تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

اللحم » ثمّ قال : « اشتر لحم الغنم » أو قال : « ائتني بالماء » ثمّ قال : « ائتني بالماء البارد » ونحوه قول الطبيب للمريض : « اشرب السكنجبين » مع : « اشرب السكنجبين من العسل » أو لا؟ ولا يخلو المقام عن إشكال.

ويمكن بناء المسألة على أنّ الموجب لحمل المطلق على المقيّد إن كان حكم العقل بملاحظة تنافي مدلوليهما فلا حمل مع عدم العلم بوحدة التكليف لعدم معلوميّة التنافي ، فلا يحكم العقل بإرادة المقيّد من المطلق فيما اخذ بظاهر وضع الخطابين هيئة ومادّة المقتضي لتعدّد كلّ من الطلب والمطلوب ، وإن كان فهم العرف على معنى انفهام كون المقيّد في متفاهم العرف بيانا للمطلق كاشفا عن حقيقة المراد منه وهو الماهيّة المقيّدة ، فهو فرع على فهم وحدة التكليف من نفس الخطابين لابتناء البيانيّة الّتي هي عبارة اخرى للحمل عليها ، وهذا هو الأظهر وعليه طريقة العلماء قديما وحديثا في مقامات حملهم المطلق على المقيّد حيث لم نقف منهم على أحد أنّه قبل الحمل تحرّى في طلب الدليل على وحدة التكليف ، وهذا يكشف عن كونها ممّا يحرز بنفس الخطابين وينساق في متفاهم العرف على حدّ ما في الأمثلة العرفيّة المتقدّمة ونظائرها فليتدبّر.

ثمّ إنّهما إذا اجتمعا الشروط المتقدّمة بأسرها فإمّا أن يكونا مثبتين أو منفيّين أو مختلفين ، فالأقسام أيضا ثلاثة تذكر في مقامات ثلاث :

المقام الأوّل : في المختلفين كقوله : « أعتق رقبة » في كفّارة الظهار ، مع قوله : « لا تعتق كافرة » في كفّارة الظهار ، وفي معناه : « يحرم عتق الكافرة في كفّارة الظهار » وفي معناهما : « لا يصحّ عتق الكافرة » فالمعروف في حكم هذا القسم من غير خلاف يظهر وجوب حمل المطلق على المقيّد ، بل الظاهر أنّه محلّ وفاق بل في كلام بعضهم نقل الاتّفاق عليه ، ووجهه التنافي فإنّ مقتضى إطلاق المطلق بضميمة حكم العقل جواز الاجتزاء بعتق الكافرة ومقتضى المقيّد في نحو المثالين الأوّلين حرمة عتق الكافرة وهو يناقض جواز الاجتزاء به ، كما أنّه في المثال الأخير عدم صحّة عتق الكافرة وهو يناقض جواز الاجتزاء به فيحكم على المطلق بإرادة المؤمنة دفعا للتنافي.

ومن أمثلة هذا القسم ما لو قال : « لا تعتق في الظهار رقبة » أو « لا يصحّ في الظهار عتق الرقبة » مع قوله : « أعتق في الظهار رقبة مؤمنة » فيحكم على المطلق بإرادة الكافرة دفعا للتنافي. وبالتأمّل في أمثلة هذا القسم يعلم أنّ إطلاق حمل المطلق على المقيّد هنا

٨٤١

مسامحة واضحة ، لأنّه حمل له على ما يضادّ المقيّد [ لا ] على نفس المقيّد.

وقد يذكر من أمثلة هذا القسم ما لو قال : « أعتق رقبة » مع قوله : « لا يجب عتق الكافرة » والظاهر أنّ مبناه على جعل المنفيّ في جانب المقيّد ماهيّة الوجوب المتناولة للعيني والتخييري.

ولا ريب أنّ نفيها في المقيّد ينافي التخيير المستفاد من المطلق فوجب حمله على إرادة المؤمنة دفعا للتنافي.

وفيه : منع واضح لأنّا لو سلّمنا توجّه النفي في المقيّد إلى ماهيّة الوجوب لا إلى خصوص العيني منه إمّا لكونه حقيقة فيه كما قيل أو لانصراف إطلاقه إليه في قول آخر ، نمنع منافاته لمقتضى المطلق ، فإنّ التخيير المستفاد منه من جهة العقل ليس تخييرا طلبيّا يقال له : الوجوب التخييري لا شرعا ولا عقلا.

أمّا الأوّل : فلضرورة أنّ الشارع لم ينشئ بالنسبة إلى أفراد الماهيّة طلبا لا عينا ولا تخييرا بل إنّما أنشأ بالنسبة إلى نفس الماهيّة طلبا عينيّا.

وأمّا الثاني : فلوضوح انّ حكم العقل في أفراد الكلّي المأمور به ليس هو التخيير الطلبي وهو أن يخاطب المكلّف ويقول : « افعل هذا أو هذا » بل هو تخيير إرشادي ومحصّله إرشاد المكلّف إلى جواز الإتيان بأيّ فرد يختاره في امتثال الأمر بالماهيّة ، فيكون حاصل معناه في المثال المتقدّم جواز الاجتزاء بعتق الكافرة ولا ريب أنّه لا ينافيه نفي ماهيّة الوجوب في جانب المقيّد.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الحمل في نحو : « أعتق رقبة » و « لا تعتق كافرة » وما في معناه مثل : « يحرم عتق الكافرة » مبنيّ على اقتضاء النهي واستلزام الحرمة الفساد ليكون مدلول المقيّد فساد عتق الكافرة و [ هو ] ينافي جواز الاجتزاء به الّذي هو مقتضى المطلق ، وكذا الكلام في نحو : « صلّ » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » إذ على القول بعدم الاقتضاء والاستلزام لا موجب للحمل من جهة أنّ مدلول المقيّد حينئذ حرمة عتق الكافرة ، وهو لا ينافي جواز الاجتزاء به عملا بإطلاق المطلق.

لا يقال : هذا إذا قدّرنا كون التنافي بينهما في الحكم الوضعي ، وإن قدّرناه في الحكم التكليفي فالتنافي حاصل ، ضرورة منافاة الحرمة جواز الاجتزاء به فيجب الحمل دفعا لهذا التنافي ، لعدم كون جواز الاجتزاء في جانب المطلق جوازا تكليفيّا شرعيّا مرادفا للإباحة ،

٨٤٢

لما عرفت من أنّ الشارع في الأمر بالكلّيّات لا يتعرّض الأفراد أصلا ولا ينشئ بالنسبة إليها حكما طلبيّا ولا إباحيّا ، بل هو جواز عقلي إرشادي وضعي مرادف للصحّة والإجزاء.

وحاصله : أنّ العقل بملاحظة أفراد الكلّي وعدم ترجيح بعضها على بعض يحكم بكفاية كلّ منها في امتثال الأمر بالماهيّة من جهة انطباقه عليها وموافقته لها ، ولا ريب أنّ الكفاية من جهة الانطباق لا ينافيه الحرمة.

فإن قلت : هذا كلّه منع للتنافي بين مدلول المقيّد ومقتضى المطلق ، و [ ذلك ] لا ينافي حمل المطلق على المقيّد في المختلفين لموجب آخر وهو فهم العرف لا حكم العقل المنوط بتنافي المدلولين على معنى انفهام كون المقيّد بيانا للمطلق ، ولذا صار بعض الأعلام في مسألة دلالة النهي عن العبادة على فساد المنهيّ عنه إلى الدلالة عرفا لا عقلا من جهة عدم التنافي.

قلت : هذا لا ينافي ما بيّنّاه من أنّ حمل المطلق على المقيّد في المختلفين مبنيّ على القول باقتضاء النهي فساد المنهيّ عنه بل يؤكّده ، فإنّ القائل بالفساد في مثل : « لا تعتق كافرة » وكذلك : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » قبالا لقوله : « أعتق رقبة » و « صلّ » يحمل المطلق على المقيّد سواء كان الموجب للحمل عنده حكم العقل بملاحظة التنافي أو فهم العرف ، وقضيّة ذلك أن لا يقول منكر دلالة النهي على الفساد بالحمل هنا.

ومن ثمّ قد يتوهّم التدافع بين إطباقهم على حمل المطلق على المقيّد في المختلفين واختلافهم في دلالته على الفساد على أقوال ومثّلوا المحلّ النزاع بقوله : « صلّ » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » وبملاحظة اختلافهم في المعاملات أيضا كان « أعتق رقبة » و « لا تعتق كافرة » من محلّ النزاع ثمّة أيضا ، لأنّ العتق من قبيل المعاملة فكيف يجامع اختلافهم ثمّة في اقتضاء النهي الفساد وعدمه لاتّفاقهم على حمل المطلق على المقيّد هنا المبنيّ على اقتضائه الفساد.

وهذا الإشكال في الحقيقة يتوجّه إلى منكري اقتضاء النهي في العبادات والمعاملات لا إلى قائليه.

ويمكن الذبّ : بأنّ الحمل حكم كبروي مبنيّ على التنافي واختلافهم في مسألة النهي واقع في الصغرى ، وظاهر أنّ الاتّفاق على الكبرى وهو حمل المطلق من المختلفين على مقيّدهما لأجل التنافي لا ينافي الاختلاف في دلالة النهي في المقيّد على الفساد وعدمه تحقيقا للتنافي وعدمه.

٨٤٣

ويزيّفه : أنّ الاتّفاق على الكبرى الّذي لا ينافيه الاختلاف في الصغرى هو مثل الاتّفاق على حدوث كلّ متغيّر مع الاختلاف في كون العالم متغيّرا أم لا ، والاتّفاق على جسميّة كلّ حيوان مع الاختلاف في كون الجنّ حيوانا وعدمه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل بل هو اتّفاق على النتيجة لاندراج الأصغر في الأوسط ضرورة أنّه اتّفاق على الحمل في المختلفين لأجل التنافي ، وهذا نظير ما لو فرض في المثالين الاتّفاق على حدوث العالم لأنّه متغيّر وعلى جسميّة الجنّ لأنّه حيوان.

ولا ريب أنّ الاختلاف في الصغرى حينئذ ينافيه.

والسرّ فيه : أنّ الاتّفاق على الحمل في المختلفين تعليلا بالتنافي في معنى الاتّفاق على التنافي ، وهو في معنى الاتّفاق على دلالة النهي في المقيّد على الفساد ، ومعه كيف يعقل الاختلاف في مسألة النهي في العبادات والمعاملات في دلالة النهي على الفساد وعدمها؟

وبما قرّرناه لا مجال لأحد أن يقول : بأنّ القضيّة في مقام الحمل شرطيّة وظاهر أنّ الاتّفاق على الشرطيّة لا ينافيه الاختلاف في الشرط ، وهذا كما لو فرض في المثالين اتّفاقهم على حدوث العالم على تقدير كونه متغيّرا وعلى جسميّة الجنّ على تقدير كونه حيوانا ، ففيما نحن فيه أيضا يفرض الاتّفاق على المختلفين على تقدير التنافي ، لأنّه خلاف ما يستفاد من كلماتهم في باب حمل المطلق على المقيّد فإنّها بين صريحة وظاهرة في تعليل الحمل بالتنافي المقتضي لكونه مفروغا عنه متسالما فيه.

ويمكن الذبّ عن الإشكال بطريق آخر وهو أن يقال : إنّ الاتفاق على الحمل في المختلفين لا يراد منه ما يدخل فيه منكروا دلالة النهي على الفساد في مسألة النهي عن العبادات والمعاملات ، بل ما يدخل فيه منكروا حمل المطلق على المقيّد في المثبتين على ما ستعرفه من أنّ الحمل فيهما مختلف فيه ، وكما يراد من الاتّفاق على عدم الحمل في المنفيّين ـ كما تعرفه ـ ما يدخل فيه الفريقان في المثبتين فكذلك يراد من الاتّفاق على الحمل في المختلفين ما يدخل فيه الفريقان في المثبتين ، ومن المعلوم أنّ الاتّفاق بهذا المعنى لا ينافيه خروج منكري دلالة النهي على الفساد في مسألة النهي في العبادات والمعاملات كما هو واضح.

المقام الثاني : في المنفيّين كقوله : « لا تعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة كافرة » والمذكور في مختصر الحاجبي والمعالم وغيرهما من كتب الاصول التمثيل له بقوله : « لا تعتق مكاتبا »

٨٤٤

و « لا تعتق مكاتبا كافرا » ولا نرى للخصوصيّة وجها.

وقد أطبقوا في هذا القسم على عدم حمل المطلق على المقيّد لعدم التنافي.

والسرّ فيه : أنّ النفي المتعلّق بالمطلق بمعنى الماهيّة أو الحصّة الشائعة يفيد عموم السلب ، وفي نحو المثالين يفيد عموم الحرمة لجميع أفراد الماهيّة ومصاديق الفرد المنتشر والمقيّد موافق له بالنسبة إلى مورده ، وقضيّة الموافقة عدم التنافي فيعمل بهما معا.

نعم لو اعتبر المفهوم في جانب المقيّد من جهة الوصف حصل التنافي بين مدلول المقيّد من حيث المفهوم ومدلول المطلق من حيث المنطوق فيتعارضان في نحو المثالين في : « عتق الرقبة المؤمنة » أو « المكاتب المؤمن » لقضاء منطوق المطلق بحرمته ومفهوم الوصف في المقيّد بنفي حرمته ، وحينئذ لا مناص من الحمل بتقييد المطلق أيضا بالكافرة ، غير أنّ مبنى كلام القوم على عدم اعتبار مفهوم الوصف لعدم كونه حجّة إلاّ على قول ضعيف ، نعم حيث [ ثبت ] اعتباره بالقرينة فلا كلام في الحمل.

وقد اعترض العضدي على مثال القوم بأنّه من تخصيص العامّ نظرا إلى عموم النكرة المنفيّة لا من تقييد المطلق فيكون خارجا عن موضوع المسألة ، يعني لو كان هنا حمل لكان من تخصيص العامّ لكون النكرة في سياق النفي مفيدة للعموم.

ويزيّفه : أنّه تخصيص من جهة نشأ من التقييد من جهة اخرى.

وتوضيحه : أنّ العموم المستفاد من النكرة المنفيّة ليس مدلولا لنفس النكرة الّتي هي من المطلق ، ولا مستعملا فيه لفظها لينقلب المطلق عامّا ويخرج بسببه عن كونه مطلقا ، فإنّ العموم على ما بيّنّاه مرارا عبارة عن استغراق الحكم لجميع جزئيّات موضوعه ، وهذا ممّا يفيده الهيئة التركيبيّة الحاصلة من ورود النفي على المطلق ، وموضوع الحكم هو الماهيّة أو الحصّة الشائعة المرادة من النكرة في هذا التركيب ، فهي مع العموم المذكور باقية على كونها مطلقا ولم ينقلب عامّا بل العامّ هو الهيئة التركيبيّة والمطلق من مفردات ذلك المركّب ، ومن ذلك علم أنّه لو حمل « الرقبة » أو « المكاتب » في نحو المثالين على الماهيّة أو الحصّة الشائعة المقيّدة بالكفر كان ذلك الحمل بالنسبة إلى المفرد ـ وهو المطلق ـ تقييدا وبالنسبة إلى الهيئة التركيبيّة الّتي هي العامّ تخصيصا ، فلا حاجة حينئذ إلى العدول عن مثال القوم إلى التمثيل بقولنا : « لا تعتق المكاتب » و « لا تعتق المكاتب الكافر » مع تقييده بعدم قصد الاستغراق بل جعله من العهد الذهني كما صنعه المصنّف ليمسّ الحاجة لتصحيحه وإصلاح

٨٤٥

ما أورد عليه أيضا إلى ارتكاب تكلّفات ركيكة وتمحّلات باردة.

المقام الثالث : في المثبتين كقوله : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » ويتكلّم فيه تارة في وجوب حمل المطلق على المقيّد وعدمه ، واخرى في كون المقيّد حينئذ بيانا للمطلق سواء اقترنا أو تقدّم المطلق أو المقيّد أو ناسخا إن تأخّر ، فها هنا مرحلتان :

المرحلة الأولى : في أصل وجوب الحمل وعدمه.

فنقول : إنّ المعروف بين الأصوليّين وجوبه ، ومعناه الحكم على [ المطلق ] بأنّ المراد به الماهيّة أو الحصّة المقيّدة بقيد المقيّد.

وعن جماعة من العامّة والخاصّة كالعدّة والنهاية والمنية والزبدة الإجماع عليه وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، لنا وجهان :

أحدهما : فهم التقييد إذا عرضا على أهل العرف كفهمهم التخصيص من العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر حيث عرضا عليهم.

وثانيهما : أنّهما دليلان تعارضا فيجب الجمع بينهما بإرجاع التأويل إلى أحدهما ، وهو دائر بين تقييد المطلق والتجوّز في المقيّد بحمل أمره على الندب أو على الوجوب التخييري ، بمعنى وجوب عتق المؤمنة على أنّه أحد فردي الواجب التخييري والفرد الآخر هو الماهيّة من حيث هي بناء على صحّة التخيير بين الكلّي وفرده أو هي من حيث وجودها في ضمن الفرد الآخر وهو الكافرة ، فيؤول الأمر الى تعارض الأحوال من مسألة دوران الأمر بين التقييد والمجاز.

ولا ريب أنّ التقييد أرجح وأولى ، لأنّ مرجع دوران الأمر بينهما إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فإنّ الأمر أظهر في الوجوب أو الوجوب العيني من المطلق في الماهيّة من حيث هي أو الحصّة الشائعة المقتضية لجواز الاجتزاء بأيّ فرد كان.

والسرّ فيه : أنّ ظهور الأوّل وضعيّ أو عرفيّ من جهة الانصراف وظهور الثاني عقلي من جهة السكوت عن ذكر القيد في معرض البيان.

والأوّل أقوى فيكون الأمر من جهته أظهر ، ومن الواجب تقديم الأظهر على الظاهر عند التعارض.

والمذكور في كلام جماعة كالنهاية والتهذيب والمنية والقواعد الشهيديّة وغاية المأمول والمعراج وشرح المختصر للعضدي والإحكام أنّه جمع بين الدليلين ، لأنّ العمل بالمقيّد

٨٤٦

يلزم منه العمل بالمطلق والعمل بالمطلق لا يلزم منه العمل بالمقيّد لصدقه مع غيره ، وكأنّ بناؤه على مقدّمة مطويّة لا يتمّ بدونها وتقديره : أنّه جمع بين الدليلين [ و ] هو أرجح وجوه الجمع.

وبهذا التوجيه يندفع ما اعترض عليه : بأنّ الجمع بين الدليلين بمجرّده لا يعيّن الحمل والتقييد ، لإمكانه بطرق آخر من حمل الأمر في المقيّد على الندب فيكون أفضل الفردين أو على الوجوب التخييري ، فلابدّ من بيان المرجّح والدليل خلو عنه.

لمنع خلوّه عن بيان المرجّح. غاية الأمر أنّه لم يصرّح به في متنه ، وغاية ما هنالك أنّه قاصر عن إفادة المطلوب بتمامه.

وفيه قصور آخر وهو أنّ ما ذكروه في التعليل يفيد وجوب العمل بالمقيّد ليلزم منه العمل بالمطلق في أحد فردي الماهيّة لا وجوب حمل المطلق على المقيّد الّذي هو عبارة عن الحكم بأنّ المراد منه الماهيّة المقيّدة بقيد المقيّد ، ومرجعه إلى رفع اليد عن إطلاق المطلق وتقييد الماهيّة المرادة منه بما قيّد به المقيّد ليتّحد مفاده من حيث الحكم المعلّق عليه مع مفاد المقيّد وهو الوجوب العيني ويقال له إرجاع المطلق إلى المقيّد ، كما أنّ مرجع الاعتراض المتقدّم بحمل الأمر في المقيّد على الندب أو الوجوب التخييري إلى إرجاع المقيّد إلى المطلق ليتّحد مفاده مع مفاد المطلق وهو جواز الاجتزاء والاكتفاء بأيّ فرد كان ولو مع أفضليّة بعض الأفراد ، فلابدّ من توجيه آخر لعبارة الدليل وهو أن يقال : إنّه لمّا كان العمل بالمقيّد مستلزما للعمل بالمطلق بخلاف العكس فلابدّ من إرجاع المطلق إلى المقيّد والحكم عليه بأنّ المراد به الماهيّة المقيّدة ليكون مفاده الوجوب العيني كالمقيّد.

وفي كلام للسيّد في المنية عند نقل الجواب عن الاعتراض بأنّ العدول عن مقتضى المطلق والعمل بظاهر المقيّد ليس بأولى من حمل المطلق على مقتضاه وحمل المقيّد على الاستحباب ، قوله : « على أنّا نمنع من اقتضاء المطلق التخيير ، فإنّه غير دالّ على الأفراد أصلا فضلا عن التخيير فيها » انتهى.

ومحصّله : منع تنافي مدلوليهما بمنع اقتضاء المطلق جواز الاجتزاء بأيّ فرد تخييرا ليكون نتيجته وجوب العمل بالمقيّد الظاهر في الوجوب العيني ، ولا خلاف في ضعفه.

أمّا أوّلا : فلأنّه إخراج للمورد عن موضوع مسألة حمل المطلق على المقيّد المبنيّ على فرض تنافي مدلوليهما ، وحينئذ فلا يستريب أحد في تعيّن العمل بظاهر المقيّد لسلامته عمّا يعارضه من جانب المطلق ، وهذا كما ترى ليس من حمل المطلق على المقيّد في شيء

٨٤٧

بل هو إثبات لوجوب العمل بالمقيّد حيث لم يكن في مقابله مطلق يعارضه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ظاهر المطلق على ما ذكره وجوب العيني للماهيّة من حيث هي وظاهر المقيّد وجوب العيني للفرد بالخصوص ، وهما أيضا مع فرض وحدة التكليف متنافيان ولو باعتبار لازميهما وهما الخروج عن عهدة التكليف بغير ذلك الفرد وعدم الخروج عنها إلاّ به ، فتعيّن العمل بظاهر المقيّد ليس بأولى من تعيّن العمل بظاهر المطلق.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما منعه من اقتضاء التخيير في المطلق إن أراد به اقتضاءه على وجه الدلالة الأصليّة المقصودة من الخطاب أصالة ليكون تخييرا شرعيّا فهو كما ذكره ولكنّه ليس بمراد في المقام ، وإن أراد به اقتضاءه على وجه الدلالة التبعيّة من باب الإشارة الحاصلة بملاحظة الخطاب مع ملاحظة مقدّمة اخرى خارجة عن الخطاب وهي عدم إمكان امتثال الأمر بالماهيّة إلاّ بإتيان الفرد وقبح الترجيح من غير مرجّح في صورة تعدّد الأفراد ، فإنكاره مكابرة للوجدان ومدافعة للعيان فلا ينبغي الإصغاء إليه.

وربّما المنع المذكور ـ على ما ذكره المحقّق السلطان في حواشيه ـ اعتراضا على الاستدلال لحمل المطلق على المقيّد بأنّه جمع بين الدليلين بأنّ : « الجمع بينهما لا ينحصر في حمل المطلق على المقيّد إن كان المراد بالحمل الحكم بأنّ المراد بالمطلق حين استعماله هو المقيّد حتّى يكون مجازا كما هو المشهور ، لأنّه لو بقي على إطلاقه أيضا بلا مجاز أصلا وعمل بالمقيّد يلزم العمل بهما معا ، فيجب العمل بالمقيّد من حيث اقتضاء الأمر بالمقيّد له وإن كان المطلق باقيا على إطلاقه غير مقتضي للتقييد وعدمه ، فالجمع بينهما حاصل مع إبقاء المطلق على إطلاقه من غير مجاز في المطلق ولا في المقيّد.

لا يقال : لا يجتمع وجوب العمل بالمقيّد مع بقاء المطلق على حقيقته ، لأنّ مقتضى الإطلاق ومدلوله صحّة العمل بأيّ فرد كان على سبيل البدل وتعيين العمل بالمقيّد ينافيه.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ مدلول المطلق ذلك بل أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد بل المقيّد في الواقع.

ألا ترى أنّ معروض للقيد في المقيّد كقولنا : « رقبة مؤمنة » إذ لا شكّ أنّ مدلول « رقبة » في : « رقبة مؤمنة » هو المطلق وإلاّ لزم حصول المقيّد بدون المطلق ، مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت ، فظهر أنّ مقتضى المطلق ليس ذلك وإلاّ لم يتخلّف عنه.

نعم لو أبقى بدون القيد لزم ذلك من أنّ الأصل البراءة عن التعيين ، وبناء الإشكال الّذي

٨٤٨

نقله المصنّف على تسليم أنّ الجمع لا يحصل إلاّ بارتكاب مجاز فأورد أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان المجاز في المقيّد ممتنعا أو مرجوحا.

وقد عرفت أنّ ذلك التسليم غير لازم ، وأيضا يقين البراءة لا يتوقّف على الحمل بهذا المعنى ، هذا على تقدير إرادتهم من حمل المطلق على المقيّد ما ذكر وأمّا لو كان مرادهم العمل بالمقيّد من غير مجاز في المطلق فالاستدلال صحيح.

ولا يرد عليه ما ذكرنا ولا الإشكال الّذي ذكره المصنّف لأنّ الأصل عدم المجاز في كليهما ، فالمطلق يقتضي وجوب إيجاد الماهيّة لا بشرط شيء والمقيّد وجوب إيجاد القيد أيضا ولا تنافي بينهما أصلا ، فيجب إيجاد الماهيّة مع القيد حتّى يجمع بينهما وتحصل البراءة من مقتضى المقيّد ، وليس حينئذ مجاز في شيء من الطرفين حتّى يقال يحصل التعارض والتساقط ويبقى المطلق سليما عن المعارض » انتهى.

وقال في حاشية اخرى بعيد ذلك ـ ردّا على ما ذكره المصنّف عند الاستدلال على كون المقيّد بيانا من أنّ المراد من المطلق « كرقبة » مثلا أيّ فرد كان من أفراد الماهيّة ـ :

« قد عرفت ما فيه من أنّ هذا ليس مدلول المطلق ، بل ربّما كان مدلوله معيّنا في الواقع وإن لم يكن اللفظ مستعملا في التعيين بل هذا أكثر وأظهر في الأخبار.

نعم في الأوامر يحتمل الاحتمالين ، فإنّما يلزم ذلك الشمول عن عدم التقييد مع ضمّ أنّ الأصل براءة الذمّة من التعيين أو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، بخلاف العامّ فإنّ مدلوله العموم.

وعلى هذا التحقيق لا يكون التقييد تخصيصا وقرينة على المجاز فضلا من أن يكون نسخا » انتهى.

وملخّص ما ذكره في الاعتراض منع انحصار طريق الجمع بين الدليلين هنا في حمل المطلق على المقيّد الموجب للتجوّز في المطلق ، بل قد يحصل الجمع بينهما والعمل بهما بالعمل بالمقيّد مع إبقاء [ المطلق ] على حقيقته.

وتوضيحه : أنّ المطلق إنّما يكون مطلقا إذا أريد منه الماهيّة من حيث هي أو الحصّة الشائعة ، وهذا لا يلازم أن يكون مفاده دائما باعتبار تعلّق الحكم الشرعي به صحّة العمل بأيّ فرد كان الّتي يقال لها التخيير ، وذلك لأنّ موضوع الحكم قد يكون في الواقع ولحاظ المتكلّم معيّنا وهو الماهيّة المقيّدة من دون استعمال اللفظ في التعيين ، ومرجعه إلى أن يراد ذلك المعيّن من اللفظ باعتبار الماهيّة المتحقّقة فيه لا باعتبار الخصوصيّة المشخّصة لتلك

٨٤٩

الماهيّة ، على معنى ورود استعمال اللفظ على وجه إطلاق الكلّي على الفرد ، وحينئذ فالعمل بالمقيّد عمل بالمطلق أيضا مع بقاء المطلق على حقيقته ، فحصل الجمع بينهما من دون مجاز في المطلق ولا في المقيّد.

وأقوى ما يشهد بكون مراده ما ذكرناه قوله في الحاشية الاخرى : « بل ربّما كان مدلوله معيّنا في الواقع وإن لم يكن اللفظ مستعملا في التعيين بل هذا أكثر وأظهر في الأخبار » ومراده من هذا الاعتبار في الأخبار نظير ما في قوله تعالى : ( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ )(١).

فصار محصّل الفرق بين مذهب المحقّق السلطان ومذهب المشهور ـ مع اشتراكهما في القول بوجوب العمل بالمقيّد لكونه عملا بالمطلق أيضا ـ أنّ المطلق مع العمل بالمقيّد عند المشهور يحمل على المقيّد فيكون مجازا وعنده يبقى على حقيقته.

ويرد عليه : أنّه إن أراد بما ذكره من طريق الجمع إمكانه فلا كلام معه ، ومرجعه إلى أنّ التقييد في المطلقات لا يستلزم تجوّزا في اللفظ وهو الّذي حقّقناه في المقام الأوّل ، وإن أراد به ظهوره في متفاهم العرف فهو دعوى بعيدة لا ينبغي الإصغاء إليه ، لظهور المقيّد حيث قابله المطلق في كونه بيانا للمطلق كاشفا عن أنّ المراد منه المقيّد بقيد الخصوصيّة.

ثمّ إنّ في كلامه جملة من حزازات اخر يقف عليها المتدبّر مثل قوله : « ألا ترى أنّه معروض للقيد في المقيّد »وفيه : أنّ معروض القيد هو اللفظ الّذي لولا عروض القيد له كان مطلقا وإلاّ فهو بوصف معروضيّة للقيد مقيّد لا مطلق.

فدعوى كون معروض القيد مطلقا أو كون المطلق معروضا غريبة. ومثل قوله : « وإلاّ لزم حصول المقيّد بدون المطلق » وفيه : أنّه ممّا لا استحالة فيه بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فإنّ المقيّد والمطلق متضادّان فكيف يمكن أن لا يحصل المقيّد بدون المطلق ، وإنّما المستحيل حصوله هو الماهيّة بدون الفرد.

وقد يتمسّك لحمل المطلق بأصل الشغل المقتضي للبراءة اليقينيّة الّتي لا تحصل إلاّ بالعمل بالمقيّد كما في القوانين (٢) تبعا للمصنّف والعلاّمة في النهاية قالوا : « لئن سلّمنا تساوي الاحتمالين فنقول : إنّ البراءة اليقينيّة لا تحصل إلاّ بالعمل بالمقيّد ».

واعترض عليه المحقّق السلطان في حاشية المعالم : « بأنّه بعد تسليم لزوم المجاز

__________________

(١) يس : ٢٠.

(٢) القوانين ١ : ٣٢٥.

٨٥٠

وتساوي المجازين لا جزم بشغل الذمّة ولا الظنّ به حتّى يجب تحصيل البراءة والخروج عن عهدته » وقد ذكر نحو ذلك قبيل هذا في حاشية اخرى فقال : « واحتمال شغل الذمّة من غير الجزم أو الظنّ به أوّلا لا يقتضي وجوب العمل ، غايته الاحتياط وهو ليس بواجب » انتهى.

وفيه من الوهن والفساد ما لا يخفى ، فإنّ احتمال المجاز في المقيّد مع احتماله في المطلق وتساويهما لا يوجب الشكّ في أصل شغل الذمّة الّذي هو شكّ في التكليف ، بل يوجب دوران المشتغل به الذمّة بحسب الواقع بين الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة الّذي هو شكّ في المكلّف به.

فقول المعترض : « لا جزم بشغل الذمّة ولا الظنّ به » إن أراد به إنكار العلم أو الظنّ أو الظنّ المعتبر بأصل اشتغال الذمّة ومرجعه إلى دعوى الشكّ في أصل التكليف فهو خروج عن مقتضى الفرض من أنّ ورود المطلق والمقيّد معا أوجب العلم بأصل التكليف ، وتعارضهما دورانه في النظر بين التخيير والتعيين ويلزم دوران المكلّف به الواقعي بين الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة ، وإن أراد به إنكار العلم أو الظنّ بشغل الذمّة بالمقيّد بالخصوص فهو كذلك إلاّ أنّ العلم بشغل الذمّة بالأمر المجمل المردّد بين الأمرين كاف في جريان أصل الاشتغال الّذي مناطه الحكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة الّذي لا يحصل إلاّ بالإتيان بالمقيّد ، ولا حاجة معه إلى ثبوت وجوب الاحتياط شرعا ولا إلى ثبوت اشتغال الذمّة بالمقيّد بالخصوص ، وإلاّ لم يحتج في التزام وجوب الإتيان به إلى توسيط قاعدة الشغل هذا.

ولكنّ الإنصاف [ أنّ التمسّك ] بأصل الشغل في نحو المقام ليس في محلّه.

أمّا أوّلا : فلأنّ مرجع تساوي احتمالي المجاز في المطلق والمجاز في المقيّد إلى تساوي الدلالتين المستلزم لوقوع التعارض بين الدلالة المجازيّة في أحدهما والدلالة الحقيقيّة في الآخر والتساوي يوجب الإجمال في الخطابين ، ومرجع الترجيح بأصل الشغل إلى تحكيم حقيقة المقيّد على حقيقة المطلق وإحراز دلالته المجازيّة ، على معنى أنّه يكشف عن اختيار التجوّز في المطلق بإرادة المقيّد منه مجازا وهذا غير معقول ، لأنّ الأصل المذكور لكونه من الاصول العمليّة متكفّل لبيان كيفيّته الّذي مرجعه إلى بيان الحكم الظاهري المجعول للجاهل الشاكّ في المكلّف به الواقعي غير متعرّض لحال الدليل ببيان المراد منه في الواقع ، حيث لا نظر فيه إلى الواقع أصلا وإلاّ كان مؤدّاه حكما واقعيّا وهو

٨٥١

باطل بدليل الخلف.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأصل حكم كلّي لموضوع أخذ فيه ما ينافي الدلالة وهو الإجمال فلا يصلح محرزا لها بل لا يعقل ذلك أيضا ، ولذا حقّق في محلّه أنّ الأصل كما لا يصلح معارضا للدليل فكذا لا يصلح معاضدا له ولا مرجّحا له لعدم اتّحاد موضوعيهما.

وأمّا ثالثا : فلأنّ العمل بالمقيّد من جهة الأصل المذكور إمّا أن يراد به الالتزام بمؤدّاه وهو الأخذ بالوجوب التعييني للفرد على أنّه حكم واقعيّ فعليّ أو يراد به تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة على مؤدّاه وهو الإتيان بعتق رقبة مؤمنة مثلا امتثالا للأمر التعييني.

وأيّا مّا كان فالتمسّك بأصل الاشتغال لإتيانه ليس في محلّه لعدم كون الأصل في مجراه.

أمّا على الأوّل : فلأنّ من شروط جريان ذلك الأصل وجود القدر المتيقّن في مجراه ليكون نتيجته وجوب الأخذ بالقدر المتيقّن وهذا الشرط مفقود في مفروض المقام ، ضرورة أنّ الوجوب التعييني ليس قدرا متيقّنا في محلّ تعارض الخطابين من حيث الدلالة في التخيير والتعيين.

وأمّا على الثاني : فلأنّ من شروط جريان هذا الأصل بعد إحراز العلم بأصل التكليف وكون الشكّ في المكلّف به ووجود القدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة في البين أن لا يكون الشكّ في المكلّف به آئلا إلى الشكّ في [ التكليف ] وإلاّ كان المورد من مجرى أصل البراءة ، وهذا الشرط غير متحقّق في المقام لتيقّن ثبوت التكليف بأصل الماهيّة في الجملة من ملاحظة الخطابين وأول الشكّ في أنّ المكلّف به المعلوم بالإجمال في مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » هل هو الماهيّة المطلقة أو الماهيّة المقيدة إلى اشتراط الماهيّة المأمور بها بالإيمان؟ وهذا شكّ في التكليف بأمر زائد على الماهيّة والأصل براءة الذمّة عن الأمر الزائد.

لا يقال : هذا إنّما يتمّ لو فرض أنّا مكلّفون بعتق رقبة ولا نعلم هل يشترط « الإيمان » أم لا؟ فحينئذ يمكن نفيه بأصل البراءة وليس كذلك ، إذ بعد تعارض المجازين وتصادم الاحتمالين يبقى الشكّ في أنّ المكلّف به هل هو المطلق أو المقيّد؟ وليس هاهنا قدر مشترك يقينيّ نحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ، لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل ولا تفارق بينهما.

لأنّا نقول : إنّ « عتق رقبة » في الجملة الصادق مع عتق رقبة مطلقة ومع عتق رقبة

٨٥٢

مقيّدة يكفي في كونه قدرا مشتركا يقينا ، والمفروض تيقّن التكليف به من ورود الخطابين وكون عنوانيهما « عتق رقبة » واحتمال المجاز في المطلق يوجب احتمال اشتراطه بالإيمان ، واحتمال المجاز في المقيّد يوجب احتمال عدم اشتراطه بالإيمان ، ومرجع تساوي الاحتمالين إلى الشكّ في الاشتراط وعدمه وهو شكّ في الزائد فينفى بالأصل ، هذا.

وأمّا رابعا : فلأنّ أصل الشغل لو صلح مرجّحا لدلالة المقيّد فأصل البراءة أيضا يصلح مرجّحا لدلالة المطلق ، ولذا تمسّك به غير واحد لإثبات الاجتزاء بأيّ فرد ، والأصلان إذا تعارضا يقدّم الوارد منهما على الآخر وهو هنا أصل البراءة كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

والعجب عن بعض الأعلام أنّه في غير موضع في مسألة دوران الواجب بين التخيير والتعيين بنى على أصالة التخيير اعتمادا على أصالة البراءة النافية للضيق اللازم من التعيين ، فكيف اعتمد هنا على أصل الاشتغال لترجيح دلالة المقيّد ، مع أنّ أصله المذكور يقتضي ترجيح دلالة المطلق عملا بأصل البراءة.

المرحلة الثانية : في أنّ المقيّد بعد ثبوت وجوب حمله على المقيّد بيان للمطلق سواء اقترنا أو تقدّم المطلق أو المقيّد ، ودليله الدليل الأوّل على وجوب الحمل ولا حاجة معه إلى دليل آخر سواه ، خلافا لمن زعمه في صورة التأخّر ناسخا.

ويدفعه : ما ذكرناه ، مضافا إلى ندرة النسخ بالنسبة إلى التقييد والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

نعم لو ورد المطلق والمقيّد في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم بتأخّر المقيّد عن حضور وقت العمل بالمطلق لا محيص من التزام النسخ حذرا عن تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وينبغي التنبيه على امور :

الأمر الأوّل : لا يعتبر في المقيّد أن يكون من باب الصفة بل لو لم يكن هناك صفة كما لو قال : « أعتق رقبة » و « أعتق مباركا » مثلا وجب الحمل لوحدة المناط وهو فهم العرف ولزوم التنافي بالتخيير والتعيين لولا الحمل.

وبالتأمّل في ذلك مضافا إلى ما مرّ مرارا في كلماتنا السابقة من أنّ الموجب للحمل إنّما هو هذا التنافي يندفع ما سبق إلى بعض الأوهام من لزوم التناقض على القول بعدم حجّية مفهوم الصفة ، فإنّ قائليه قد حملوا المطلق بمفهومها في مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » فإذا لم يكن مفهوم الصفة عندهم حجّة فكيف يقيّدون بها المطلق.

٨٥٣

ووجه الاندفاع ـ مع عدم انحصار محلّ الحمل فيما إذا كان هناك صفة ، وعدم منافاة مفهوم الصفة على القول به في المقيّد لمنطوق المطلق ، لأنّ نفي الوجوب العيني لا ينافي الجواز فلا ينافي التخيير ـ : أنّ تنافي المدلولين يوجب حمل المطلق على المقيّد [ و ] يكفي فيه تنافي منطوقيهما بالتخيير والتعيين بل هو الموجب للحمل لا غير ، ولا حاجة معه إلى اعتبار المفهوم في الصفة فلا فرق في وجوب حمل المطلق على المقيّد دفعا لتنافي المنطوقين بين القول بحجّيّة مفهوم والقول بعدم حجّيّته ، فلا تناقض على الثاني.

الأمر الثاني : أنّ حمل المطلق على المقيّد الّذي معناه تحكيم دلالة المقيّد باعتبار كونه أظهر على دلالة المطلق باعتبار كونه من قبيل الظاهر إنّما هو إذا لوحظ كلّ منهما من حيث هو هو ، بأن لم يعتضد المطلق بما يوجب أقوائيّة دلالته أو لم يطرأ المقيّد ما يوجب أضعفيّة دلالته ، كشهرة العمل بإطلاق المطلق أو شهرة ترك العمل بحقيقة المقيّد إن اعتبرناها في مقام ترجيح الدلالة ، وإلاّ لا حمل بل يجب العمل بإطلاق المطلق وحمل المقيّد على مجازه لانقلاب الأظهريّة بالاعتضاد الخارجي ونحوه.

الأمر الثالث : لو كان المطلق منصرفا إلى بعض أفراد الماهيّة لشيوعه والمقيّد مقيّدا بما هو من خواصّ الفرد النادر بحيث لو بني على حمل المطلق على المقيّد كان حملا له على الفرد النادر كما لو قلنا في : « أعتق رقبة » مثلا بانصرافه إلى « الأسود » لكونه الشائع من أفراد رقبة ، وورد في المقيّد : « أعتق رقبة أبيض » فهل يحمل المطلق في مثله أيضا على المقيّد ليكون معناه صرفه عن الفرد الشائع المنصرف إليه الإطلاق إلى الفرد النادر أم لا؟

فالوجه أنّه لا معنى للحمل هنا لانتفاء تنافي التخيير والتعيين في نحوه ، فإنّ المطلق لانصرافه إلى الفرد الشائع لا يقتضي التخيير بينه وبين الفرد النادر ، بل مقتضاه تعيين الفرد الشائع ومقتضى المقيّد تعيين الفرد النادر.

وهذا الاختلاف أيضا بعد ملاحظة وحدة التكليف من تنافي مدلولي الدليلين ، فالّذي يساعد عليه النظر في حكم هذا القسم أنّهما من المتعارضين اللذين لا يمكن الجمع بينهما من حيث الدلالة إلاّ إذا صحّ حمل أمريهما على التخيير ، بأن يحمل كلّ منهما على وجوب مورده على أنّه أحد فردي الواجب التخييري ، وإذا لم يمكن هذا الحمل أيضا لا بدّ في علاج التعارض من الرجوع إلى المرجّحات السنديّة والترجيح السندي إن أمكن ، وإلاّ يرجع المورد إلى مسألة التعادل فيراعي كلّ أحد فيه ما هو مذهبه ثمّة من البناء على

٨٥٤

التخيير في العمل أو على التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو على الوقف مع الرجوع في العمل إلى الأصل.

الأمر الرابع : لو ورد مطلق ثمّ ورد مقيّدان متضادّان مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة حبشيّة » و « أعتق رقبة بنباسيّة » ففي نهوض التضادّ قرينة على تحكيم دلالة المطلق على دلالتيهما فيحمل الأمر في كلّ منهما على الوجوب التخييري بمعنى وجوب مورده على أنّه أحد فردي الواجب التخييري فيكون ذلك تخييرا شرعيّا مؤكّدا للتخيير العقلي المستفاد من المطلق ، أو موجبا لإجمال المطلق باعتبار كشف كلّ منهما عن إرادة مورده منه ، فيكون « الرقبة » في المثال المذكور مردّدا بين الماهيّة المقيّدة بالحبشيّة والماهيّة المقيّدة بالبنباسيّة فيكون مجملا فيتوقّف ثمّ يرجع للعمل إلى الاصول الّتي منها أصالة الاشتغال المقتضية للجمع والتكرار تحصيلا ليقين البراءة وجهان ، مبنيّان على اختلاف الموارد من حيث العلم بأنّ المأمور به أحد المقيّدين في الواقع [ المعلوم ] عند الله بعد العلم بوحدة التكليف فيبنى على الإجمال والوقف ، كما في إطلاق [ الأمر ] بالصلاة في يوم الجمعة مع ورود الأمر بصلاة الظهر تارة والأمر بصلاة الجمعة اخرى وعدم العلم بالتعيين بعد العلم بوحدة التكليف بحيث احتمل كلّ من التعيين والتخيير في المقيّدين فيبنى على الجمع والتحكيم حسبما بيّنّاه.

الأمر الخامس : لو ورد مطلق ومقيّد وتعذّر العمل بالمقيّد كما لو قال : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » ولم يتمكّن المكلّف من « المؤمنة » فهل تعذّر العمل به مانع من حمل المطلق عليه ، فيبقى على إطلاقه فيعمل بإطلاقه في الفرد الآخر الغير المتعذّر لسقوطه عن الاعتبار أو لا؟ لأنّ تعذّر العمل به يزاحم التكليف به فيسقطه ولا يزاحم دلالته على التعيين ، وحمل المطلق على المقيّد اعتبار يتبع الدلالة ، وسقوط التكليف بالعمل به ليس سقوطا له عن الاعتبار فيحمل المطلق عليه لفهم العرف ودفعا للتنافي ، ويلزم منه أن يكون تعذّر العمل بالمقيّد تعذّرا للعمل بالمطلق أيضا فيسقط التكليف بهما معا ، ثمّ يرجع الواقعة إلى مسألة استلزام انتفاء القيد انتفاء المقيّد وهو الماهيّة فلا يجب الإتيان بها في ضمن فردها الآخر لعدم تعذّره لعدم الدليل عليه ، والأصل براءة الذمّة عنه.

وهنا جفّ قلمه الشريف في مباحث الألفاظ ، ويا ليت امتدّ في الليالي والأيّام ، شكر الله سعيه وحشره مع سيّد الأنام.

٨٥٥
٨٥٦

فهرس المحتوى

بحث في الواجب المخيّر

في شرح ماهيّة الواجب المخيّر.............................................. ٣

في تحديد الواجب المخيّر................................................... ٥

في تعيين ما تعلّق به الوجوب في الواجب المخيّر............................... ٦

في ذكر أقوال المسألة والإشارة إلى أدلّتها.................................... ٢٢

فوائدة مهمّة وقواعد لطيفة

هل الأمر حقيقة في التعيين ومجاز في التخيير أو للقدر المشترك بينهما؟........... ٤٨

هل الأصل في الواجب هو التعييني أو التخييري؟............................. ٥٥

في التخيير بين الأقلّ والأكثر.............................................. ٥٩

الأمر بالشيئين أو الأشياء على سبيل الترتيب................................ ٦٥

اتّصاف أحد أفراد الواجب التخييري بالاستحباب............................ ٦٧

العدول عمّا شرع فيه من أفراد الواجب المخيّر............................... ٧٠

تحقّق الامتثال بإتيان أحد أفراد الواجب المخيّر............................... ٧٢

تعليقة

في الواجب الكفائي..................................................... ٧٥

٨٥٧

في حقيقة الوجوب الكفائي............................................... ٨١

أدلّة القول بتعلّق الوجوب بالبعض في الواجب الكفائي....................... ٩٥

أدلّة القول بتعلّق الوجوب بالمجموع في الواجب الكفائي....................... ٩٧

في الفروع المتعلّقة بالواجب الكفائي...................................... ١٠٨

الواجب الموسّع

تعريف الواجب الموسّع وبيان حقيقته..................................... ١٤٧

في إمكان الواجب الموسّع عقلاً.......................................... ١٥٢

في وقوع الواجب الموسّع................................................ ١٥٥

أدلّة المنكرين للواجب الموسّع وأجوبتها.................................... ١٥٩

هل يجب العزم على أداء الفعل إذا أخّره عن أوّل الوقت في الواجب الموسّع؟.... ١٦٩

تعليقة

هل الإجزاء من المسائل الاُصوليّة أو من المبادئ الأحكاميّة؟.................. ١٨٣

في حقيقة الإجزاء...................................................... ١٨٤

في كلام القاضي عبد الجبّار ونقده....................................... ١٨٨

لا يرتبط هذا البحث بالبحث في تبعيّة القضاء للأداء وعدمها و............... ١٩١

في المراد من القضاء المتنازع في سقوطه وعدمه............................. ١٩٢

مسائل ينبغي التنبيه عليها

في إجزاء المأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي....................... ١٩٧

هل تجزئ الصلاة مع الطهارة الظاهريّة عن الصلاة مع الطهارة الواقعيّة؟........ ٢٠٤

اعتقاد المكلّف لا يؤثّر في حصول الإجزاء ما لم يطابق المعتقد الواقع........... ٢٠٧

تعليقه

هل القضاء تابع للأداء أم لا؟............................................ ٢١٠

٨٥٨

تذنيب

في حكم ما إذا ورد الأمر بمركّب وتعذّر بعض أجزائه....................... ٢٢١

تعليقة في المنطوق والمفهوم

ما هو المقصود بالأصالة من عقد هذا الباب؟............................... ٢٢٥

المنطوق والمفهوم من مصطلحات الاُصوليّين............................... ٢٢٦

هل تكون واسطة بين المنطوق والمفهوم أم لا؟.............................. ٢٢٨

في الفرق بين المنطوق والمفهوم........................................... ٢٣١

في تعريف المنطوق والمفهوم............................................. ٢٣٤

في تقسيم المنطوق إلى صريح وغير صريح................................. ٢٣٨

في الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء.................................. ٢٤٤

المناطيق الغير الصريحة ظهورات ثانويّة.................................... ٢٤٤

في تقسيم المفهوم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.......................... ٢٤٥

مفهوم الشرط

في معنى الشرط........................................................ ٢٤٧

في بيان إطلاقات الجملة الشرطيّة......................................... ٢٥١

في ظهور الجملة الشرطيّة في العلقة فيما بين الشرط والجزاء................... ٢٥٢

في ظهور الجملة الشرطيّة في سببيّة العلقة والربط........................... ٢٥٤

في ظهور الجملة الشرطيّة في تماميّة السبب واستقلاله........................ ٢٥٧

هل الشرط سبب على التعيين أو على البدل؟............................... ٢٥٨

ثمرة النزاع بين القول بمفهوم الشرط وعدمه................................ ٢٦٠

في تأسيس الأصل عند فقد الدليل على أحد القولين في المسألة................ ٢٦٦

في بيان الدليل على المختار.............................................. ٢٧٠

٨٥٩

في أدلّة الأقوال........................................................ ٢٧٩

حجج المنكرين لحجّية مفهوم الشرط..................................... ٢٨٤

القضيّة الشرطيّة تقتضي التلازم بين المقدّم والتالي في طرفي الوجود والعدم...... ٢٨٧

في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء........................................... ٢٨٨

هل يقتضي تعدّد الأسباب تعدّد المسبّبات أم لا؟............................ ٢٩٣

مفهوم الوصف

توضيح كلام الماتن..................................................... ٣٤٢

المراد بالوصف أو الصفة في مفهوم الوصف................................ ٣٤٣

في جملة اُخر من مرتبطات المسألة........................................ ٣٤٤

في أقوال المسألة حسبا يشير إليه المصنّف................................... ٣٤٦

في بعض الفوائد الهامّة.................................................. ٣٥٥

مفهوم الغاية

الغاية تطلق على معان ليس من المتنازع فيه إلاّ بعضَها....................... ٣٧٣

موضع الكلام في المقام الغاية بمعنى النهاية.................................. ٣٧٥

تحقيق معنى « الحكم » في محلّ النزاع..................................... ٣٧٨

هل الغاية قيد راجع إلى الحكم أو الموضوع؟............................... ٣٧٩

تنبيهات مفهوم الغاية................................................... ٣٩٣

تعليقة

مفهوم الحصر......................................................... ٤٠٠

تعليقة

مفهوم « إنّما »....................................................... ٤١٢

٨٦٠