تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

ولا ينافيه ما تقدّم في شرح « المبيّن العدم » من تبيّن عدم دخول الفرد النادر في المراد ، لكفاية انصراف الماهيّة إلى حيث التحقّق في ضمن الأفراد الشائعة في عدم دخوله في المراد ، ولا يستلزم ذلك دلالته على نفي الحكم عنه ولأجل ذلك يكون مسكوتاً عنه.

ثمّ إنّه لا فرق في انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة بين المطلق بمعنى « الماهيّة » والمطلق بمعنى « الحصّة الشائعة » وذلك لأنّ المايز بينهما على ما تقدّم في مقام التعريف أنّ المأخوذ في وضع الأوّل هي الماهيّة من حيث هي ، وفي وضع الثاني هي الماهيّة من حيث الوحدة الغير المعيّنة ، وكما أنّ الماهيّة من حيث هي المنفهمة من الأوّل تنصرف إلى حيث التحقّق في ضمن الأفراد الشائعة فكذلك الماهيّة المأخوذة من حيث الوحدة الغير المعيّنة المنفهمة من الثاني تنصرف إلى حيث التحقّق في ضمنها.

وهل قاعدة الانصراف مخصوصة بالمطلقات أو تجري في العمومات على معنى انصراف الألفاظ الدالّة على العموم بالوضع أيضاً إلى الأفراد الشائعة؟

وقد اختلفت الأنظار في ذلك وإن كان المعروف بين الاُصوليّين هو الاختصاص ، وقيل بجريانها في العمومات أيضاً حكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد عن بعضهم ، ويظهر اختياره من السيّد في الرياض حيث يناقش في بعض المواضع في عموم : ( أوفوا بالعقود ) (١) بدعوى انصرافه إلى العقود المعهودة المتعارفة في زمان الصدور ، وقد يفصّل بين النادر والأندر.

ويظهر اختياره من بعض الأعلام حيث ذكر : « أنّ العمومات تحمل على الأفراد الشائعة والنادرة إن لم تكن في غاية الندرة ».

وتحقيق المقام : أنّ العامّ لفظ وضع لاستغراق الحكم لجزئيّات موضوعه وهو بهذا الاعتبار ممّا لا يتمشّى فيه الانصراف ، سواء كان هيئة مخصوصة كهيئة الجمع المحلّى باللام في قولنا : « أكرم الرجال » مثلا ، أو لفظاً تامّاً كلفظ « كلّ » مضافاً إلى نكرة في قولنا : « أكرم كلّ رجل » مثلا ، لأنّ الانصراف فرع على التشكيك وموجب التشكيك غلبة إطلاق اللفظ على فرد وندرته على غيره ، ولفظ العامّ لا يطلق على الفرد أصلا حتّى يغلب ذلك الإطلاق بالنسبة إلى فرد دون فرد ويتحقّق به التشكيك فيه من حيث إنّه عامّ ، بل يستعمل دائماً في استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه ، فالعامّ من حيث هو عامّ وضعاً واستعمالا ممّا لا يتصوّر فيه الانصراف حيث لا يتصوّر فيه التشكيك ، وأيضاً فإنّ التشكيك من

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) القوانين ١: ٢٢٤.

٨٢١

الأحوال العارضة للكلّي والعامّ ليس بكلّي فلا معنى للانصراف فيما ليس بكلّي.

نعم إنّما الكلام في تشخيص موضوع الحكم وهو المعنى المراد من « رجل » في مادّة « الرجال » وما اُضيف إليه « الكلّ » في المثالين ونظائرهما ، أهو الماهيّة من حيث هي هي أو الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن أفرادها الشائعة وهي ذوات رأس واحد من ماهيّة ذات ثبت له الرجوليّة؟ ومن الظاهر أنّه من المطلق المشكّك ، وكما أنّ كون الهيئة أو المضاف عامّاً لا ينافي كون المادّة والمضاف إليه مطلقاً مشكّكاً ، فكذلك عدم جريان الانصراف في العامّ ، من هذين الجزئين لا ينافي جريانه في المطلق منهما ، والظاهر أنّ المنكرين لجريانه في العمومات لا ينكرون ذلك لأنّه من انصراف المطلق لا العامّ ، فلو قلنا بالانصراف في « رجل » على معنى انصراف الماهيّة المنفهمة من اللفظ إلى حيث تحقّقها في ضمن أفراد ذي رأس واحد لغلبة إطلاق اللفظ عليها تبعاً لغلبة وجودها لم يناف ما قرّرناه أوّلا من عدم معقوليّة الانصراف في العمومات من حيث إنّها ألفاظ وضعت للدلالة على استغراق الحكم لجميع جزئيّات موضوعه ، إذ لا يتفاوت الحال في ذلك بين كون موضوع الحكم هو الماهيّة المأخوذة من حيث هي أو الماهيّة المتحقّقة في ضمن الأفراد الشائعة

ومن هنا ربّما يمكن جعل النزاع بين الفريقين لفظيّاً ، بأن يكون نظر المنكر إلى الجزء الأوّل من نحو المثالين المذكورين وإنكار هذا لا ينافي إذعانه بالانصراف في الجزء الثاني ، ونظر المجوّز إلى الجزء الثاني بزعم أنّه مع الجزء الأوّل كلمة أو كالكلمة الواحدة ، فليتدبّر.

وإذ قد عرفت أنّ قاعدة الانصراف من خصائص المطلقات فاعلم أنّ ها هنا أمرين ينبغي التنبيه عليهما.

الأمر الأوّل : إذا ورد دليل على مشاركة بعض الأفراد النادرة للأفراد الشائعة في الحكم فهل يجوز التعدّي والتخطّي عنه إلى البعض الآخر أو لا؟ خلاف بين السيّد والأكثر على ما نسب ، فالسيّد على الجواز ولذا جوّز تطهير المتنجّسات بالمضاف مع اختصاص دليل المشاركة بغسلها بماء الكبريت والنفط ، خلافاً للأكثر فمنعوا من التعدّي إليه ، ولذا لم يجوّز إزالة الخبث بالمضاف مع تجويزهم لها بمائي الكبريت والنفط.

والخطب في دفع مقالة السيّد في خصوص هذه المسألة سهل ، فإنّا لا نجوّز الغسل بالمضاف لخروجه عن إطلاقات الغسل بقاعدة « حمل المطلق على المقيّد » لا بقاعدة « انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة » فإنّ خطابات إزالة الخبث قسمان :

٨٢٢

أحدهما : ما هو أمر بالغسل كقوله : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ».

والآخر : ما هو أمر بالغسل بالماء كما في النصوص الكثيرة.

والأوّل : مطلق والثاني مقيّد فيحمل المطلق على المقيّد ، فإذا دلّ دليل على جواز الغسل بمائي الكبريت والنفط فلا معنى بعد الحمل المذكور للتعدّي إلى الغسل بالمضاف لأنّه ليس ماء ، هذا مع تطرّق المنع إلى صدق الغسل على استعمال المضاف حقيقة.

والكلام إنّما هو في كلّية المسألة الاُصوليّة وهو جواز التعدّي في تسرية الحكم إلى غير مورد الدليل من الأفراد الغير الشائعة ، أو وجوب الاقتصار على مورد الدليل.

والّذي يساعد عليه النظر هو التفصيل ، بأنّ المشكّك إن كان من « المضرّ الإجمالي » لكونه مردّداً بين اعتبار الماهيّة فيه من حيث هي أو من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة فالدليل الوارد على المشاركة في بعض الأفراد النادرة يوجب انكشاف عدم اعتبارها من حيث التحقّق في ضمن الأفراد الشائعة ، فيتعيّن كونها معتبرة من حيث هي لانتفاء الواسطة بالنظر إلى الاحتمال من اللفظ ولزمه التعدّي إلى البعض الآخر من الأفراد النادرة لأنّه أيضاً من أفراد الماهيّة.

وإن كان من « المبيّن العدم » فالدليل الدالّ على مشاركة البعض إن دلّ على المشاركة لدلالته على دخوله الموضوعي على معنى كشفه عن كون موضوع الحكم هو الماهيّة من حيث هي وهو داخل فيها لزمه التعدّي إلى البعض الآخر لأنّه أيضاً داخل في الماهيّة ، وذلك كما لو دلّ دليل على جواز السجود على حجر المغناطيس لكونه من الماهيّة الأرضيّة فيتعدّى منه إلى « حجر الحديد » لأنّه أيضاً من تلك الماهيّة.

وإن دلّ عليها من باب الإلحاق الحكمي من دون دلالة على دخوله الموضوعي فلا قاضي بالتعدّي حينئذ عن مورده إلى غيره ، كما لو دلّ دليل على جواز السجود على القرطاس المتّخذ من القطن أو الكتان أو القنب مثلا لا لكونه من الماهيّة الأرضيّة بل لإلحاق حكميّ فلا معنى للتعدّي منه إلى المتّخذ من الحرير.

ولو لم يظهر من دليل المشاركة أحد الأمرين وتردّدت بين كونها لدخول موضوعي أو لإلحاق حكمي فهل يحكم بالأوّل أو بالثاني؟ احتمالان ، أجودهما الأوّل لرجوع الشكّ إلى انصراف الماهيّة المنفهمة من اللفظ إلى الأفراد الشائعة وعدمه والظاهر يقتضي عدم الانصراف ، فتأمّل.

٨٢٣

الأمر الثاني : قد يقال : إنّ الانصراف في المطلقات المنصرفة إلى الأفراد الشائعة من خواص التراكيب الكلاميّة لا من خواصّ المطلق بنفسه ، فهو في مركّب ينصرف وفي مركّب آخر لا ينصرف.

ومن أمثلته ما لو قال ( عليه السلام ) : « توضّأ بالماء » مع قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً ) (١) فإنّ « الماء » في الأوّل ينصرف إلى الأفراد الشائعة المتعارفة دونه في الثاني.

ومنها : ما لو قال : « لا تسجد على مأكول » مع قوله : « ايتني بمأكول » فإنّ الأوّل محمول على ما يعمّ المأكول الغير العادي بخلاف الثاني لانصرافه إلى العادي المتعارف.

ومنها : ما لو قال : « بع فرسي بالنقد » مع قوله : « تصدّق بالنقد » فإنّ الأوّل ينصرف إلى النقد الغالب في البلد وفي الثاني يجزيه غير النقد الغالب.

ومنها : ما لو قال : « اشتر لي عبداً » مع قوله في مقام الوصيّة : « أعتقوا عنّي عبداً » فإنّ الأوّل ينصرف إلى الشائع المتعارف من أفراد العبد بخلاف الثاني لإجزاء عتق غير الشائع أيضاً ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

وفيه من الضعف المبنيّ على الخلط ما لا يخفى ، فإنّ الانصراف في المطلقات المشكّكة إنّما ثبت على سبيل القاعدة كما أشرنا إليه سابقاً ، ولا ريب أنّ القاعدة كثيراً مّا يخرج عنها لدليل أو قرينة على خلاف مقتضاها في بعض مواردها ، فما يتراءى في الأمثلة المذكورة ونظائرها من جريان الحكم في الأفراد الغير الشائعة أيضاً فإنّما لدليل أو قرينة على إناطة الحكم بالماهيّة من حيث هي السارية في جميع الأفراد شائعة وغيرها ، كالامتنان وورود النكرة في سياق النفي المفيدين للعموم ، والقرينة العرفيّة على كون المطلوب في الصدقات أو الوصايا هو إدراك الثواب المنوط بماهيّة الصدقة أو العتق مثلا ، فيحصل الإجزاء بالفرد النادر أيضاً فإنّ الثواب المعلّق على ماهيّة الصدقة لا يتفاوت فيه الحال بين الصدقة بالنقد الغالب وبين غيره ، وكذلك الثواب المعلّق على ماهيّة العتق لا يتفاوت فيه الحال بين عتق الفرد الشائع من العبد وبين عتق الفرد الغير الشائع منه.

المرحلة الرابعة

قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ موضوع قاعدة الانصراف هو المطلق المشكّك وأنّ الموجب للتشكيك هو غلبة الإطلاق وندرته.

__________________

(١) الفرقان:٤٨.د

٨٢٤

وبقي الكلام في وجه الانصراف والعلّة الباعثة عليه ، ولقد ذكروا في ذلك وجوهاً كثيرة مع قيام بعض الاحتمالات الاُخر غيرها :

الأوّل منها : كون مبناه على النقل من الماهيّة إلى الفرد الشائع فيحمل عليه لأصالة الحقيقة ، نظير نقل « الدابّة » عن ماهيّة ما يدبّ على الأرض إلى صنف ذوات قوائم أربع أو خصوص الفرس.

الثاني : أنّ مبناه على الاشتراك بين الماهيّة والفرد مع غلبة استعماله في الفرد الموجبة لتعيينه في الإرادة على حدّ المشترك الّذي يغلب استعماله في أحد معنييه.

الثالث : انّ مبناه صيرورته مجازاً مشهوراً في الفرد فيحمل عليه لقرينة الشهرة.

الرابع : كون مبناه على وجود القرينة المفهمة وهي شيوع الفرد وغلبة إطلاق اللفظ عليه ، الموجبة لظهور الماهيّة المنفهمة من اللفظ في اعتبارها من حيث التحقّق في ضمن هذا الفرد.

الخامس : كون مبناه على الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا دخل من أفراد الماهيّة في المراد ، لتيقّن دخوله على كلا تقديري إرادة الماهيّة من حيث هي وإرادتها من حيث التحقّق ، بخلاف الفرد النادر وهذا ما رجّحه بعض الأعلام.

السادس : أنّه في المشكّك « المضرّ الإجمالي » من باب الأخذ بالقدر المتيقّن وفي « المبيّن العدم » لأجل القرينة المفهمة.

والجميع ضعيفة أمّا أوّل الوجوه : لأنّ احتمال النقل ينفيه أصالة عدم النقل المنحلّة إلى أصالة عدم طروّ الوضع الجديد وأصالة عدم ارتفاع أثر الوضع السابق ، ويأباه ضرورة العرف القاضية بحقيقيّة استعمال اللفظ حيث يراد منه الحقيقة الاُولى وهي الماهيّة المشتركة بين الأفراد الشائعة والأفراد الغير الشائعة ، ويكذّبه كثرة المطلقات المشكّكة المنصرفة إلى الأفراد الشائعة بل في غاية الكثرة وقلّة المنقولات العرفيّة ولا سيّما ما نقل من الماهيّة الكلّية إلى الفرد ، مضافاً إلى أنّ وضع التعيّن مسبوق بغلبة الاستعمالات المجازيّة إلى حدّ يستغني عن القرينة والمعتبر في موجب التشكيك المقتضي للانصراف على ما تقدّم تفصيله هو غلبة الإطلاق الغير المتضمّنة للتجوّز في اللفظ وبينهما بون بعيد ، ومن المستحيل تحقّق المعلول وهو النقل التعيّني بدون علّته.

وتوهّم أنّ وضع التعيّن يمكن أن ينشأ من غلبة الإطلاق كما ينشأ من غلبة الاستعمال

٨٢٥

يدفعه أنّ دخول الخصوصيّة في المعنى المنقول إليه وهو الفرد يقتضي أخذ تلك الخصوصيّة في الاستعمالات الغالبة الموجبة لوضع التعيّن ، وقضيّة كون هذه الاستعمالات الغالبة على وجه إطلاق الكلّي على الفرد تعريتها عن الخصوصيّة وهما متنافيان يستحيل اجتماعهما ، فيستحيل حصول وضع التعيّن من غلبة الإطلاق.

وبما قرّرناه اندفع ما سبق إلى بعض الأوهام القاصرة من التدافع بين اتّفاقهم على حمل المطلقات على الأفراد الشائعة بناءً منهم على قاعدة الانصراف ، واختلافهم في مسألة تعارض العرف واللغة بين قائل بتقديم اللغة لأصالة عدم النقل وقائل بتقديم العرف لقضاء الاستقراء بذلك وقائل بالتوقّف ، فإنّ اختلافهم هذا يقتضي اختلافهم في قاعدة الانصراف أيضاً لا اتّفاقهم عليها

ووجه الاندفاع : أنّ مقابلة العرف للغة ومغائرة المعنى العرفي للمعنى اللغوي في مسألة تعارض العرف واللغة إنّما هو من جهة النقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى العرفيّ مع الشكّ في بدو زمان حدوثه أهو قبل زمان الشارع ليكون حقيقة زمانه هو المعنى العرفي ، أو بعد زمان الشارع ليكون حقيقة زمانه هو المعنى اللغوي؟

وقد عرفت أنّه لا نقل في المطلقات المنصرفة إلى الأفراد الشائعة فلا تندرج في عنوان مسألة تعارض العرف واللغة ليتناقض اتّفاقهم على الحمل على الأفراد الشائعة هنا واختلافهم في الحمل على المعنى العرفي ثمّة ، مع أنّه لو سلّمنا النقل فيها وجوّزنا حدوثه من غلبة الإطلاق أيضاً لدفعنا شبهة التدافع عنها بإبداء خروجها عن موضوع المسألة المتنازع فيها من جهة اُخرى أشرنا إليها وهي أنّ موضوع هذه المسألة إنّما هي المنقولات المشكوك في بدو زمان حدوث النقل فيها شكّاً يوجب جهالة حقيقة زمان الشارع.

فموضوع مسألة تعارض العرف واللغة وإن كان من المنقولات ولكن كلّ منقول ليس من موضوع مسألة التعارض ، ومنه المطلقات المنصرفة إلى الأفراد الشائعة على تقدير كون مبنى الانصراف فيها على النقل ، لوجوب كون هذا النقل متحقّقاً في زمان الشارع بملاحظة ما سنبيّنه من اشتراط الانصراف والحمل على الأفراد الشائعة في خطاب بتحقّق التشكيك ـ من جهة غلبة الإطلاق الموجبة له ـ في زمان الشارع.

وقضيّة ذلك بمقتضى فرض تحقّق النقل في زمانه معلوميّة حقيقة زمانه وهو المعنى العرفي الّذي هو الفرد الشائع ، فلا معنى للنزاع في تقديمه على اللغة وتعيّن الحمل عليه

٨٢٦

كما هو الحال في كلّ منقول علم تقدّم حدوث النقل فيه على زمان الشارع أو تحقّقه في زمانه ، فليتدبّر.

وبما بيّنّاه ظهر فساد ما قد يضعّف احتمال النقل بأنّه لو صحّ لوجب جريان نزاعهم في مسألة تعارض العرف واللغة في المطلقات المشكّكة أيضاً ، والتالي باطل لمكان اتّفاقهم فيها على الحمل على الأفراد الشائعة وهذا ينفي النقل فيها.

وأمّا ثاني الوجوه فأوّلا : لأصالة عدم طروّ الوضع الجديد.

وثانياً : قلّة المشترك وكثرة المطلقات المشكّكة غاية الكثرة.

وثالثاً : يأباه مسبوقيّة وضع التعيّن بغلبة الاستعمالات المجازيّة مع ملاحظة أنّ المعتبر في التشكيك غلبة الإطلاق الغير المتضمّن للتجوّز ، مع أنّ في كون غلبة استعمال المشترك في أحد معنييه قرينة للتعيين كلاماً ولعلّ الأظهر المنع.

وأمّا ثالث الوجوه :

فأوّلا : لقلّة المجاز المشهور حتّى أنّه لم نجد له إلى الآن مثالا محقّقاً ، وكثرة المطلقات المشكّكة في غاية الكثرة.

وثانياً : فلما عرفت من أنّ المعتبر في التشكيك غلبة الإطلاق الغير المتضمّنة للتجوّز فلا تجتمع [ مع ] المجاز المشهور الّذي يعتبر فيه غلبة الاستعمالات المجازيّة.

وثالثاً : فلأنّه يأباه الاختلاف في تقديم المجاز المشهور مع ذهاب الأكثر إلى الوقف فيه ، واتّفاق الكلّ على حمل المطلقات المشكّكة على الأفراد الشائعة عملا بقاعدة الانصراف.

وأمّا رابع الوجوه (١) : فلأنّه لا يتمّ إلاّ في « المضرّ الإجمالي » من جهة الإجمال ، دون « المبيّن العدم » الّذي مدرك الحمل فيه على الأفراد الشائعة هو ظهور الماهيّة في حيث التحقّق [ في ضمن الأفراد الشائعة ].

وأمّا خامس الوجوه : فلأنّ القرينة المفهمة في المشتركات المعنويّة كالقرينة الصارفة في المجازات من حيث كون التصريح بخلافها مناقضاً لها ، فكما أنّه لو قال المتكلّم : « رأيت أسداً يرمي » ثمّ قال في خطاب آخر : « أنّ الّذي رأيته المفترس » كان مناقضاً لمقتضى

__________________

(١) والظاهر وقوع سهو هنا من قلمه الشريف لأن ما ذكره هنا في الجواب عن رابع الوجود يناسب الوجه الخامس من الوجوه الستة السابقة وكذا ما اورده في دفع خامس الوجوه يلائم مع الوجه الرابع من تلك الوجوه فراجع وتأمل والله الهادي.

٨٢٧

« يرمي » فكذلك لو قال بعد قوله : « أكرم رجلا هذا » مشيراً إلى « زيد » : « أردت عمراً » كان مناقضاً له ، وكذلك لو قال بعد قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » : « أردت الكافرة أو الماهيّة المطلقة » بخلاف التصريح بدخول الأفراد النادرة أو يكون المراد الماهيّة من حيث هي لم يكن مناقضاً لغلبة الإطلاق في الأفراد الشائعة.

وبالجملة لو دلّ دليل أو قرينة على دخول الأفراد النادرة في المراد أيضاً لم يكن معارضاً للخطاب الأوّل.

وأمّا سادس الوجوه : فلما بيّنّاه في وجه ضعف خامس الوجوه (١) بالنسبة إلى ما ذكر في وجه انصراف « المبيّن العدم » من كونه لأجل القرينة المفهمة ، وهي القرينة المفهمة (٢).

فليس شيء من الوجوه المذكورة بشيء ، بل الوجه في الانصراف على ما يساعد عليه النظر الدقيق هو قصور العبارة عمّا عدا الأفراد الشائعة ، إمّا لصيرورتها مجملة بسبب غلبة الإطلاق ، أو لصيرورة الماهيّة المنفهمة من اللفظ ظاهرة بسبب غلبة الإطلاق في حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة ومن هنا صارت الأفراد النادرة مسكوتاً عنها.

وإن شئت قلت : إنّ معنى الانصراف في المطلقات المشكّكة قصور العبارة عمّا عدا الأفراد الشائعة وسببه غلبة إطلاق اللفظ ، من غير فرق بين كون التشكيك من « المضرّ الإجمالي » أو من « المبيّن العدم » فليقتصر في إجراء حكمه عليها ويتوقّف في غيرها حتّى يعلم تسرية الحكم إليه بدليل من الخارج أو بقرينة مقام ونحوه.

المرحلة الخامسة

في معمّمات حكم المطلق المشكّك المقتضية لجريانه في جميع أفراد الماهيّة شائعة ونادرة ، وضابطها : كلّ دليل أو قرينة عامّة أو خاصّة تدلّ على إناطة الحكم بالماهيّة أو تسريته إلى جميع أفرادها الشائعة وغيرها ، وهي على ما ذكروه اُمور كثيرة ذكر جملة منها الفريد البهبهاني في فوائده ، وجملة اُخرى السيّد في المفاتيح بعد ما نقل الجملة الاُولى عن جدّه ، وبعضاً منها غيرهما وإن كان بعضها منظوراً.

فمنها : ورود المطلق في مقام الامتنان المقتضي للعموم كقوله ( وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً ) (٣) فإنّ « الماء » مع كونه نكرة تحمل على العموم لقرينة الورود للامتنان ، فكأنّه

__________________

(١) والصواب رابع الوجوه.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) الفرقان :٤٨.

٨٢٨

قال : « كلّ ماء منزل من السماء طهور » فيشمل الأفراد الشائعة وغيرها.

وفيه نظر ، إذ العموم المستفاد من مقام الامتنان ليس عموماً وضعيّاً ، بل عموم مستفاد من قرينة المقام وهو ليس كالعموم الوضعي لئلاّ يتفاوت فيه الأفراد.

والسرّ فيه : أنّه عموم يلتزم به لرفع احتمال الإبهام في لفظ « الماء » وهو أن يراد منه فرداً معيّناً عند الله تعالى مبهماً عند المخاطبين على حدّ قوله : « جاءني رجل » ويكفي فيه تعميم الحكم بالقياس إلى جميع الأفراد الشائعة ، فلو كان للماء المنزّل من السماء فرد نادر ولم يدخل في الحكم لم يكن منافياً للامتنان ولا لعموم المستفاد من جهته رفع احتمال الإبهام.

منها : ترك الاستفصال في مقام جواب السؤال مع قيام الاحتمال ، فإنّه أيضاً ممّا يفيد عموم الحكم لجميع الأفراد كما حقّق في محلّه فيجري في الأفراد النادرة أيضاً.

وفيه نظر ، فإنّ ترك الاستفصال وإن كان مفيداً للعموم لكن في موضوعه لا مطلقاً ، فإنّهم أخرجوا منه صوراً ككون مورد السؤال فرداً معيّناً علم به الإمام المسؤول فإنّ إطلاق الجواب حينئذ ينزّل على ذلك الفرد ولا مقتضي فيه للعموم حينئذ ، وأن يكون له فرد شائع وفرض غالب ، وهذا أيضاً ممّا ينزّل إطلاق الجواب فيه على الأفراد الشائعة والفروض الغالبة ولا تأثير لترك الاستفصال في اقتضاء العموم حينئذ أيضاً ، وإنّما يقتضي العموم فيما لو كانت أفراد الماهيّة متواطئة غير متفاوتة في الشيوع والندرة.

والسرّ فيه : أنّ ترك الاستفصال إنّما يفيد العموم لئلاّ يلزم الإضلال أو الإغراء بالجهل ممّن شأنه ووظيفته الهداية والإرشاد ، من حيث إنّه لو كانت الأفراد مختلفة في الحكم ولم يستفصل الإمام المسؤول في جوابه فربّما يجري السائل الحكم في غير موضوعه لجهله فيلزم الإضلال وهو لا يناسب مقام الهداية والإرشاد ، فوجب الحكم بأنّه ( عليه السلام ) إنّما ترك الاستفصال لعدم اختلاف الأفراد في الحكم وإلاّ كان عليه أن يستفصل حذراً عن الإضلال أو الإغراء بالجهل وهذا لا يتمّ إلاّ في المطلق المتواطئ إذ من الجائز اختلاف أفراد المشكّك في الحكم وترك مع ذلك الاستفصال اعتماداً على أنّ السائل لا يجري حكمه في الأفراد النادرة من جهة الانصراف إلى الشائعة وقصور العبارة عن غيرها ، فلا يلزم إغراء ولا إضلال لو كان الحكم مخصوصاً بالأفراد الشائعة.

ومنها : استثناء بعض الأفراد النادرة ، كأن يقول : « الغسل مزيل للنجاسة إلاّ إذا كان بماء الورد » فإنّه ـ بملاحظة كون الاستثناء إخراجاً لما لولاه لدخل ـ ظاهراً في كون الحكم

٨٢٩

جارياً في جميع أفراد الماهيّة شائعة ونادرة ما عدا المخرج وإلاّ لم يكن الاستثناء إخراجاً ، ودعوى جواز كونه منقطعاً ، يدفعها : أنّ الانقطاع في الاستثناء خلاف الأصل فلا يصار إليه إلاّ لقرينة ولا قرينة هنا.

ومنها : تقييد المطلق المعلّق عليه الحكم بقيد يقتضي إخراج بعض الأفراد النادرة ، كأن يقول : « الغسل بغير ماء الورد مطهّر » فإنّه ظاهر في شمول الحكم لغير المخرج بالقيد المفروض كونه احترازيّاً ، فإنّ الاحتراز فرع على دخول المحرز عنه في موضوع الحكم ولا يكون إلاّ إذا اعتبر كونه الماهيّة من حيث هي.

ومنها : تحديد المطلق أو تعريفه مطلقاً ولو بالرسم قبل الحكم عليه ، كأن يقول : « الغسل وهو إزالة الخبث بالمائع مطهّر » أو « البيع بالنقد وهو الذهب أو الفضّة حلال » وهو أيضاً يفيد شمول الحكم لأفراد الماهيّة كلّها ولو نادرة ، لأنّ التعريف للماهيّة بالماهيّة ، وفائدته إحضار الماهيّة في ذهن السامع تنبيهاً لكون الحكم منوطاً بها.

ومنها : أن يوصف المطلق بخاصّة مركّبة هي صفة للماهيّة ، كأن يقول : « الحيض الّذي هو دم حارّ أسود أو أحمر يخرج بقوّة ودفق ناقض للطهارة » فإنّه كوصف النكرة بصفة الجنس على حدّ ما في قوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) (١) يفيد عموم الحكم لكلّ ما يوجد فيه الوصف حتّى الأفراد النادرة ، ومثله ما علّق فيه الحكم على خاصّة مركّبة هي صفة للماهيّة كأن يقول : « المرأة إذا كانت مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي مالها بما شاءت فنكاحها بغير وليّ جائز ».

ومنها : تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلّية ، كأن يقول : « المؤمن أو العالم يستحقّ الإكرام » فإنّه يشعر بكون علّة الاستحقاق هو الإيمان أو العلم فيفيد عمومه لكلّ من يوجد فيه العلّة ولو كان فرداً نادراً.

ومنها : تعليل حكم المطلق بعلّة مطّردة كأن يقول : « حرّمت الخمر لكونه مسكراً » فيعمّ الحرمة للأفراد النادرة أيضاً باعتبار اطّراد العلّة في الجميع.

ومنها : ما دلّ دليل خارج من إجماع ونحوه على ثبوت حكم المطلق لبعض الأفراد النادرة ، كأن يقوم الإجماع على إجزاء الغسل بماء النفط أو الكبريت ، فإنّه يوجب شمول الحكم لسائر الأفراد النادرة أيضاً ، وقد سبق منّا ما هو تحقيق الحال في ذلك.

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

٨٣٠

المرحلة السادسة

في أنّه إذا دار مطلق بين كونه متواطئاً أو مشكّكاً للشكّ في التواطؤ والتشكيك فالأصل فيه التواطؤ ، لأنّ وضع المطلقات كلّها على التواطؤ والتشكيك طار عليه ناش عن غلبة إطلاق اللفظ على بعض الأفراد ، والأصل في مقام الشكّ عدم طروّه ، ومرجعه إلى أصالة عدم حدوث غلبة إطلاق بالنسبة إليه في الاستعمالات ، مضافاً إلى أصالة عدم انصراف الماهيّة المنفهمة من اللفظ في متفاهم العرف إلى حيث التحقّق في ضمن بعض الأفراد.

ولو دار مطلق مشكّك بين « المضرّ الإجمالي » أو « المبيّن العدم » فالأصل فيه « المضرّ الإجمالي » لأنّ « المبيّن العدم » مرتبة لتشكيك متأخّرة عن مرتبة « المضرّ الإجمالي » متوقّفة على مؤنة زائدة وهي كون غلبة الإطلاق على الفرد فيه أكثر منها في « المبيّن العدم » والأصل عدم تلك الزيادة.

ثمّ إنّ العبرة في التواطؤ والتشكيك بما هو كذلك في زمان الصدور لا في غيره من الأزمنة المتأخّرة عنه ، فلو أنّ مطلقاً كان متواطئاً في زمن الصدور يجري حكمه في جميع أفراد الماهيّة وإن صار مشكّكاً فيما بعد ، ولو كان مشكّكاً في زمن الصدور لا يجري حكمه إلاّ في الأفراد الشائعة ثمّة وإن انقلب متواطئاً فيما بعده ، وحينئذ فلو وجد مشكّك لم يعلم كونه في زمان الصدور متواطئاً أو مشكّكاً ومرجعه إلى الشكّ في بدو زمان حدوث التشكيك هل هو في زمان الشارع أو فيما بعده؟ ولا ريب أنّ أصالة التأخّر يقتضي تأخّره عن زمان [ الشارع ] فيجري عليه من جهتها أحكام المتواطئ فليتدبّر.

والشرط الثاني : أن لا يكون وارداً في مقام بيان حكم آخر ، ومعنى وروده كذلك أن يكون الخطاب المشتمل عليه مسوقاً لبيان حكم آخر غير الحكم المبحوث عنه ، ولازمه أن يكون ساكتاً عن ذلك الحكم نفياً وإثباتاً ، وعلامته أنّه لو نفى ذلك الحكم في خطاب آخر لم يكن مناقضاً للأوّل.

وبالتأمّل في ذلك [ يظهر ] وجه اشتراط ذلك الشرط. فإنّ الخطاب الأوّل إذا كان ساكتاً عن الحكم المبحوث عنه فلا إطلاق له بالنسبة إليه حتّى يتمسّك به ، فنفي الحجّيّة عنه حينئذ من قبيل السلب بانتفاء الموضوع ، ومثّل له في المشهور بقوله تعالى : ( كلوا ممّا أمسكن عليكم ) (١) فإنّ الآية مسوقة لبيان الحليّة الذاتيّة لما صاده الكلب المعلّم من دون

__________________

(١) المائدة: ٤.

٨٣١

وقوع ذبح شرعيّ عليه لا لبيان طهارة موضع عضّ الكلب من حيث ملاقاته النجس وعدم افتقاره إلى التطهير ، فلا ينافيها حرمة أكله من حيث النجاسة العرضيّة إلى أن يغسل ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق « كلوا » إلى آخره لاستباحة موضع عضّ الكلب من دون تطهير كما صنعه الشيخ على ما نسب إليه ومن أمثلته قوله عزّ من قائل : ( وأحلّ لكم الطيّبات ) (١) فإنّه مسوق لبيان حليّة الطيّب من حيث كونه طيّباً فلا ينافيه الحرمة من حيث طروّ المغصوبيّة أو كونه مال اليتيم ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقه لاستباحة الطيّبات المغصوبة أو مال اليتيم منها.

ونحوه ما لو قال : « لحم الغنم مباح » بالقياس إلى ما طرأه من المغصوبيّة أو الميتيّة ، ومن أمثلته أيضاً قول الطبيب للمريض : « لابدّ لك من شرب الدواء » فإنّه مسوق لمجرّد تشريع شرب الدواء للمريض على وجه الإجمال والإهمال من دون قصد إلى بيان تفصيل ما يشرب ووقت شربه وكيفه وكمّه ، فليس فيه إطلاق يتمسّك به لتجويز شرب كلّ دواء في كلّ وقت وبكلّ كيفيّة أو كلّ مقدار ، بل هذه التفصيلات كلّها أحكام لابدّ من استعلامها من خطابات اُخر غير هذا الخطاب المجمل.

ومن هنا ظهر الحال في مثل قوله تعالى : ( أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) (٢) و ( من شهد منكم الشهر فليصمه ) (٣) و ( لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ) (٤) وما أشبه ذلك ، فإنّها خطابات وردت لتشريع هذه العبادات على وجه الإجمال والإهمال من غير قصد تفاصيل ما يعتبر فيها وما لا يعتبر من الأجزاء والأركان والشرائط والآداب ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقاتها للاجتزاء بكلّ ما يصدق عليه أسامي هذه العبادات في عرف المتشرّعة على القول بالأعمّ من الزائد والناقص من حيث الأجزاء والشرائط ، ومرجعه إلى أنّه ليس فيها إطلاق يتمسّك به لنفي الأجزاء والشرائط المشكوكة ، ولا لإثبات جزئيّة أو شرطيّة ما زاد على الأجزاء والشرائط المحقّقة حتّى على القول بالأعمّ ، بل تفاصيل الأجزاء والشرائط إثباتاً ونفياً أحكام اُخر يجب ورودها بخطابات اُخر ولو كانت من قبيل القواعد العامّة أو الاُصول العمليّة.

وبالتأمّل فيما ذكرناه من الأمثلة يظهر أنّ عدم الإطلاق فيما ورد في مقام بيان حكم آخر قد يكون لكونه ساكتاً عن الحكم المبحوث عنه نفياً وإثباتاً كما في : ( كلوا ممّا أمسكن ) (٥)

__________________

(١) المائدة :٤ و ٥.

(٢)البقرة : ٤٣.

(٣) البقرة : ١٨٥.

(٤) ال عمران : ٩٧.

(٥) المائدة : ٤.

٨٣٢

و ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ )(١) ونظائرهما ، وقد يكون لكونه مجملا كما في : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(٢) وغيرهما ، حتّى على القول بالأعمّ بناء على ما حقّقناه في مسألة الصحيح والأعمّ من أنّ القول بالصحيحة مع القول بالأعمّ سيّان في إجمال أسامي العبادات المضادّ للإطلاق غير أنّه على الأوّل مفهومي وعلى الثاني مرادي ، والمائز بين القسمين أنّ المطلق في القسم الأوّل لابدّ وأن يكون من الألفاظ الدالّة على نفس الحكم الشرعي وفي الثاني من الألفاظ الدالّة على موضوعه كأسامي العبادات.

وإن شئت قلت : إنّ مورد الشرط المذكور هو ما كان من قبيل القسم الأوّل وأمّا ما كان من قبيل القسم الثاني فهو ليس من المطلق بل هو من المجمل على حدّ « رجل » في : « جاءني رجل » فكما أنّه لا يسمّى مطلقا لكون المراد به ما يكون معيّنا عند المتكلّم مجهولا للسامع فكذلك أسامي العبادات لا يصدق عليها المطلق لكون المراد منها ما هو المعيّن عند الله الغير المعلوم للمكلّفين حتّى على القول بالأعمّ كما عرفت.

المقام الثالث

فيما يتعلّق بالمطلق من حيث حمله في خطاب الشرع على المقيّد وعدمه فنقول : إذا ورد كلّ منهما في خطاب فأقسامهما الأوّلية ثلاث : لأنّه إمّا أن يختلف حكمهما أو يتّحد ، وعلى الثاني فإمّا أن يختلف موجبهما وهو سبب الحكم أو يتّحد.

أمّا القسم الأوّل : فكما لو قيل : « أطعم يتيما » و « اكس يتيما هاشميّا » فظهر أنّ المراد من الحكم في عنوان هذا القسم وغيره هو المحكوم به من إطلاق المصدر على معنى اسم المفعول مجازا ، وظاهر أنّ الحكم بمعنى المحكوم به عبارة عن موضوع الحكم الشرعي.

وإنّما لم يعبّر عن المقسم في التقسيم الأوّل بموضوع الحكم بل تجوّز بذكر المصدر وإرادة معنى اسم المفعول مراعاة للتغائر اللفظي بين المقسم في التقسيم الأوّل والمقسم في التقسيم الثاني ، فإنّ مصطلح الاصولي في الموضوع ليس كمصطلح المنطقي لأنّه في اصطلاح المنطقي عبارة : عمّا وضع وعيّن في القضيّة لأن يحمل عليه المحمول « كزيد » في « زيد قائم » وعند الاصوليّين عبارة عن : كلّ ما له مدخليّة في الحكم الشرعي سواء كان موضوعا منطقيّا أو محمولا منطقيّا أو شرطا للحكم أو سببا وعلّة له أو قيدا من قيود

__________________

(١) المائدة : ٤ ـ ٥.

(٢) البقرة : ٤٣.

٨٣٣

موضوعه ، فلو قيل : « إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة » فكلّ من الظهار والعتق والرقبة والمؤمنة موضوع بهذا الاصطلاح فلو عبّر عن المقسم في التقسيم الأوّل بالموضوع لم يصحّ التقسيم للزوم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره ، فلا جرم عبّر بالحكم للتوصّل إلى صحّة التقسيم الثاني اكتفاء بمجرّد التغائر اللفظي في مقسميهما.

ثمّ المعروف من مذهب الاصوليّين في حكم هذا القسم هو أنّ المطلق لا يحمل فيه على المقيّد بل يعمل بهما معا ، ففي المثال المتقدّم يجتزأ في الإطعام بإطعام اليتيم الغير الهاشمي عملا بالمقيّد ، ونقل عليه الاتّفاق أيضا كما عن جماعة من الخاصّة والعامّة بل قيل هذا الإجماع نقله أكثر الاصوليّين ، وهذا هو المختار لمساعدة متفاهم العرف على عدم الحمل ، فإذا عرض نحو قوله : « أطعم يتيما » و « اكس يتيما هاشميّا » على أهل العرف لا يفهمون من الأوّل إرادة الهاشمي بل يأخذون بمقتضى إطلاقه مع العمل بالمقيّد من غير نكير ، مضافا إلى شهادة العقل بذلك حيث إنّه لا مقتضى لحمل المطلق على المقيّد هنا ، فإنّ المقتضي له على ما ستعرفه هو التنافي بين مقتضي المطلق ومقتضي المقيّد وهو فرع على الوحدات الثمانية الّتي منها وحدة الموضوع بمعنى معروض الحكم الشرعي وهو هنا متعدّد ، فلا تنافي فلا مقتضي للحمل ، من غير فرق فيه بين كونهما مثبتين أو منفيّين أو مختلفين ، ولا بين اتّحاد الموجب واختلافه ، خلافا لأكثر الشافعيّة على ما نسب إليهم من التزامهم بحمل المطلق على المقيّد هنا أيضا إذا اتّحد الموجب ، بل قد يحكى ذلك عنهم مطلقا ولذا يحملون « اليد » في آية التيمّم على « اليد » في آية الوضوء ، فيعتبرون المسح من المرافق لاتّحاد الموجب فيهما وهو الحدث.

وفيه : أنّ اتّحاد الموجب لا يقضي باتّحاد الموضوع إلاّ من جهة القياس وهو باطل سيّما في موضوع الحكم الشرعي ، مع إمكان أن يقال : بأنّ موجب الحكم ـ بمعنى علّة جعله ـ في الآيتين متعدّد لأنّه في آية الوضوء رفع الحدث وفي آية التيمّم استباحة الصلاة ، ولو سلّم كونه رفع الحدث في الموضعين فمن الجائز أن يكون رافع الحدث في الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين وفي التيمّم مسحهما إلى الزندين ولا منافاة فلا مقتضي للحمل.

نعم لو كان هناك لخصوصيّة المورد استلزام شرعي يقتضي التنافي بين مدلوليهما بأن يلزم من العمل بإطلاق المطلق ترك العمل بالمقيّد ومن العمل بالمقيّد ترك العمل بإطلاق المطلق وجب حمل المطلق على المقيّد حينئذ دفعا للتنافي ، وذلك كما لو قيل : « أعتق

٨٣٤

رقبة » و « لا تملك كافرة » فإنّ الاستلزام الشرعي في نحوه ثبت بحكم ما دلّ على أنّه : « لا عتق إلاّ في ملك » فالعمل بإطلاق يقتضي الاجتزاء بعتق الكافرة وهو لا يتمّ إلاّ بعد تملّك الكافرة وهو ترك للعمل بقوله : « لا تملك كافرة » كما أنّ العمل بالمقيّد يقتضي عدم تملّك الكافرة وهو يقتضي عدم الاجتزاء بعتق الكافرة وهو ترك للعمل بإطلاق المطلق ، فلا بدّ حينئذ من الحمل بالحكم على الرقبة المطلقة بأنّ المراد منها المؤمنة.

وأمّا القسم الثاني : فهو ما اختلف موجبهما ـ على معنى علّة الحكم فيهما ـ مع اتّحاد الحكم بمعنى المحكوم به كالأمر بعتق رقبة في كفّارة الظهار وعتق رقبة مؤمنة في كفّارة القتل الخطأي الواردين في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )(١) مع قوله الآخر : ( مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ )(٢) فالمعروف من مذهب الاصوليّين من الخاصّة والعامّة المنسوب إلى أكثر المحقّقين أنّه لا يحمل المطلق على المقيّد فيه أيضا بل يعمل بهما معا ، وقيل بالحمل كما عن الشافعي أو بعض أصحابه على اختلاف في النقل.

والمعتمد هو الأوّل ، لعدم التنافي حتّى في محلّ واحد كما لو صدر من المكلّف ظهار وقتل ، نظرا إلى أنّ تعدّد السبب يقتضي تعدّد التكليف وإن اختلفا في التخيير والتعيين ، فيجب عليه تارة عتق رقبة ولو كافرة واخرى عتق رقبة مؤمنة بالخصوص ، مضافا إلى بناء العرف وطريقة أهل اللسان من عدم فهم التقييد من المطلق وإن لوحظ معه المقيّد والعمل بظاهر إطلاق المطلق من غير توقّف ، وللمخالف وجوه ضعيفة :

منها : أنّ القرآن كالكلمة الواحدة ، وعن العدّة : أنّه قد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) فلو ثبت التقييد في أحد الحكمين دون آخر تحقّق الاختلاف بينهما وهو ينافي الوحدة.

وعن شرح العضدي أنّه قرّره : بأنّ كلام الله تعالى واحد وبعضه يفسّر ببعض.

وفيه ـ مع عدم جريانه في غير كلام الله فيكون أخصّ ـ : أنّ وحدة كلام الله أو كونه كالكلمة الواحدة إن اريد به عدم مناقضة بعضه بعضا فهو مسلّم ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً )(٤) وفيما نحن فيه أيضا لا مناقضة بين المطلق والمقيّد لما عرفت من عدم تنافي مدلوليهما ، وإن اريد به كون المراد من كلماته وألفاظه معنى واحدا فيجب تنزيل المطلق على معنى المقيّد ليتّحد المعنى المراد منهما فهو

__________________

(١) المجادلة : ٣.

(٢) النساء : ٩٢.

(٣) لم نعثر عليها في الروايات.

(٤) النساء : ٨٢.

٨٣٥

واضح الفساد ، هذا مع ضعف الرواية وكونها من أخبار الآحاد الّتي لا يعمل بها في نحو المسألة.

ومنها : أنّ الشاهدين ورد مطلقا في آية الدين كقوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ )(١) ومقيّدا بالعدالة في آية الطلاق كقوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ )(٢) فاعتبر العدالة في الأوّل أيضا حملا للمطلق على المقيّد.

وفيه : منع كون اعتبارها فيه لأجل الحمل ، بل لقيام الإجماع على اعتبارها في الشهادة في جميع مواردها.

ومنها : أنّ قوله تعالى : ( وَالذَّاكِراتِ )(٣) حمل على قوله : ( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً )(٤) من غير دليل من خارج.

وفيه ـ مع أنّه ليس من المطلق ومنع اختلاف الموجب فيهما ـ : أنّ اعتبار القيد فيه من اقتضاء العطف المقتضي للتسوية بين المعطوف والمعطوف عليه لا لأجل الحمل ، ولو سلّم كونه لأجله فهو من جهة القرينة لا مجرّد مقابلة المطلق للمقيّد.

وأمّا القسم الثالث : أعني ما اتّحد حكمهما مع اتّحاد الموجب ، فهو محلّ النزاع الآتي في وجوب حمل المطلق على المقيّد وعدمه ، ويعتبر فيه مع الشرطين المذكورين شروط اخر : أوّلها : اتّحاد المتكلّم حقيقة أو حكما بأن يكونا واردين في كلام متكلّم واحد حقيقي ككلامه تعالى أو كلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو كلام واحد من الأئمّة عليهم‌السلام ، أو حكمي كالرسول مع الله تعالى باعتبار كونه مبلّغا عنه ، أو واحد من الأئمّة مع الله تعالى أو الرسول باعتبار كونهم مخبرين عنهما ، أو كلّ واحد من الأئمّة عليهم‌السلام مع الآخر باعتبار كونهما حاكيين عن واحد ، فلو كانا واقعين في كلام متكلّمين متغايرين فلا يحمل مطلق أحد هما على مقيّد الآخر ، كما لو قال أحدهما لعبده : « أطعم يتيما » وقال غيره أيضا لعبده : « أطعم يتيما هاشميّا ».

والسرّ فيه : أنّ الداعي إلى الحمل إمّا كشف المقيّد في متفاهم العرف عن أنّ المراد من المطلق هو الماهيّة المقيّدة بقيده أو تنافي مدلوليهما فيحمل دفعا للتنافي ، ولا يتعقّل شيء منهما إلاّ في كلام متكلّم واحد حقيقي أو حكمي ، وقد يجعل من المتكلّم الواحد الحكمي رواة أخبارنا الّذين يروون عن أئمّتنا عليهم‌السلام كزرارة ومحمّد بن مسلم مثلا إذا اختلفا في الرواية بالإطلاق والتقييد.

ثانيها : أن لا يكون مبناهما على الاجتهاد ، فلو اختلف الفتوى من مجتهد بالإطلاق

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣ و ٤) الأحزاب : ٣٥.

٨٣٦

والتقييد في كتابيه أو في موضعين من كتاب واحد إذا تخلّل بينهما فصل معتدّ به بحيث احتمل معه تكرير الاجتهاد وتجديد النظر مع تأدية أحدهما إلى الإفتاء بالإطلاق والآخر إلى الإفتاء بالتقييد فلا حمل ، لعدم التنافي مع تعدّد الاجتهاد واختلاف مؤدّاهما.

ثالثها : كون مفادهما من الحكم الشرعي حكما تكليفيّا لا وضعيّا ، فلو ورد في خطاب : « خلق الله الماء طهورا » وفي آخر : « ماء البحر طهور » لا يحمل الأوّل على الثاني لعدم التنافي ، وكذلك لو قيل : « الكافر نجس » وورد أيضا : « الكافر الحربي نجس » وكذلك لو قال : « الكلب نجس » ثمّ قال : « الكلب السلوقي نجس » وما أشبه ذلك.

والسرّ في عدم التنافي : أنّ الخطاب إذا كان من القضايا الوضعيّة يدلّ في متفاهم العرف على كون الحكم الوضعي من لوازم الماهيّة فيما دلّ على الماهيّة من حيث هي أو من لوازم الحصّة الشائعة فيما دلّ عليها ، وظاهر أنّ لازم الماهيّة لا ينفكّ عن شيء من أفرادها ولازم الحصّة الشائعة أيضا لا ينفكّ عن شيء من مصاديقها ، ومن أفراد الماهيّة ومصاديق الحصّة الشائعة هو المقيّد فيكونان كالعامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، كقوله : « أكرم كلّ عالم » مع قوله أيضا : « أكرم زيدا العالم » في عدم التنافي المقتضي للعمل بعموم العامّ في جميع الأفراد فيكون المقيّد كالخاصّ في كونه تأكيدا ونحوه ، وكذا الكلام فيما لو كان المطلق وضعيّا والمقيّد تكليفيّا كأن يقول : « الكافر نجس » مع قوله : « اغسل ما يلاقي الكافر الحربي ، أو لا تأكله أو لا تشربه » وما أشبه ذلك.

رابعها : أن يكون الحكم التكليفي فيهما طلبيّا ، فلا حمل في المطلق والمقيّد المحكوم عليهما بالحليّة أو الإباحة كقوله : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) مع قوله : « بيع السلم حلال » وقوله : « أبحت لكم أكل تربة الحسين عليه‌السلام للاستشفاء » مع قوله : « أكل تربة قبر الحسين عليه‌السلام للاستشفاء مباح » لما ظهر وجهه في الحكم الوضعي ، فإنّ الحليّة والإباحة أيضا إذا حكم بهما على الماهيّة أو الحصّة الشائعة كانا من لوازمهما فلا تنفكّان عن شيء من الأفراد والمصاديق.

وهل يعتبر في الحكم التكليفي الطلبي فيهما كونه إلزاميّا وهو الإيجاب لا غيره وهو الندب والاستحباب فيكون ذلك خامس الشروط ، فلا يحمل المطلق من المندوبين على المقيّد منهما كما لو قال : « اغتسل للجمعة » مع قوله : « اغتسل للجمعة بماء الفرات » ونحوه لو قال : « زر الحسين عليه‌السلام » ثمّ قال : « زر الحسين عليه‌السلام يوم عرفة » ونحو هما قوله : « أعتق رقبة »

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٨٣٧

وقوله : « أعتق رقبة مؤمنة » عند قيام قرينة الندب في أمريهما فيعمل بإطلاق المطلق ويحمل المقيّد على الأفضليّة ونحوها ، أو لا يعتبر ذلك فلا يتفاوت الحال في الحمل على القول بوجوبه بين الإيجابين والندبين فالمندوبات أيضا يحمل مطلقاتها على مقيّداتها؟ ففيه خلاف :

فقيل بالأوّل ونسب إلى الفوائد المليّة ، وقيل بالثاني واختاره صاحب المفاتيح وبعض الفضلاء وبعض الأعاظم في الفصول والإشارات ، وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فإنّا لا نعقل فرقا في نحو : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » بين كون طلبيهما الإيجاب أو الندب في وجوب حمل الأوّل على إرادة « المؤمنة » فإن كان الموجب له على تقدير الإيجاب فهم العرف من غير نظر إلى التنافي فهو قائم على تقدير الندب أيضا ، وإن كان حكم العقل من جهة التنافي دفعا له فهو حاصل على التقديرين ، ضرورة عدم الفرق في تنافي التخيير والتعيين بين الايجابين والندبين ، إذ التنافي حاصل بين الطلب التخييري الّذي هو مقتضى المطلق ولو بضميمة حكم العقل والطلب التعييني الّذي هو مقتضى المقيّد من غير مدخليّة لإيجابيّة الطلب ولا ندبيّته فيه.

مضافا إلى أنّ المانع من الحمل إن كان تعدّد الحكم بمعنى المحكوم به فالمفروض اتّحاده ، وإن كان تعدّد الموجب بمعنى علّة الحكم الشرعي فيهما فالمفروض اتّحاده ، وإن كان تعدّد المتكلّم فالمفروض اتّحاده حقيقة أو حكما ، وإن كان كون مؤدّاهما الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي الغير الطلبي فالمفروض كونه الحكم التكليفي الطلبي.

والفارق بينه وبين الأوّلين أنّ كلاّ من الأوّلين كما بيّنّاه إذا تعلّق بالمطلق بمعنى الماهيّة من حيث هي أو بمعنى الحصّة الشائعة كان لازما للماهيّة أو الحصّة الشائعة فلا ينفكّ عن شيء من أفراد الماهيّة الّتي منها المقيّد ولا عن شيء من مصاديق الحصّة الشائعة الّتي منها المقيّد ، فيكون المطلق والمقيّد حينئذ بمنزلة العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر اللذين لا تنافي بينهما فيعمل بعموم العامّ ويجعل الخاصّ تأكيدا أو لبيان الأهمّيّة ونحوها ، بخلاف الحكم التكليفي الطلبي ولو ندبا فإنّه إذا تعلّق بالماهيّة أو الحصّة الشائعة يقتضي امتثالا بإيجاد الماهيّة أو الحصّة الشائعة الّذي لا يتأتّى إلاّ بإيجاد الفرد أو المصداق ، وإذا تعدّدت الأفراد والمصاديق وتساوتا بالنظر إلى الماهيّة أو الحصّة الشائعة ـ حيث انتفى قرينة العهد ودليل التعيين ـ وقع التخيير بينها بحكم العقل لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح أو لاستحالته (١).

__________________

(١) كذا في الأصل.

٨٣٨

ولقد عرفت أنّ هذا التخيير لا يتفاوت فيه الحال بين كون الطلب المتعلّق بالماهيّة أو الحصّة الشائعة إيجابيّا أو ندبيّا.

لا يقال : إنّ الحمل مشروط بوحدة التكليف وهي في المندوبات غير محرزة ، لجواز تعدّد التكليف ومعه يرتفع التنافي فلا موجب للحمل.

لأنّ وحدة التكليف تحرز بظهور الخطابين خصوصا مع وحدة الموجب فلا يلتفت إلى احتمال التعدّد ، سواء اريد به في نحو : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » استحباب عتق رقبة مطلقة ولو في ضمن كافرة واستحباب عتق رقبة مؤمنة بخصوصها على وجه يتعدّد معه الطلب والمطلوب والإتيان امتثالا للتكليفين ، أو استحباب عتق رقبة مطلقة واستحباب إيقاعه في ضمن « المؤمنة » الّذي قد يقال له : المستحبّ في المستحبّ ، والفرق بينه وبين سابقه كفاية إتيان واحد في امتثال التكليفين إذا أتي بعتق رقبة في ضمن المؤمنة فيه دون سابقه ، فإنّ كلاّ من الوجهين خلاف ظاهر الخطابين خصوصا ثانيهما الّذي مرجعه إلى تقييد المستحبّ الثاني بكون محلّه المستحبّ الأوّل.

لا يقال : إنّ الموجب للحمل إنّما هو دوران الأمر بين التقييد في المطلق والمجاز في المقيّد بحمل الأمر فيه على الاستحباب أو التخيير وهذا منتف في المندوبات ، لأنّ المجاز بجعل الأمر في المقيّد ـ بل المطلق أيضا ـ للاستحباب لازم على تقديري الحمل وعدمه فلا دوران بين التقييد والمجاز حتّى يقدّم عليه التقييد بحمل المطلق على المقيّد فلا موجب للحمل ، ومعه يعمل بإطلاق المطلق ويحمل المقيّد على الأفضليّة.

لأنّ دوران الأمر بين التقييد والمجاز ووقوع التعارض بينهما إنّما هو لتنافي مقتضي المطلق مع مقتضي المقيّد إذ لولاه لعمل بهما من غير حمل ، وهذا التنافي لا يرتفع بالتجوّز في الأمر بإرادة الاستحباب.

غاية الأمر حينئذ أنّه يوجب دوران الأمر بين التقييد وحمل الأمر في المقيّد على الأفضليّة بتجريده عن الطلب ليكون إرشادا إلى مزيّة في هذا الفرد باعتبار الخصوصيّة على سائر أفراد الماهيّة ، وهو ارتكاب خلاف ظاهر في خلاف ظاهر فيرجّح عليه التقييد بحمل المطلق على المقيّد ، فتأمّل.

غاية ما في الباب أنّه يغلب في المندوبات جعل الأمر الندبي في المقيّد للأفضليّة بمعونة القرائن الخارجة وهو خارج عن المبحث ، كما أنّه يخرج عن المبحث أيضا ما ثبت

٨٣٩

بمعونة قرينة أو دليل خارجي كون الأمر الاستحبابي في المطلق للتكرار الّذي يندرج فيه الإتيان بالمقيّد ، كما لو ثبت استحباب التطوّع بركعتين في كلّ وقت وزمان يسعهما مع ورود استحباب التطوّع بالصلاة في يوم الجمعة ، فإنّه يعمل بعموم الأوّل ويحمل الثاني على الأفضليّة كما في العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، [ و ] لو بدّل قيد « يوم الجمعة » بقيد مكاني ككونه : « في المسجد » لا مناص من الحمل لمكان التنافي بين إطلاق كلّ مرّة من المرّات المتكرّرة بالقياس إلى أجزاء المكان وبين المقيّد بالمكان الخاصّ.

وخامسها : وحدة التكليف ، ونعني به وحدة المجموع من الطلب والمطلوب الّذي هو المكلّف به ، فلا ينافيه تعدّد أصل الطلب على حسب تعدّد الخطاب من دون تعدّد المطلوب لأنّه مبنيّ على التأكيد ومحمول على كون الثاني مثلا مؤكّدا للأوّل كما في نحو : « صلّ الظهر صلّ الظهر ».

ثمّ لا ينبغي الإشكال والاسترابة في كون وحدة التكليف بالمعنى المذكور معتبرة في محلّ النزاع الآتي شرطا في حمل المطلق على المقيّد ، إذ مع تعدّده الّذي معياره بقرينة المقابلة تعدّد المطلوب والمكلّف به المقتضي لتعدّد الامتثال والأداء ـ أحدهما طلب الماهيّة المطلقة على وجه التخيير ، والآخر طلب الماهيّة المقيّدة على وجه التعيين ـ لا معنى للحمل ، لانتفاء التنافي وعدم البيانيّة في متفاهم العرف. وإنّما الإشكال في طريق إحراز وحدة التكليف فهل هو الدليل من الخارج من إجماع وغيره ممّا يقضي بها ، ومنه اتّحاد موجبهما فإنّه يقضي بوحدة التكليف كما أنّ تعدّد الموجب يقضي بتعدّد التكليف خاصّة ، فلا بدّ في مقامات حمل المطلق على المقيّد من التحرّي في طلب الدليل على الوحدة ثمّ الحمل بعد وجدانه ولو لم يوجد فلا حمل ، أو أنّه يحرز بنفس الخطابين أيضا؟

ويظهر الثمرة في المطلق والمقيّد المرسلين اللذين لم يعلم فيهما الموجب وعلّة الحكم كما لو قال : « أعتق رقبة » « أعتق رقبة مؤمنة » من دون بيان لعلّة الحكم ، فإنّ موارد حمل المطلق على المقيّد لا تنحصر فيما علم موجبهما واتّحاده ، فكلّ مطلق ومقيّد علم وحدة التكليف فيهما بدليل من الخارج أو بملاحظة اتّحاد الموجب فلا إشكال في كونه من محلّ النزاع الآتي ، وكلّما علم تعدّد التكليف فيهما فلا إشكال في خروجه عن محلّ النزاع لعدم حمل المطلق على المقيّد حينئذ ، وكلّما لم يعلم فيهما وحدة التكليف وتعدّده فهل ينساق في متفاهم العرف بأنفسهما وحدة التكليف كما ينساق ذلك ممّا لو قال المولى : « اشتر

٨٤٠