تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

وأيضا : اشتهر في الألسن حتّى صار مثلا أنّه : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ منه » ، وهو وارد على سبيل المبالغة والحاق القليل بالعدم. والظاهر يقتضي كونه حقيقة في الأغلب مجازا في الأقلّ ، تقليلا للمجاز* (١).

والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل** (٢) ، فبأنّه إثبات اللّغة بالترجيح ، وهو غير جائز

_______________________________

إنّ غرضه من الوضع التفهيم.

(١) * معنى وروده على سبيل المبالغة أنّ دعوى الحصر في بيان ذلك المثل مبالغة في دعوى غلبة استعمال كلّ صيغة من هذه الصيغ في الخصوص تنبيها على كونها في أعلى مراتب الغلبة بحيث يلحق النادر معه لكمال ندرته بالمعدوم ، لا أنّ المراد به الحصر الحقيقي لئلاّ ينتقض بمثل : « أنّ الله بكلّ شيء عليم » (١) لعدم تطرّق تخصيص إليه ، والمراد بالظاهر المقتضي لكون اللفظ حقيقة في الأغلب مجازا في الأقلّ الغلبة المقتضية لظهور لحوق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب ، فإنّ الغالب في الألفاظ الغالب استعمالها في معنى مع ندرة استعمالها في معنى آخر كونها حقيقة في الغالب ومجازا في النادر وعلى الحكم بذلك بناء العرف.

(٢) ** والأولى أن يقرّر الجواب : بأنّ كون الخصوص متيقّن المراد إن اريد به تيقّن إرادته من اللفظ بالخصوص ، ففيه ـ مع أنّه خلاف مقتضي تقرير الدليل ـ : أنّه واضح المنع لأنّ كونه مرادا على هذا الوجه محتمل لا أنّه متيقّن.

وإن اريد به القدر المشترك المنتزع عن الاحتمالين ـ احتمال كونه من المراد على تقدير إرادة العموم ، واحتمال كونه مرادا بالخصوص على تقدير إرادة الخصوص ، فهو كالجنس المشترك بين النوعين لا يدلّ على أحدهما بالخصوص فلا يكشف عن الوضع للخصوص بالخصوص ، والوضع المسلّم عند الخصم وإن كان يقتضي مرجّحا ولكنّ ذلك الأمر المشترك بين الاحتمالين لا يصلح مرجّحا.

ودعوى كون الوضع للخصوص بالخصوص أوفق بحكمة الوضع.

يدفعها : أنّ حكمة الوضع بمعنى العلّة الباعثة على فتح باب نوع الوضع إنّما هو التفهيم

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

٧٢١

والتفهّم من دون الحاجة إلى تجشّم القرائن ، وهذا لا يقتضي شيئا من الوضع للعموم ولا الوضع للخصوص لمكان الحاجة إلى تجشّم القرينة في تفهيم خلاف الموضوع له وتفهّمه لا محالة سواء كان العموم أو الخصوص ، إذ كما أنّه على تقدير الوضع للعموم يحتاج فهم الخصوص عند استعمال اللفظ فيه بالخصوص إلى قرينة المجاز ، فكذلك على تقدير الوضع للخصوص يحتاج فهم العموم حيث يستعمل اللفظ فيه إلى قرينة المجاز ، فخلاف حكمة الوضع بالنسبة إلى أحد المعنيين لازم لا محالة ، فلا يكون الوضع للخصوص أوفق بحكمة الوضع بمجرّد كونه متيقّنا بالمعنى المنتزع من احتمال كونه من المراد واحتمال كونه مرادا بالخصوص.

فلابدّ وأن يكون المرجّح شيئا آخر صالح للمرجّحيّة في نظر الواضع وهو أمر لا نعرفه بالخصوص ولا يعرفه العقل ، بل يحتمل عنده كونه في جانب العموم كما يحتمل كونه في جانب الخصوص ولا طريق له إلى إدراك أحدهما ، ولا يحكم بكونه في نظر الواضع هو تيقّن الإرادة بالمعنى الأعمّ لا حكما قطعيّا ولا ظنّيا ، وهذا هو معنى ما ذكروه في الجواب وأشار إليه المصنّف أيضا من أنّه إثبات اللغة بالترجيح وهو غير جائز يعني به الترجيح العقلي.

ووجه عدم جوازه : أنّ العقل لا حكم له في تعيين الحكمة المرجّحة للوضع لكونها منوطة بنظر الواضع لا غير ، فالترجيح العقلي الّذي لا يجوز اتّباعه في اللغات عبارة عن الملازمة بين شيئين لا طريق إلى إدراكها إلاّ من جهة العقل وهو مع ذلك لا يدركها أصلا لا علما ولا ظنّا ، ولو فرض أنّه يدركها ظنّا فهو غير معتبر لعدم حجّيّة الظنّ في اللغات على ما حقّقناه في غير موضع.

وتوضيح المقام : أنّ الشيء لا ينهض دليلا إلاّ بإثبات مقدّمتين الّذي مرجعه إلى إحراز ملازمتين : إحداهما الملازمة بين الأصغر والأوسط ، والاخرى الملازمة بين الأوسط والأكبر ، وهذا فيما ينتظم بطريق الشكل الأوّل يتأتّى بإثبات كون الأوسط لازما للأصغر ملزوما للأكبر ، وظاهر أنّ إثبات كلّ من الملازمتين لابدّ له من طريق وهو في اللغات إمّا الحسّ أو ما يقرب من الحسّ باعتبار كون مقدّماته حسّيّة ، أو العادة ، أو العرف فقط ، أو هو والعقل معا ، أو العقل فقط ، والحسّ مع ما يقرب منه طريق غالبي في إحراز الصغرى كاستماع نقل الوضع عن الواضع واحدا أو متواترا ، واستماع تنصيص أهل اللسان ، ومشاهدة الترديد بالقرائن ، وغلبة استعمال اللفظ في معنى وندرة استعماله في آخر ، فإنّ

٧٢٢

كلاّ من هذه المذكورات طريق حسّي يوجب العلم بالملازمة.

وكالتبادر وعدم صحّة السلب ونحو هما من الأمارات الاخر فإنّ كلاّ من ذلك طريق قريب من الحسّ ، نظرا إلى أنّ التبادر مثلا يدرك بالوجدان ولكن بواسطة مقدّمات حسّيّة وهي تتبّع موارد الاستعمال وملاحظة تجرّد اللفظ عن القرائن.

والعادة طريق إلى إثبات الكبرى في خصوص ما ثبت صغراه بالتواتر أو تنصيص أهل اللسان ونحوه ، والعرف أيضا طريق إلى إثبات الكبرى في جملة من الموارد كغلبة استعمال اللفظ في معنى ، فإنّ الحاكم بالملازمة بينها وبين الوضع لما غلب الاستعمال فيه هو العرف.

والعرف والعقل كما في التبادر وغيره بالقياس إلى الكبرى ، فإنّ كلاّ منهما يحكم بالملازمة بين التبادر والوضع للمعنى المتبادر ، أمّا العرف فواضح وأمّا العقل فبملاحظة أنّ التبادر بمعنى فهم المعنى لابدّ له من علّة محدثة وهي إمّا الوضع أو القرينة أو المناسبة الذاتيّة والثاني مع الثالث منتفيان فتعيّن الأوّل.

وأمّا العقل وحده فإن حكم بها على وجه القطع فلا أظنّ أحدا أنكر اعتباره سواء كان في صغرى ـ أو في كبرى ، فمرجع القول ببطلان ترجيح اللغة بالعقل إلى إنكار حكم العقل بالملازمة على وجه القطع ، إمّا بمعنى أنّه لا يحكم بها أصلا ولو ظنّا سواء كان في صغرى ـ كما في دوران التسمية بالاسم مع معنى في المسمّى وجودا وعدما ، كالخمر في تسمية المسكر المتّخذ من العنب به فإنّها دائرة وجودا وعدما مع وصف الإسكار الموجود فيه إذ قبله عصير وبعده خلّ وإنّما يسمّى خمرا حال وجوده ، ومعنى الملازمة بينها وبين الوضع كون الخمر موضوعا للمسكر بقول مطلق ، وهذه الملازمة ممّا لا يمكن الاسترابة فيها على تقدير ثبوت الملازمة الاولى بطريق القطع وهي الملازمة بين التسمية والوصف وحده وجودا وعدما.

ولكنّ الملازمة الاولى غير ثابتة إذ العقل لا يحكم بها ، لإمكان قلب الدوران بأنّ التسمية تدور مع الوصف والمحلّ وهو « ماء العنب » وجودا وعدما فالعلّة مركّبة ، على معنى أنّ المجموع إذا وجد وجدت التسمية وإذا انتفى انتفت ـ أو كان في كبرى ، سواء كان الوسط الّذي لا يحكم العقل بالملازمة بينه وبين الوضع معلولا للوضع على فرض ثبوت الملازمة ، كما في منع كون الاطّراد علامة على الوضع لكونه أعمّ بوجوده في المجازات أيضا على القول بكفاية نوع العلاقة فيها ، أو علّة له على فرض ثبوت الملازمة أيضا كما في تيقّن الإرادة المستدلّ به لإثبات وضع ألفاظ العموم للخصوص ، فإنّ الملازمة بينه وبين

٧٢٣

على أنّه معارض بأنّ العموم أحوط ؛ إذ من المحتمل أن يكون هو مقصود المتكلّم ؛ فلو حمل اللّفظ على الخصوص لضاع غيره ممّا يدخل في العموم. وهذا لا يخلو من نظر* (١).

_______________________________

الوضع باعتبار كونه علّة باعثة عليه لا حاكم بها إلاّ العقل ، والمفروض أنّه غير حاكم التفاتا منه إلى قيام احتمال كون العلّة الباعثة في نظر الواضع أمرا آخر اقتضى الوضع للعموم ، ولو استند لإثبات حكم العقل إلى حكمة الوضع ـ كما صنعه بعض الأعلام ـ لتتميم الدليل ، يجاب عنه : بأنّ حكمة الوضع علّة باعثة على فتح باب نوع الوضع ولا كلام فيه بل الكلام في شخص الوضع.

ولا ريب أنّ أشخاص الوضع تابعة لحكم خفيّة ومصالح لا يدركها إلاّ الواضع ومن أين ظهر أنّ تيقّن الإرادة من جملة هذه الحكم والمصالح ، ونرى أنّ العقل إذا أورد عليه ذلك كان متحيّرا غير حاكم بشيء كما لا يخفى على المتأمّل المنصف.

ولو سلّم أنّه مع ذلك يحكم بالملازمة الّذي مرجعه إلى الحكم بعلّيّة تيقّن الإرادة فغايته كونه حكما ظنّيّا ، فيتطرّق المنع إلى جواز التعويل عليه لعدم حجّيّة الظنّ في اللغات وأوضاع الألفاظ.

وأمّا ما يقال عليه : من أنّه لا دليل على عدم حجّيّة الظنّ في اللغات بل المحقّق أنّه حجّة وإلاّ لزم انسداد باب الإفادة والاستفادة ، فهو من غرائب الكلام لوضوح منع الملازمة ، فإنّ الأصل الأصيل عدم حجّيّة الظنّ مطلقا حتّى في اللغات والمطالب بالدليل إنّما هو القائل بالحجّيّة لا منكرها ، والاستدلال بلزوم انسداد باب الإفادة والاستفادة لو لا الحجّيّة إنّما يقضي بالحجّيّة في دلالات الألفاظ بعد الفراغ عن إثبات أوضاعها.

وأمّا الأوضاع فلا يلزم ما ذكر من عدم حجّيّة الظنّ فيها لانفتاح باب العلم في غالبها بل القدر المحتاج إليه في مقام الإفادة والاستفادة لوفور الطرق العلميّة بالقياس إليها كما لا يخفى على الخبير البصير.

وقد تقدّم تحقيق القول فيه في أوائل الكتاب عند البحث عن حجّيّة قول اللغويّين ، وسيأتي زيادة تحقيق فيه أيضا في مباحث حجّيّة الظنّ.

(١) * وذكر في وجهه في الحاشية المنقولة عنه : أنّه إنّما يتمّ في الإيجاب حيث يحصل

٧٢٤

الإثم بترك البعض فكان العمل بالعموم أحوط.

وأمّا في الإباحة فظاهر أنّ الخصوص أحوط والأمر سهل.

واعترضه بعض المحقّقين : بأنّه لا يتمّ في الإيجاب أيضا مطلقا ، إذ ربّما كان الخصوص في الإيجاب أيضا أحوط كما في نحو : « اقتل البصريّين » مثلا فإنّ احتمال مخالفة الأمر أهون من قتل النفس المحترمة.

وأنت خبير بأنّ هذه الكلمات ورد على خلاف التحقيق ، إذ ليس المراد بالاحتياط والأحوطيّة هنا ما يرجع إلى مقام التكليف والخطاب الشرعي ، إذ لا ملائمة بين وضع اللفظ والتكليف الشرعي ، بل المراد بهما ما يرجع إلى مقام المحاورة والتخاطب الواقع بين المتكلّم والمخاطب وإن لم يكونا من أهل الشرع بل كانا من منكري الشرائع ، فإنّ مقتضى مقام التخاطب أن يستكمل المخاطب غرض المتكلّم ومقصوده من اللفظ ويحمله على ما لا يفوت معه شيء من غرض المتكلّم ومقصوده ، فالأحوط له من هذه الجهة أن يحمله على العموم إذ لو حمله على الخصوص ربّما يفوت عليه بعض غرض المتكلّم على تقدير كون مراده العموم كما هو محتمل ، بخلاف ما لو حمل على العموم فلا يفوت شيء من غرض المتكلّم بل يحصل غرضه بتمامه على كلا تقديري إرادته العموم أو الخصوص ، غايته أنّه على الثاني يحصل الغرض مع زيادة.

ولمّا كان الغرض من فتح باب الوضع سهولة فهم أغراض المتكلّمين ومقاصدهم فالأقرب إليه والأنسب بحكمة الواضع أن يضع اللفظ بإزاء معنى لا يفوت مع الحمل عليه اتّكالا إلى الوضع وأصالة الحقيقة شيء من غرض المتكلّمين على سبيل الجزم واليقين لا بإزاء معنى يفوت مع الحمل عليه ـ لأجل ما ذكر ـ بعض غرض المتكلّمين في بعض الأحيان ، وهذا هو معنى قول المجيب : « إذ من المحتمل أن يكون العموم هو مقصود المتكلّم فلو حمل اللفظ على الخصوص لضاع غيره ممّا يدخل في العموم » وهذا كما ترى في مقام معارضة دليل الخصم بمثله في كمال المتانة ، وإن كان مثله راجعا إلى ترجيح اللغة بالعقل لابتنائه على جعل الأحوطيّة علّة باعثة على الوضع.

وبالجملة كما أنّ المستدلّ جعل تيقّن الإرادة علّة باعثة على وضع الألفاظ للخصوص فالمجيب بطريق المعارضة جعل الأحوطيّة علّة باعثة على وضعها للعموم أداءا لحقّ الحكمة بتمامها.

٧٢٥

وأمّا عن الأخير : فبأنّ احتياج خروج البعض عنها إلى التخصيص بمخصّص ظاهر في أنّها للعموم* (١). على أنّ ظهور كونها حقيقة في الأغلب ، إنّما يكون عند عدم الدليل على أنّها حقيقة في الأقلّ ، وقد بيّنا قيام الدليل عليه** (٢). هذا ، مع ما في التمسّك بمثل هذه الشهرة ، من الوهن*** (٣).

_______________________________

(١) * وضعّف بما محصّله : أنّ الاحتياج إلى قرينة التخصيص بمخصّص ليس لخروج ما خرج بل لبقاء ما بقي ، لا على أنّ المخصّص قرينة مجاز بل على أنّه قرينة مفهمة أو قرينة معيّنة على حدّ ما في المشتركات المعنويّة أو اللفظيّة.

والتحقيق في الجواب : أنّ الغلبة المدّعاة غير متحقّقة على تقدير إرادة غلبة الاستعمال في كلّ مرتبة من مراتب الخصوص وغير مجدية على تقدير إرادة غلبة مجموع الاستعمالات الواقعة على مراتب الخصوص.

(٢) ** هذا جواب آخر محصّله : أنّ غلبة الاستعمال في ظهورها في وضع اللفظ للأغلب دليل تعليقي مراعى بعدم قيام دليل على الوضع للأقلّ بالخصوص ، وقد بيّنّا قيام الدليل عليه وهو التبادر الضروري ومعه لا تأثير للغلبة ، فلا تكون ظاهرة في الوضع للأغلب وإن بلغت إلى ما بلغت.

(٣) *** اعترض عليه بعض الأعلام : « بعدم كون متمسّك المستدلّ هو نفس الاشتهار بل لأنّ ذلك المطلوب له حقيقة والمثل مطابق للواقع حتّى أنّ ذلك المثل أيضا مخصّص في نفس الأمر بـ ( أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(١) » انتهى.

ولقائل أن يقول : بأنّ ظاهر عبارة الدليل إنّما هو الاستناد في دعوى الغلبة إلى الاشتهار فيكون تمام الدليل ، نظير ما لو ثبت صغراه بالظنّ والظهور الناشئ من الشهرة ، فيرد عليه ـ مضافا إلى ما مرّ ـ أنّ الغلبة الكاشفة عن الوضع للأغلب في نظر العرف إنّما هي الغلبة المقطوع بها لا الغلبة المظنونة ، هذا مع ما يرد على أصل دعوى الاستعمال في الخصوص استنادا إلى هذه القضيّة المشهورة ، فإنّ مفادها ورود تخصيص على كلّ صيغة من صيغ العموم إلاّ ما قلّ منها وندر مثل ( أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(٢).

__________________

(١ و ٢) البقرة : ٢٣١.

٧٢٦

ولا ريب أنّ ورود تخصيص على كلّ صيغة لا يستلزم غلبة استعمال كلّ صيغة في الخصوص فضلا عن غلبة استعمالها في كلّ مرتبة مرتبة من مراتب الخصوص ، لأنّه يصدق مع ورود تخصيص واحد وما يقرب منه ، وظاهر أنّ بمجرّد ذلك لا يتحقّق غلبة الاستعمال في الخصوص.

وهذا يتوجّه إلى المستدلّ وإن لم يكن مستنده في دعوى القضيّة المشهورة هو الاشتهار ، بل كانت عنده ثابتة بعنوان القطع مطابقة للواقع بطريق اليقين ، ولهذا القائل شبهات اخر لا تليق بالذكر.

حجّة القول بالتفصيل بين الأمر والنهي والخبر : انعقاد الإجماع على عموم التكليف بالأوامر والنواهي فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم لما عمّ التكليف أو كان تكليفا بما لا يطاق ، بخلاف الخبر فإنّه ليس بتكليف مضافا إلى أنّه يجوز وروده بالمجمل من غير بيان كقوله تعالى : ( كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ )(١) وكأنّه أراد من الأمر والنهي المدّعى كونها للعموم مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(٢)( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ )(٣)( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ )(٤) باعتبار اشتمالها على « واو » الجمع فيعمّ التكليف المستفاد منها لجميع المكلّفين ، وكذلك نحو : « أكرموا العلماء » و « لا تقتلوا المشركين » ممّا كان متعلّق الأمر والنهي من الألفاظ المدّعى كونها للعموم ، وإلاّ فنفس الأمر والنهي ليسا من الألفاظ المدّعى كونها للعموم.

وكيف [ كان ] فالجواب عنه :

أوّلا : منع عموم التكليف المنساق من الأوامر والنواهي ، لخروج ذوي الأعذار منهما لا محالة ، فالإجماع المدّعى على العموم ممّا لا أصل له.

وثانيا : منع نهوض الإجماع بعد تسليم انعقاده على عموم التكليف لإثبات الوضع للعموم ، بل غايته الكشف عن إرادة العموم.

وثالثا : لزوم الوضع بشرط لو كان ناهضا لإثبات وضعها للعموم في خصوص الأوامر والنواهي وهو أن يقول الواضع : « وضعت هذه الألفاظ بشرط وقوعها في حيّز الأوامر والنواهي » وهو باطل ، لأنّ من دأب الواضع أن يضع اللفظ لمعنى مطلقا لا بشرط شيء من موارد استعماله.

__________________

(١) يس : ٣١.

(٢) البقره : ٤٣.

(٣) الأنعام : ١٥٢.

(٤) النساء : ٥.

٧٢٧

وقضيّة ذلك أن يكون لفظ العامّ ظاهرا في العموم عرفا ولغة سواء ورد في كلام الشارع أو غيره وسواء كان الكلام تكليفيّا أو خبريّا ، ولا ينافيه الإجماع على عموم التكليف المنساق من الأمر والنهي ، لأنّ غايته أنّ الخبر ممّا سكتوا عن حكمه من حيث الحمل على العموم وعدمه ولم يتعرّضوا لحاله ولا تحقيق مفاده لعدم فائدة مهمّة فيه ، بخلاف الأمر والنهي فإنّ الابتلاء بهما من قبل الشارع دعاهم إلى النظر في تحقيق حالهما فأجمعوا بعد إمعان النظر على عموم التكليف المنساق منهما.

هذا تمام الكلام في صيغ العموم في الجملة لإثبات الوضع للعموم على وجه الإيجاب الجزئي.

وأمّا الكلام في جملة من ألفاظ العموم تفصيلا لما فيها من بعض الخصوصيّات فيقع في فصول :

الفصل الأوّل

في لفظة « كلّ » و « جميع » و « أجمع » وتوابعهما المشهورة ، وظاهر إطلاق كلامهم في العنوان السابق دخولها في النزاع المتقدّم وهو الظاهر من عبارة المصنّف وغيره ممّن استدلّ لإثبات الوضع للعموم خاصّة بأنّه لولاه لزم أن يكون القائل : « رأيت الناس كلّهم أجمعين » مؤكّدا للاشتباه.

بل عن الشيخ والرازي التصريح بذلك كما صرّح به بعض الأعاظم أيضا.

ولكن عن التفتازاني والباغنوي وبعض آخر التصريح بخروجها عن محلّ النزاع ، حتّى أنّه عن بعضهم أنّه خصّ النزاع المتقدّم بألفاظ مخصوصة لا أنّه في أنّ العموم ليس له لفظ أصلا ، ولا خفاء في ضعفه.

وكيف كان هذه الألفاظ مفيدة للعموم بحسب الوضع دالّة عليه بعنوان الحقيقة من بديهيّات العرف واللغة بحيث يعدّ التشكيك فيه تشكيكا في الضروريّات ، ولذا نجد بالضرورة من العرف أنّ كلّ من يقصد تعميم حكم كلامه إيجابيّا أو سلبيّا بالقياس إلى جزئيّات أو أجزاء موضوعه يأتي فيه بأحد هذه الألفاظ.

هذا مضافا إلى ضرورة التبادر وتصريح أئمّة اللغة والعربيّة بذلك واتّفاقهم عليه ، وكون « الكلّ » ممّا يعدّ سورا للإيجاب الكلّي الّذي ينقضه السلب الجزئي كما يرشد إليه انفهام المناقضة في متفاهم العرف بين قولي القائل : « رأيت كلّ رجل » و « ما رأيت زيدا » وصحّة تكذيب من قال : « كلّ الناس علماء » و « رأيت كلّ رجل ».

٧٢٨

وينبغي التنبيه على امور :

أحدها : أنّ لفظة « كلّ » تعمّ العاقل وغيره كما نصّ عليه غير واحد ، ويشهد له صحّة قولهم : « كلّ فرس » و « كلّ شجر » و « كلّ حجر » و « كلّ ثوب » و « كلّ خبز » و « كلّ رمّانة ».

ثانيها : أنّها قد تأتي في الكلام منوّنة ومنه قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ )(١) وقد تأتي مضافة وهو الغالب ، بل إليه يرجع الأوّل كما نصّ عليه في العربيّة بناء على كون تنوينها للعوض عن المضاف إليه المحذوف.

ثالثها : أنّ لفظة « كلّ » قد ترد في الكلام لاستغراق الجزئيّات وقد ترد لاستغراق الأجزاء ، وإنّما يتمايزان بإضافتها إلى النكرة أو إلى المضاف إلى النكرة كـ « اشتريت كلّ عبد » و « اشتريت كلّ غلام رجل » وما أشبه ذلك فتفيد استغراق الجزئيّات ، أو إلى المعرفة علما أو ضميرا كـ « اشتريت كلّ العبد » و « اشتريت العبد كلّه » فلاستغراق الأجزاء ، وأمّا قولنا : « اشتريت كلّ غلام زيد » فيحتمل الأمران ويعلم المراد بالخارج ، ومن الخارج العلم بانحصار عبد زيد في واحد والعلم بتعدّد عبيده مع انتفاء العهد ، والظاهر أنّها مشتركة بينهما لعدم تبادر أحدهما بعينه حيث قطع النظر عن القرينة ، وإضافتها إلى النكرة وما بحكمها قرينة تعيين أوّل المعنيين كما أنّ إضافتها إلى المعرفة قرينة تعيين ثانيهما ، بالنظر إلى أنّ المعرفة الدالّة على شيء بعينه لا يعقل لمدلولها تعدّد إلاّ بحسب الأجزاء بخلاف النكرة فإنّ مدلولها فرد أو الماهيّة فيقبل التعدّد في المصاديق والأفراد ، فمن زعم اختصاصها بالعموم الأفرادي كبعض الأعلام وغيره فقد سها.

ويظهر من العدّة أيضا كونها للأعمّ حيث قال عند تعداد ألفاظ العموم : « ومنها لفظة « كلّ » إذا دخلت في الكلام ، فإنّها تفيد الاستغراق سواء دخلت للتأكيد أو لغير ذلك ، فأمّا ما يدخل للتأكيد نحو قول القائل : « رأيت الرجال كلّهم » فإنّ ذلك يفيد الاستغراق وما يدخل لغير التأكيد نحو قول القائل : « كلّ رجل جاءني أكرمته » و « كلّ عبد لي فهو حرّ » وعلى هذا القياس قوله تعالى : ( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها )(٢).

رابعها : دلالة لفظ « كلّ » على الجزئيّات المستغرق لها وكذلك الأجزاء التزاميّة كما تقدّم الإشارة إليه سابقا ، لكونها من قبيل الخارج اللازم للموضوع له وهو العموم بمعنى الشمول المتعلّق بالجزئيّات أو الأجزاء ، فالموضوع له هو المتعلّق بالكسر ولا ينفكّ عنه

__________________

(١) الإسراء : ٨٤.

(٢) الملك : ٨.

٧٢٩

المتعلّق بالفتح فيكون من ضروريّاته ولوازمه.

خامسها : المعروف من أهل العربيّة : [ انّ ] لفظة « كلّ » إذا اجتمعت في الكلام مع أداة النفي فهي لعموم السلب الّذي يقال له : « السلب الكلّي » إذا دخلت على أداة النفي ، ولسلب العموم الّذي يقال له : « رفع الإيجاب الكلّي » إذا دخلت عليها أداة النفي ، ومن هنا فرّقوا بين قول القائل : « كلّ إنسان لم يقم » وقوله : « لم يقم كلّ إنسان » بجعل [ الأوّل ] لعموم السلب والثاني لسلب العموم ، ومرجعه إلى الفرق بين نفي شيء عن العامّ فيفيد عموم السلب ونفي العامّ عن شيء فيفيد سلب العموم.

ومن الاصوليّين من أنكر ذلك بدعوى أنّها لعموم السلب مطلقا ، وأنّ الفرق المذكور ممّا لا يساعد عليه العرف وفهم أهل اللسان بل خلاف ما يقتضيه التبادر.

وقد يقال : بأنّ الترتيب فيما بين ألفاظ القضيّة إذا كانت ملفوظة كثيرا مّا لا يتعلّق به حكم بل العبرة بما يعتبره المتكلّم في نفسه ويكشف عنه بالألفاظ ونحن نرى بحسب الوجدان إنّ : « لم يقم كلّ إنسان » يصحّ وقوعه موضع عموم السلب كما أنّ « كلّ إنسان لم يقم » يصحّ وقوعه موقع سلب العموم ، وإنّما يختلف المعنى بالاعتبار ويعلم ذلك بالخارج ، فإنّ المتكلّم قد يعتبر القيام مسندا إلى كلّ فرد للإنسان ثمّ يورد عليه النفي فيعبّر عنه بأحد اللفظين ، وقد يعتبر عدم القيام مسندا إلى ماهيّة الإنسان ثمّ يورد عليه السور فيعبّر عنه بأحد اللفظين ، فعلى الأوّل يكون لسلب العموم ، وعلى الثاني لعموم السلب.

وفيه نظر بل منع.

والّذي يساعد عليه النظر في تحقيق المقام أن يقال : إنّ لفظ « الكلّ » على ما بيّنّاه مرارا موضوع للدلالة على تسرّي الحكم إلى جميع أفراد موضوعه إيجابيّا كان أو سلبيّا ، واستعماله في القضيّة وإرادة خلاف ذلك مجاز لا يصار إليه إلاّ لصارف يصرفه عن حقيقته.

ولا ريب أنّ وروده على النفي في مثل : « كلّ إنسان لم يقم » لا يصلح صارفا له عن مقتضى وضعه ، فيكون مفاده تسرية الحكم السلبي وهو عدم القيام إلى جميع أفراد الإنسان.

والسرّ فيه : أنّ « لم يقم » في المثال مسند ، ومعنى كونه مسندا أنّ المتكلّم يسند عدم القيام إلى المسند إليه وهو ماهيّة الإنسان ثمّ يأتي بلفظ « الكلّ » لتسرية عدم القيام المسند إلى الماهيّة إلى جميع أفرادها وهذا هو عموم السلب ، ويجوز أن يكون إنّما أسنده من أوّل الأمر إلى كلّ فرد للإنسان لأنّه المسند إليه في ظاهر اللفظ باعتبار كونه مبتدأ فيكون مفاده

٧٣٠

أيضا عموم السلب ، ضرورة أنّ ثبوت عدم القيام لكلّ فرد معناه انتفاء القيام عن كلّ فرد فهذا ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ ورود النفي عليه في نحو : « لم يقم كلّ إنسان » هل يصلح صارفا له عن مقتضى وضعه وهو عموم السلب إلى خلافه وهو سلب العموم أو لا؟

والتحقيق الموافق للنظر الدقيق هو عدم صلاحيّة ذلك أيضا للصرف ، وذلك أنّ « لم يقم » في صورة وروده على الكلّ أيضا مسند كما كان مسندا في صورة العكس ، ضرورة أنّ اختلاف التركيبين بالنسبة إلى « لم يقم » بالتقديم والتأخير لا يوجب اختلاف حاله في كونه مسندا ـ لا في صورة التأخير ، ولا في صورة التقديم ـ بل هو مسند في الصورتين معا ، وظاهر أنّ كونه مسندا في صورة التقديم أيضا يقتضى مسندا إليه وليس إلاّ « كلّ إنسان » باعتبار وقوعه حينئذ فاعلا ، ومعنى كون « لم يقم » مسندا و « كلّ إنسان » مسندا إليه أنّ المتكلّم يسند عدم القيام إلى كلّ فرد للإنسان فلا يكون مفاده إلاّ عموم السلب أيضا.

فانقدح أنّ كلاّ من التركيبين يرد في متفاهم العرف لعموم السلب بلا تفاوت بينهما.

وأمّا ما تقدّم من توهّم أنّ المتكلّم قد يعتبر القيام مسندا إلى كلّ فرد للإنسان ثمّ يورد عليه النفي فيكون لسلب العموم ، يأباه وضع القضيّة بل يبطله دليل الخلف ، إذ المسند إذا كان هو الفعل المنفيّ فكيف يعقل من المتكلّم اعتبار إسناد القيام إلى كلّ فرد للإنسان المفروض كونه مسندا إليه.

وممّا قرّرناه يعلم أنّ قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ )(١) المحمول على عموم السلب مع ورود النفي فيه على العامّ ليس فيه مخالفة للظاهر ، بل لو حمل على سلب العموم كان مخالفا للظاهر ، بتقريب ما عرفت من أنّ المسند هو الفعل المنفيّ ومعناه أنّه تعالى أسند عدم المحبّة إلى « كلّ مختال فخور » ولا يعني من عموم السلب إلاّ هذا.

وبالتأمّل في تحقيقاتنا هذه يظهر أنّ الحقّ في « ليس كلّ » المختلف فيه عند أهل الاستدلال كونه للسلب الكلّي لا لرفع الإيجاب الكلّي ، لوضوح أنّ « ليس » في نحو : « ليس كلّ حيوان إنسانا » و « ليس كلّ إنسان بكاتب » إنّما ينفي خبره عن اسمه المفروض كونه كلّ فرد من أفراد الحيوان أو الإنسان وهذا هو السلب الكلّي ، واللفظ بظاهر وضع القضيّة وحملها لا يتحمّل كونه لرفع الإيجاب الكلّي.

فما ذكره المحقّق السيّد الشريف في حواشيه على الشمسيّة في بحث سور القضيّة من

__________________

(١) لقمان : ١٨.

٧٣١

مباحث القضايا بقوله : « ليس كلّ » يحتمل أن يكون سلبا كليّا بأن يقصد بحرف السلب سلب المحمول عن الموضوع المذكور وهو كلّ واحد واحد ، وأن يكون سلبا جزئيّا بأن يقصد به سلب القضيّة » تبعا لشارح المطالع فيما حكي من قوله : « والصواب أن يقال « ليس كلّ » و « ليس بعض » إمّا أن يعتبر سلبهما بالقياس إلى القضيّة « فليس كلّ » مطابق لرفع الإيجاب الكلّي و « ليس بعض » لرفع الإيجاب الجزئي ، وإن اعتبر بالقياس إلى المحمول « فليس كلّ » مطابق للسلب الكلّي و « ليس بعض » للسلب الجزئي ».

وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ السلب المستفاد من « ليس » نظرا إلى ظاهر اللفظ لا يتوجّه إلاّ إلى المحمول وهو هنا خبر « ليس » خصوصا مع ملاحظة نصبه أو جرّه بالباء الزائدة ، فهو بهذه الملاحظة لا يتحمّل توجّهه إلى القضيّة وهي الموجبة الكلّية ، كما إذا قصدت ردّ من قال : « كلّ حيوان إنسان » أو « كلّ إنسان كاتب » تقول : « ليس كلّ حيوان انسان » أو « ليس كلّ انسان كاتب » برفع المحمول ، إلاّ إذا صرف المحمول عن كونه خبرا لـ « ليس » حتّى ينصرف الموضوع عن كونه اسما له فيقدّر اسمه ضمير الشأن أو القصّة فيكون خبره جملة المبتدأ والخبر ، فإذا ساعد على هذه التكلّفات قرينة مقام أو مقال ومنه رفع المحمول صحّ توجّه السلب إلى القضيّة [ و ] مفاده [ حينئذ ] رفع الإيجاب الكلّي وإلاّ فلا.

لا يقال سور القضيّة بمنزلة القيد لأنّ تقدير : « كلّ إنسان كاتب » الإنسان كلّه كاتب ، فاذا ورد عليها السلب رجع إلى القيد ، وظاهر أنّ نفي القيد لا ينافي ثبوت المقيّد بدونه ، فصدق أنّ « ليس كلّ » في قولنا : « ليس كلّ إنسان كاتبا » رفع للإيجاب الكلّي ، لمنع توجّه النفي إلى نحو هذا القيد الّذي هو سور القضيّة ، بل القيد هنا يرجع إلى النفي لكونه آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسرّيه إلى جميع أفراد الموضوع.

ثمّ إنّ لفظ « الجميع » و « أجمع » وأخواتهما وإن كان يشارك « الكلّ » في إفادة الاستغراق على وجه الحقيقة غير أنّها تفارقه في أنّها أظهر في استغراق الأجزاء سواء وردت في مقام التأكيد أو في غيره ، وعلى قياسها « كافّة » و « عامّة » و « قاطبة » فتأمّل.

الفصل الثاني

في « من » و « ما » المعدودتين في بعض اعتباراتهما من ألفاظ العموم قال الشيخ في العدّة عند تعداد صيغ العموم :

« فمنها : « من » في جميع العقلاء إذا كانت نكرة في المجازاة والاستفهام ومتى وقعت

٧٣٢

معرفة لم تكن للعموم وكانت بمعنى « الّذي » وهي خاصّة بلا خلاف.

ومنها : « ما » فيما لا يعقل إذا وقعت الموقع الّذي ذكرناه من المجازاة والاستفهام ومتى كانت معرفة لم تكن مستلزمة للعموم كما قلناه في « من » ومن الناس من قال : إنّ « ما » يعمّ ما يعقل وما لا يعقل وهي أعمّ من « من » وذلك محكيّ عن قوم من النحويّين » انتهى.

الظاهر أنّه أراد بالنكارة في المجازاة والاستفهام عدم دلالتها على شيء بعينه كما في المعرفة وهذا في المجازاة موضع منع تعرفه ، وكيف كان فـ « من » و « ما » كما نبّه عليه الشيخ تبعا لأئمّة اللغة يلحقهما اعتبارات ثلاث : اعتبار المجازاة ، واعتبار الاستفهاميّة ، واعتبار الموصوليّة ، وينبغي في استعلام كونهما للعموم وعدمه التكلّم على جميع اعتباراتهما الثلاث فها هنا مسائل ثلاث :

المسألة الاولى

في « من » و « ما » في المجازاة ويعبّر عنهما على هذا الاعتبار بـ « من » و « ما » الشرطيّتين ومن أمثلتهما قوله تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ )(١)( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ )(٢)( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ )(٣)( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ )(٤) وظاهرهم فيها الاتّفاق على دلالتهما على العموم ، بل عن الفخري أنّه عدّهما ممّا يعلم كونه من صيغ العموم بالضرورة بعد الاستقراء ، وعليه جماعة منّا كالشيخ وبعض الأعلام وبعض الأعاظم.

واستدلّ بالتبادر وصحّة الاستثناء.

أقول : لا ينبغي الاسترابة في دخول العموم في مدلوليهما وإنكاره مكابرة للوجدان ، ولذا يصحّ التعبير بالكلّ عمّا دخل في مفهوميهما ، إلاّ أنّ الكلام في أنّ دخوله في مفهوميهما هل هو بحسب الوضع ليكون الدلالة عليه بالمطابقة ، أو باعتبار لزومه لما دخل في وضعيهما ليكون الدلالة عليه التزاميّة؟ فلقائل أن يمنع الأوّل بدعوى أنّه من لوازم الشرطيّة المأخوذة في وضعيهما ، بتقريب : أنّ الشرطيّة يراد بها سببيّة المقدّم للجزاء ومن خواصّ السببيّة عدم انفكاك المسبّب عن السبب ، ومعناه أنّه كلّما وجد السبب وجد معه المسبّب ، وهذا يستلزم العموم بمعنى استغراق الحكم وهو الجزاء لجميع جزئيّات موضوعه ، وبذلك يتطرّق القدح في الدليلين المتقدّمين ، فإنّ المسلّم من التبادر هنا انفهام المدلول الالتزامي فلا يكون وضعيّا ، وصحّة الاستثناء أيضا تابعة للمدلول الالتزامي.

__________________

(١) النساء : ١٢٣.

(٢) الزلزلة : ٧.

(٣) البقرة : ١٩٧. (٤) النحل : ٥٣.

٧٣٣

لا يقال : إنّ العموم الّذي هو هنا من لوازم الشرطيّة ـ بمعنى السببيّة ـ إنّما هو شمول الجزاء لجميع وجودات الشرط ولا كلام فيه ، بل محلّ الكلام إنّما هو شمول الجزاء لكلّ من يوجد فيه الشرط لا ما يوجد فيه الشرط وهذا عموم زائد على العموم الأوّل ، وكون الأوّل من لوازم الشرطيّة في مثل « من » و « ما » لا ينافي كون الثاني من مقتضى الوضع ، ولذا نجد فرقا بيّنا بين قول القائل : « إن دخل زيد الدار فأعطه درهما » وقوله : « من دخل الدار فأعطه درهما » حيث إنّ الأوّل لا يعمّ كلّ داخل والثاني يعمّه ، وهذا آية دخول العموم على الوجه الثاني في وضع الثاني دون الأوّل مع تساويهما في العموم على الوجه الأوّل الّذي هو من لوازم الشرطيّة.

لأنّا نقول : إنّ العموم على الوجه المذكور لا يغاير الأوّل بل بعض منه فيكون من لوازم الشرطيّة أيضا ، وما يرى من الفرق بين المثالين في أنّ الحكم في الأوّل لا يعمّ كلّ داخل في الدار ولذا لو دخل « عمرو » لا يجب إعطاؤه من جهة أنّ المولى قال : « إن دخل زيد الدار فأعطه درهما » بخلافه على المثال الثاني ، إنّما نشأ من أنّ الشرط في الأوّل دخول « زيد » بقيد الخصوصيّة ، فالعلّة مركّبة من « الدخول » وكون « الداخل زيدا » وفي الثاني هو « الدخول الكلّي » من أيّ داخل كان ، نظرا إلى أنّ « من » و « ما » بحسب الوضع للذات البحت المعرّاة عن خصوصيّات الأشخاص ، فقضيّة كون الشرط هو كلّي الدخول عموم الحكم لكلّ من يوجد منه الشرط زيدا كان أو عمرا أو غيرهما.

نعم لا يندرج فيه دخول غير العاقل لاختصاص كلمة « من » بالعقلاء.

وبالجملة فكون العموم المستفاد من كلمتي « من » و « ما » مأخوذا في وضعيهما ليكون الدلالة عليه من دلالة اللفظ على ما وضع له غير واضح فعدّهما من ألفاظ العموم غير سديد ، إلاّ أن يكتفى في العامّ بمطلق الدلالة على العموم ولو التزاميّة وهذا أيضا غير واضح بل المعلوم خلافه.

وممّا يرشد إلى ما ذكرناه ـ من إمكان كون دخول العموم في الشرطيّتين باعتبار كونه من لوازم الشرطيّة لا من مقتضى الوضع ـ أنّ المشتق قد يتضمّن معنى الشرطيّة باعتبار كون مبدأ اشتقاقه علّة للحكم فيدخل العموم في مفهومه أيضا تبعا للشرطيّة لا غير ، كما في قوله تعالى : ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما )(١) و: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

٧٣٤

مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ )(١) مع أنّ عدم كون المشتقّ من ألفاظ العموم لا باعتبار وضعه الهيئي ولا باعتبار وضعه المادّي ضروريّ. وممّا يرشد أيضا أنّ الموصوليّتين أيضا على القول بعدم كونهما بالوضع للعموم قد تتضمّنان معنى الشرطيّة في صلتيهما فيدخل فيهما العموم أيضا تبعا للشرطيّة لا وضعا ، على أنّه يمكن تطرّق المنع إلى تغاير الشرطيّتين للموصوليّتين حيث تتضمّنان معنى الشرطيّة ، وأيّ برهان قام أو أيّ أمارة قضت بأنّ « من » في قوله تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ )(٢) و « ما » في نحو قوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ )(٣) ليستا من الموصوليّتين قد تضمّنتا معنى الشرطيّة في صلتيهما.

ومن أين علم أنّ الجملة المتعقّبة لهما ليست من قبيل صلة الموصول.

فإن قلت : إنّ الشرطيّة والموصوليّة تتغايران بالنكارة والتعريف كما تقدّم في عبارة الشيخ من التصريح بكون كلّ من الكلمتين في المجازاة نكرة وفي الموصول معرفة بمعنى « الّذي ».

قلت : كون الموصولتين من المعرفة ممّا لا كلام فيه ، لأنّ المعرفة ما دلّ على شيء معيّن شخصا كان ذلك المعيّن أو جنسا كما في المعرّف بلام الجنس وعلم الجنس ، والموصول أيضا يدلّ على شيء معيّن يتعيّن بالصلة ، والمعيّن في معنى الموصول أيضا أعمّ من الشخص كقولك : « رأيت من أعطاك » و « فهمت ما قلت » والجنس كالموصول الّذي يدلّ على المعنى الجنسي كما في قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ )(٤) و ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ )(٥) ودخول العموم في مفهوميهما لعلّه من جهة التعليق على الجنس ، ولكن كون بناء الشرطيّتين على النكارة غير واضح.

ألا ترى أنّ « من » في قول القائل : « من دخل الدار فله درهم » تعدّ عندهم من الشرطيّة مع صحّة أن يقال في نحو المثال : « من دخل الدار راكبا أو مسلّما عليك مثلا فله درهم » وهذا آية التعريف.

ومن أين علم أنّ « من » في هذا المثال ونظائره مع صحّة كونها معرفة بالنسبة إلى المعنى الجنسي شرطيّة مغايرة للموصوليّة وليست هي الموصولة بعينها قد تضمّنت معنى الشرطيّة ، فليتدبّر.

المسألة الثانية

في « من وما » الاستفهاميّتين ومن أمثلتهما قوله تعالى : ( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) (٦) ( وَما

__________________

(١) النور : ٢. (٢) النساء : ١٢٣.

(٣) البقرة : ١٩٧.

(٤ و ٥) النحل : ٤٩ و ٩٦. (٦) يس : ٥٢.

٧٣٥

تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى )(١) و « ما شأنك » وقد سمعت التصريح من الشيخ بكونهما للعموم وصرّح به غيره أيضا ، ولعلّه مذهب الأكثر من أهل القول بأنّ للعموم صيغة تخصّه ، بل عن الفخري ما تقدّم فيهما أيضا من عدّهما ممّا يعلم كونه من صيغ العموم بالضرورة.

ويمكن المناقشة هنا أيضا بأنّ عموم الاستفهاميّتين ليس من العموم المبحوث عنه في صيغ العموم وهو العموم الشمولي ، على معنى شمول الحكم لجميع جزئيّات موضوعه على أن يكون كلّ جزئيّ مستقلاّ في موضوعيّته للحكم ، والعموم هنا بدليّ لأنّ الاستفهام عن تعيين المسند إليه سؤال عن التعيين ولا يتأتّى إلاّ في محلّ الترديد عند المتكلّم ، فكأنّه في قوله : « من عندك » يقول : « أزيد عندك أم عمرو أم بكر؟ » إلى غير ذلك ممّا يحتمل في نظره دخوله في الأمر المردّد المسؤول عن تعيينه والترديد آية بدليّة العموم ، ولا ينافيه صحّة وقوع العامّ في الجواب كما لو قيل : « العلماء » أو « كلّ القوم » أو « كلّ أحد » أو « كلّ من تريد » لأنّه من جهة كونه من مصاديق الأمر المردّد ، ولذا يصحّ وقوع الخاصّ أيضا في الجواب كما لو قال : « زيد » أو « عمرو » أو « بكر » مثلا.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ ما ذكر في معنى : « من عندك؟ » أو « من في الدار؟ » أو غيره من النظائر وسمّي بالعموم البدلي احتمال ترديديّ في نظر المتكلّم ناش عن جهله بتعيين المسند إليه في لحاظ إسناد « الحصول » عند المخاطب أو « في الدار » إليه الّذي اعتبره في نفسه ، فإنّه في لحاظ إسناد « الحصول » إلى من يصلح له في نفسه جاهل بعين الحاصل محتمل في نفسه لكونه جميع القوم أو خصوص « زيد » أو « عمرو » أو « بكر » أو غيره من المصاديق المحتملة المردّد فيها في نظره ، وهذا الاحتمال الترديدي الّذي سمّوه بالعموم البدلي ليس بمدلول لفظ الاستفهام بل هو حالة في المتكلّم قائمة بنفسه ناشئة عن جهله بتعيين الحاصل عند المخاطب أو في الدار باعثة على إيجاده لمعنى اللفظ ، فإنّ الاستفهام بأيّ أداة حصل من قبيل الإنشاء وهو عبارة [ عن ] إنشاء طلب تعيين الحاصل من المخاطب على تقدير حصوله الّذي قد يكون معلوما لديه وقد يكون مجهولا أيضا ليحصل له العلم بعينه ، ولأجل كون حصول ذلك العلم غاية لطلبه التعيين من المخاطب يفسّر الاستفهام بطلب الفهم بمعنى العلم ، وهذا المعنى الإنشائي المأخوذ في وضع « من » و « ما » شامل لجميع المصاديق المحتملة في نظره شمولا واحدا ، وهو مراد القوم بالعموم المدّعى

__________________

(١) طه : ١٧.

٧٣٦

كون هذين اللفظين مفيدين له ، بتقريب ما ذكرناه مرارا من أنّ المراد بالعموم في مباحث العامّ والخاصّ استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه أو أجزائه ، ولأجل ذلك نجد فرقا واضحا بين الاستفهام بأحد هذين اللفظين والاستفهام بالهمزة الّتي هي لطلب التصوّر والاستفهام بـ « هل » الّتي هي لطلب التصديق من حيث عدم دخول عموم في مفهوم الهمزة و « هل » كما في قوله : « أزيد عندك؟ » و « هل قام زيد؟ ».

والسرّ فيه : أنّ المعنى الإنشائي فيهما مقصور على شخص واحد أو على جملة واحدة لا تعدّد فيهما ، ومرجعه إلى عدم دخول التعدّد في مفهومي الهمزة و « هل » فلا يعقل فيهما العموم بخلاف « من » و « ما » لدخول التعدّد في مفهوميهما وهو تعدّد محتملات الحاصل عند المخاطب أو في الدار في نحو المثالين المتقدّمين الّذي هو مناط العموم بمعنى شمول الحكم للجزئيّات.

نعم لقائل ـ أن يقول ـ على كونهما للعموم بالوضع ـ : بأنّ قصارى ما يسلّم دخوله في وضع هذين اللفظين إنّما هو نفس المعنى الإنشائي الشامل لا شموله الّذي هو معنى العموم ، بل هو من قبيل الخارج عن الموضوع له اللازم له فيكون الدلالة التزاميّة أيضا نظير طلب إقامة الصلاة مثلا في نحو : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) فإنّه شامل لجميع الآحاد المدلول عليها بـ « واو » الجمع مع عدم دخول شموله لها في وضع صيغه « أقيموا » بل الداخل فيه نفس الشامل وشموله خارج عنه لازم له.

وبالجملة لا دليل على دخول شمول المعنى الإنشائي للجزئيّات والمصاديق في وضع اللفظين على أن يكون تمام الموضوع له أو جزؤه ، وعلى القائل بدخوله فيه إثباته بإقامة دليل واضح عليه وأنّى له بذلك.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا نقول : إنّ المعنى الإنشائي شامل لجميع المصاديق شمولا واحدا على البدل باعتبار كون الحاصل عند السامع أو في الدار في نظر المتكلّم مردّدا بين الجميع محتملا لكلّ واحد على البدل لا على نحو الاستغراق ، ضرورة عدم كون كلّ واحد بعينه مطلوب التعيين كما أنّ كلّ واحد بعينه في نحو : « أكرم العلماء » مطلوب الإكرام ، فلا يكون العموم المتصوّر فيهما بالقياس إلى المعنى الإنشائي أيضا إلاّ عموما بدليّا.

المسألة الثالثة

في « من » و « ما » الموصوليّتين وقد اختلفوا في كونهما للعموم وعدمه ، فمنهم من نفاه

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

٧٣٧

مطلقا كما عرفته عن الشيخ نافيا للخلاف فيه وعزى إلى تمهيد الشهيد أيضا ، ومنهم من أثبته كذلك نسب إلى بعض الاصوليّين ، وعن البهائي والحاجبي والعضدي عدّ الموصولات من صيغ العموم ، وعن الأخير نسبته إلى المحقّقين وإطلاق كلامهم يشمل سائر الموصولات أيضا كـ « الّذي » و « الّتي ».

وعن التوني موافقة هؤلاء إلاّ أنّه لم يتعرّض إلاّ لـ « من » و « ما ».

وعن بعضهم نفي دلالتهما على العموم إلاّ أن يتضمّنا معنى الشرط.

ويظهر اختياره من بعض الأعلام وتبعه جماعة ممّن عاصرناهم.

والأصحّ القول الأوّل وهو عدم كونهما بل ولا سائر الموصولات للعموم بالوضع ، على معنى عدم كونه مأخوذا في وضعهما لا على أنّه تمام ما وضع له ولا على أنّه بعضه فإنّهما كسائر الموصولات من المعارف ، والمعرفة على ما بيّنّاه ما يدلّ على شيء معيّن وهو في الموصول ـ على ما عرفت ـ ما يتعيّن بالصلة ، كما عرفت أنّ ما يتعيّن بالصلة قد يكون شخصا معيّنا يعيّنه الصلة وقد يكون جنسا معيّنا يعيّنه الصلة ، والموصول في القسم الأوّل لا يعقل دلالته على العموم لانتفاء التعدّد في الشخص المعيّن ، وفي القسم الثاني أيضا بالوضع بل يستلزمه باعتبار صلته لا بالذات ، فإنّ الصلة بالنسبة إلى الجنس كصفة الجنس في نحو قوله تعالى : ( وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ )(١) وكما أنّ صفة الجنس باعتبار التعليق على الجنس الّذي لا ينفكّ عن شيء من أفراده يستلزم العموم ، فكذلك الصلة بالنسبة إلى الجنس الّتي هي في معنى صفة الجنس باعتبار التعليق على الجنس الّذي لا ينفكّ عن شيء من أفراده يستلزمه ، فالصلة في قوله تعالى : ( أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ )(٢) وكذلك في قوله تعالى : ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ )(٣) وهي الجملة الظرفيّة باعتبار العامل المقدّر في معنى صفة الجنس الّذي « من » الموصول فتستلزم العموم بالاعتبار المذكور ، فالاستلزام في الحقيقة من مقتضى الصلة لا من مدلول الموصول ، ولو سلّم كون الدلالة عليه من الموصول فهي دلالة التزاميّة لا مطابقيّة ولا تضمّنيّة ، فصحّ أنّه لا يدلّ على العموم بالوضع.

ومما يرشد إلى ذلك انّ « من » و « ما » في معناهما الجنسي يصحّ أن يدخل عليهما لفظ « الكلّ » كما يصحّ أن يدخل عليهما لفظ البعض وحيث يدخل عليهما « الكلّ » لا يفهم منه

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) الحجّ : ١٨.

(٣) النحل : ٩٦.

٧٣٨

التأكيد ، وحيث يدخل عليهما « البعض » لا يفهم منه المناقضة ، فلو قيل في الآيتين : إنّ الله يسجد له « كلّ » من في السموات و « كلّ » من في الأرض ، و « كلّ ما » عندكم ينفد و « كلّ ما » عند الله باق ، لا يفهم منه التأكيد عرفا ، كما أنّه لو قيل : إنّ الله يسجد له « بعض » من في السموات و « بعض » من في الأرض ، و « بعض » ما عندكم ينفد و « بعض » ما عند الله باق ، لا يفهم منه المناقضة عرفا ، وهذا آية عدم دخول العموم في معنا هما وضعا.

وبالتأمّل فيما وجّهناه من استلزامهما العموم يعلم أنّه لا يتفاوت فيه الحال بين تضمّنهما معنى الشرط وعدمه ، إذ الاستلزام المذكور من مقتضى صفة الجنس وإن لم يتضمّنا معنى الشرط ، حتّى أنّ الشرطيّة الموجبة للعموم على القول الثالث ليست بداخلة في مدلول الموصول فكيف بالعموم الّذي ينشأ منها فإنّها اعتبار يلحق جملة الصلة ، وعلامته أن يتعقّب الصلة جملة اخرى مترتّبة عليها في الوجود فيلحقها الشرطيّة بمعنى السببيّة ، كما هو الحال في المبتدأ المنكر المتضمّن لمعنى الشرط ، نحو : « كلّ رجل يأتيني فله درهم » فإنّ الشرطيّة هنا اعتبار يلحق جملة الصفة لا أنّه داخل في مدلول المبتدأ المنكرة.

وما في كلام النحاة من التعبير بالمبتدأ المتضمّن لمعنى الشرط مسامحة في التعبير أو وارد على خلاف التحقيق ، فالشرطيّة هنا وفيما نحن فيه مستفادة إمّا من الهيئة التركيبيّة الحاصلة بين الجملتين ، أو من « الفاء » الجزائيّة الداخلة على الجملة الثانية المقتضية لسببيّة ما قبلها ، وإذا كانت الشرطيّة خارجة عن مدلول الموصوليّتين فكيف بالعموم الّذي يقتضيه الشرطيّة.

فتقرّر بجميع ما حقّقناه في المسائل الثلاث أنّ « من » و « ما » ليستا موضوعتين للعموم في شيء من اعتباراتها الثلاث من الشرطيّة والاستفهاميّة والموصوليّة.

الفصل الثالث

في نبذة اخرى ممّا ادّعي كونه للعموم على القول بأنّ له صيغة تخصّه وهي عدّة ألفاظ :

منها : « أيّ » في الشرط والاستفهام ، واختلفوا في كونه للعموم بمعنى الشمول والاستغراق وعدمه ، فذهب جماعة منهم الشيخ في العدّة والشهيد الأوّل وغيره إلى عدم كونه للعموم.

وعن الفيّومي التصريح بذلك ، قال في العدّة :

« ومنها « أيّ » فإنّها تستغرق ما يعقل وما لا يعقل وهي أعمّ من اللفظين معا ولأجل هذا إذا « قال : « أيّ شيء عندك » يحسن الإيجاب بما يعقل وما لا يعقل ، إلاّ أنّها لا تفيد الاستغراق كما تفيد « من » و « ما » إلاّ أن يدلّ دليل على ذلك فيحكم له بحكم الاستغراق » انتهى.

٧٣٩

وقيل بكونه للعموم ونسب إلى جمهور الاصوليّين كما عن ثاني الشهيدين بل عن الفخريّ أنّه عدّه ممّا يعلم بعد استقراء اللغات بالضرورة.

واختاره بعض الأعاظم تعويلا على ما سمعت من النسبة إلى جمهور الاصوليّين ودعوى الضرورة فيه ، مضافا إلى اطّراد الاستثناء ، واستثناء أكثر من واحد ، فلو كان عمومه بدليّا لما صحّ ذلك.

وفيه نظر ستعرف وجهه.

ومرجع النزاع بالنسبة إلى « أيّ » في الشرط إلى أنّ قول القائل : « أيّهم يأتيني أو أيّكم يأتيني ، أو أيّ رجل يأتيني فله درهم » هل هو بمعنى : « كلّ واحد منهم ، أو كلّ واحد منكم ، أو كلّ رجل يأتيني فله درهم » فيكون عمومه شموليّا أو بمعنى : « واحد منهم ، أو واحد منكم ، أو رجل واحد يأتيني فله درهم » فيكون عمومه بدليّا.

والراجح في النظر القاصر هو القول الأوّل وهو أنّ « أيّ » في الشرط والاستفهام لا عموم له إلاّ البدلي ، وذلك لأنّه موضوع لغة لما يعبّر عنه في الفارسيّة به : « كدام » وهو عبارة عن واحد لا بعينه من الآحاد المتعدّدة ، فإذا ورد « أيّ » بهذا المعنى في الكلام للاستفهام كما لو قال : « أيّهم أو أيّكم أو أيّ رجل فعل هذا »؟ مثلا كان مفاده السؤال عن تعيين واحد من الآحاد صدر عنه الفعل ، وإذا ورد للشرط كان مفاده التنبيه على عدم اعتبار التعيين في واحد من الآحاد يصدر منه الفعل الّذي علّق عليه الجزاء ، وحاصله التنبيه على أنّ المقصود صدور الفعل من واحد لا بعينه من الآحاد أيّ واحد كان لا من واحد معيّن.

وقضيّة ذلك أن يكون العموم في كلّ من الشرط والاستفهام بدليّا لا استغراقيّا ، ومرجع العموم البدلي في الشرط إلى أنّ « أيّ » لا يفيد التكرار ، ولا ينافيه السببيّة اللازمة للشرطيّة لأنّ السبب حينئذ فعل واحد لا بعينه من الآحاد لا فعل كلّ واحد.

فإن قلت : قد سبق في تعريف العامّ أنّ المفهوم الذهني الّذي يعبّر عنه في الفارسيّة به : « هر » أو « همه » في معنى العامّ عموم شموليّ والمفروض صحّة دخول هذا المفهوم المعبّر عنه به : « هر » في معنى « أيّ » في الشرط وهو آية كون عمومه شموليّا.

قلت : هذا المفهوم المعبّر عنه به : « هر » إنّما يكون شموليّا إذا اضيف إلى الجزئيّات وهو هنا يضاف إلى معنى « أيّ » المعبّر عنه به : « كدام » وهو بهذه الإضافة أيضا يفيد عدم اعتبار التعيين فيكون عموما بدليّا لا غير ، ولا ينافيه اطّراد الاستثناء ولا استثناء أكثر من واحد

٧٤٠