاع لنا في أنّ الفعل إذا أخلّ فيه ببعض شروطه أو صفاته المطلوبة شرعا لا يفيد إجزاء ، فثبوت القضاء إنّما هو لادراك ما فات من المأمور به ، والإتمام شيء آخر أمر به تعبّدا لا دخل له في المأمور به الأوّل.

ولا ريب أنّ الأمر به يقتضي الإجزاء فلذا لا يجب قضاؤه ثانيا ، وقد ينزّل إلى هذا المعنى ما في عبارة الحاجبي في مقام الجواب عن ذلك من قوله : « وإتمام الحجّ الفاسد واضح ».

وقد يوجّه أيضا ـ كما في بيان مختصره ـ : بأنّ المماثلة بين الأداء والقضاء واجب ، واتمام الحجّ الفاسد واضح أنّه لا يكون مماثلا لما أتى به في السنة الآتية.

ومنها : ما حكاه السيّد أيضا ـ كما في مختصر الحاجبي وبيانه ـ من أنّه لو دلّ على الإجزاء لكان المصلّي بظنّ الطهارة آثما أو ساقطا عنه القضاء عند تبيّن الحدث ، والتالي باطل لعدم الإثم مع عدم سقوط القضاء.

وأمّا الملازمة : فلأنّه إمّا مأمور بالصلاة بطهارة يقينيّة ، فيكون عاصيا حيث صلّى بغير يقين ، أو طهارة ظنيّة وقد امتثل فيخرج عن العهدة فلا يجب عليه القضاء.

وأجاب عنه الحاجبي بوجهين :

أحدهما : ما يرجع إلى منع بطلان التالي على تقدير كونه مأمورا بطهارة ظنيّة ، وبيّنه في البيان بمنع عدم سقوط القضاء فإنّه مختلف فيه ، والمختار عندنا السقوط.

وثانيهما : منع الملازمة ، ومحصّله : أنّ الّذي يجب على المكلّف الإتيان به ليس قضاء لما أتى به أوّلا بل هو واجب آخر مثل الواجب الأوّل المأتيّ به ، وقد وجب عليه بسبب آخر عند تبيّن الحدث لا بسبب الواجب الأوّل.

وعن نهاية العلاّمة ما يقرب من ذلك من أنّ القضاء هنا استدراك لما فات عنه من مصلحة ما أمر به أوّلا ، وأمّا المصلحة المستدركة بالصلاة مع ظنّ الطهارة فلا قضاء عنها.

ثمّ بقي في المقام مسائل ينبغي التنبيه عليها :

المسألة الاولى

إذا تعذّر المكلّف عن المأمور به الواقعي بعدم تمكّنه عن بعض شروطه أو عن بعض

١٩٧

أجزائه وأتى ببدله المعبّر عنه بـ « المأمور به الاضطراري » و « الواقعي الثانوي » كما لو تعذّر عن الطهارة المائيّة فأتى بالصلاة مع الطهارة الترابيّة أو تعذّر عن الساتر فأتى بها عاريا ، أو عن القيام فأتى بها قاعدا وما أشبه ذلك ، فهل يوجب ذلك سقوط القضاء بالنسبة إلى المأمور بها الواقعي ، حتّى أنّه لو تمكّن عنه بعد ذلك بزوال العذر ليس عليه الإتيان به ولو كان الوقت باقيا ، كما ليس عليه الإتيان ثانيا بما أتى به من البدل أو لا بل عليه الإتيان بالمأمور به الواقعي أيضا امتثالا للأمر به؟ فيه قولان :

فعن ابن الجنيد وابن أبي عقيل إيجاب الإعادة على المتيمّم إذا صلّى ثمّ وجد الماء في الوقت على القول بجوازه أوّل الوقت ، كما عن ابن الجنيد أيضا ايجابها على العاري إذا صلّى كذلك ثمّ وجد الساتر في الوقت لا في خارجه ، محتجّا بفوات شرط الصلاة وهو الستر فيجب الإعادة.

وأورد عليه ـ كما قرّره ثاني الشهيدين ـ : بوقوع الصلاة مجزية بامتثال الأمر فلا يستعقب القضاء ، والستر شرط مع القدرة لا بدونها.

وتحقيق القول في ذلك : أنّ أجزاء الواجب وشروطه كنفس الواجب في جميع الامور المعتبرة في التكليف ، فكما أنّ القدرة على أصل الواجب من شروط تعلّق الوجوب به بحكم العقل ، فكذلك القدرة على كلّ واحد من أجزائه وشرائطه أيضا شرط لتعلّقه ، فهو بالنسبة إلى من لم يتمكّن عن بعض أجزائه أو شروطه مشروط ، على معنى اختصاص وجوبه بالمتمكّنين عنه بجميع أجزائه وشروطه.

وأمّا غيرهم فإن كان عدم التمكّن فيه مستغرقا لجميع الوقت فلا تكليف له بذلك الفعل جزما بحكم العقل ، وأمّا تكليفه ببدله ممّا خلى عن ذلك الجزء والشرط أو اشتمل على ما يقوم مقامهما فهو موقوف على دلالة الشرع ولا مدخل للعقل فيه نفيا واثباتا بعد ما نفاه عن الأصل ، فحيثما تثبت يثبت وإلاّ فلا.

وإن لم يكن مستغرقا لجميع الوقت كما لو كان المكلّف المتعذّر أوّل الوقت مثلا بحيث يزول عذره ويلحقه التمكّن عن معذوره في غيره من أجزاء الوقت بحسب الواقع فهذا هو محلّ الكلام هنا ، فحينئذ لا بدّ وأن ينظر أوّلا : في حكم العقل لمعرفة أنّه هل يجوّز في تلك الصورة شمول الخطاب حال العذر لمن له العذر معلّقا على الوقت المصادف لزوال عذره ، أو منجّزا مع وقوع حصول الفعل معلّقا على مجيء ذلك الوقت مع علم المكلّف بالحال أو

١٩٨

جهله ـ كما أنّه يجوّز شموله قبل الوقت معلّقا تعلّقه أو حصول متعلّقه على دخول الوقت ـ أو لا يجوّزه ؛ كما أنّه لا يجوّز شموله لمن له العذر المستغرق.

وثانيا : في مقتضى دلالة الشرع الواردة في البدل بالقياس إلى جميع موارده ، من حيث إنّها في اقتضاء البدليّة هل هي مقيّدة بما دام العذر باقيا أو مطلقة حتّى بالقياس إلى ما بعد زوال العذر ، فهاهنا مقامات يظهر الثمرة في أوّلهما فيما لو قلنا في المقام الثانى بعدم الإطلاق في دلالة الشرع على البدليّة ، مع قولنا في المقام الأوّل بجواز شمول الخطاب حال العذر عقلا بأحد الوجهين الجاريين في التعليق ، فحينئذ يجب على المكلّف الاقدام على أداء المأمور به الواقعي بمجرّد زوال عذره لوجود المقتضي ـ وهو ظاهر الخطاب المتناول بعمومه المتمكّنين أوّل الوقت ـ وفقد المانع ، لكون زوال العذر ممّا يكشف عن عدم تحقّق ما يمنع عن شمول ذلك الظاهر له كشموله لغيره وهو العذر المستغرق لجميع الوقت ، والمفروض أنّه لا مانع في المقام سواه.

ومن البيّن لزوم وجود الشيء عند وجود مقتضيه وفقد مانعه ؛ كما أنّه يظهر الثمرة في ثانيهما فيما لو بنينا فيه على إطلاق تلك الدلالة ، فحينئذ ينزّل ذلك الإطلاق العذر المنقطع منزلة العذر المستغرق في قضائه بعدم تناول ظاهر خطاب الأصل لمن له ذلك العذر.

وقضيّة ذلك أن لا يجب عليه شيء بالقياس إلى المأمور به الواقعي ، وفراغ ذمّته من جميع الجهات لو أتى بالبدل على ما هو مأمور به بعنوان البدليّة.

فأمّا المقام الأوّل : فقد تقدّم منا في بحث المقدّمة وغيره الإشارة إلى ما يمكن الاكتفاء به في تحقيق هذا المقام من جواز اتّصاف الشيء ومقدّماته بالوجوب قبل دخول وقته عقلا ، فإنّه عند التحقيق من جزئيّات ذلك المقام ، لوضوح انتفاء التمكّن عن الفعل الموقّت قبل مجيء وقته ، فيكون الأمر به حينئذ أمرا بما يلحقه التمكّن عند دخول الوقت.

ومحصّل الدليل على ذلك هنا قضاء الوجدان المنطبق على طريقة أهل العقول والأذهان في جميع الملل والأديان بأنّ التمكّن الّذي يراه العقل شرطا في التكليف إنّما هو معتبر في نظره في الجملة ، على معنى حصوله حال الفعل ولو اتّفق تلك الحال في جزء من أجزاء الوقت المضروب له شرعا ، سواء سبقه العذر أو لحقه أو لا ، ولا نجد من العقل شائبة منع ، ولا في نظر الحكمة رائحة قبح في أمر الحكيم لمن يراه متمكّنا في بعض آنات وقوع المأمور به وإن كان هو حال صدور ذلك الأمر غير متمكّن عنه.

١٩٩

وإن شئت فاستوضحه بملاحظة بناء العقلاء فيما لو خاطب المولى عبيده المتعدّدين وقال : « إفعلوا غدا كذا وكذا » مع اختلاف أحوالهم بتمكّن بعضهم عنه في جميع آنات الغد ، وعدم تمكّن البعض الآخر إلاّ في بعضها ، وعدم تمكّن البعض الثالث في شيء منها ، فإنّهم لو تركوه حينئذ بأجمعهم لاستحقّ من عدا الأخير منهم للذمّ والعقاب على جهة سواء ، ولا يعدّ من عدا الفريق الأوّل معذورا في نظر المولى ولا العقلاء بسبب ما لحقه من العذر في أوّل الغد أو وسطه أو آخره ، كما أنّه لا عذر للفريق الأوّل أصلا بخلاف الأخير حيث إنّه معذور عند المولى وغيره ، فلذا يقبح تشريكه مع غيره في الذمّ والعقاب ، وليس ذلك إلاّ من جهة إذعانهم بكفاية التمكّن في الجملة بالمعنى المتقدّم ، ولا فرق في ذلك بين ما لو علم المكلّف حال الخطاب بزوال عذره فيما بعد ذلك وما لو جهل به.

غاية الأمر أنّ التكليف على الأوّل يقع منجزا والمكلّف به معلّقا على حصول شرط وقوعه ، بخلاف الثاني الّذي يبقى فيه أصل التكليف معلّقا بالمعنى الّذي قرّرناه في بحث الأمر مع العلم بانتفاء الشرط ، ولكن لا بالنسبة إلى التمكّن الّذي هو منتف حال الخطاب ، بل بالنسبة إلى علم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه وصدور الطلب بالقياس إليه ، فإنّه ما دام العذر لا علم له بذلك وإن احتمل زواله.

نعم إذا زال وعلم به يتبيّن له توجّه الخطاب إليه فيتعلّق به الطلب لعلمه حينئذ بصدوره بالنسبة إليه أيضا ، ويستكمل به أركان التكليف بأجمعها ولو فرض كونه قبل ذلك معتقدا بخلاف ما علم به حينئذ ، فإنّ الأحكام منوطة بالامور الواقعيّة والاعتقاد بمجرّده لا يصلح مخصّصا لعموم الخطاب المفروض بعد فرض تناوله له بالوضع مع تبيّن فساده ، بل الّذي يخصّصه بحكم العقل انتفاء ما هو مناط الحكم في متن الواقع ، ومفروض المقام خلافه.

نعم لو زال عذره في الواقع وهو باق على اعتقاده فلا تكليف له ما دام ذلك الاعتقاد ، لانتفاء شرطه الّذي هو العلم حينئذ دون التمكّن الّذي كان منتفيا قبل ذلك.

والحال في تبيّن التكليف وتوجّه الخطاب إليه بانكشاف زوال العذر له كالحال في تبيّنه للظانّ بالتمكّن أوّل الوقت إذا انقضى منه ما يسعه أداء المكلّف به وهو على تمكّنه ، فلذا تراهم متّفقين على وجوب الاقدام عليه اعتمادا على ظنّه في نفسه ببقاء تمكّنه.

ومن هنا ـ مضافا إلى ما مرّ في بحث الواجب الموسّع ـ يندفع توهّم التخيير أوّل الوقت فيه بين فرديه الاختياري والاضطراري إذا كان المكلّف بحيث يلحقه في أجزاء ذلك الوقت

٢٠٠