تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

وأمّا دفع ما ذكر ثانيا : فبمنع بطلان اللازم ، إذ النيّة المعتبرة في المأمور به التعبّدي جزءا أو شرطا عبارة عن قصد الإطاعة والانقياد أو قصد امتثال الأمر أو قصد حصول التقرّب.

وأيّا مّا كان فالقصد إذا كان من فعل المكلّف يستحيل كونه داعيا إلى الأمر بل هو داع إلى الفعل ، والّذي هو داع إلى الأمر إنّما هو قصد أحد الامور المذكورة بالمعنى الراجع إلى الشارع الآمر ، وهو بهذا المعنى لم يعقل كونه جزءا أو شرطا في المأمور به بل لم يقل به أحد.

وأمّا ما ذكر في العلاوة ففيه : أنّ كون النيّة جزءا أو شرطا أمر منوط باعتبار المعتبر ، إذ لو قسناها إلى كلّي المأمور به كانت شرطا للوجود ولو قسناها إلى ما يحصل الإتيان به من الفرد الخارجي كانت شرطا للصحّة ، إذ قد عرفت أنّ موافقة الأمر في معنى الصحّة لا تستقيم إلاّ إذا اعتبرت وصفا للفرد الخارجي المأتيّ به فكونه موافقا للمأمور به الكلّي محتاج إلى النيّة ، وهذا هو معنى كونها شرطا للصحّة بمعنى موافقة الأمر.

وأمّا الثالث : فلأنّ المراد بالأثر في معنى الصحّة ليس هو الموافقة ولا الإسقاط ، بل امور اخر منوط ترتّبها على الفعل بالنيّة كحصول التقرّب والزلفى وارتفاع الدرجة والوصول إلى المراتب العالية الرفيعة أو تكميل النفس فيما عدا الوقف والعتق ، والغاية المقصودة من وضع الوقف والعتق [ المتوقّف صحّتهما على النيّة ](١) فيهما ممّا هي متعلّقة بالمال كالإخراج عن الملك فيهما على قول في الوقف أو في خصوص العتق ، وأمّا الوقف على القول الآخر فالأثر المقصود منه نقل ملك العين أو حبسها على وجه لا يجري عليها التصرّفات الناقلة ، ونمنع ترتّب نحو هذه الآثار على الخالية عن النيّة.

ومن الأعلام من عرّف العبادة بما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء سواء لم يعلم المصلحة أصلا أو علمت في الجملة ، جاعلا له عبارة اخرى لما ذكرناه.

ثمّ قال : « واحتياجها إلى النيّة وهو قصد الامتثال والتقرّب من جهة ذلك » يعني من جهة عدم العلم فيها بانحصار المصلحة في شيء ، وعلّله : « بأنّ امتثال الأمر لا يحصل إلاّ بقصد إطاعته في العرف والعادة والموافقة الاتّفاقيّة لا يكفي ».

وفيه : مع انتقاض عكسه بما علم كون المصلحة فيه التقرّب والزلفى أو تكميل النفس لا غير ـ أنّ استناد الاحتياج إلى النيّة إلى عدم العلم بانحصار المصلحة يقتضي كون مدركه قاعدة الاشتغال مع قيام احتمال كون التقرّب هو المصلحة أو من جملتها ، وهذا لا يلائم

__________________

(١) أضفناه طبقا للتحرير الأوّل من التعليقة بخطّ يده الشريف رحمه‌الله ، إيضاحا للمرام.

٦٤١

التعليل المذكور والاستناد إلى العرف والعادة ، بل ربّما يشكل التوفيق بينهما لتغاير موضوعي الأصل العملي والدليل الاجتهادي.

إلاّ أن يقال : بأنّ المقصود بذلك إحراز موضوع حكم العرف والعادة ، بتقريب : أنّ العلم بانحصار المصلحة فيما لا يتوقّف على النيّة قرينة تنهض على كون المأمور به معاملة مندرجة في الواجب التوصّلي الغير المتوقّف صحّته على النيّة ، فلا يبقى لحكم العرف باشتراط النيّة موضوع إلاّ ما لم يعلم فيه بانحصار المصلحة.

وأمّا ما علم فيه بانحصار المصلحة فيما يتوقّف على النيّة فهو ما ثبت اشتراط النيّة فيه بنفس هذا الفرض ، الّذي مرجعه إلى الاستناد إلى دليل المصلحة المعلومة المتوقّفة على النيّة ، فلا يندرج ذلك أيضا في موضوع العرف والعادة فتأمّل.

مع إمكان [ أن يقال : ] أنّ الشكّ في المصلحة أو انحصارها كثيرا مّا يرتفع بملاحظة إطلاق الأمر المفيد لكون غرض الآمر حصول المأمور به كيفما اتّفق.

وقد يورد عليه أيضا : بانتقاض عكسه بالعبادة الّتي علم فيها بانحصار المصلحة في التوصّل إلى امتثال الأمر بغيرها كالطهارة ، وبانتقاض طرده بالواجبات الّتي ليست عبادة ولا ينحصر مصلحتها في شيء كوجوب توجيه الميّت إلى القبلة ، وللنظر فيهما مجال يظهر وجهه بأدنى تأمّل (١).

ومنها : ما يعمّ الواجبات التوصّليّة وأنواع العقود والإيقاعات بل المباحات الأصليّة ، وهو ما احتاج ترتّب الثواب عليه إلى النيّة فإنّ الواجب التوصّلي أيضا إذا اتي به بقصد الإطاعة وداعي امتثال الأمر يترتّب عليه الثواب فيكون ممّا يحتاج ترتّب الثواب عليه إلى

__________________

(١) وذلك : لمنع انحصار المصلحة في الأوّل في جهة التوصّل ، لجواز أن يكون المقصود منه مصلحة اخرى متوقّفة على النيّة غير جهة التوصّل من حصول التقرّب وارتفاع الدرجة ونحو ذلك ، وممّا يفصح عن ذلك استحباب الطهارة لنفسه ورجحانها الذاتي الّذي لا مدخل فيه لجهة التوصّل ، فمن هنا يمكن لك أن تقول : بأنّ التوقّف على النيّة فيها إنّما هو من لوازم الجهة الذاتيّة لا الجهة التوصليّة العارضة لها.

ومنع عدم انحصارها في الثاني ، لجواز انحصارها في الواجبات المذكورة في شيء معلوم غير متوقّف على النيّة كاحترام الميّت في المثال المذكور ، نعم الّذي لا يعلم به فيها ربّما يكون الحكمة الداعية إلى تخصيصها وسيلة إلى حصول تلك المصلحة المعلومة ، وهذه كما ترى ممّا لا مدخل لها في المصلحة الّتي هي عبارة عن الغاية الّتي قصد ترتّبها على الفعل ، والكلام في معلوميّة انحصار ذلك وعدم معلوميّته لا في معلوميّة كلّ ما له دخل في التشريع ، فتأمّل [ نقلناه عن التحرير الأوّل من التعليقة بخطّه رحمه‌الله تتميما للمرام ].

٦٤٢

النيّة ، وما من عقد ولا إيقاع ولا مباح إلاّ وفيه جهة رجحان عند الشارع ومطلوبيّة له إذا اتي به بداعي تلك الجهة ترتّب عليه الثواب فيكون ممّا احتاج ترتّب الثواب عليه إلى النيّة ، وإلى ذلك يشير ما في النصّ من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّته لأبي ذرّ : « يا أباذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّى في النوم والأكل » (١) فالعبادة بهذا المعنى لا مقابل لها في طرف المعاملة.

ومن ذلك يعلم أنّ موضوع المسألة ليس هو العبادة بهذا المعنى بقرينة مقابلة المعاملة لها في كلامهم مع القول بالتفصيل في اقتضاء النهي للفساد وعدمه بينهما ، وينبغي القطع بعدم كون أحد المعنيين الأوّلين أيضا مرادا منها في محلّ البحث.

أمّا المعنى [ الأوّل ] فلئلاّ يخرج النهي عن المندوبات والواجبات التوصّليّة عن عنوان النهي في العبادات لجريان أدلّته في الجميع.

وأمّا الثاني : فلئلاّ يخرج الواجبات التوصّليّة عنه أيضا لجريان الدليل القائم في العبادات على اقتضاء الفساد فيها دون الدليل المقام على عدم اقتضاء الفساد في المعاملات.

فلا بدّ وأن يكون هنا معنى رابع إذا اريد من العبادة لتناول كلاّ من الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي والمندوب وهو كلّما كان مبنى مشروعيّته على ورود الأمر به فالمعاملة حينئذ ما لم يكن مبنى مشروعيّته على ورود الأمر به وكان من قبيل العقود أو الإيقاعات الّتي رتّب عليها الشارع آثارا مخصوصة وهي بالقياس إلى تلك الآثار أسباب شرعيّة والآثار مسبّبات لها.

ثالثها : في شرح الصحّة والفساد لكون معرفتهما أيضا من مبادئ المسألة فنقول : إنّ الصحيح قد يفسّر : « بما يترتّب عليه أثره » فيعمّ كلاّ من صحيح العبادة وصحيح المعاملة ، وقد يخصّ ذلك بصحيح المعاملة فيفسّر صحيح العبادة : « بما وافق الأمر أو الشريعة » على اختلاف العبارة وينسب إلى المتكلّمين ، أو « بما أسقط القضاء » ويعزى إلى الفقهاء.

وقد يتوهّم كون كلّ من هذين فردا من المعنى الأوّل العامّ ، نظرا إلى أنّ الأثر في كلّ شيء إنّما يعتبر بحسبه فهو في العبادة إمّا موافقة الأمر أو سقوط القضاء وفي المعاملة شيء آخر ممّا يناسب المقام.

ويظهر من بعض الأفاضل الارتضاء بذلك ولا خفاء في فساده ، فإنّ مبائن الشيء كلّيّا لا يصلح فردا له وظاهر أنّ موافقة الأمر أو سقوط القضاء بالقياس إلى فعل المكلّف

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٤٦٤ وبحار الأنوار ٧٧ : ٨٢.

(٢) هداية المسترشدين.

٦٤٣

الموافق للمأمور به إذا اتي به على وجهه من اللوازم العقليّة الغير المقصودة من الخطاب أصالة ولا تبعا لا من الغايات المقصودة منه ، والمراد بالأثر المأخوذ في الحدّ ما يكون من قبيل الغايات المقصودة دون اللوازم العقليّة كالتقرّب ونحوه من المصالح الداعية إلى تشريع العبادة الباعثة على الأمر بها فيكون المعنيان من لوازم هذا المعنى ، ضرورة أنّ العبادة إذا ترتّب عليها أثرها المطلوب من تشريعها يستلزم كونها موافقة للأمر ومسقطة للقضاء على ما هو التحقيق من اقتضاء الأمر الإجزاء.

ثمّ قد عرفت بما نبّهنا عليه أنّ في تفسير صحيح العبادة اختلافا بين المتكلّمين والفقهاء ، وينبغي أن تعلم أنّه نزاع لفظي لا بمعنى كون كلّ مدّعيا لما لا ينكره صاحبه ، ولا بمعنى كون الاختلاف بينهما اختلافا في التأدية والعبارة مع اشتراكهما في المؤدّى ، ولا بمعنى رجوعه إلى الصغرى مع اتّفاق الفريقين على الكبرى ، ولا بمعنى كونه نزاعا في مسمّى اللفظ كما في تعيين معنى « الصعيد » وغيره من الموضوعات اللغويّة أو الشرعيّة ، بل بمعنى كونه اختلافا في جعل الاصطلاح ، على معنى أنّ كلاّ من الفريقين اصطلح اللفظ على أحد المتلازمين على ما هو التحقيق كما سيظهر وجهه من كون المعنيين متلازمين ، نظير ما لو اختلف زيد وعمرو في جعل اصطلاح في لفظ « الشمس » الموضوعة لغة وعرفا للجرم الفلكي المعهود الّذي يلزمه الضوء والحرارة ، فاتّخذها أحدهما اصطلاحا لنفسه في الضوء خاصّة والآخر اصطلاحا لنفسه في الحرارة.

والسرّ في عدم كونه لفظيّا بالمعنى الأوّل والثاني والثالث واضح ، وأمّا عدم كونه لفظيّا بالمعنى الرابع فلأنّ المسمّى الّذي يختلف في تعيينه إمّا لغوي كما في مسمّى « الصعيد » أو عرفي عامّ كما في مسمّى « القارورة » أو شرعي كما في ألفاظ العبادات المعنونة في مسألة الصحيح والأعمّ ، أو عرفي خاصّ كما في مسمّى « الكلام » و « الجملة » عند النحوي ، ولا سبيل فيما نحن فيه إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل والثاني : فلأنّ « الصحيح » على ما ينساق منه عرفا في الاستعمالات الدائرة على لسان أهل اللسان هو ما سلم عن العيب والخلل ، ومن لوازم سلامته عن العيب أن يترتّب عليه الأثر المقصود منه ، وفي العبادات أن يوافق الأمر ويسقط به القضاء فيكون حقيقة فيه عرفا وكذلك لغة لأصالة عدم النقل ، وهذا ممّا لم يقع الاختلاف فيه بحسب اللغة ولا بحسب العرف ، مع عدم إمكان إرجاع اختلاف الفريقين إلى هذا المعنى لكونه عامّا

٦٤٤

يجري في الأعيان والأفعال ونتائجها من المصنوعات وما عرفت اختلاف في صحيح العبادة لا غير ، مع أنّ العبادة ليس ممّا يتداوله أهل اللغة ولا العرف العامّ من حيث هو ليختلف في تعيين مسمّى صحيحها بحسبهما.

وأمّا الثالث : فلوضوح عدم رجوع كلام الفريقين إلى دعوى ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « الصحيح » مطلقا ولا مضافا إلى العبادة ولم يدّعه أحد ، كيف وليس للشارع الحكيم تصرّف في معنيي « الصحّة » و « الفساد » عمّا بين الوضعيّات بالجعل والاعتبار وإن قلنا به فيما عداهما ، فكيف بتصرّفه في لفظيهما بالوضع والاستعمال.

وأمّا الرابع : فلظهور العبارات الحاكية لهذا الخلاف في كونه خلافا في ابتداء الاصطلاح لا في تعيين مصطلح من سبق ، فيكون اختلافا في جعل الاصطلاح واللازم من جعل الاصطلاح هو النقل واللازم من تعدّده الاشتراك بحسب العرف الخاصّ.

ويشكل : بأنّه ليس اختلافا في لفظ « الصحيح » بل هو اختلاف في صحيح العبادة مع أنّ الأصل عدم النقل وعدم الاشتراك.

ويمكن كون هذا اللفظ المركّب باعتبار المضاف من إطلاق الكلّي على الفرد والمضاف إليه بيان للخصوصيّة الغير المرادة من المضاف ، وكلام الفريقين في تفسير الفرد الخاصّ الّذي أطلق عليه اللفظ باعتبار المعنى العامّ اللغوي العرفي ، فالمتكلّم فسّره بموافقة الأمر والفقيه بإسقاط القضاء ، ومن ذلك ما قد يقال : من أنّ الصحّة والفساد في لسانهم ليسا منقولين عن المعنى اللغوي إلى المعنيين في الصحّة وما يقابلهما في الفساد ، بل إطلاقهما عليهما من باب إطلاق الكلّي على الفرد لأصالة عدم النقل المنحلّة إلى اصول كثيرة.

ويدفعه : عدم كون موافقة الأمر وإسقاط القضاء متّحدين مفهوما ومصداقا ولا أنّهما فردين من السلامة عن العيب.

نعم يمكن أن يقال ـ بالنظر إلى أنّ موافقة الأمر وإسقاط القضاء من اللوازم العقليّة ـ : برجوع كلام الفريقين إلى تعيين حكم العقل ، فزعم المتكلّم أنّه موافقة الأمر والفقيه أنّه إسقاط القضاء.

ويؤيّده أنّ الصحّة والفساد من الأحكام الشرعيّة وليسا من مجعولات الشارع فيكونان من الأحكام العقليّة ، وعلى هذا فالنزاع بينهما معنويّ لا أنّه لفظي حتّى بالمعنى الخامس.

ولكن يزيّفه : أنّ الصحّة بكلّ من معنييها ليست من الأحكام العقليّة المستقلّة المتأصّلة

٦٤٥

بل من الأحكام التبعيّة الانتزاعيّة ، فإنّ المكلّف إذا أتى بالمأمور به على وجهه فهو لا محالة مشتمل على الامور المعتبرة في المأمور به الكلّي من الأجزاء والشرائط وهو معه لا يخاطب بفعله ثانيا في الوقت ولا في خارجه ، والعقل ينتزع منه باعتبار اشتماله على الامور المعتبرة في المأمور به مفهوما يعبّر عنه بموافقة الأمر ، وباعتبار أنّ المكلّف لا يخاطب معه بالفعل ثانيا ينتزع عنها مفهوما آخر يعبّر عنه بإسقاطه القضاء ، وهذان الأمران الانتزاعيّان لا تنافي بينهما لينازع في تعيينه بل هما مجتمعان ، والانتزاع العقلي حاصل فيهما معا ومعه لا معنى للنزاع في تعيين الحكم العقلي.

نعم يمكن تصوّر معنويّة النزاع على نهج آخر وهو أن يقال : برجوع نزاع الفريقين إلى تعيين ما يتحقّق به الصحّة بمعناها الأصلي اللغوي أو العرفي ، فالمتكلّم يراها متحقّقة بموافقة الأمر فما وافق الأمر عنده ما سلم من العيب ، والفقيه يراها غير متحقّقة بمجرّد ذلك بل لا بدّ في تحقّقها من إسقاط القضاء أيضا فالسالم من العيب عنده ما أسقط القضاء لا مجرّد ما وافق الأمر كيفما اتّفق.

ويؤيّده ما قيل : من أنّ الصحّة على رأي الفقيه أخصّ منها على رأي المتكلّم ؛ ومرجعه إلى ما في كلام غير واحد من تفريع الصلاة باستصحاب الطهارة على المذهبين ، من حيث إنّها صحيحة على تفسير المتكلّم لموافقتها الأمر دونه على تفسير الفقيه لعدم سقوط القضاء بها.

وما ذكر أيضا من ظهور الثمرة بينهما في النذر كما لو نذر أن يعطي من يصلّي صلاة صحيحة درهما ، فأعطاه لمن يصلّي بظنّ الطهارة فظهر له كونه فاقدا لها ، فيبرأ نذره على الأوّل لأنّه موافق للأمر دون الثاني لأنّه لا يسقط القضاء ، لوضوح أنّ أمثال هذه الامور لا تتفرّع على الامور الاصطلاحيّة بل على المعاني الواقعيّة لغويّة أو عرفيّة أو شرعيّة ، فلو لا النظر في الكشف عمّا يتحقّق به المعنى اللغوي لما كان لهذا التفريع ولا ترتيب الثمرة المذكورة وجه.

ويؤيّده أيضا أنّ المتكلّم نظره في نظائر المقام إنّما هو فيما يترتّب عليه الثواب والعقاب ولو كان أمرا ظاهريّا ، والفقيه نظره فيما يترتّب عليه اللوازم الشرعيّة والأحكام الفرعيّة تكليفيّة ووضعيّة ، فكلّ منهما جعل العبرة بما ناسب منظوره ، فغرض المتكلّم أنّ ما سلم من العيب الّذي يترتّب عليه الثواب هو ما وافق الأمر ولو ظاهرا ، وغرض الفقيه أنّ ما سلم من العيب الّذي يترتّب عليه الأحكام الفرعيّة ـ ولو وضعيّة ـ هو ما أسقط القضاء.

٦٤٦

ومن ذلك يتبيّن أنّ هذا الكلام مع التفريع والثمرة المذكورين إنّما يستقيم إذا كان مراد المتكلّم بالأمر ما يعمّ الظاهري أيضا ومراد الفقيه بإسقاط القضاء إسقاطه واقعا الملازم لموافقة المأمور به الواقعي.

ولذا قيل : لو اريد بالأوّل خصوص الواقعي أو ما يعمّه والظاهري وبالثاني إسقاطه في الواقع أو ما يعمّه والإسقاط في الظاهر كان النسبة بينهما تساويا ، كما أنّه لو اريد بالأوّل خصوص الواقعي وبالثاني ما يعمّ النوعين انقلبت النسبة فيكون ما ذكره المتكلّم حينئذ أخصّ مطلقا ممّا ذكره الفقيه ، وقد يعكس هذه النسبة.

ويمكن بملاحظة ما ذكر تقرير هذا الكلام على وجه لا يبتني على تماميّة التفريع والثمرة المذكورين ، بأن يقال : إنّ غرض كلّ من الفريقين بما ذكر في معنى « الصحّة » إنّما هو بيان ما يتحقّق به الصحّة اللغويّة لا جعل اصطلاح في لفظ « الصحّة » غير أنّ كلاّ منهما أخذ في ذلك بما ناسب فنّه وتكلّم بما اقتضاه منظوره ، فالمتكلّم جعل المناط بما ينوط به الثواب والفقيه جعل المدار على ما يدور عليه الأحكام الفرعيّة ولو وضعيّة ، وإلاّ فلا مخالفة بين كلاميهما بحيث هنا مادّة تخلّف كما هو قضيّة التفريع والثمرة المذكورين ، ولا يستقيم ذلك إلاّ بأن يكون نظر كلّ منهما إلى الواقع أو إلى ما يعمّه والظاهر ، ولكن هذا إن تمّ لقضى بمنع تجدّد الاصطلاح المستلزم لمنع تحقّق النقل والاشتراك ولا يقضي بمعنويّة النزاع ، بل مقتضاه كونه لفظيّا ولكن بالمعنى الأوّل من المعاني الخمس المتقدّمة كما لا يخفى.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا التوجيه لكونه منافيا للتفريع والثمرة المذكورين إنّما يتّجه على تقدير عدم كون المتعرّض لذكرهما الفريقين أو المتكلّم خاصّة سواء كان هو الفقيه فقط أو غيره من العلماء الخارجين عن الفريقين ، فإنّ ذكرهما على هذين التقديرين مبنيّ على توهّم كون مراد المتكلّم بالأمر ما يعمّ الظاهري ومراد الفقيه بإسقاط القضاء ما يكون كذلك في الواقع.

ويمكن منع ذلك حينئذ أمّا أوّلا : فلظهور الأمر في كلام كلّ أحد حيث أطلق في الواقعي فلا يعدل عنه إلى إرادة الأعمّ إلاّ لقرينة هي مفقودة في المقام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مراد المتكلّم لو كان أعمّ وكان الفقيه بصدد إبداء المخالفة له على وجه يتحقّق معه مادّة تخلّف بينهما كان الأنسب أن يعبّر عمّا اختاره بموافقة الأمر الواقعي قبالا لتعبير المتكلّم بموافقة الأمر على إطلاقه ليكون صريحا في معنويّة النزاع ، ولا يناسب

٦٤٧

حينئذ العدول إلى ما ربّما يوقع في الوهم كونه لفظيّا خاليا عن الفائدة كما توهّمه جماعة ، وإن كان ظاهر الأكثر فهم كونه معنويّا كما يرشد إليه ما ذكروه في مقام التفريع وإبداء الثمرة.

وأمّا على تقدير كون المتعرّض لذكرهما الفريقين أو المتكلّم خاصّة ينهض ذلك قرينة على كون مراد المتكلّم بالأمر ما يعمّ الظاهري ومراد الفقيه بالإسقاط ما هو أخصّ منه ، وحينئذ لا محيص من التزام معنويّة النزاع ولو في زعمهما.

نعم يبقى الكلام حينئذ في صحّة التفريع المذكور والثمرة المذكورة القاضية بإصابتهما فيما زعماه من معنويّة النزاع أو عدمها القاضي بخطئهما في الزعم.

والحقّ بناء على ما يساعد عليه النظر هو الثاني.

والسرّ في ذلك ما قرّرنا تفصيله في ذيل مسألة الإجزاء ، وإجماله : امتناع التخلّف بين موافقة الأمر ـ ولو ظاهرا ـ وسقوط القضاء ، على معنى أنّ موافقة الأمر تلازم سقوط القضاء كما أنّ عدم سقوط القضاء يلازم عدم موافقة الأمر ، نظرا إلى أنّ الأمر يفيد الإجزاء إن ظاهرا فظاهرا وإن واقعا فواقعا ، فإن كان النظر في تفريع الصلاة باستصحاب الطهارة أو بظنّها إلى ما قبل انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الاستصحاب أو الظنّ فكما أنّ موافقة الأمر حاصلة في مرحلة الظاهر فكذلك سقوط القضاء أيضا متحقّق في مرحلة الظاهر ، وإن كان النظر إلى ما بعد انكشاف الخلاف ـ كما هو ظاهر عبارة التفريع بل صريحها ـ كما أنّ القضاء بمعنى مطلق التدارك غير ساقط فكذلك موافقته أيضا غير حاصل ، وذلك لأنّ وجه اعتبار الأمارة استصحابا أو ظنّا أو غير هما ليس وجه الموضوعيّة لبطلان التصويب ، بل هي معتبرة على وجه الطريقيّة ، فالأمر الظاهري الشرعي المحرز بالأمارة لا يراد به أمر آخر في مقابلة الأمر الواقعي بل هو الأمر الواقعي الّذي يحرز بطريق شرعي ، ومعناه أنّ الطهارة الّتي هي شرط واقعي مأخوذ في المأمور به الواقعي تحرز بالاستصحاب أو بمطلق الظنّ ، فالمكلّف الآتي بالصلاة باستصحاب الطهارة أو ظنّها إنّما يأتي بها على أنّها المأمور به الواقعي ، أي على أنّها فرد من المأمور به الواقعي أحرز فرديّتها له بهذا الطريق الشرعي ، فإذا انكشف فساد الطريق وعدم مطابقته الواقع انكشف فساد مؤدّاه ومعناه عدم كون المأتيّ به فردا من المأمور به الواقعي ، وهذا بعينه هو معنى عدم موافقته الأمر ، فهذه الصلاة مع عدم كونها مسقطة للقضاء غير موافقة للأمر أيضا ، فقول الفقهاء بعدم سقوط القضاء حينئذ ليس من جهة أنّ الأمر قد لا يفيد الإجزاء بل من جهة انتفاء موضوع الإجزاء وهو الإتيان

٦٤٨

بالمأمور به على وجهه فإنّ المفروض عدم حصول الإتيان به واقعا وظاهرا ، فيجب على المكلّف حينئذ الإتيان بالمأمور به الواقعي إعادة إن انكشف له الخلاف في الوقت ، أو قضاء إن انكشف بعد خروج الوقت ، سواء على القول بكون القضاء بالأمر الأوّل أو فرضا جديدا.

أمّا على الأوّل : فلبقاء المأمور به الواقعي المخاطب به في الذمّة.

وأمّا على الثاني : فلصدق الفوات.

وتوهّم عدم وجوبه على الأوّل إلاّ بدليل آخر لانتفاء الأمر وإلاّ كان تكليفا للغافل وهو قبيح.

يدفعه : وضوح المنع من كونه غافلا لما عرفت من انتفاء الموضوعيّة في مؤدّى الأمارة فلم يكن على المكلّف في الوقت إلاّ المأمور به الواقعي وهو الصلاة بالطهارة الواقعيّة ، والمكلّف ملتفت إلى توجّه الخطاب بها إليه ولذا كان إتيانه بها باستصحاب الطهارة أو ظنّها على أنّها الصلاة بالطهارة الواقعيّة ، وغفلته في عدم كون المأتّي به فردا منها وعدم موافقته لها لا في كونه مخاطبا بها ، فالأمر بها منجّز عليه في الوقت وهو ملتفت إليه ، والغفلة عن عدم كون شيء فردا للمأمور به الواقعي لا يوجب ارتفاع الأمر عنه ، خصوصا مع ملاحظة أنّ مرجع القول بكون القضاء بالأمر الأوّل إلى أنّ الخطاب ينحلّ إلى تكليفين :

أحدهما : التكليف بأصل الفعل.

والآخر : التكليف بإيقاعه في الوقت.

فإذا انكشف عدم حصول امتثال الثاني انكشف بقاء الأوّل في العهدة فوجب الخروج عنها.

وممّن صرّح بما حقّقناه في منع التفريع بعض الأفاضل بقوله بعد حكاية التفريع : « إن اريد بما وافق الشريعة ما وافقها بحسب الواقع وبما أسقط القضاء ما أسقطه كذلك لم يصحّ ما ذكر من التفريع ، لوضوح عدم موافقة ما اتي به من الصلاة للواقع وعدم إسقاطه القضاء كذلك ، وإن اريد موافقته للشريعة بحسب ظاهر التكليف فينبغي أن يراد إسقاطه القضاء كذلك إذ لا وجه للتفكيك بين التعبيرين.

وحينئذ فكما يصدق موافقة للشريعة كذلك يكون مسقطا للقضاء في ظاهر الشريعة ، وبعد انكشاف الخلاف كما يتبيّن عدم إسقاطه القضاء فكذلك يتبيّن عدم موافقته للشريعة أيضا فلا فرق بين التعريفين » انتهى.

رابعها : في بيان أقسام المنهيّ عنه من العبادات والمعاملات والإشارة إلى نبذة من

٦٤٩

أمثلتها اقتفاء لإثر القوم وتبيانا لبعض الغفلات والاشتباهات.

فنقول : إنّ كلاّ من العبادة والمعاملة إمّا أن يكون منهيّا عنه لنفسه ، أو لجزئه ، أو لشرطه ، أو لوصفه الداخل ، أو لوصفه الخارج ، أو لمفارق متّحد معه في الوجود ، أو لمفارق غير متّحد معه في الوجود.

ووجه الانقسام : أنّ النهي عن العبادة أو المعاملة إمّا أن يكون لمفسدة في نفسها أو لمفسدة في غيرها ممّا يوجد معها ، والأوّل هو المنهيّ عنه لنفسه.

وعلى الثاني فالّذي يوجد مع العبادة أو المعاملة إن كان داخلا فيها فهو المنهيّ عنه لجزئه ، وإن كان خارجا عنها فإن كان ممّا يتبدّل بتبدّله في نظر الحسّ نوع العبادة والمعاملة أو شخصهما فهو المنهيّ عنه لوصفه الداخل ، وإلاّ فإن كان ممّا اعتبره الشارع في الصحّة فهو المنهيّ عنه لشرطه ، وإلاّ فإن كان من قبيل الصفات فهو المنهيّ عنه لوصفه الخارج ، وإلاّ فإن لم يتمايز مع العبادة أو المعاملة في الوجود الخارجي فهو المنهيّ عنه لشيء مفارق متّحد معه في الوجود ، وإن تمايز فهو المنهيّ عنه لمفارق غير متّحد معه في الوجود.

فظهر أنّ الفرق بين الجزء والشرط أنّ الأوّل داخل والثاني خارج ، والمراد بدخول الجزء دخوله في الجنس المقول على الكلّ كالركوع والسجود مثلا للصلاة والإيجاب والقبول للبيع فيقال على الجميع فعل المكلّف ، والمراد بخروج الشرط خروجه عن الجنس المقول على المشروط كالطهارة وكون المصلّي مستقبل القبلة مثلا في الصلاة ، وكمال المتعاقدين وملك العوضين مثلا في البيع ، لعدم كون شيء منها ونظائرها من مقولة فعل المكلّف كما هو واضح.

ومن هنا قد يقال في الفرق بينهما : إنّ الجزء ما يتوقّف عليه الكلّ في تعقّله وصدق الإسم عليه ، والشرط ما لا يتوقّف عليه المشروط في تعقّله ولا في صدق الإسم عليه ، إلاّ أنّه في العبادات مبنيّ على القول بكون ألفاظها أسامي للأعمّ.

وممّا بيّنّاه من ضابط الفرق بينهما ينقدح أنّ النيّة المعتبرة في العبادات المختلف في كونها جزءا أو شرطا بالشرط أشبه ، لعدم كونها من مقولة فعل الجوارح ويفصح عنه ثبوت حكم الشرط لها وهو المقارنة لتمام العمل ، ولذا اعتبر فيها الاستدامة الحكميّة على القول بالإخطار.

وممّا ذكرنا ارتفع الإشكال أيضا في طمأنينة الركوع والقيام بعد الركوع ، فإنّ الصلاة الّتي من مقولة فعل المكلّف ملتئمة عن حركات وسكنات ومن الحركات الركوع والذكر

٦٥٠

فيه والقيام بعده ومن السكنات الطمأنينة حالها ، وإن اعتبرناها من واجبات الركوع والقيام بعده فلا تكون بالقياس إليهما إلاّ شرطا ، لخروجها عن ماهيّة الركوع والقيام والخارج عن الشيء لا يكون جزءا له.

وبالجملة هي بالقياس إلى الصلاة جزء لمشاركتها معها في قول فعل المكلّف [ عليها ] وبالقياس إلى الركوع والقيام شرط لعدم مشاركتها لهما في قول الركوع والقيام ، فهي ممّا يصدق عليه عنوان الجزء والشرط باعتبارين فلا منافاة.

وأمّا أمثلة الأقسام المذكورة ، فأمّا المنهيّ عنه لنفسه : فضابطه الكلّي في العبادة ما كان مفاد النهي المتعلّق بها على القول باقتضائه الفساد شرطيّة شيء لأصل التكليف بالعبادة أو مانعيّة شيء من التكليف بها كصلاة الحائض وصومها وصوم المسافر وصوم يوم النحر ، فإنّ النهي في الأوّل يفيد كون الطهر شرطا أو الحيض مانعا وكذلك الثاني ، وفي الثالث يفيد كون الحضر شرطا أو السفر مانعا ، وفي الرابع كون يوم النحر مانعا من أصل التكليف بالصوم.

وفي المعاملات (١) ما كان مفاد النهي المتعلّق بها على القول باقتضائه الفساد شرطيّة شيء لما هو من أركان المعاملة عقدا كان كالمتعاقدين والعوضين في عقود المعاوضة ، أو غيرها كالذابح في الذبح ، كبيع العبد وبيع السفيه وبيع الأعيان النجسة وبيع المغصوب وبيع المغشوش وذبح الذمّي ، والبيع وقت النداء إن لم يكن النهي فيه لتفويت الجمعة وإلاّ كان من المنهيّ عنه لشيء مفارق متّحد في الوجود ، فحرّيّة المتعاقدين وكمالهما والطهارة الذاتيّة في المبيع ومملوكيّته وخلوصه عن الخلط وإسلام الذابح وكون العاقد ممّن لم يشمله نداء الجمعة كلّها شروط راجعة إلى ما هو من أركان المعاملة بمقتضى النهي الدالّ على الفساد.

فقد أصاب بعض الأعلام في جعله صلاة الحائض من المنهيّ عنه لنفسه ، وإن أخطأ في جعله صوم يوم النحر وذبح الذمّي من المنهيّ عنه لوصفه اللازم إلاّ بالبيان الآتي ، كما أصاب صاحب كتاب الكواكب الضيائيّة في جعله يوم النحر من المنهيّ عنه لنفسه.

فالقول بأنّ النهي في صلاة الحائض تعلّق بها باعتبار وقوعها حال الحيض فالمنهيّ عنه هو الصلاة الكائنة حال [ الحيض ] فيكون من المنهيّ عنه لوصفه ليس على ما ينبغي ، فإنّ تغيير العبارة في تحرير المثال لا يغيّر حكم النهي ومفاده.

فنقول : إنّ النهي عن الصلاة الواقعة أو الكائنة حال الحيض على تقدير اقتضائه الفساد

__________________

(١) عطف على قوله : « فضابطه الكلّي في العبادة الخ ».

٦٥١

يفيد كون حالة الحيض مانعة من أصل التكليف بالصلاة ، ولذا كانت الحائض باعتبار هذا النهي مخرجة من عموم ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) وقضيّة ذلك أن لا تكليف عليها بالصلاة أصلا ، وليس ذلك إلاّ لانتفاء شرط من شروط التكليف أو لوجود مانع من موانعه.

فالاحتجاج للقول المذكور أو تأييده بأنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها كما في قولنا : « زيد أعلم من عمرو في الهيئة ، وعمرو أعلم من زيد في الطبّ » فإنّ معناه أنّ علم الهيئة في زيد أكثر من عمرو وعلم الطبّ في عمرو أكثر من زيد غير مجد في إثباته ، فإنّ أصل القاعدة مسلّمة غير أنّ القيود المعتبرة مع المادّة قد تكون من الأحوال الراجعة إلى المكلّف فيفيد مفهوم الصيغة الوارد عليها كونها من موانع التكليف أو كون أضدادها من شروطه ، ولذا كان المخرج من خطاب « أقيموا الصلاة » باعتبار مفهوم الصيغة المستلزم للفساد نوع المكلّف وأثره امتناع صدور ماهيّة الصلاة بوصف الصحّة من الحائض ما دامت حائضا.

وقضيّة ذلك كون المنهيّ عنه في هذا الفرض نفس الماهيّة الصلاتيّة الموجب نفيها لامتناع دخول جميع أفرادها في الوجود ، بخلاف المنهيّ عنه لوصفه فإنّ النهي لا يوجب امتناع دخوله في ضمن جميع أفراده في الوجود ، بل غايته على تقدير اقتضائه الفساد امتناع دخوله بهذا الوصف في الوجود خاصّة لا بغير هذا الوصف ممّا هو ضدّه أو نقيضه ، فالمكلّف مخاطب بفعله في ضمن غير هذا الوصف سواء كان الوصف من الوصف الداخل أو الخارج.

وبالتأمّل فيما ذكرناه من ضابط المنهيّ عنه لنفسه ظهر أنّ ما في كلام بعض الأعلام من جعل ذبح الذميّ من المنهيّ عنه لوصفه الداخل ليس بسديد ، ضرورة أنّ الذمّي ما دام ذمّيّا يمتنع منه ماهيّة الذبح على وجه الصحّة لا بعض أفرادها دون بعض.

فمحصّل الجواب عن الاحتجاج المتقدّم : أنّ القيد إذا كان من الأوصاف الراجعة إلى الفاعل يوجب امتناع دخول الماهيّة في الوجود بجميع أفرادها في حقّ هذا الفاعل إذا كان من الأوصاف الغير المقدور على رفعها ليقضي بخروج المكلّف عن خطاب الصحّة ، وذلك كوصف الحيض فإنّه يوجب امتناع دخول أفراد كلّ من نوعي الماهيّة في الوجود وهما الصلاة المتلبّسة بالحيض والصلاة المجرّدة عنه.

أمّا الأوّل : فبمقتضى النهي.

وأمّا الثاني : فلامتناع تكليف ما لا يطاق فإنّه من الحائض غير مقدور.

٦٥٢

وبهذا البيان علم أنّ النهي عن صلاة الجنب ليس من هذا القبيل ، فلا تكون صلاته من المنهيّ عنه لنفسه ، لأنّ الممتنع دخوله في الوجود هو أفراد أحد النوعين ولذا كان الجنب مخاطبا بالصلاة لتمكّنه من رفع الجنابة (١).

وأمّا المنهيّ عنه لجزئه فهو إمّا لكون الجزء منهيّا [ عنه أو منشأ للنهي عن الكلّ ] لوجوده فيه على صفة مفسدة كشف عنها النهي ، فيستفاد منه كون الجزء المشروع له غيره ممّا لا يوجد فيه هذه الصفة ، أو لفقده مع عدم ثبوت جزئيّته قبل ورود النهي فيستفاد منه كونه جزءا كالنهي عن قراءة العزيمة في الصلاة ، والنهي عن الصلاة مع قراءة العزيمة ، والنهي عنها بلا تكبيرة أو طمأنينة في الركوع أو في القيام بعده هذا في العبادة.

وأمّا المعاملة فمثّل له بعض الأعلام ببيع الغاصب مع جهل المشتري على القول بأنّ البيع هو نفس الإيجاب والقبول الناقلين للملك ، قال : « وأمّا على القول الآخر فالأمثلة كثيرة واضحة » والظاهر أنّ التقييد بجهل المشتري لإخراج المثال عن كونه من المنهيّ عنه لنفسه ، لزعم أنّه عبارة عمّا تعلّق النهي بنفس المعاملة والبيع إذا كان نفس الإيجاب والقبول فتعلّق النهي بنفسه معناه تعلّقه بنفس الإيجاب والقبول أي بهما معا ، وإنّما يكون كذلك مع علم المشتري بالغصب لا مع جهله.

ويشكل : بأنّه لا يستقيم على الضابط الّذي ذكرناه للمعاملة المنهيّ عنها لنفسها ، وهو كون مفاد النهي على تقدير اقتضائه الفساد شرطيّة شيء لأحد أركان العقد ، وعلى هذا فالنهي عن بيع الغاصب على تقدير اقتضائه الفساد يفيد كون الملك شرطا في المبيع من غير فرق فيه بين علم المشتري وبين جهله.

وقضيّة ذلك كونه من المنهيّ عنه لنفسه على التقديرين ، مع أنّ قضيّة البيان المذكور كون المنهيّ عنه لنفسه عبارة عن مركّب نهي عنه بجميع أجزائه ، على معنى كون كلّ من أجزائه منهيّا عنه ، وهذا على فرض تسليمه فإنّما يسلّم لو كان المركّب بجميع أجزائه فعلا

__________________

(١) قال في حاشية التحرير الأوّل من التعليقة بعد تلك العبارة : « وبهذا البيان يمكن اصلاح ما صنعه بعض الأعلام من جعله ذبح الذمّي من المنهيّ عنه لوصفه فإنّه في محلّه حتّى على الضابط الّذي قرّرناه فلا يتوجّه إليه ما قدّمناه ، وإن شئت قلت : إنّ الضابط في المنهيّ عنه لنفسه كون النهي على تقدير إخراجه المورد عن خطاب الصحّة بحيث استلزم خروجه خروج المكلّف عنه أيضا ، على معنى أن لا يكون المكلّف ما دام الوصف العنواني المأخوذ فيه مشمولا لخطاب الصحّة بالصلاة أصلا بخلاف الجنب فإنّه مخاطب بها لا محالة نعم منع عنها حال الجنابة لكون الطهارة الكبرى من شروط الصحّة فكما يجب فعلها فكذا يجب عليه تحصيل شرطها » ( منه ).

٦٥٣

لمكلّف واحد وهو هنا فعلان لمكلّفين ، وكلّ منهما على تقدير علم المشتري منهيّ عن فعل نفسه لا عن فعل صاحبه ، فالبائع منهيّ عن الإيجاب فقط لا عن المركّب باعتبار الإيجاب وكذلك المشتري ، فلا تركيب في المنهيّ عنه فيكون الإيجاب منهيّا عنه لنفسه على التقديرين وكذلك القبول على أحد التقديرين.

وأمّا قوله : « وأمّا على القول الآخر فالأمثلة كثيرة واضحة » فأورد عليه : بأنّ القول الآخر هو أنّ البيع الإيجاب المقترن بالقبول ، فلا يتفاوت الحال بين القولين في هذا المثال بل هو من المنهيّ عنه لجزئه على كليهما.

وفيه أوّلا : أنّ هذا المعنى للبيع غير معهود منهم ولا أنّ القول به مذكور في أقوال المسألة.

وثانيا : أنّ البيع على هذا القول ـ إن سلّمنا وجوده ـ عبارة عن نفس الإيجاب واقترانه بالقبول قيد فيه ، فالقبول شرط خارج منه فلا جزء له على هذا القول يصلح متعلّقا للنهي ، فيكون الإيجاب حينئذ من المنهيّ عنه لنفسه على هذا القول ، فالإيراد على ما ذكره قدس‌سره بنحو ما ذكر ليس على ما ينبغي.

نعم يرد عليه : أنّ ذكر القول الآخر بصيغة المفرد في مقابلة القول المذكور غير واضح الوجه ، إذ المسألة ذات أقوال كثيرة :

منها : القول الّذي أشار إليه وهو على ما في المسالك لجماعة منهم النافع واللمعة.

ومنها : ما حكاه في المسالك عن آخرين كالشيخ والحلّي والعلاّمة في جملة من كتبه من أنّه : انتقال عين مملوكة من شخص إلى آخر بعوض مقدّر على وجه التراضي.

ومنها : ما عن ابن حمزة في الوسيلة واستقربه العلاّمة في المختلف من أنّه عقد على انتقال عين مملوكة أو ما هو في حكمها من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي.

ومنها : ما في الشرائع من أنّه : « اللفظ الدالّ على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم » بناء على كون إضافة العقد إلى البيع بيانيّة.

وعن المحقّق الثاني أنّه استقرب كونه نقل الملك عن مالك إلى غيره بصيغة مخصوصة.

واستوجهه بعضهم فيما حكي عنه تعليلا بكونه المفهوم عرفا وكونه مطّردا في جميع التصاريف.

وعن المصابيح تعريفه : « بإنشاء تمليك بعوض معلوم على وجه التراضي ». وكأنّه قدس‌سره تبع فيما عبّر المسالك حيث نقل فيه القول الأوّل ونسبه إلى جماعة والقول الثاني ونسبه

٦٥٤

إلى آخرين ، فأراد من القول الآخر القول الثاني ، وحينئذ ففي فرض النهي عن البيع على هذا القول على وجه يكون من المنهيّ عنه لجزئه نوع خفاء كخفاء أمثلته ، فكيف يقال : إنّ أمثلته كثيرة واضحة؟

ويمكن توجيهه من وجهين ينشآن من اعتبار كون البيع بهذا المعنى مركّبا خارجيّا أو مركّبا عقليّا.

فعلى الأوّل يقال : بأنّ الانتقال ومثله النقل وإن كان بنفسه بسيطا غير قابل للتعدّد غير أنّه من جهة تعدّد متعلّقه من البائع والمشتري ومن المبيع والثمن يطرأه التعدّد بالعرض فيجري فيه أحكام المتعدّد ، فيكون النهي عن البيع لفقد كلّ شرط من الشرائط في المبيع أو الثمن من النهي عن الشيء باعتبار جزئه وهو الانتقال القائم بما فقد شرطه من مبيع أو ثمن ، كالنهي عن بيع ما لا يملك وبيع الأعيان النجسة وبيع المغشوش وبيع ما لا ينتفع به وما ليس بمعلوم وما ليس بمقدور على تسليمه وما أشبه ذلك ونحوها الأمثلة المتقدّمة ، لا باعتبار كون الإيجاب متعلّقا كما في الفرض المتقدّم ، لأنّ الإيجاب على هذا القول ليس بنفس البيع ولا جزئه بل هو شرط خارج عنه أو هو من مقولة الأسباب والمفروض أنّ النهي قد تعلّق بالبيع وهو الانتقال باعتبار جزئه وهو انتقال المبيع أو الثمن لا باعتبار شرطه أو سببه.

نعم يشكل هذا التوجيه من جهة أنّ متعلّق النهي كالأمر لا بدّ من أن يكون من مقولة فعل المكلّف والانتقال ليس منه ، بل هو وصف قائم بالعين الخارجيّة مسبّب عن الصيغة المركّبة من الإيجاب والقبول ، فلتصحيح النواهي المفروضة على القول المذكور لا بدّ من إرجاعها إلى السبب أو إلى جزئه من إيجاب أو قبول ، فلا يبقى فرق بين القولين في كون متعلّق النهي في الأمثلة المذكورة هو الإيجاب.

ويمكن دفعه : بأنّ الانتقال حينئذ من باب الأفعال التوليديّة الّتي منشؤها فعل المكلّف ، فلا داعي إلى صرف النهي عنه إلى سببه كما في سائر المسبّبات المتولّدة عن فعل المكلّف إذا تعلّق بها التكليف.

ولكن فيه بعد شيء آخر وهو عدم كون البيع على هذا القول عبارة عن مجموع الانتقالين ، بل ظاهر التعريف كونه عبارة عن انتقال المبيع فقط.

غاية الأمر اعتبار اقترانه بانتقال الثمن أخذا بمقتضى المقابلة المفيدة للعوضيّة.

وعلى الثاني يقال : بأنّ القيود المأخوذة في هذا التعريف من البداية إلى النهاية كلّها

٦٥٥

فصول ، والفصل كالجنس جزء عقلي ، والمفروض أنّ كلاّ منها وإن لم يصلح متعلّقا للنهي لعدم كونه من مقولة فعل المكلّف إلاّ أنّه يصلح منشأ للنهي عمّا هو من مقولة الفعل وهو جنس التعريف ، فالنهي عن بيع ما ليس بعين أو ما ليس بعين مملوكة أو ما هو عين مملوكة لا بعوض أو ما هو عين مملوكة بعوض غير مقدّر أو ما هو عين مملوكة بعوض مقدّر لا على وجه التراضي نهي عن الكلّ لمفسدة في الجزء هذا.

وفيه أيضا كسابقه من التكلّف ما لا يخفى ، غير أنّه في مقام التوجيه ممّا لا محيص عنه إلاّ أنّه يمكن الخدشة فيه بخروجه عن معقد كلامهم في المنهيّ عنه لجزئه ، بناء على ظهوره في المركّب الخارجي وهذا على التوجيه المذكور ليس منه.

وأمّا المنهيّ عنه لشرطه : فالمراد منه كون الشرط بنفسه منهيّا عنه أو منشأ للنهي عن المشروط من جهة فقده أو وجوده على صفة منقصة كشف عنها النهي وأمثلته في العبادة : النهي عن التستّر بالمغصوب في الصلاة ، وعن التوضّىء أو الاغتسال لها بالنجس أو المضاف أو المغصوب ، والنهي عن الصلاة بلا طهارة أو إلى غير القبلة أو عاريا ، والنهي عنها بالساتر المغصوب أو النجس أو بالطهارة الحاصلة عن المغصوب وما أشبه ذلك.

وأمّا ما قد يورد عليه في المنهيّ عنه لفقد الشرط بأنّه خارج عن محلّ الكلام رأسا ـ لوضوح أنّ فقد الشرط موجب لفقد المشروط إجماعا بل ضرورة فلا يكون هذا النهي قابلا للنزاع في اقتضائه الفساد ، بل لا معنى للنزاع فيه لأنّ الفساد حاصل من غير جهته ـ فإنّما يتوجّه فيما لو كان الشرطيّة ثابتة قبل هذا النهي ، والغرض من هذا الفرض ما استفيد شرطيّته بهذا النهي على القول باقتضائه الفساد ، ولعلّه مراد من أطلق إدراجه في صور المنهيّ عنه لشرطه.

وفي المعاملة (١) : الذبح بغير الحديد في غير حال الضرورة ، والنهي عن بيع الملاقيح نظرا إلى أنّ القدرة على التسليم حال البيع شرط له ، والنهي عن بيع الغاصب مع علم المشتري على القول بكون البيع نفس الإيجاب والقبول بل على القول الآخر أيضا ، وكلّ ما أشرنا إليه من الأمثلة على القولين من واد واحد ويصلح الجميع مثالا للمنهيّ عنه لفقد شرطه.

وأمّا المنهيّ عنه لوصفه اللازم : فقد عرفت عند التقسيم معياره وبيّنّا ثمّة ضابط الوصف اللازم ، وحاصله : أنّ الوصف اللازم عبارة عمّا يميّز العبادة أو المعاملة بحيث يتبدّل بتبدّله

__________________

(١) عطف على قوله : « وأمثلته في العبادة الخ ».

٦٥٦

النوع أو الشخص في نظر الحسّ خاصّة.

وإنّما قيّدنا به دفعا لما عسى أن يورد من : أنّ العبرة في كون شيء مميّزا للشيء بأنّه إذا اضيف إلى الجنس أو النوع العاليين كان مقسّما ، وهذا أمر مشترك بين الوصف الداخل والشرط والوصف الخارج ، ضرورة أنّ الطهارة أيضا بالقياس إلى الصلاة ممّا يقسّمها إلى ما كان بطهارة وما كان بغير طهارة ، وعدم الإذن اللاحق بكون الصلاة ممّا يقسّمها إلى ما كان عن كون مأذون فيه وما كان عن كون غير مأذون فيه ، فلا وجه لما ذكر في التقسيم من معيار الفرق بينه وبينهما لانتقاض طرد الضابط المذكور بالشرط والوصف الخارج.

فإنّ التقسيم الحاصل من إضافة الشرط أو الوصف الخارج تقسيم للعبادة في نظر العقل ، والمعتبر فيما ذكرناه من المعيار والضابط هو الانقسام في نظر الحسّ ، وذلك في العبادة كالجهر والإخفات اللاحقين للصلاة ، والترتيب والارتماس اللاحقين للغسل ، وصدور الفعل من الفاعل الفلاني ووقوعه في الزمان الفلاني أو المكان الفلاني وكون الصوم يوم الخميس ، فإنّ الكلّ ممّا يميّز العبادة في نظر الحسّ ، على معنى أنّه يتبدّل بتبدّله نوع العبادة أو شخصها بنوع أو شخص آخر في نظر الحسّ ، فالكلّ من الأوصاف اللازمة.

والفرق بين الأوّلين والثلاث أو الأربع الأخيرة أنّ كلاّ من الأوّلين من لوازم الماهيّة في الوجود الخارجي ويلزم منه تبدّل النوع بتبدّله ، وكلّ من الأخيرة من لوازم الشخص ومشخّص للماهيّة والمشخّص للماهيّة ما يتبدّل الشخص بشخص [ آخر ] بخلاف الشرط والوصف الخارج لعدم كونهما من لوازم الماهيّة في الوجود الخارجي ولا من لوازم الشخص ومشخّصات الماهيّة ولذا لا يظهر أثرهما على الحسّ.

فبما ذكرناه ظهر أمثلة هذا القسم في العبادة وإن أمكن الخدشة في الجهر والإخفات بكونهما من لواحق القراءة في الصلاة وهي جزء لها ، فالنهي المفروض عن الصلاة من جهتها نهي عنها لجزئها باعتبار وصفه اللازم لا أنّه نهي عنها لوصفها اللازم.

وأمّا المعاملة فقد مثّل له بعض الأعلام ـ مضافا إلى النهي عن ذبح الذمّي ـ بالنهي عن البيع المشتمل على الربا ، والنهي عن بيع الحصاة وهو أن يقول : « بعتك ثوبا من هذه الأثواب والمبيع ما وقع عليه هذه الحصاة » فإنّ النهي عن هذا البيع لوصفه الّذي هو كون تعيين المبيع فيه بهذا النهج.

ويشكل ذلك بالنظر إلى ما ذكرناه في ضابط الوصف الداخل من كونه موجبا للتمييز

٦٥٧

في نظر الحسّ ، وغاية ما يحصل هنا من التمييز بواسطة الاشتمال على الربا أو وقوع الحصاة إنّما هو تمييز للمبيع والمقصود اعتبار الوصف اللازم في البيع دون متعلّقه.

إلاّ أن يقال : إنّ البيع عبارة عن أمر معنوي لا يدرك بالحسّ بل المدرك به متعلّقه من المبيع أو الثمن فيجوز لحوق ذلك الوصف له بالعرض والمجاز ، ولكنّه مع بعده وافتقاره إلى التكلّف لا يتمّ إلاّ إذا جعلنا البيع عبارة عن النقل أو الانتقال دون العقد أو اللفظ أو نفس الإيجاب والقبول.

وأمّا المنهيّ عنه لو صفه الخارج : ففي العبادة كالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ، نظرا إلى كون هذه الأكوان غصبا وغير مأذون فيه ليس من مقوّمات الصلاة ولا من مميّزاتها ولا من مشخّصاتها ولذا لا يتبدّل بزواله في الأثناء نوع الصلاة ولا شخصها في نظر الحسّ ، وإن كان كونها في هذه الدار من جملة المشخّصات ، فإنّ النهي عنها لم ينشأ عن كونها في هذه الدار بل عن كون كونها في هذه الدار غير مأذون فيه.

وفي المعاملة كالنهي عن ذبح مال الغير ، وعن بيع العنب ليعمل خمرا ، وعن بيع الخشب ليعمل صنما ، وعن بيع السيف مثلا ليقتل به مسلما وما أشبه ذلك ، فإنّ كون الحيوان مال الغير إذا زال حال الذبح لم يتبدّل به شخص الذبح ، وقصد عمل الخمر أو الصنم أو قتل المسلم إذا زال حال بيع العنب أو الخشب أو السيف لم يتبدّل به شخصه.

أمّا المنهيّ عنه لشيء مفارق متّحد معه في الوجود : ففي العبادة كالنهي عن الغصب الّذي قد يجامع الصلاة ويتّحد معها في الوجود على التحقيق المتقدّم في البحث السابق.

وفي المعاملة كالنهي عن المكالمة مع الأجنبيّة الّتي قد تجامع البيع بالصيغة معها وتتّحد معه في الوجود ، والبيع وقت النداء إن رجع النهي إلى تفويت الجمعة وهو قد يجامع البيع ويتّحد معه في الوجود.

وأمّا المنهيّ عنه لشيء مفارق غير متّحد في الوجود : ففي العبادة كالنهي عن النظر إلى الأجنبيّة الّذي قد يوجد حال الصلاة ، وفي المعاملة كالنهي عنه أيضا على فرض تحقّقه في البيع.

ثمّ إنّه لا إشكال في كون المنهيّ عنه لنفسه أو لجزئه أو لشرطه أو لوصفه الداخل أو الخارج من الأقسام السبع المذكورة داخلا في عنوان المسألة ومحلاّ للنزاع فيها.

وأمّا ما نهى عنه لمفارق متّحد أو غير متّحد فقد يقال : بأنّ الأوّل منهما خارج عن هذه المسألة وداخل في المسألة السابقة ، كما أنّ الثاني منهما خارج عن المسألتين.

٦٥٨

ويشكل : بأنّه لو كان مفروض هذين القسمين ما لو تعلّق النهي بالأمر الخارج مقيّدا بالعبادة أو المعاملة كأن يقول : « لا تغصب في الصلاة » أو « لا تنظر إلى الأجنبيّة فيها » أمكن كونهما من أفراد المسألة ويجري فيهما النزاع ويكون مفاد النهي على القول باقتضائه الفساد مانعيّة الشيء المفارق ، نظير ما لو قال : « لا تكفّر في الصلاة ، أو لا تضحك فيها ، أو لا تبك للدنيا فيها » وما أشبه ذلك ممّا يستفاد منه قاطعيّة قواطع الصلاة.

وخامسها : أنّ المراد من النهي في عنوان المسألة ما يعمّ النهي بالصيغة والنهي بالمادّة كنفس هذا اللفظ مثل ما لو ورد في الروايات من قوله : نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صلاة الحائض (١) أو عن الصلاة بلا سورة ، أو عن الصلاة بلا طهارة (٢) أو عن صلاة الظهر جهرا (٣) أو عن الصلاة في المكان المغصوب ، أو عن بيع المغصوب (٤) أو عن البيع وقت النداء (٥) أو عن الذبح بغير حديد (٦) ونحو ذلك ، وما هو بمعناه كلفظ « التحريم » مثل ما لو ورد من قوله : « حرّمت العزيمة في الصلاة » (٧) ونحوه قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا )(٨) بناء على كون الربا عبارة عن البيع المشتمل على الزيادة في المتجانسين من المكيل والموزون.

ثمّ المراد منه على كلّ تقدير ما يعمّ النفسي والغيري والتوصّلي بدليل ما ذكروه في بحث الضدّ من ظهور ثمرة القولين بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ في فساد الضدّ إذا كان عبادة وعدمه ، فإنّ النهي المستفاد من الأمر بالمضيّق غيريّ لكونه لمفسدة في ترك المضيّق [ و ] توصّلي لكونه للتوصّل إلى فعل المضيّق.

وقضيّة إطلاق كلامهم في ذكر هذه الثمرة بملاحظة الأقوال في دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ كونه أعمّ من الأصلي والتبعي ، لأنّ من أقوال هذه المسألة قول من يقول بالدلالة من باب الاستلزام المعنوي باعتبار قاعدة المقدّمة ، والنهي اللازم من وجوب المقدّمة ـ على التحقيق المتقدّم في بحث المقدّمة من كون الوجوب تبعيّا ـ تبعي.

وهل المراد من النهي خصوص التحريمي أو ما يعمّه والتنزيهي؟ وجهان : من

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥٨٥ ، ح ١ و ٢.

(٢) كنز العمّال ، ح ٢٦٠٠٦ ، الوسائل ١ : ٢٧٩ وعوالي اللآلي ٢ : ١٦٧.

(٣) من لا يحضر ١ : ٣٠٨ والمستدرك ٤ : ١٩٩ ، باب حدّ الإخفات.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٢٤ ، الباب ٢ من أبواب مكان المصلّي.

(٥) الوسائل ٥ : ٨٦ والمصنّف ( عبد الرزّاق ) ٣ : ١٧٨.

(٦) دعائم الإسلام ٢ : ١٧٦ ، المستدرك ١٦ : ١٣١ والبحار ٦٥ : ٣٢٩.

(٧) الوسائل ٤ : ٧٧٩.

(٨) البقرة : ٢٧٥.

٦٥٩

ثالثها : يدلّ في العبادات ، لا في المعاملات (١). وهو مختار جماعة ، منهم المحقّق والعلاّمة.

_______________________________

اختصاص التمثيلات بما هو من قبيل الأوّل ، وممّا ذكروه في مسألة اجتماع الأمر والنهي من نقض المجوّزين لاجتماعهما منع المانعين بالعبادة المكروهة المبنيّ على حمل النواهي المتعلّقة بها على الكراهة المصطلحة بزعم جواز اجتماعها مع الوجوب أو الاستحباب.

ودفع المحقّقين من المانعين النقض بالتأويل في تلك النواهي إمّا بإرجاعها إلى أمر خارج من العبادة ، أو بصرفها عن الكراهة المصطلحة إلى الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب جمعا بينها وبين ما دلّ من النصّ أو الإجماع على صحّة تلك العبادات ، بزعم أنّه لولاه لزمها فساد تلك العبادات لاستحالة اجتماع الكراهة المصطلحة مع الوجوب أو الندب لمكان المضادّة فيما بينهما.

وقضيّة النقض المذكور مع دفعه على الوجه المذكور كون دلالة النهي التنزيهي على الفساد أيضا مختلفا فيه ، فتأمّل لبقاء الإشكال في إدراج ذلك بمقتضى هذه الكلمات.

ونحوه إدراج النهي التبعي بمقتضى الكلمات المتقدّمة [ في ] محلّ البحث [ فإنّه ] ممّا لا يساعد عليه أقوال المسألة ، لأنّها على ما يأتي تفصيلها دائرة نفيا وإثباتا فيما بين الدلالة لغة والدلالة شرعا ، والنهي التنزيهي كالنهي التبعي على تقدير اقتضائه الفساد فإنّما يقتضيه بحكم العقل من جهة أنّه لولاه لزم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد شخصيّ وهو محال.

ومن الأفاضل من قال بالصحّة مع النهي بالتزام الترتّب وجعل الأمر بالموسّع مشروطا بالعصيان بترك المضيّق.

ونحن قد أشبعنا الكلام في إبطال تلك الدعوى في غير موضع وذكرنا ملخّص ما يرد عليه في مقدّمات البحث السابق.

(١) * عزاه الفاضل التوني إلى المحصول وكثير من المتأخّرين منّا مضافا إلى المحقّق والعلاّمة اللذين نقله عنهما المصنّف ، وبعض الأعلام إلى أكثر أصحابنا وبعض العامّة واختاره أيضا.

وأمّا أوّل الأقوال : وهو الدلالة فيهما مطلقا فعن الرازي أنّه حكاه عن بعض أصحابه

٦٦٠