تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

على نحو يخرج المتعلّق عن مفادها ، فيبقى الكفّ الّذي هو العمدة في المقام بلا معبّر في الكلام.

ولو قيل : إنّه يراد من الفعل باعتبار المادّة من باب ذكر المسبّب وإرادة السبب نظير ما في قولك : « أحرق » في موضع إرادة إلقاء الخشبة في النار.

ففيه : مع أنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ مع صارف غير قائم في المقام لما ستعرف ، أنّه يوجب خروج الأداة المأخوذة في هذا التركيب ملغاة كما لا يخفى على المتأمّل ، وإلاّ كان مفادها نفي الكفّ وهو يضادّ غرض الخصم وهو كما ترى خلاف ضرورة العرف واللغة.

ولو قيل : إنّ الكفّ إنّما يفهم في هذا التركيب من باب انفهام المداليل الالتزاميّة فلا يحتاج إلى معبّر ، حيث لا ملازمة بين ما كان من مفاد الخطاب وكونه ممّا له معبّر في الخطاب وإلاّ انتقض بالمداليل الالتزاميّة.

لقلنا : بأنّ انفهام الشيء من الخطاب التزاما لا بدّ فيه من لزوم لذلك الشيء وهو إمّا عرفيّ أو عقليّ ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الخطاب لا ينساق منه في نظر العرف إلاّ نفي الفعل ، ولا يخطر ببالهم في متعلّق الطلب كونه الكفّ وإن كانوا يلاحظونه إحرازا للتكليف بالنسبة إلى متعلّقه وترتيبا لآثاره على ما تعلّق هو به ، فملاحظة الكفّ الحاصلة بملاحظة التفطّن والتمكّن ليست من جهة إحراز موضوع التكليف ولا من جهة إحراز مقتضيه ، بل من جهة إحراز فقد المانع عن توجّهه وتعلّقه الفعلي بموضوعه الّذي وجد فيه المقتضي وهو عدم الفعل الراجح في نظر المولى.

وأمّا الثاني : فلأنّ اللزوم العقلي إنّما يثبت لو استحال عقلا تعلّق الطلب بمجرّد عدم الفعل ونفيه وهو في حيّز المنع ، كما أشرنا إليه إجمالا عند تقرير الاحتجاج بقولنا : « والمانع مفقود ».

وتوضيح ذلك ـ بعد الفراغ عن إحراز وجود المقتضي ـ أن نقول : إنّ ما يتوهّم كونه مانعا في المقام عن تعلّق الطلب بمجرّد الترك هو أنّ الترك عدم صرف والعدم لا يصلح أثرا للقدرة ومن الممتنع تعلّق الطلب بغير المقدور.

وجوابه : أنّ الممتنع إنّما هو تعلّق الطلب بما لا يرجع بالأخرة إلى القدرة والاختيار ، والعدم بنفسه وإن كان ممّا لا يتعلّق به القدرة بنفسه غير أنّه حيثما قارنه الكفّ ـ بأيّ معنى يراد منه ـ [ يكون ] من آثار المقدور ولوازمه ، نظرا إلى أنّه كما قد يستند إلى غير المقدور من انتفاء شرط أو وجود مانع فكذلك قد يستند إلى الكفّ وهو مقدور بالذات ، فيكون بالأخرة راجعا إلى القدرة والاختيار ، فيصحّ بهذا الاعتبار عند العقل أن يتعلّق به الطلب من

٥٠١

احتجّوا : بأنّ النهي تكليف* (١) ، ولا تكليف إلاّ بمقدور للمكلّف. ونفي الفعل يمتنع أن يكون مقدورا له ، لكونه عدما أصليّا ، والعدم الأصليّ سابق على القدرة وحاصل قبلها ، وتحصيل الحاصل محال.

والجواب : المنع من أنّه غير مقدور ، لأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم متساوية** (٢). فلو لم يكن نفي الفعل مقدورا ، لم يكن إيجاده مقدورا ، إذ تأثير صفة القدرة في الوجود فقط ، وجوب ، لا قدرة.

___________________________________

جهة أنّ القدرة الّتي هي من الشرائط العقليّة للتكليف أعمّ ممّا يكون بواسطة كما في الأفعال التوليديّة ، فإذا جاز ذلك عقلا ودلّ الخطاب عليه بظاهره وجب الأخذ به.

ولا ينافيه ما جوّزناه في بحث المقدّمة من كون المأمور به في مثل الأمر بالإحراق هو الفعل المباشري وهو الإلقاء في النار ، لعدم كون ذلك لأجل عدم مقدوريّة نفس الإحراق الّذي هو فعل توليدي كما توهّم ، بل من جهة ما يقضي به الوجدان في هذا المورد من أنّ المولى لا يتصوّر فيه إلاّ الإلقاء وإن عبّر عنه بالإحراق ، فكان مطلوبه هو الإلقاء دون ما يتولّد منه ، بخلاف المقام الّذي قد عرفت فيه أنّ الوجدان ممّا يقضي بخلاف ما ذكر بالتقريب المتقدّم ، فليتدبّر إن شاء الله.

(١) * لأصحاب القول بأنّ المطلوب بالنهي هو الكفّ لا مجرّد أن لا تفعل حجّتان :

إحداهما : ما أشار إليه المصنّف وهو الّذي اعتمد عليه غير واحد منهم ، ومحصّله : أنّ التكليف الّذي منه النهي لا يتعلّق إلاّ بالمقدور لما قرّر من أنّ القدرة شرط للتكليف ، ونفي الفعل عدم أصلي والعدم الأصلي سابق على القدرة حاصل قبلها فلا يكون مقدورا ، فلا يتعلّق به التكليف وإلاّ لزم تحصيل الحاصل وهو محال ، وهذا بعينه حجّة للقول الثالث الّذي تقدّم الإشارة إليه على ما حكاه بعض الأعاظم.

وثانيتهما : ما حكي الإشارة إليه عن الفاضل الجواد وعن غاية المأمول أيضا من أنّ امتثال النهي وترتّب الثواب عليه لا يترتّب على عدم الفعل فقط من دون ملاحظة الكفّ ، فإنّا نعلم أنّ من لم يزن ولم يسرق ولم يشرب الخمر في مدّة عمره وهو لم يقصد الكفّ عن هذه الأشياء لا يكون مثابا.

(٢) ** لا يخفى ما في هذا الجواب من ابتنائه على المكابرة ، فإنّ عدم مقدوريّة العدم بما

٥٠٢

فان قيل : لا بدّ للقدرة من أثر عقلا ، والعدم لا يصلح أثرا ، لأنّه نفي محض. وأيضا فالأثر لا بدّ أن يستند إلى المؤثّر ويتجدّد ، والعدم سابق مستمرّ ، فلا يصلح أثرا للقدرة المتأخرة.

قلنا : العدم إنّما يجعل أثرا للقدرة باعتبار استمراره. وعدم الصلاحية بهذا الاعتبار في حيّز المنع ؛ وذلك لأنّ القادر يمكنه أن لا يفعل فيستمرّ ، وأن يفعل فلا يستمرّ. فأثر القدرة إنّما هو الاستمرار المقارن لها ، وهو مستند إليها ، ومتجدّد بها.

___________________________________

هو هو ممّا لا يمكن الاسترابة فيه كما أنّ عدم مقدوريّة الوجود بما هو هو أيضا كذلك ، فإنّ المقدور في الثاني إنّما هو الإيجاد بحمل الجوارح على الفعل ، فيكون المقدور في الأوّل هو الامتناع عن الإيجاد بإمساك الجوارح عن الفعل.

فالأولى في الجواب ما أشرنا إليه من منع اقتضاء مثل هذا النوع من عدم المقدوريّة امتناع تعلّق التكليف به بعد ما كان منشؤه وهو الكفّ بمعنى الإمساك مقدورا ، فإنّ الحاكم باشتراط التكليف بالقدرة هو العقل ، وهو كما يحكم بأصل الاشتراط فكذا يحكم بكفاية المقدوريّة بالواسطة في تحقّق ذلك الشرط ، ومعه لا داعي إلى اعتبار أمر زائد.

ثمّ لا يخفى أنّ في التقرير المتقدّم للاحتجاج الأوّل نوع تشويش ، من جهة أنّ سوق الاحتجاج يقتضي كون انتفاء التكليف عن نفي الفعل من جهة انتفاء القدرة بضابطة استلزام انتفاء الشرط انتفاء المشروط كما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم الحاجبي.

والجواب الّذي ذكره المصنّف مع ما أشرنا إليه مبنيّ على هذا المعنى ، ولكن ذيل الحجّة يقتضي كون الموجب لانتفاء التكليف عن نفي الفعل لزوم تحصيل الحاصل من جهة سبق العدم الأصلي على القدرة ، وظاهر أنّ اللاحق لا يصلح مؤثّرا في السابق إلاّ على تقدير إعادته وهو محال ، فجوابه على هذا التقدير منع كون المطلوب عندنا العدم السابق على القدرة المعتبرة حال التكليف ليكون طلبا للحاصل ويفضي إلى تحصيل الحاصل ، بل المطلوب حينئذ هو العدم المقارن لحال التكليف وهو مقارن للقدرة ولو بالقياس إلى ما يستند ذلك العدم إليه من الكفّ بمعنى الإمساك ، فلا يلزم من إلزام تحصيل العدم المقارن

٥٠٣

لحال التكليف ـ بالقدرة على ما هو مستند إليه ـ طلب للحاصل ، ولا من تحصيله تحصيل للحاصل ليكون منشأ للإشكال.

وأمّا الجواب عن الحجّة الثانية : بأنّ عدم ترتّب الثواب على ترك لم يقصد معه الكفّ بمعنى الإمساك مسلّم من حيث إنّ الثواب من لوازم الإطاعة ، وهو غير قاصد لها في الفرض المذكور ، ولكن لا يلزم منه كون متعلّق الطلب هو الكفّ بنفسه ولا عدم حصول الامتثال بالترك الّتي تحقّق من دون قصد إلى الكفّ ، نظرا إلى أنّ النواهي حكمها حكم الأوامر التوصّليّة الّتي يقصد بها حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق ، فالمقصود بالنهي ليس إلاّ مجرّد التجنّب عن المنهيّ عنه وعدم إدخاله في الوجود كيفما اتّفق ، فلذا يحصل الامتثال لو تركه رياء.

ولا ريب أنّ عدم قصد الكفّ ما لم يكن غافلا عن أصل التكليف أو المكلّف به مع عدم تمكّنه عن الفعل لا يوجب عدم الامتثال وإن كان يوجب عدم ترتّب الثواب.

ويبقى في المقام فوائد لا بأس بالإشارة إليها.

الاولى

قد عرفت في ذيل بحث الضدّ عن غير واحد حكاية اختلاف الاصوليّين في اقتضاء النهي عن الشيء للأمر بضدّه وعدمه نحو اختلافهم في الأمر بالشيء ونحن قد ذكرنا ثمّة بعض الكلام في تحقيق ذلك ، ونزيدك هنا تحقيقا بأنّ النظر إن كان في الضدّ الخاصّ فالحقّ أنّه لا يدلّ على الأمر بالضدّ أصلا حتّى الالتزام لفظا أو معنى وقد تقدّم في دفع شبهة الكعبي ما يكفيك هنا ، وإن كان في الضدّ العامّ فإن اريد بالأمر به الناشئ عن قوله : « لا تزن » مثلا ما يكون مفاده مفاد : « اترك » على المختار في المطلوب بالنهي ، أو « اكفف » على القول الآخر فالحقّ أنّه يقتضيه على طريق العينيّة كما لا يخفى على المتأمّل ، غير أنّه يبقى المناقشة في تسمية ذلك أمرا والوجه ما مرّ ، وإن اريد ما عدا ذلك فهو غير معقول فضلا عن كونه مدلولا عليه بطريق العينيّة أو التضمّن أو الالتزام لفظا أو معنى.

نعم لو بنينا على المختار من كون المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل ، وأردنا من الضدّ العامّ للمنهيّ عنه الكفّ عنه بالمعنى المتقدّم كان النهي مقتضيا للأمر به تبعا من باب المقدّمة على حدّ اقتضاء طلب المسبّب لطلب السبب تبعا من باب المقدّمة ، ضرورة استناد حصول الترك بعنوان كونه مطلوبا إلى الكفّ بمعنى إمساك الجوارح ، ولكنّ الظاهر عدم كون كلامهم ناظرا إلى هذا المعنى كما لا يخفى.

٥٠٤

الثانية

من الأعلام من استشكل في الفرق بين البحث في هذه المسألة وما تقدّم الإشارة إليه من اختلافهم في اقتضاء النهي عن الشيء للأمر بضدّه على حذو ما ذكروه في الأمر.

ثمّ قال : « وعلى القول بكون المطلوب هو الكفّ يتوجّه القول بالعينيّة هنا ويمكن الفرق بينهما بأنّ الكلام ثمّة كان في دلالة لفظ النهي على الأمر مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجيّة مثل امتناع تعلّق التكليف بالعدم ونحوه بخلافه هاهنا ، وهو أيضا مشكل لعموم الكلام ثمّة أيضا » (١) انتهى.

وظاهر العبارة اختصاص الإشكال بما أشار إليه من قول الخصم فلا يتوجّه على القول المختار مع أنّ الظاهر عدم الفرق بينهما ، إذ كما يقال على مذهب الخصم أنّ النهي بقوله : « لا تزن » عين الأمر بقوله : « أكفف أو كفّ عن الزنا » فكذا يقال على المختار ، أنّ قولنا : « لا تزن » بحسب المعنى عين قولنا : « اترك الزنا » فالإشكال على فرض صحّته مشترك الورود.

وعلى أيّ حال كان فيدفعه : أنّ الكلام ثمّة لو كان في الضدّ الخاصّ فالفرق بينه وبين الكلام هاهنا في غاية الوضوح ، إذ الكلام ثمّة راجع إلى كبرى القياس وهو أنّ النهي هل يقتضي الأمر بالضدّ الخاصّ أو لا؟ وهاهنا راجع إلى صغرى هذا القياس وهو أنّ النهي على تقدير اقتضائه الأمر بالضدّ أو عدم اقتضائه هل المطلوب به الكفّ أو نفس أن لا تفعل؟

ولا ريب أنّ هذين القولين بكليهما يجامعان كلاّ من الأقوال المتقدّمة ثمّة من العينيّة والتضمّن والالتزام لفظا أو معنى.

ولو كان في الضدّ العامّ فيتّضح الفرق بينهما بأنّ الكلام ثمّة على تقدير القول بالعينيّة راجع إلى أصل الاقتضاء والدلالة من دون نظر إلى تعيين المدلول ، وهاهنا راجع إلى تعيين المدلول من حيث تردّده بين كونه طلبا للترك أو طلبا للكفّ ، وأمّا على تقدير القول بما عدا العينيّة من التضمّن أو الالتزام لو ثبت ثمّة وكان معقولا كان الفرق بينهما نظير ما قرّرناه في الضدّ الخاصّ من رجوع الكلام ثمّة إلى أمر كبروي على تقدير معقوليّة أصل الدلالة وهاهنا إلى أمر صغروي ، فليتأمّل.

الثالثة

ربّما يورد في المقام إشكال آخر تعرّض لذكره بعض الأعلام بقوله : « إنّه على القول

__________________

(١) القوانين ١ : ١٣٨.

٥٠٥

بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ ، يؤول الأمر إلى النهي عن ضدّ الكفّ أيضا على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فيلزم الدور فتأمّل » (١).

ومحصّل الدور المتوهّم هنا حسبما يمكن تصوّره يستدعي استعلامه رسم مقدّمات ، وإن كان لا يساعد عليه ما قرّره في الحاشية لدفعه.

أوّلها : أنّ طلب الكفّ ـ على القول بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ ـ أمر بالكفّ حسبما هو مأخوذ في حدّ الأمر.

وثانيتها : أنّ القول بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ معناه أنّ النهي يقتضي مطلوبيّة الكفّ.

وثالثتها : أنّ الشيء إذا كان مقتضيا لشيء آخر كان ممّا يتوقّف عليه ذلك الشيء ، لأنّ المقتضى [ بالفتح ] في حصوله بهذا الوصف العنواني يتوقّف على المقتضي بالكسر ، إذ لولاه لما صدق عليه عنوان المقتضى بالفتح.

ورابعتها : أنّ الكفّ إذا كان مأمورا به بواسطة النهي فضدّه فعل المنهيّ عنه ، فحينئذ لو كان القائل بمطلوبيّة الكفّ في النهي من أهل القول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه يلزمه الدور في الجمع بين هذين القولين ، لأنّ النهي عن الزنا حينئذ مثلا يقتضي الأمر بالكفّ عن الزنا بحكم المقدّمة الاولى والثانية ، والأمر بالكفّ أيضا يقتضي النهي عن الزنا بحكم المقدّمة الرابعة مع انضمام القول المذكور إليها ، فينتج أنّ النهي عن الزنا يقتضي النهي عن الزنا وهو توقّف الشيء على نفسه بحكم المقدّمة الثالثة.

ويدفعه أوّلا : منع المقدّمة [ الثالثة ](٢) فإنّ كون الاقتضاء من باب التوقّف على إطلاقه غير مسلّم ، بل هو كالاستلزام الّذي هو أعمّ من التوقّف من وجه.

ولا ريب أنّ المقتضي إن كان من قبيل الدليل كان ممّا يتوقّف عليه المقتضى ، بخلاف ما لو كان من قبيل المدلول فإنّه إذا اقتضى مدلولا آخر قد يكون اقتضاؤه من باب مجرّد المقارنة ، فصيغة النهي وإن كان ممّا يتوقّف عليه الأمر بالكفّ ولكنّ الأمر بالكفّ لا يتوقّف عليه النهي عن ضدّ الكفّ وإن اريد به فعل المنهيّ عنه ، بل إنّما هو يستلزمه على قياس ما هو الحال في الأمرين المتشاركين في العلّة أو اللازمين لملزوم واحد.

وثانيا : منع المقدّمة الرابعة ، فإنّ ضدّ الكفّ إنّما هو ترك الكفّ أو الكفّ عن الكفّ ، ودعوى

__________________

(١) القوانين ١ : ١٣٨.

(٢) وفي الأصل « الثانية » بدل « الثالثة » وهو سهو من قلمه الشريف والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

٥٠٦

أصل

قال السيّد المرتضى رضى الله عنه وجماعة منهم العلاّمة في أحد قوليه : « إنّ النهي كالأمر في عدم الدلالة على التكرار ، بل هو محتمل له وللمرّة » * (١).

___________________________________

كون ذلك عين فعل المنهيّ عنه غير مسموعة ، فالأمر بالكفّ الّذي يقتضيه النهي إنّما يقتضي النهي عن ترك الكفّ أو عن كفّه ، فيكون مفاده حينئذ طلب ترك ترك الكفّ ، أو طلب ترك الكفّ عن الكفّ على القول المختار ، وطلب الكفّ عن ترك الكفّ أو طلب الكفّ عن الكفّ عن الكفّ على القول الآخر ، فلا دور إذ النهي عن الزنا الّذي يتوقّف عليه الأمر بالكفّ ليس ممّا يقتضيه النهي عن ترك الكفّ أو النهي عن كفّ الكفّ الّذي كان يقتضيه الأمر بالكفّ.

وثالثا : منع النتيجة بعد تسليم المقدّمتين ، فإنّ الاقتضاء يستدعي المغايرة بين المقتضي والمقتضى ، كما أنّ التعدّد فيما بين الموقوف في كبرى القياس والموقوف عليه في صغراه ممّا يرفع التوقّف عمّا بينهما.

وظاهر أنّ المراد بالنهي في قولهم : « بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ » إنّما هو صيغة النهي وما يؤدّي مؤدّاها ، كما أنّ المراد بالنهي في قولهم : « الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه » هو الطلب المتعلّق بالترك أو الكفّ على الخلاف في المسألة ، فحينئذ نقول : إنّ صيغة « لا تفعل » تقتضي الأمر بالكفّ ، والأمر بالكفّ يقتضي النهي عن ضدّ الكفّ على معنى طلب ترك ضدّ الكفّ على المختار ، أو طلب الكفّ عن ضدّ الكفّ على غيره ، وهو في شيء من المعنيين ليس بعين صيغة « لا تفعل » ولا مستلزما لها كما لا يخفى ، فلم يحصل النتيجة المتضمّنة للدور.

(١) * والجمع بين السيّد والعلاّمة في هذا القول إنّما هو لمجرّد اشتراكهما في منع الدلالة على التكرار ، وإلاّ فظاهر العلاّمة في التهذيب نظرا إلى دليله الاشتراك المعنوي بين المرّة والتكرار ، ومحكيّ السيّد في الذريعة الاشتراك اللفظي بينهما لأصله المعروف من أصالة الاشتراك اللفظي فيما يستعمل في معنيين.

وكيف كان فالقول بمنع الدلالة على التكرار محكيّ عن جماعة كالسيّدين في الذريعة والغنية ، والشيخ والمحقّق والعلاّمة في التهذيب ، وفي المنية : قال به الأقلّ.

وقال قوم : بافادته الدوام والتكرار ، وهو القول الثاني للعلاّمة رحمه‌الله ، اختاره

٥٠٧

وقال قوم : بافادته الدوام والتكرار ، وهو القول الثاني للعلاّمة رحمه الله ، اختاره في النهاية ، ناقلا له عن الأكثر* (١) وإليه أذهب.

___________________________________

وعن الآمدي : ذهب إليه بعض الشاذّين ، وعن العضدي : قال به شذوذ.

ثمّ عن هؤلاء أنّهم افترقوا على مذاهب ثلاث :

أحدها : كونه محتملا للدفعة والدوام من باب الاشتراك المعنوي كما عرفته عن العلاّمة في التهذيب ، وربّما يحكى استفادته من المبادئ أيضا.

وثانيها : كونه محتملا لهما من جهة الاشتراك اللفظي كما عرفته عن السيّد المرتضى وعزي إلى السيّد ابن زهرة أيضا في الغنية.

وثالثها : كونه للدفعة خاصّة ، حكي التصريح لوجود هذا القول عن غاية المأمول في قوله : « إنّ القائلين بعدم الدوام منهم من ذهب إلى أنّه للمرّة فقط ، ومنهم من يجعله مشتركا بينها وبين التكرار بحيث يتوقّف العلم بأحدهما على دليل من خارج » ويلوح ذلك عن محكيّ عبارة الشيخ في العدّة وهو قوله : « الّذي يقوى في نفسي أنّ ظاهره يقتضي الامتناع مرّة واحدة وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل من إجماع وغيره » ويستفاد ذلك من بعض الأعلام أيضا.

(١) * ومثله في دعوى الأكثريّة ما في المنية والزبدة ، وعن العدّة كونه مذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء ، وعزى إلى المحقّقين أيضا كما عن العضدي ، بل عليه دعوى اتّفاق العقلاء كما عن الإحكام وعليه البهائي بل عن شارح زبدته الفاضل والوافية والإحكام والمختصر وشرحه للعضدي ، فعلى هذا يرجع الاختلاف في المسألة إلى أقوال أربعة ، وربّما يحكى قول بالوقف كما في كلام بعض الأفاضل (١) عن الشيخ في العدّة حيث حكاه عن بعضهم فهو خامس الأقوال حينئذ.

وتحقيق القول فيها يستدعي رسم امور :

أحدها : أنّ البحث في هذه المسألة لا يغني عنه ما تقدّم من البحث في متعلّق الأحكام ، كما كان لا يغني عنه البحث عن المرّة والتكرار ، في الأمر بل لا يتداخل البحثان كما توهّم ذلك في بحث الأمر لاختلافهما موضوعا ومحمولا وأقوالا ، فإنّ مرجع البحث هنا إلى

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٢٦.

٥٠٨

حال الدليل وضعا أو دلالة ، ومرجعه ثمّة إلى حال المدلول وهو الحكم كائنا ما كان ، فيكون من المسائل العقليّة الواردة في الكتب الاصوليّة من باب المبادئ ، وبذلك يندفع الإشكال المتوهّم في بحث الأمر من جهة الفرق بين المسألتين ويرتفع الحاجة في دفعه إلى تكلّفات ارتكبوها ثمّة.

وثانيها : لا خفاء في أنّ المراد بالمرّة والتكرار هنا حيثما يعبّر بهما عن موضع البحث إنّما هو الدفعة وهو ترك المنهيّ عنه آنا مّا من آنات وقوعه ، والدوام وهو تركه في جميع آنات وقوعه إلى آخر العمر كما يعبّر بهما في كثير من العبائر ، فلا يراد بهما الفرد والأفراد ، بخلاف ما تقدّم في بحث الأمر من جريان الوجهين فيهما بإرادة الدفعة أو إيجاد فرد واحد من المرّة ، وإرادة الدفعات حسبما يقتضيه الإمكان عقلا وشرعا أو إيجاد أفراد متعدّدة متعاقبة إلى آخر ما يقتضيه الإمكان كذلك من التكرار ، ويمكن حملهما هنا على الفرد والأفراد أيضا وإن كان بعيدا بحمل الفرديّة على ما يتشخّص من الطبيعة المنهيّ عنها بآنات وقوعها ، فيراد بالمرّة ترك ما يتشخّص منها بآن مّا وهو أيضا نحو من الفرد ، وبالتكرار ترك ما يتشخّص منها بجميع آنات العمر وهو أيضا نحو من الأفراد ، غير أنّ مآله بالأخرة إلى المعنى الأوّل.

نعم ينبغي القطع بعدم كون المراد من المرّة فردا واحدا ولا من التكرار أفرادا متعدّدة ممّا يتمايز من الأفراد بسائر المشخّصات ، كما لو ترك الزنا بهذه المرأة خاصّة أو بها وبغيرها من المعيّنات ، فإنّ ذلك ممّا لا يكاد ينضبط مضافا إلى إفضائه على الثاني إلى التكليف بغير المقدور بل على الأوّل أيضا لو حصل الاشتغال حال الترك المذكور بالزنا بغير الامرأة المفروضة ، لخروج الترك المفروض حينئذ عن المقدوريّة بعدم القدرة على خلافه مع الاشتغال المذكور ، نظرا إلى أنّ المقدور ما يتساوى طرفاه كما هو المصرّح به في كلامهم.

ومن هنا يتبيّن وجه عدم المقدوريّة على الثاني ، فإنّ القدرة على ترك الأفراد المتعدّدة في جزء من آن وقوعه فرع القدرة على الإتيان بتلك الأفراد جميعا في ذلك الجزء من الزمان ، وهي منتفية بالبديهة فكذلك في عكسه.

وثالثها : هل النزاع في وضع النهي لإفادة الدوام على القول به أو لإفادة غيره على الأقوال الاخر ، أو في دلالته ولو بضميمة خارج إليه من عقل أو شرع أو عادة؟ وجهان ، من نهوض أكثر أدلّتهم الآتية على إثبات الوضع والتعبير به في كثير من مطاوي العبارات ، ومن

٥٠٩

لنا : أنّ النهي يقتضي منع المكلّف من إدخال ماهيّة الفعل وحقيقته في الوجود* (١) ، وهو إنّما يتحقّق بالامتناع من إدخال كلّ فرد من أفرادها فيه ؛ إذ مع إدخال فرد منها يصدق إدخال تلك الماهيّة في الوجود ؛ لصدقها به ؛ ولهذا إذا نهى السيّد عبده عن فعل ، فانتهى مدّة كان يمكنه إيقاع الفعل فيها ثمّ فعل ، عدّ في العرف عاصيا مخالفا لسيّده ، وحسن منه عقابه ، وكان عند العقلاء مذموما بحيث لو اعتذر بذهاب المدّة الّتي يمكنه الفعل فيها وهو تارك ، وليس نهي السيّد بمتناول غيرها ، لم يقبل ذلك منه ، وبقى الذمّ بحاله. وهذا ممّا يشهد به الوجدان.

___________________________________

شهادة جملة اخرى من أدلّتهم المقامة من الطرفين على المطلب ، ولا يبعد القول بكون النزاع في مقامين مرتّبين وإن اختلطا عند تحرير العنوانات وتقرير الاحتجاجات ، أحدهما : الوضع ، وثانيهما : الدلالة الخارجيّة على فرض انتفاء الوضع أو عدم ثبوته ، وعلى كلّ تقدير فالظاهر عدم الفرق في النزاع بين النهي بالصيغة والنهي بالمادّة وإن اختصّت الأمثلة الواردة في الباب بالأوّل ، فإنّ أكثر الأدلّة جارية فيهما معا كما لا يخفى.

(١) * هذا من حجج القول باقتضاء النهي للدوام ، فإنّ لهم على ما عثرنا عليه تحصيلا ونقلا وجوها كثيرة :

منها : ما اعتمد عليه في المنية من أنّ المتبادر إلى الفهم عند إطلاق اللفظ وتجرّده عن القرائن هو التكرار.

ولا يخفى ما في دعوى هذا التبادر إن أراد به ما يكشف عن الوضع لخصوص التكرار ليكون مدلولا مطابقيّا ، أو لما هو في ضمنه ليكون مدلولا تضمّنيّا ، أو لما هو مقيّد به على نحو خروج القيد ليكون مدلولا التزاميّا بيّنا بالمعنى الأخصّ نظير ما هو الحال في « البصر » بالقياس إلى وضع « العمى » فإنّ ذلك بجميع احتمالاته ممّا لا يساعد عليه الوجدان ولا طريقة أهل اللسان ، كيف وأنّا لا نجد التبادر في الصيغة المجرّدة إلاّ في طلب ترك الطبيعة المطلقة لا بشرط شيء من القيود ، على قياس تبادر طلب إيجاد الطبيعة المطلقة في صيغة الأمر ، ومن لوازم الطبيعة المطلقة أن لا يحصل تركها بحكم العقل من باب دلالة الإشارة إلاّ

٥١٠

بعدم إيجادها في جميع أزمنة الإمكان ، كما أنّ من لوازمها أن يحصل إيجادها بحكم العقل من باب الدلالة المذكورة بإيجاد فرد منها فكما أنّ إيجاد الفرد عند امتثال الأمر ممّا يوجب فوات صدق ترك الطبيعة المأمور بها ، فكذلك إيجاده عند مخالفة النهي ممّا يوجب فوات صدق ترك الطبيعة المنهيّ عنها ، ولا ريب أنّ إيجادها في شيء من الأزمنة ولو كان هو الجزء الأخير من أزمنة العمر ممّا يصدق عليه إيجاد الفرد وهو ممّا يرفع صدق ترك الطبيعة المطلقة.

ودعوى أنّ ترك الطبيعة ممّا يصدق مع ترك جميع أفرادها وهو ممّا يتأتّى في آن واحد.

يدفعها : أنّ ذلك ترك للطبيعة المقيّدة بذلك الآن في ضمن جميع أفرادها وهي ليست من الطبيعة المطلقة في شيء ، والكلام إنّما هو في ورودها مطلقة والإطلاق آية عدم لحوق القيد بل هو في الحقيقة عبارة عن ذلك ، فلزوم دوام الترك إنّما هو من مقتضيات الإطلاق من دون استناد له إلى الوضع لا بعنوان التماميّة ولا بعنوان الجزئيّة ولا بعنوان القيديّة ، ولمّا كان ذلك الإطلاق ممّا لا ينفكّ عن الصيغة حيثما وردت مجرّدة وكان انفهام التكرار مستندا إليه في الواقع فيتوهّم الغافل كونه مستندا إلى نفس اللفظ بإحدى الجهات المذكورة فيأخذ حجّة لنفسه غفلة عن حقيقة الحال.

ولا ريب أنّ استناد الشيء إلى أمر عدمي يعبّر عنه بالإطلاق غير استناده إلى أمر وجوديّ يعبّر عنه بالوضع أو اللفظ الموضوع من حيث إنّه موضوع ، والفرق بينهما كما بين السماء والأرض ، وسيلحقك زيادة توضيح في ذلك.

ومنها : ما أشار إليه المصنّف وحكي الاحتجاج به عن العلاّمة في النهاية والفاضل الجواد في شرح الزبدة والآمدي وغيره ، من أنّه إذا نهى السيّد عبده عن فعل فانتهى مدّة كان يمكنه إيقاع الفعل فيها ثمّ فعل بعد تلك المدّة عدّ في العرف عاصيا مخالفا لسيّده وحسن منه عقابه ، وكان عند العقلاء مذموما بحيث لو اعتذر بذهاب المدّة الّتي يمكنه الفعل فيها وهو تارك وليس النهي بمتناول غيرها لم يقبل منه ذلك وبقي الذمّ بحاله.

ويشكل ذلك لو اريد به ما يكشف عن الوضع بإحدى الجهات المتقدّمة والوجه ما تقدّم.

نعم إنّما يصحّ ذلك لو اريد به ما يرجع إلى أمر عدمي يعبّر عنه بورود الطبيعة المنهيّ عنها في خطاب السيّد مطلقة غير مقيّدة بزمان مخصوص ، ولكنّه لا يجديهم في إنهاض الدلالة الوضعيّة لو رجع إليها دعواهم.

ومنها : ما حكاه في المفاتيح من أنّ نحو قوله : « لا تضرب زيدا » نكرة منفيّة وهي تفيد

٥١١

العموم وموضوعة له.

ويشكل ذلك أيضا : بمنع كون المأخوذ في موادّ الأفعال باعتبار الوضع النوعي الاشتقاقي نكرة إن اريد بها معناها المصطلح ، كيف وأنّ الموادّ كسائر أسماء الأجناس موضوعة للماهيّة لا بشرط شيء على ما سيأتي تحقيقه ، ولو اريد بها ما يرادف اسم الجنس فدعوى إفادتها في حيّز النفي للعموم مسلّمة ، لكن يتوجّه المنع إلى دعوى كونها موضوعة له ، فإنّ ذلك من لوازم نفي الماهيّة من باب دلالة الإشارة فلا يثبت به الدلالة الوضعيّة على ما هو المقصود بالاستدلال.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ غاية ما يستفاد من النكرة المنفيّة نفي جميع أفراد مدخول النفي لا النفي من جميع الجهات ، فقوله : « لا تضرب » يفيد طلب ترك جميع أفراد الضرب في الجملة لا طلب تركه في جميع الأزمنة والأمكنة ، كما أنّ قوله : « لا رجل في الدار » يفيد نفي جميع أفراد رجل في الجملة لا في كلّ زمان.

وفيه ما لا يخفى من فساد ذلك التشبيه والتنظير ، فإنّ « لا رجل في الدار » بمقتضى وضع الجملة الخبريّة للحال ـ على ما ينساق منها في العرف والاستعمال ـ إنّما يفيد نفي أفراد ماهيّة الرجل في حال النطق ولا يتناول غيره ، وليس كذلك الحال في : « لا تضرب » فالقول بأنّه يفيد نفي جميع أفراد الضرب في الجملة إنّما يستقيم إذا فرض ورود النفي على الماهيّة مقيّدة بآن مّا والمفروض خلافه ، ولا ريب أنّ نفي الماهيّة المطلقة يستلزم نفيها في جميع الأزمنة والأمكنة وإلاّ كان نفيا للماهيّة المقيّدة.

لا يقال : كما أنّ المفروض عدم ورود النفي على الماهيّة مقيّدة بآن مّا ليكون مفاده النفي في الجملة ، فكذلك المفروض عدم وروده عليها مقيّدة بالإطلاق فلا يكون مفاده النفي دائما ، لعدم كون المراد بالإطلاق في وصف الماهيّة به ما يكون قيدا لها ، كيف وأنّ النفي ورد عليها لا بشرط شيء حتّى الإطلاق ، بل المراد به ما يلحقها من الأمر العدمي الناشئ عن عدم اعتبار قيد معها في الخطاب ، وهذا هو المقصود من الإطلاق الّذي يتمسّك به في سائر الموارد لتعميم الأحكام المعلّقة على الماهيّات بالقياس إلى أفرادها.

ومنها : ما عن العلاّمة في النهاية من انفهام التناقض في عرف اللغة بين قولنا : « لا تضرب » وقولنا : « اضرب » لاشتمال « لا تضرب » على كلّ مفهوم « اضرب » وزيادة حرف النهي ، وقولنا : « اضرب » يفيد المرّة فلو كان « لا تضرب » أيضا كذلك لم يتناقضا فيجب العموم.

٥١٢

وفيه : منع كون « اضرب » مفيدا للمرّة ، لما قرّرناه من أنّ الأمر لا يفيد إلاّ طلب الماهيّة ، فانفهام التناقض إنّما من جهة مناقضة إيجاد الماهيّة المطلقة لنفيها ، فهو من مقتضيات إطلاق الماهيّة في حيّز الأمر والنهي ، ولا يثبت بذلك دلالة النهي على العموم وضعا ، بل غايته أنّه يدلّ عليه إطلاقا ، فلا يكون الدليل مطابقا للمدّعى إن رجع إلى الدلالة الوضعيّة.

وممّا قرّرناه يظهر أنّه لا وقع لما يورد عليه أيضا من النقض بثبوت التناقض بين قوله : « شربت ماء باردا » وقوله : « ما شربت الماء » مع أنّ لفظ « الماء » في القضيّة المتضمّنة للنفي ليس للعموم ، فما يجاب هو الجواب ، فإنّ « الماء » إن اريد به المعهود الخارجي فانفهام التناقض ممنوع ، وإن اريد به الجنس فالتناقض مسلّم ، ولكنّه لا يلزم منه كونه موضوعا للعموم بل يكفي فيه كون النفي الوارد عليه لنفي الجنس المستلزم لنفي جميع أفراده الّتي منها الماء البارد المأخوذ في القضيّة الموجبة.

وأمّا ما يورد عليه أيضا ـ كما في الكواكب ـ من أنّ التناقض المتحقّق بينهما إنّما هو لاشتمال أحدهما على النفي والآخر على الإثبات لكن بشرط اتّحاد الوقت أمّا مع اختلافه فلا ، فلم نتحقّق معناه ، إذ لو اريد به أنّ تحقّق التناقض يعتبر فيه كون النفي والإثبات واردين على الماهيّة في وقت واحد مخصوص اعتبر قيدا لها في كلّ من القضيّتين ، فهو ليس بلازم إذ القضيّة المنفيّة تفيد نفي الماهيّة المطلقة وهو يستلزم الدوام ، فلا بدّ من التناقض من دون نظر إلى خصوصيّة وقت دون آخر ، ضرورة منافاة الإيجاب جزئيّا أو كلّيّا لدوام السلب ، ولو اريد به أنّ النفي إذا كان لدوام السلب يصادف الإيجاب القاضي بوقوع الفعل في وقت وقوعه كائنا ما كان فيتّحد به وقتاهما فحصل التناقض ، فهو في غاية المتانة غير أنّه لا يبقى للاستدراك المذكور من قوله : « وأمّا مع اختلافه فلا » محلّ ، فلا وجه له.

ومنها : ما تمسّك به في المنية والزبدة وحكي عن العلاّمة في النهاية وعن المختصر وشرحه للعضدي من أنّ العلماء ـ كما عن النهاية والمختصر وشرحه للعضدي ـ والصحابة كما في المنية والسلف ـ كما في الزبدة ـ لم يزالوا في جميع الأوقات يستدلّون على الدوام بالنهي من غير نكير.

وفيه : إن أريد به الاستكشاف عن فهمهم الكاشف عن الوضع فهو في حيّز المنع ، لجواز استناد فهمهم إلى مجرّد الإطلاق حسبما قرّرناه وهو ليس من مقتضى الوضع ليثبت به الدلالة الوضعيّة.

٥١٣

لا يقال : الأصل في التبادر أن يكون وضعيّا كما هو المقرّر في محلّه المسلّم عندهم ، لأنّ ذلك إنّما يجدي نفعا في مقابلة دعوى استناد الفهم إلى القرينة ومفروض المقام ليس من هذا الباب ، لرجوعه إلى دعوى استناد الفهم إلى أمر عدميّ ينشأ من ورود الماهيّة مطلقة ، ولا يعقل في مثل ذلك دعوى الأصل على الخلاف كيف وأنّ منشأ الفهم موافق للأصل كما لا يخفى ، فإنّ الأصل إنّما هو عدم التقييد والإطلاق من مقتضياته ، كما لا يعقل تقرير الأصل بالنسبة إلى هذا النحو من الفهم لمكان الشكّ في الحادث ، فإنّ أصل الفهم حاصل بالفرض وهو مردّد بين استناده إلى الوضع أو إلى الإطلاق والأصل متساوي النسبة إلى كلّ منهما ، ولو قرّر الأصل بالقياس إلى ما يلزم الفهم من جهة الإطلاق من ملاحظة الإطلاق والالتفات إلى عدم لحوق القيد كان معارضا بالمثل ، إذ الفهم من جهة الوضع أيضا يستلزم الالتفات إليه ولو إجمالا ، مع أنّ الأصل إنّما يعقل جريانه في موضع [ الشكّ ] والالتفات إلى الإطلاق حيثما ترد اللفظ مطلقا خاليا عن القيد من اللوازم القهريّة التابعة للالتفات إلى نفس اللفظ ، فلا شكّ في المقام حتّى يكون محقّقا لموضوع الأصل.

ومنها : ما أشار إليه البهائي في حاشية زبدته بقوله : « على هذا المطلب دليل آخر غير مشهور ، تقريره : أنّ الترك في وقت من الأوقات أمر عادي للمكلّف غير محتاج إلى النهي ، فلو لم يكن النهي للدوام لكان صدوره عن الناهي عبثا » ثمّ قال : « فإن قلت : العبثيّة غير لازمة وإنّما تلزم لو لم يكن النهي مقتضيا للفور ».

فأجاب عنه : « بأنّ من يقول بعدم الدوام يجوّز التراخي كما نصّ عليه العلاّمة في النهاية ويدلّ عليه كلام الفخري في المحصول فالعبثيّة لازمة ».

ثمّ قال : « لكن يمكن أن يقال : إنّ الترك نوعان عادي وامتثالي ، والامتثالي إنّما يترتّب على النهي وبه يحصل الثواب ».

وعن الفاضل الجواد الإيراد على ما ذكره في دفع فوريّة الانتهاء على القول بعدم الدوام بقوله : « ها هنا شيء وهو أنّ القائلين بعدم الدوام منهم من ذهب إلى أنّه للمرّة فقط ، ومنهم من يجعله مشتركا بينها وبين التكرار بحيث يتوقّف العلم بأحدهما على دليل من خارج كما في الأمر ، فمن قال بالأوّل قال بالفوريّة كما هو الظاهر من كلام بعضهم ، حيث صرّح بأنّ النهي لا يفيد إلاّ الانتهاء في الوقت الّذي يلي وقت النطق بالنهي وحينئذ فلا عبثيّة على مذهبهم ، وأمّا من يجعله مشتركا بينهما فإنّه يتوقّف في الانتهاء إلى أن يظهر

٥١٤

دليل على أحدهما ، وحينئذ فلا يلزم من كون الترك في بعض الأوقات عاديّا العبثيّة على تقدير النهي ».

ومنها : ما عن العلاّمة في النهاية من أنّ قولنا : « لا تضرب » يمكن حمله على التكرار وقد دلّ عليه أيضا فيجب المصير إليه.

أمّا الاولى : فلإمكان امتناع الإنسان عن الفعل دائما من غير عسر.

وأمّا الثانية : فلأنّه لا خفاء في عدم دلالة الصيغة على الانتهاء في وقت دون وقت فإمّا أن يحمل على الكلّ ، أو لا يحمل على شيء وهو محال ، أو يحمل على البعض دون الآخر ويلزم منه الترجيح من غير مرجّح.

وفيه : ـ مع عدم نهوضه على إثبات الدلالة الوضعيّة إن كانت هي المقصودة بالاستدلال ـ أنّ هاهنا احتمالا رابعا وهو حمله على وقت مّا لا على التعيين ، ليكون مفاده التخيير في الانتهاء بين الأوقات.

وما يقال : من أنّ الانتهاء بهذا المعنى إنّما يتحقّق بدون النهي ، يدفعه : أنّ الثواب والعصيان لا يترتّبان إلاّ على النهي ، فربّما يكون غرض الناهي إيصال المنهيّ إلى الثواب أو إلزامه على كونه معه في مقام العصيان.

وممّا قرّرناه يندفع ما قرّره بعض الأعلام (١) من الاحتجاج انتصارا للقائل بالدوام من :

« أنّ طلب الترك وإرادة ترك الطبيعة منه في وقت غير معيّن إغراء بالجهل ، فوقوعه في كلام الحكيم يقتضي حمله على العموم » فإنّ محذور الإغراء بالجهل إنّما يلزم لو فرض الوقت الغير المعيّن عند المنهيّ معيّنا عند الناهي لا مطلقا ، واعتبار التعيين عند الناهي غير لازم على القول بعدم الدوام.

ومنها : ما عن العلاّمة أيضا في النهاية من : « أنّ النهي لو لم يكن للدوام لما ثبت تحريم الزنا والربا وغير ذلك من المنهيّات دائما ، والتالي باطل بالإجماع ».

وفيه : ـ مع أنّه لا يتوجّه إلى القول بالاشتراك لفظا ولا معنى ـ أنّ القائل بالمرّة لا يدّعي استحالة ورود النهي للدوام.

غاية الأمر أنّه يجعله حينئذ مستفادا منه بمعونة الخارج ، فلعلّ الدوام فيما ذكر من المنهيّات إنّما ثبت عنده من جهة الخارج من إجماع ونحوه.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٣٨.

٥١٥

ومنها : ما عن العلاّمة أيضا في النهاية من أنّ ها هنا مقدّمتين :

إحداهما : أنّ المنهيّ عنه منشأ للمفسدة ولذا صحّ النهي عنه.

والثانية : الحكم ببقاء ما كان على ما كان إلى أن يظهر دليل.

أمّا الأوّل : فلما مرّ.

وأمّا الثاني : فلما يأتي من كون الاستصحاب (١).

وجوابه واضح ، لعدم انطباقه على المدّعى سواء رجع إلى دعوى الدلالة الوضعيّة أو مطلق الدلالة ، فإنّ المتنازع فيه إحراز الدلالة من اللفظ لتجدي في ثبوت حكم واقعي ، والاستصحاب طريق عملي أخذه الشارع مرجعا للمكلّف في مواضع الشكّ المتعقّب لليقين من غير مدخل له في مدلول الخطاب ولا كشفه عن الدلالة ولا المراد ، مع أنّه كما لا يجدي في ثبوت المدّعى فكذلك لا يجدي في دفع إلزام الخصم ، لأنّه مدّع لدلالة الخطاب على المرّة ، والأصل العملي لا يصلح معارضا للأصل اللفظي جزما ، بل لا مجرى له مع وجود الأصل اللفظي ، فالعمدة في المقام نفي ذلك الأصل لا إثبات ما لا يصلح معارضا له.

ومنها : ما عن العلاّمة أيضا في النهاية من « أنّ الاحتياط انتهاؤه دائما فتعيّن العمل به ، إذ مع تركه لا يأمن عن ارتكاب المحظور ».

وجوابه ـ بعد توجّه المنع إلى تعيّن العمل بالاحتياط لعدم وجوبه إلاّ في موضع القطع بالتكليف واشتباه المكلّف به ، ووجود القدر المتيقّن في البين بعدم دوران الأمر بين المحذورين والمقام ليس منه جزما ـ يظهر ممّا مرّ.

ومنها : ما قرّره المصنّف وحكي عن نهاية العلاّمة وشرح المبادئ وشرح المنهاج من أنّ النهي يقتضي منع المكلّف من ادخال ماهيّة الفعل وحقيقته في الوجود ، وهو إنّما يتحقّق بالامتناع من ادخال كلّ فرد من أفرادها فيه ، إذ مع ادخال فرد منها يصدق ادخال تلك الماهيّة في الوجود لصدقها به.

وردّه البهائي في الزبدة : بأنّه إن عنى دائما فمصادرة وإلاّ لم ينفعه.

وقريب منه ما ذكره في المنية من أنّ المنع من ادخال الماهيّة في الوجود قدر مشترك بين المنع من ادخال الماهيّة في الوجود دائما وبين المنع من ادخالها فيه لا دائما ، ولا دلالة لما به الاشتراك ـ وهو المنع من ادخال الماهيّة في الوجود مطلقا ـ على ما به الامتياز وهو

__________________

(١) كذا في الأصل.

٥١٦

قيد « الدوام » و « اللادوام » لأنّه عامّ والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.

أقول : إنّما يتّجه ذلك إذا كان المقصود بالاستدلال أخذ « الدوام » قيدا للماهيّة المنهيّ عنها ، نظرا إلى أنّ النهي بمجرّده كما لا يدلّ على قيد « اللادوام » فكذلك لا يدلّ على قيد الدوام ولكنّه ليس بلازم لجواز رجوعه إلى التمسّك بما فيها من الإطلاق وهو ليس قيدا كما عرفت ليقابله قيد اللادوام ويوجب عدم صلاحية الدلالة عليه.

نعم يتوجّه إليه عدم كون تلك الدلالة لفظيّة مستندة إلى الوضع إن كان ذلك هو المقصود بالاستدلال.

ومن الأعلام من أورد عليه أيضا : « بأنّ ذلك لا يفيد ذلك ولو كان مدخول الطلب التحريمي الماهيّة بشرط الوحدة (١) أو بشرط العموم المجموعي أيضا (٢) مع كونهما مفيدين للعموم في الجملة فضلا عمّا لو كان المدخول هو الطبيعة المطلقة كما هو القدر المسلّم في مبدأ الاشتقاق ، إذ كما أنّ المطلوب يحتمل الإطلاق والتقييد كذلك الطلب يحتملهما ، فكما يصحّ أن يقال : أطلب منك عدم الزنا الحاصل ما دام العمر ، أو عدم الزنا في شهر أو سنة ، كذلك يصحّ أن يقال : أطلب دائما ، أو في شهر ، أو سنة ترك الزنا ، ولا دلالة في اللفظ على أحد التقييدين ، فطلب ترك الطبيعة إنّما يقتضي ترك جميع أفراد الطبيعة في الجملة لا دائما ، وأين المطلقة من الدائمة فلا يمكن اثبات الدوام والتكرار للنهي لا من جهة المادّة ولا من جهة طلب الترك » (٣).

وفيه : أنّ عدم دلالة اللفظ على أحد التقييدين مسلّم ، ولكن لا يلزم منه كون مفاده طلب ترك جميع أفراد الطبيعة في الجملة ، إذ لو اريد به أنّ القضيّة في النهي مهملة والمهملة في قوّة الجزئيّة.

ففيه : أنّه يناسب مذاق أهل الميزان من حيث إنّهم يقتصرون في مداليل الألفاظ على ما هو القدر المتيقّن ولا يلتفتون إلى ما عدا ذلك ممّا يساعد عليه الظهور ولو بضميمة الخارج ، فلا ربط له بطريقة أهل هذا الفنّ لكفاية مجرّد الظهور عندهم في صحّة الاستنتاج كما لا يخفى.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٣٨.

(٢) بأن يكون المطلوب ترك الماهيّة في أحد الأزمنة على سبيل البدليّة ( منه ).

(٣) بأن يكون المطلوب ترك الماهيّة في مجموع الأزمنة من حيث المجموع ( منه ).

٥١٧

ولو اريد به أنّه لا يقضي بأزيد من الجزئيّة ولو بعنوان الظهور.

ففيه : أنّ الظهور لو اريد به ما يستند إلى نفس اللفظ ووضعه فانتفاؤه مسلّم ، لكنّه لا ملازمة بينه وبين انتفاء مطلق الظهور ، ولا يلزم منه كون مفاد القضيّة هو الجزئيّة.

ولو اريد به مطلق الظهور ولو استند منه إلى خارج من اللفظ فمنعه واضح ، لوضوح الفرق بين طلب ترك مطلق الطبيعة وطلب ترك الطبيعة المطلقة ، وموضوع البحث هو الثاني ، وما ذكر من طلب تركها في الجملة من مفاد الأوّل ولا كلام فيه ، والعقل بعد ملاحظة إطلاق الطبيعة المأخوذة في القضيّة من غير لحوق قيد زماني بها يقضي بعدم تأتّي امتثال النهي عنها إلاّ بتركها في ضمن جميع أفرادها.

ودعوى أنّ ترك جميع الأفراد ممّا يتأتّى في آن واحد ولا يقتضي ذلك دوام الترك.

يدفعها : أنّ الطبيعة يفرض لها الأفراد من جهات عديدة واعتبارات شتّى ، فتارة من جهة أحوال المكلّف ، واخرى من جهة الامور الخارجة والاعتبارات اللاحقة ، وثالثة من جهة الأمكنة ، ورابعة من جهة الأزمنة وهكذا ، فإذا فرض ورودها في الخطاب مطلقة من جميع تلك الجهات استلزم طلب تركها ترك الأفراد الحاصلة لها بأجمعها في كلّ من تلك الجهات ، واذا فرض لحوق قيد بها في بعض تلك الجهات كما لو قال : « لا تزن حال الطهارة ، أو بهذه المرأة ، أو عند زوال الشمس ، أو حال مجيء زيد ، أو في المسجد ، أو يوم الجمعة » خرجت عن إطلاقها في خصوص محلّ القيد وبقي الإطلاق بالقياس إلى الجهات الاخر على حاله.

ومفروض المقام إطلاقها بالنسبة إلى الأزمنة فيجب الأخذ به المقتضي للعموم والدوام ، واعتبار العموم فيها بالقياس إلى الجهات الاخر لا ينفي العموم بالقياس الى تلك الجهة ، كيف وأنّ العموم المذكور الّذي يسلّمه المورد لا داعي إلى اعتباره إلاّ الإطلاق القائم بالطبيعة بالنسبة إلى الجهة المشخّصة لها الّتي يضاف إليها ذلك العموم وهو بعينه موجود في المتنازع فيه والفرق تحكّم ، فيجب إمّا أن لا يقال بالعموم أصلا أو لا يفرق فيه بين شيء من الجهات المذكورة الّتي منها محلّ البحث.

فبالتأمّل في جميع ما قرّرناه من البداية إلى تلك النهاية يتبيّن أنّ الحقّ عندنا وفاقا للأكثرين اقتضاء النهي المجرّد لدوام الترك بدلالة عقليّة التزاميّة من باب الإشارة المستندة إلى أمر عدميّ يعبّر عنه بالإطلاق ، والدليل عليه ما قرّرناه في تضاعيف الكلمات السابقة.

٥١٨

وإن شئت زيادة بيان في الاستدلال فنقول : مفروض المقام أنّ الطبيعة مأخوذة في حيّز النهي مطلقة غير مقيّدة بقيد زماني ولا مكاني ولا غيره ممّا يرجع إلى المكلّف وغيره من الأحوال والأوصاف ، فتكون كالطبيعة المأخوذة في حيّز الأمر إذا فرضت مطلقة كذلك ، فكما أنّ إيجادها عند إرادة امتثال الأمر في أيّ زمان يكون ممّا يصدق عليه عرفا أنّه إيجاد للطبيعة المأمور بها ، ويوجب ذلك حصول امتثال الأمر في نظر العقل والعرف ويسقط به الأمر ، فكذلك إيجادها في أيّ زمان يكون حيثما وقعت في حيّز النهي ممّا يصدق عليه عرفا أنّه إيجاد للطبيعة المطلقة ، فيوجب ذلك فوات صدق ترك الطبيعة المطلقة ، ضرورة استحالة صدق النقيضين ، وهو قاض بعدم صدق امتثال النهي في نظر العرف والعقل.

وقضيّة ذلك توقّف صدق الامتثال على تركها في جميع الأزمان ، ضرورة استحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما.

ودعوى : أنّ تركها في الجملة كاف في تحقّق الامتثال ولا يقدح فيه إيجادها بعد ذلك.

يدفعها : أنّ ما حصل تركه في الزمان المفروض ليس إلاّ الطبيعة المقيّدة بذلك [ الزمان ] والمفروض عدم تعلّق النهي بها بخصوصها ، وإنّما تعلّق النهي بها مطلقة غير مضافة إلى زمان دون آخر ، والمفروض عدم حصول تركها كذلك ، إذ يصدق على ما وجد في الزمان المتأخّر أنّه من تلك الطبيعة فلا امتثال ، وهذا معنى قولنا : « انّ النهي يفيد الدوام والتكرار » ، لا بمعنى أنّ « الدوام » اعتبر قيدا مع الطبيعة حتّى يقال بأنّ ذلك منفيّ بحكم العرف والأصل ، بل بمعنى أنّ ترك الطبيعة المطلقة ممّا لا يصدق بحكم العقل والعرف إلاّ مع دوام الترك.

هذا مضافا إلى أنّا نجد في العرف أنّ الإنسان إذا توجّه إليه نهي عن فعل ينظر أوّلا في أنّه هل يلحقه قيد من المتكلّم أو من العقل أو من العادة قاض بمطلوبيّة تركه في الجملة على حسبما يقتضيه ذلك القيد كمّا أو كيفا ليتخلّص عن دوام الترك الّذي هو بنفسه أمر صعب على النفوس أو لا يلحقه ذلك القيد أصلا ، وذلك آية أنّ الدوام من مقتضيات حاقّ النهي وإنّما يتبعه حيثما وجد مجرّدا عن القيود الخارجة ، وأنّ ما عداه من إرادة الترك في الجملة هو الّذي يحتاج إلى لحوق أمر زائد بالخطاب خارج عن حقيقة الفعل المنهيّ عنه ، وأنّ الدوام يكفي في ثبوته مجرّد تجرّده عن ذلك الأمر الزائد.

مضافا إلى أنّا نجد من أنفسنا عند مراجعة الوجدان أنّه لو أردنا إنشاء نهي عن فعل قد يكون ذلك الفعل مبغوضا في نظرنا في زمان دون آخر فنقيّده بذلك الزمان لا محالة ثمّ

٥١٩

احتجّوا : بأنّه* (١) لو كان للدوام ؛ لما انفكّ عنه ، وقد انفكّ. فانّ الحائض نهيت عن الصلاة والصوم ، ولا دوام. وبأنّه ورد للتكرار ، كقوله تعالى : ( « وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى » ) وبخلافه ، كقول الطبيب : « لا تشرب اللّبن » ، « ولا تأكل اللّحم ». والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فيكون حقيقة في القدر المشترك. وبأنّه يصحّ تقييده بالدوام ونقيضه ، من غير تكرار ولا نقض ؛ فيكون للمشترك.

والجواب عن الأوّل : أنّ كلامنا في النهي المطلق. وذلك مختصّ بوقت الحيض ، لأنّه مقيّد به ، فلا يتناول غيره. ألا ترى أنّه عامّ لجميع أوقات الحيض.

وعن الثاني أنّ عدم الدوام في مثل قول الطبيب ، إنّما هو للقرينة ، كالمرض في المثال. ولولا ذلك ، لكان المتبادر هو الدوام. على أنّك قد عرفت في نظيره سابقا : أنّ ما فرّوا منه بجعل الوضع للقدر المشترك ـ أعني : لزوم المجاز والاشتراك ـ لازم عليهم ، من حيث انّ الاستعمال في خصوص المعنيين يصير مجازا فلا يتمّ لهم الاستدلال به.

وعن الثالث : أنّ التجوّز جائز ، والتاكيد واقع في الكلام مستعمل ، فحيث يقيّد بخلاف الدوام يكون ذلك قرينة المجاز ، وحيث يؤتى بما يوافقه يكون تأكيدا.

___________________________________

نورد عليه النهي كذلك ، وقد يكون مبغوضا عندنا من رأسه بحيث لا نحبّ وجوده في الخارج أصلا فنطلقه ونورد عليه النهي كذلك ويتمّ به المخاطبة ويحصل كمال المقصود ، فلولا الإطلاق ممّا يلازم المبغوضيّة المطلقة ومطلوبيّة الدوام لكنّا في الاكتفاء به قصّرنا في البيان وابراز كمال المقصود واستحقنا بذلك ذمّ العقلاء واستهجان العرف ، وهو باطل بضرورة من العرف والوجدان.

(١) * احتجّ المنكرون لدلالة النهي على التكرار بوجوه :

منها : ما اعتمد عليه بعض الأعلام (١) من أنّ الأوامر والنواهي وغيرها مأخوذة من المصادر

__________________

(١) القوانين ١ : ١٣٨.

٥٢٠