تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

واختلف القائلون بالدلالة ، فقال جمع منهم المرتضى : إنّ ذلك بالشرع* (١) لا باللّغة. وقال آخرون : بدلالة اللّغة عليه أيضا ،

_______________________________

وعن النهاية أنّه حكاه عن جمهور فقهاء الشافعيّة ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وأهل الظاهر كافّة وجماعة من المتكلّمين.

وثانيها : وهو عدم الدلالة مطلقا فعن الرازي أنّه نقله عن أكثر أصحابه ، وعن المحصول أنّه نقله عن أكثر الفقهاء ، وعن الآمدي أنّه نقله عن أكثر المحقّقين ، وعن النهاية أنّه حكاه عن جماعة من الأشاعرة كالغفال والغزالي وغيرهما وجماعة من الحنفيّة وجماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسين الكرخي والقاضي عبد الجبّار.

(١) * ونسب إلى ابن الحاجب أيضا ، والقول بأنّ ذلك من جهة اللغة هو الّذي تقدّم الإشارة إلى أهله حين نقل أوّل الأقوال ، ونحو هذا التفصيل وقع في القول بالدلالة عليه في العبادات فقط مطلقا.

فإنّ منهم من أثبتها لغة ومنهم من أثبتها شرعا.

ثمّ إنّ هاهنا تفاصيل اخر أشار إليها بعض الأفاضل فجعل أقوال المسألة ما يرتقي إلى أحد عشر.

ومن التفاصيل ما لم يتعرّض لذكره وهو ما اختاره شيخنا البهائي في الزبدة من أنّه في العبادة لعينها أو جزئها أو شرطها يدلّ على الفساد.

وقضيّة إطلاق كلامه كون الدلالة باعتبار اللغة ، كما أنّ قضيّة ظاهر كلامه عدم الدلالة عليه في المعاملات مطلقا.

ومن التفاصيل الّتي ينبغي الالتفات إليها ما فصّل في المعاملات بين ما لو كان مقتضي الصحّة فيه ممّا يفيد الحكم التكليفي المستلزم للحكم الوضعي من حلّيّة أو وجوب أو ندب كما في : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) فالنهي الدالّ على التحريم فيه يستلزم الفساد ، وما لو كان مقتضى الصحّة ممّا يفيد الحكم الوضعي فقط كما في : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (٢) و « إذا التقى الختانان وجب المهر » (٣) ونحوه فلا يقتضي النهي فيه الفساد.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٧٠ ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح ٦.

(٣) الكافي ٦ : ١٩٩ ، باب ما يوجب المهر كلاّ ، ح ١ و ٢ و ٣.

٦٦١

والأقوى عندي : أنّه يدلّ في العبادات بحسب اللّغة والشرع دون غيرها مطلقا* (١). فهنا دعويان.

_______________________________

(١) * بل الحقّ أنّه يدلّ عليه فيهما معا في الجملة إلاّ إذا كان في المعاملة تحريميّا غيريّا أصليّا كان أو تبعيّا ، أو كان تحريميّا مطلقا متعلّقا في العبادة بالخارج الغير المتّحد معه في الوجود ، أو بشرط لا ينوط حصوله بقصد الامتثال ، أو في المعاملة بالخارج مطلقا اتّحد في الوجود أو لم يتّحد.

وتوضيح هذا التفصيل يستدعي التكلّم في مقامين :

المقام الأوّل

في النهي المتعلّق بالعبادة

فنقول : النواهي المتعلّقة بالعبادات بالمعنى المتقدّم في ذيل الأمر الثاني تتصوّر على وجهين :

أحدهما : كونها إرشاديّة ، كما يفصح عنه عمل العلماء في إفساد العبادات بمجرّد التعلّق بتلك النواهي ، فيراد بها بيان ما هو حقيقة المراد من الأمر والمأمور به وإرشاد المكلّف إلى مورد الصحّة وتمييزها عمّا عداه ممّا يتخيّل ظنّا أو وهما كونه من موردها.

وثانيهما : كونها تحريميّة موجبة لاستحقاق العقاب على مخالفتها ، كما عليه مبنى متفاهم القوم في أكثر الاستدلالات الواردة في تلك المسألة.

فعلى الأوّل : فقضيّة الإرشاد اقتضاؤه الفساد في جميع الأقسام السبع المتقدّمة حتّى ما كان منه لأمر خارج غير متّحد في الوجود.

غاية الأمر أنّه يختلف مفاده على حسب اختلاف تلك الأقسام ، فإن تعلّق بها لنفسها كان مفاده كون الوصف الراجع إلى المكلّف أو المكلّف به من موانع أصل التكليف المستلزم لكون خلاف ذلك الوصف شرطا فيه ، كنهي الحائض عن الصلاة والصوم ونهي المسافر عن الصوم ، والنهي عن صوم يوم العيد ونحو ذلك.

وإن تعلّق بها لجزئها فإن كان لفقد ما يصلح كونه جزءا كان مفاده جزئيّة ذلك المفقود كالأمر المتعلّق بما يصلح كونه جزءا ، وإن كان لوجوده على صفة خاصّة كان مفاده كون المعتبر في الجزء غير الموصوف بتلك الصفة ككون السورة مثلا عزيمة ، من غير فرق في

٦٦٢

ذلك بين تعلّقه بنفس ذلك الجزء مقيّدا بالعبادة أو بالعبادة مقيّدة به.

وإن تعلّق بها لشرطها فإن كان لفقدان ما يصلح شرطا كان مفاده شرطيّة المفقود كالأمر المتعلّق بما يصلح لكونه شرطا ، وإن كان لوجوده على صفة خاصّة كان مفاده اعتبار خلوّ الشرط عن هذه الصفة من غير فرق فيه أيضا بين تعلّقه بنفس الشرط مقيّدا بالعبادة أو بالعبادة مقيّدة به.

وإن تعلّق بالوصف الداخل كان مفاده كون الهيئة المعتبرة ما حصلت بخلاف هذا الوصف ، كما لو قال : « لا تصلّ الظهر جهرا » وإن تعلّق بالوصف الخارج أو بأمر خارج متّحد أو غير متّحد في الوجود كان مفاده كون هذه الامور من مقولة الموانع من المكلّف به أو القواطع له كما في الضحك والكلام والبكاء للدنيا ، وقضيّة ذلك تعيّن كون المكلّف به الّذي يلحقه وصف الصحّة ما خلى عن هذه الأمور ، فكلّ هذه المعاني المستفادة من النهي الإرشادي تشارك في استلزام الفساد بالمعنى المتنازع فيه بالقياس إلى العبادة.

وعلى الثاني : مقتضاها باعتبار الوضع اللغوي أو العرفي حرمة المورد كائنا ما كان ، وهي كما ترى ليست بعين الفساد الّذي هو في العبادة عبارة عن عدم موافقة الأمر ، ولا أنّه جزء منها ولا لازما لفظيّا لها بحيث يدلّ عليه اللفظ التزاما باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ ، فبطل بذلك القول بدلالة النهي في العبادات عليه لغة بل شرعا أيضا ، إلاّ أن يكون ذلك لفهم التخصيص عرفا المستند إلى الوضع النوعي التركيبي الثابت للمخصّص والمخصّص ، فيفهم بملاحظة النهي التحريمي خروج المورد عن عموم الدليل المقتضي للصحّة بمعنى موافقة الأمر كـ ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) و ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(٢) من باب التخصيص على حدّ ما يفهم عرفا من تخصيص قوله : « أكرم العلماء » بقوله : « لا تكرم زيد العالم » وإن كان مبنى فهم العرف المضادّة بين الوجوب أو الندب والحرمة واستحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد فيختصّ فهم التخصيص بما لو كان مورد النهي نفس العبادة كما في المنهيّ عنه لنفسه كقوله : « لا تصلّ الحائض ، أو لا تصوم الحائض ، أو لا يصوم المسافر أو لا تصم يوم العيد » أو المنهيّ عنه لجزئه أو لشرطه لفقدان الجزء أو الشرط أو وجوده على صفة منقصة كقوله : « لا تصلّ بلا قراءة سورة ، أو بلا ساتر ، ولا تصلّ مع قراءة العزيمة أي صلاة مشتملة على قراءة العزيمة ، ولا تصلّ بساتر مغصوب » ونحو ذلك ، أو المنهيّ عنه لوصفه

__________________

(١) البقرة : ١١٠.

(٢) البقرة : ١٨٥.

٦٦٣

الداخل أو الخارج إذا أخذ الوصف قيدا كقوله : « لا تصلّ الظهر جهرا ، أو لا تصلّ في الدار المغصوبة » فلا يتمّ في الأقسام المذكورة لو كان مورد النهي نفس الجزء أو الشرط أو الوصف الداخل أو الخارج كقوله : « لا تقرأ العزيمة في الصلاة ، أو لا تستّر بالمغصوب في الصلاة ، أو لا تجهر بالقراءة في الصلاة ، أو لا تكن في الدار المغصوبة في الصلاة » كما لا يتمّ فيما نهي لأمر خارج متّحد أو غير متّحد.

اللهمّ أن يدّعى انفهام رجوع النهي عرفا في نحو الأمثلة المذكورة إلى العبادة مقيّدة بالجزء أو الشرط أو الوصف ، فتكون في متفاهم العرف بمعنى « لا تصلّ صلاة مشتملة على قراءة العزيمة ، ولا تصلّ بالساتر المغصوب ، ولا تصلّ جهرا ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة » ثمّ يفهم التخصيص.

وهذا على فرض تسليمه لا يتمّ في المنهيّ عنه لأمر خارج متّحد أو غير متّحد في الوجود كقوله : « لا تغصب » أو « لا تنظر إلى الأجنبيّة » مثلا بعد قوله : « صلّ » إلاّ أن يدّعى في الأوّل انفهام التخصيص في محلّ الاجتماع لصيرورة الغصب حينئذ متّحد الكون مع الصلاة فتفسد لاستحالة اجتماع الأمر والنهي ، فلا يتمّ في الثاني إذ النهي عن أمر خارج غير متّحد مع العبادة لا يستحيل اجتماعه مع الأمر بها لتعدّد متعلّقيهما ذهنا وخارجا فلا قاضي بالفساد من عقل ولا عرف.

وقد لا يجري الاعتبار المذكور فيما نهي لشرطه إذا كان الشرط ممّا لا ينوط حصوله بقصد الامتثال كالنهي عن غسل الثوب أو البدن بالماء المغصوب مثلا كقوله : « لا تغسل ثوبك أو بدنك للصلاة بالماء المغصوب » فإنّ مثل هذا النهي لا يقضي بفساد العبادة أيضا ، نظرا إلى أنّ الشرط عند التحقيق إنّما هو طهارة الثوب أو البدن بأيّ نحو حصلت ، والنهي قد تعلّق بما هو من مبادئها فغاية ما هنالك حصول المبدأ على وجه الفساد لانتفاء الأمر من جهة طروّ النهي وهو لا يقضي بفساد نفس الشرط ، لعدم إناطة حصوله بقصد امتثال الأمر في الإتيان بالمبدأ أعني الغسل بالمغصوب ، كما هو الحال في الطهارة عن الحدث صغيرا كان أو كبيرا لعدم حصولها بدون قصد امتثال الأمر بالمبدأ وهو الوضوء والغسل ، فيفسد كلّ منهما بالماء المغصوب لانتفاء الأمر بواسطة النهي.

وإذ قد عرفت أنّ النهي في العبادة يتصوّر على وجهين فهو على أوّلهما يقتضي الفساد مطلقا.

وعلى ثانيهما يقتضيه إلاّ في المنهيّ لأمر خارج غير متّحد ، وفي المنهيّ عنه لشرطه

٦٦٤

إذا كان الشرط لا ينوط حصوله بقصد امتثال الأمر بل يحصل وإن لم يكن أمر أو كان ولكن لم يقصد امتثاله.

فاعلم : أنّ الأصل في النهي حيثما ورد مطلقا أن يكون تحريميّا كما سبق تحقيقه في محلّه ، كما أنّ الأصل في الأمر حيثما ورد مطلقا كونه إيجابيّا.

وهل الأصل فيه حيثما وقع في حيّز العبادة كونه إرشاديّا أو تحريميّا؟ ومرجع ذلك إلى أنّ وقوعه في حيّز العبادة هل ينهض قرينة صارفة له عن التحريم إلى إرادة الإرشاد في نظر العرف ، كوقوع الأمر عقيب الحظر في كونه في نظر العرف قرينة على إرادة الرخصة ورفع الحظر أو لا؟ وهذا الكلام لا يختصّ بالنهي بل يجري في الأمر أيضا إذا وقع في حيّز العبادة.

ويظهر ثمرة هذا الأصل في أمرين :

أحدهما : ما تقدّم الإشارة إليه من أنّ مقتضى كونه إرشاديّا فساد العبادة في جميع صوره من دون استثناء شيء منها بخلاف ما إذا كان تحريميّا فإنّه يستثنى منها صورتان.

وثانيهما : الفرق في اقتضاء الفساد بين العالم العامد وغيره وعدمه ، فإنّه إذا كان إرشاديّا واقتضى الفساد لا يتفاوت فيه الحال بين العالم والعامد والجاهل والناسي والساهي بل المختار والمضطرّ إلاّ ما ثبت صحّته بالدليل باعتبار دلالته على كون الشيء شرطا علميّا أو اختباريّا وكذلك الجزء والمانع ، بخلاف ما إذا كان تحريميّا فإنّه لا يقتضي الفساد إلاّ إذا كان فعليّا ، فلا فساد في حقّ الجاهل والناسي والساهي والمضطرّ لاستلزام هذه الأحوال ارتفاع النهي الفعلي.

فالّذي يساعد عليه متفاهم العرف في الأوامر الجزئيّة والنواهي الجزئيّة المتعلّقة بالعبادات بعد ما ورد فيها من عمومات أو مطلقات مقتضية للصحّة فيها على جهة العموم ـ وفاقا لغير واحد من مشايخنا العظام ـ كونها إرشاديّة مرادا بها الكشف عن الواقع وتميّز مورد الصحّة عن غيره ، دفعا لتوهّم عمومها لغيره أيضا نظرا إلى عموم أو إطلاق دليلها بحسب الظاهر ، ومحصّله يرجع إلى بيان تفاصيل ما أجمله الخطاب ولو من جهة ظهوره عموما أو إطلاقا فيما ليس بداخل في المراد فعلا أو فاعلا بإخراج ما ليس منه عن تحته بتخصيص أو تقييد ، وهذا ظاهر لا سترة عليه فلا يحتاج إلى بيان.

وبالجملة أهل العرف لا يفهمون من الأوامر والنواهي الواردة بعد العمومات أو الإطلاقات كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) و ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(٢) إلاّ

__________________

(١) البقرة : ١١٠.

(٢) البقرة : ١٨٥.

٦٦٥

الإرشاد الكاشف عن عدم بقاء العموم أو الإطلاق على حالهما ، نظير الأمر الواقع عقيب الحظر المعلوم أو المظنون أو المشكوك أو الموهوم فكما أنّ الأمر بمجرّده وفي نفسه ظاهر في الإيجاب وإذا وقع عقيب الحظر انقلب ظهوره في الإيجاب انقلابا عرفيّا إلى ظهور ثانوي في رفع الحظر ، فكذلك النهي المتعقّب لعموم أو إطلاق وارد في العبادة بل مطلق الماهيّة المجعولة المركّبة ، فإنّه بمجرّده وفي نفسه ظاهر في التحريم وإذا وقع عقيب العموم أو الإطلاق المذكورين انقلب ظهوره الأوّلي في التحريم انقلابا عرفيّا إلى ظهور ثانوي في الإرشاد ، وكأنّ سبق الإطلاق أو العموم قرينة في نظر العرف أوجبت هذا الانقلاب ، بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

ثمّ إنّ القطع الضروري حاصل بعدم كون ذلك الظهور أمرا مستحدثا في العرف الحاضر بل هو ثابت عن العرف القديم في كافّة الأعصار وعامّة الأمصار إلى عصرنا هذا ، فيكون كاشفا عن الشرع واللغة على معنى المجاز اللغوي المعتبر إرادته في خطابات الشرع ، وكأنّه مراد من يدّعي اقتضاء النهي لفساد العبادة لغة وشرعا ، وهو المطلوب إذ بدونه لا يكاد يتصوّر له معنى.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا كلّه إنّما يستقيم في النهي اللفظي إذا كان بصيغة « لا تفعل » أو ممّا اشتقّ من مادّة النهي أو ألفاظ اخر تؤدّي مؤدّى الصيغة غير لفظ « التحريم » ومتصرّفاته فإنّه حيثما وقع كان ظاهرا في الحرمة ، كما أنّ النهي إذا كان معنويّا مستفادا من الأمر بشيء آخر بأيّ وجه من وجوه الاستفادة لم يكن بنفسه مفيدا للإرشاد ، بل هو في جميع مراتبه وخصوصيّاته يتبع سببه الّذي هو الأمر ، فإن كان إيجابيّا كان النهي المستفاد منه تحريميّا وإن كان إرشاديّا كان ذلك النهي أيضا إرشاديّا وإن اشتبه الحال يرجع إلى الأصل.

تنبيهان

الأوّل : قد يقال : إنّ هذا الإرشاد ليس معنى مجازيّا للنهي بل هو بعد على حقيقته ومعناه الحقيقي.

غاية الأمر أنّه إذا لم يكن واقعا عقيب توهّم الصحّة كان ظاهرا عند العرف في النهي الشرعي ومتى ورد عقيبه انقلب الظهور المذكور إلى الإرشاد ، بخلاف الأمر الواقع عقيب الحظر فإنّ رفع الحظر خارج عن حقيقة الأمر غير أنّ قرينة المقام أوجبت ظهورا لمعنى المجازي.

وكأنّ هذا القول مبنيّ على توهّم كون الإرشاد في موارد ثبوته ممّا يتضمّن الطلب

٦٦٦

الحتميّ الإلزامي المأخوذ في وضعي الأمر والنهي غاية الفرق بينه وبينهما إذا كانا شرعيّين أنّ الثاني يستعقب استحقاق العقوبة على المخالفة لجهة المولويّة الملحوظة فيها بخلاف الأوّل لسقوط اعتبار جهة المولويّة فلا يستعقب المخالفة فيه إلاّ فوات المأمور به والخاصيّة المطلوبة منه كأوامر الطبيب ونواهيه.

وظاهر أنّ اللفظ لم يوضع لغة وعرفا إلاّ لمجرّد الطلب الحتمي واستحقاق العقوبة شيء خارج يعلم بمعونة الخارج.

ولكن يشكل ذلك من جهة أنّ الّذي يظهر من ملاحظة العرف ويشهد به الذوق والوجدان أنّ الإرشاد ليس من قبيل الاقتضائيّات ، بل هو بيان للواقع بعنوان الإخبار يرد في الكلام بصورة الاقتضاء فلا جرم يكون معنى مجازيا.

الثاني : قد يتوهّم أنّ هذه النواهي المصروفة إلى الإرشاد ليست إرشاديّة شرعيّة بل إرشاديّة تشريعيّة.

والفرق بينهما : أنّ الثاني يدلّ على حرمة المورد من باب البدعة والتشريع بخلاف الأوّل ، فإنّه لا يدلّ إلاّ على بيان الواقع وأمّا الحرمة من باب البدعة والتشريع فتبقى مستفادة من الخارج.

وفيه : أنّ الحرمة من حيث التشريع خارج عن مدلول اللفظ ، لأنّها مقصورة على الإتيان بغير المشروع بعنوان المشروعيّة فهو في الحقيقة حكم عقليّ لا مدخل للّفظ فيه.

المقام الثاني

في النهي المتعلّق بالمعاملة

فنقول : إنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات أيضا باعتبار وقوعها عقيب توهّم الصحّة من الخطاب العامّ أو المطلق الوارد في مقام التشريع المقتضي للصحّة بقول مطلق ظاهرة عند العرف أيضا في الإرشاد ، على معنى تعليم الامور المعتبرة في الصحّة وتعريف ما يترتّب عليه الآثار المقصودة من وضع المعاملة وتشريعها وتمييزه عمّا عداه ممّا يسبق إلى الوهم كونه منه من جهة عموم الخطاب أو إطلاقه ، وذلك أنّ المعاملة أيضا قد تكون كلاّ له أجزاء ، وقد يعتبر فيها شروط ، وقد يفرض لها موانع ، وقد تكون محتوية لجميع هذه الجهات فتكون صحيحة ، فإنّ الشيء إنّما يلحقه وصف الصحّة على معنى ترتّب الأثر ويصدق عليه عنوان السببيّة إذا كان في وجوده الخارجي حاويا لكلّ ما اعتبر مع المعاملة بحسب الواقع

٦٦٧

من جزء أو شرط أو عدم مانع أو غير ذلك من الأوصاف والهيئات المخصوصة الّتي لها دخل في وصفها العنواني المشار إليه ، وذلك فرع على المعرفة بتفاصيل تلك الامور ، فلا بدّ من خارج يتكفّل ببيانها ولا يكون إلاّ الأوامر والنواهي الجزئيّة المتعلّقة بالمعاملة كائنة ما كانت ، فإنّها خطابات مفصلة وردت بصورة الاقتضاء واريد منها الكشف عن تفاصيل ما أجمله الخطاب الوارد للتشريع من عموم أو إطلاق ولو باعتبار ظهوره فيما ليس بداخل في المراد ، من غير فرق فيه بين كون التشريع المستفاد منه على وجه الكشف عن الواقع أو الجعل الشرعي أو إمضاء ما يتداوله العرف ويتعاطاه الناس ، فإنّ سبق هذا الخطاب على جميع التقادير ينهض في نظر العرف قرينة كاشفة عمّا هو حقيقة المراد من الأوامر والنواهي المسبوقة من الإرشاد والتعليم إلى ما هو حقيقة المراد من متعلّق هذا الخطاب وإن كان ذلك معنى مجازيا لها ، إذ لا مناص من المصير إليه بعد مساعدة القرينة عليه من غير فرق فيه بين تعلّقها بالمعاملة لنفسها أو لجزئها أو لشرطها أو لوصفها الداخل أو الخارج وإن كان يختلف المفاد من حيث الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة.

نعم يعتبر في النهي كونه لفظيّا بغير لفظ « التحريم » ومتصرّفاته بتقريب ما مرّ ، وفي اللفظي كونه نفسيّا لا غيريّا فإنّه إذا كان غير لفظيّ أو لفظيّا غير نفسي لا يعقل كونه للإرشاد فلا يكون مقتضيا للفساد وعدم ترتّب الأثر ، لا لمجرّد أنّ حرمة المعاملة لا تنافي صحّتها من حيث إنّ صحّتها لا تتوقّف على الطلب ولا الإباحة ولذا جاز التصريح بالتحريم وصحّة المحرّم من دون تناف كما لو قال : « إن ظاهرت يترتّب عليه كذا وكذا ولكن فعله حرام ، أو فعلت محرّما » كما قيل ، لأنّ هذا تعليل عليل مع عمومه لما عدا النوعين المذكورين لما سيتبيّن من إمكان اقتضاء النهي اللفظي النفسي إذا كان تحريميّا للفساد في غير ما نستثنيه بل لعدم تحقّق ضابط الإرشاد فيهما فإنّ ضابطه كون النهي في حيّز الخطاب متعرّضا لسببيّة المعاملة لما يفرض لها من الآثار ويضاف إليها من المسببات بنفي أو إثبات ، ومدركه العرف كما أنّ تشخيصه بالعرف ، وظاهر أنّ النهي إذا لم يكن لفظيّا أو كان ولكن لم يكن نفسيّا غير متعرّض في نظر العرف لنفي سببيّة متعلّقة بل لا نظر فيه إلى السببيّة أصلا كما في النهي عن البيع في موضع الواجب المضيّق على القول باستلزامه النهي ، والنهي عن البيع وقت النداء على القول برجوعه إلى تفويت الجمعة وإن كان لفظيّا ، فإنّ النظر في الأوّل إلى جهة المضادّة والمزاحمة وفي الثاني إلى جهة التفويت ، ولذا يصحّ تعليله بهما لا بالفساد

٦٦٨

أو نفي السببيّة ، بخلاف ما كان للإرشاد لصحّة تعليله بالفساد ونفي السببيّة.

ومن هذا البيان وملاحظة الضابط المذكور [ ظهر ] أنّ ما كان لمفارق متّحد أو غير متّحد في الوجود كالمكالمة مع الأجنبيّة في البيع والنظر إليها فيه أيضا ، غير متعرّض لسببيّة البيع لا بنفي ولا بإثبات كما هو واضح.

وقد يستند فيما استظهرناه من النواهي المبحوث عنها من الإرشاد والتعليم إلى الاستقراء ، فإنّ استقراء الموارد وتتبّع النواهي الواردة في أبواب المعاملات يوجب القطع بكون جلّها والأغلب منها مستعملة في هذا المعنى ومحلّ الشكّ يلحق بالأعمّ الأغلب ، والاستقراء وإن لم يكن معتبرا في الأحكام الشرعيّة إلاّ أنّه في الامور اللغويّة أو العرفيّة معتبر.

وربّما ايّد ذلك أيضا باستدلال العلماء خلفا عن سلف بالنواهي الواردة في المعاملات على الفساد من غير نكير ، كما يفصح عنه تصفّح أبواب البيوع والأنكحة والطلاق والصيد والذباحة حيث يستندون فيها إلى مجرّد النهي ويحكمون من جهته بالفساد.

وإن شئت لاحظ كلام الشيخ في المبسوط قائلا في بحث الاستنجاء : « كلّما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا إن استعمل في ذلك ونقى به الموضع لا يجزي لأنّه منهيّ عنه والنهي يقتضي الفساد ».

بل يدلّ عليه الإجماع الّذي ادّعاه السيّد في الذريعة والشيخ في العدّة والفاضل النراقي في الأنيس (١) على ما حكي عنهم ، بل وطائفة من المتأخّرين وجماعة من العامّة على ما قيل ، والظاهر أنّ مدرك الجميع هو الاستقراء المتقدّم ذكره ، فإنّ استقراء الموارد العرفيّة والشرعيّة أوجب الظهور في لفظ « النهي » ومنه انبعث عمل العلماء وانقدح دعوى الإجماع.

والكلّ منظور فيه حتّى الاستقراء في العرفيّات ، فإنّ صرف النهي في كلّ واحد من آحاد مورد الغالب إلى الإرشاد إن كان لجهة خاصّة وهي القرائن الجزئيّة المختصّة فلا معنى لإلحاق ما ليس فيه قرينة مجاز بها في الصرف إلى المعنى المجازي ، ولذا لا يعدّ من المجازي ما غلب استعماله بقرينة مختصّة وإن كان لجهة عامّة وهي القرينة المشتركة بين

__________________

(١) أنيس المجتهدين : في اصول الفقه للمولى مهدي بن أبي ذرّ النراقي المتوفّى سنة ١٢٠٩ أوّله : ( الحمد لله الّذي جعل الاصول وسيلة للصعود على مدارج حقائق المباحث الشرعيّة ) رتّبه على مباحث ذوات أبواب ذوات فصول فجعل البحث الأوّل في المقدّمات فيه أبواب وفي كلّ باب فصول ، وذكر بعد كلّ مسألة اصوليّة فرعا فقهيّا يتفرّع عليها وتاريخ فراغه سنة ١١٨٦ الخ ... » [ الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢ : ٤٦٢ ].

٦٦٩

جميع الموارد كوقوع النواهي عقيب خطاب التشريع الموجب لتوهّم الصحّة ، فلا محلّ للشكّ حتّى يلحق بالأعمّ الأغلب ، فيرجع إلى ما قرّرناه من فهم العرف بملاحظة القرينة المذكورة.

وأمّا استدلال العلماء والإجماع فلمنع كون مبناهما على صرف النهي إلى الإرشاد كما هو المراد ، لإمكان إثبات الفساد بالنهي التحريمي أيضا كما ستعرفه.

وعن فخر المحقّقين الاستدلال بأنّ إمضاء المعاملة المبغوضة خلاف اللطف ، والنظر فيه أوضح إن أراد به اللطف الواجب ، لكفاية النهي المفروض في العمل بمقتضاه إن لم يناف أصل الإمضاء فلا حاجة إلى اعتبار عدم الإمضاء كما لا يخفى ، وإن أراد به غيره فلا يجديه نفعا لكثرة ما يتّفق في الألطاف الغير الواجبة من الترك والتسامح.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الإرشاد في النواهي المفروضة إنّما هو مقتضى الأصل الثانوي المستنبط من متفاهم العرف ، وظاهر أنّ هذا الأصل إنّما يجدي إذا لم ينهض في اللفظ أو العقل ما يقضي باعتبار خلافه ، فالحمل على الإرشاد حينئذ إنّما يصحّ حيث لم يقم من الخارج قرينة إرادة التحريم ومعه يختلف حكم الفساد بحسب اختلاف الموارد ، ففي المنهيّ عنه لعينه أو لجزئه أو شرطه أو وصفه الداخل أو الخارج يحكم بالفساد إذا كان النهي نفسيّا ، لأنّ أهل العرف يفهمون من أمثال هذه النواهي كون المعاملة من حيث إنّها معاملة مقصود منها السببيّة والتأثير فيما قصد منها من الآثار محرّمة ، وهو بملاحظة كونه متعرّضا في فهم العرف لدليل تشريع تلك المعاملة يستلزم فساد المورد ، بناء على أنّ التشريع في المعاملات كلاّ أو جلاّ إنّما ثبت من باب الإمضاء لطريقة العرف فيما يتداولونه ويتعاملون به من أنواع الاكتسابات وغيرها من العقود والإيقاعات.

والسرّ في ذلك : أنّ كلّ دليل كان بمضمونه متعرّضا لمضمون دليل آخر فإنّما يتعرّضه من الجهة المأخوذة في ذلك المضمون من حيث إنّه مضمون ذلك الدليل.

ولا ريب أنّ دليل إمضاء أنواع المعاملات العرفيّة مفاده الرخصة في استعمالها من حيث إنّها منشأ لآثار وأسباب لمسببّات ، نظرا إلى أنّ أهل العرف كانوا يتعاملون بها من هذه الحيثيّة وإذ ورد عليها إمضاء الشارع كان إذنا في استعمالها من هذه الحيثيّة أيضا ، فإذا فرض نهي تحريمي عنها في بعض صورها أو عن بعض أفرادها كشف عن كون المنهيّ عنه مبغوضا في نظر الشارع من هذه الحيثيّة.

ولا ريب أنّ المبغوضيّة بل المنع الناشئ عنها ينافي الإذن في الاستعمال من هذه

٦٧٠

الحيثيّة فكشف عن عدم شمول إمضاء الشارع لهذا المورد ، كما أنّ النهي والمنع عن الميسر والأنصاب والأزلام في آية ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ )(١) كشف عن عدم إمضاء الشارع هذه المعاملات مع تداولها بين الناس قبل ورود الشرع ، ولا نعني من فساد المعاملة الّتي مبنى تشريعها على إمضاء الشارع إلاّ ما لم يمضه الشارع.

نعم ربّما يشكل إثبات الفساد بمجرّد التعلّق بنهي التحريم فيما ثبت كون تشريعه من باب الجعل أو الكشف عن الواقع لعدم المنافاة حينئذ بين الحرمة والصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، كما في التقاء الختانين الّذي هو سبب لثبوت المهر ووجوب الغسل مع أنّه قد يكون محرّما ونحوه الظهار ، ونحوهما الضرب بالسيف وإلقاء الشيء في النار حيث إنّ الأوّل سبب للقطع والثاني سبب للإحراق مع أنّهما في كثير من أفرادهما محرّمان.

ويمكن الذبّ فيما كان تشريعه من باب الجعل بأن يقال : بكون التشريع على هذا الوجه متضمّنا للإذن في الاستعمال لأنّه إنّما حصل لفائدة لا يتأتّى إلاّ بالاستعمال ، كحفظ الأموال والنفوس وصيانة الأنساب والفروج ونظم معيشة بني نوع الإنسان وغير ذلك ممّا قصد من أنواع البيوع والأنكحة وسائر العقود وغيرها من الإيقاعات فيجب الإذن فيه لئلاّ يفوت الجعل عليه بلا فائدة.

ولا ريب أنّ التحريم حيثما ثبت ينافيه ومعه لا مناص من الفساد ، إذ عدمه ملازم للجعل على الفرض وهو مع المنع من الاستعمال لغو وعبث.

هذا مع إمكان التعلّق أيضا بالعرف بأن يقال : إنّ النهي في نظره ظاهر في نفي السببيّة أيضا من حيث إنّه بمضمونه متعرّض لمضمون ما دلّ على الجعل من الجهة الّتي تعلّق به الجعل ، فيكون مخرجا للمورد كائنا ما كان عن المجعول سببا ، ومعناه اختصاص الجعل الشرعي بما عداه ولا نعني من الفساد إلاّ هذا.

ويمكن طرد هذا الكلام إلى ما كان تشريعه على وجه الكشف عن الواقع أيضا ، بدعوى : أنّ النهي في نظر العرف ظاهر في نفي السببيّة الواقعيّة أيضا بملاحظة أنّه بمضمونه متعرّض لمضمون ما دلّ على السببيّة الواقعيّة من باب الكشف عن الواقع من هذه الجهة الّتي كشف عنها ذلك الدليل فيكون مخرجا للمورد كائنا ما كان عن المكشوف كونه

__________________

(١) المائدة : ٩٠.

٦٧١

سببا واقعيّا ومؤثّرا في نفس الأمر ، ومعناه انتفاء السببيّة عنه في نفس الأمر.

وبما ذكرناه من البيان على التشريع الجعلي أخيرا يندفع ما عساه يورد على البيان الأوّل من أنّ خلوّ بعض أفراد المعاملة عن فائدة الجعل بواسطة منع الشارع عن استعمال ذلك الفرد لا يوجب خلوّ أصل الجعل المتعلّق بماهيّة المعاملة ونوعها من حيث هو نوع عن الفائدة ، فإذا حصلت الفائدة في ضمن ما عدا ذلك الفرد من الماهيّة خرج جعلها عن كونه لغوا ، فحينئذ لا مانع عن منع بعض الأفراد صونا عن قبح ومنقصة فيه وإن استلزم ذلك المنع عدم ترتّب الفائدة المفروضة على ذلك الفرد بالخصوص على تقدير الإطاعة واتّباع المنع المفروض ، وإلاّ فعلى تقدير العصيان كانت الفائدة مترتّبة من غير قصور ، وليتأمّل في كلّ ما قرّرناه في تحقيق المقام فإنّ كلّه دقيق.

وقد يفصّل في المقام ويقال : إنّ النواهي المستعملة في المعاملات على أنحاء :

أحدها : ما يراد به حرمة إيجاد السبب من غير نظر إلى المسبّب على حدّ سائر الأفعال المحرّمة الّتي لا ينظر فيها إلى مسبّباتها كما في النهي عن البيع وقت النداء.

وثانيها : ما يراد به حرمة المسبّب خاصّة كالنهي عن بيع المصحف أو المسلم من الكافر على القول بحصول الملك له مع وجوب إجباره على البيع إخراجا لهما عن ملكه.

ثالثها : ما يراد به عدم ترتّب الأثر المقصود من المعاملة عند المتعاملين كما في بيع المصحف والمسلم من الكافر أيضا ولكن على القول الآخر.

والفرق بين الوجوه أنّ الأوّل لا يفيد حرمة في المسبّب ، بل حرمة السبب أيضا لا توجب حرمة المسبّب ، بل قد يكون الآثار ممّا يجب ترتّبها كما في سائر الأسباب الشرعيّة كالقتل الموجب للقصاص أو الدية والسرقة الموجبة لقطع اليد وما أشبه ذلك ، وكما أنّ حرمتها لا توجب حرمة مسبّباتها فكذلك فيما نحن فيه.

بخلاف الثاني فإنّ السبب لا حرمة له فيه إلاّ من باب المقدّمة إن قلنا بحرمة سبب الحرام ، بل المبغوضيّة منحصرة في المسبّب فيجب على المكلّف رفع المسبّب وإعدامه وإن امتنع صاحب الواقعة يقوم به الحاكم ولاية والعدول حسبة ، إلاّ إذا نفعه الإجبار فيجبر.

وأمّا الثالث فلا يوجب حرمة لا في السبب ولا في المسبّب.

وأيضا لازم الأخير فساد المعاملة بل لا يكون إلاّ منبعثا عنه وناشئا منه بخلاف الأوّلين.

وأيضا النهي على الأوّلين شرعيّ وعلى الأخير إرشاديّ.

٦٧٢

وأيضا الظاهر من النهي المتعلّق بالمعاملة هو الأوّل دون الأخيرين سيّما الأخير منهما.

وقد يجتمع في معاملة معنيان منها كما في بيع الصرف من دون قبض في المجلس على القول بوجوب الفسخ ، وبيع الخمر والخنزير على القول بحرمة إيقاع العقد عليهما ، وقد يجتمع الجميع كما في نكاح المحارم.

لكن عند تعدّد المعنى لا بدّ من تعدّد الدليل ، لعدم صلاحيّة الدليل الواحد والنهي المتّحد لإفادة ما يزيد على المعنى الواحد كما لا يخفى.

وهذا التفصيل كما ترى ممّا لا يرجع إلى محصّل إن لم يرجع إلى ما فصّلناه ، فإنّ حرمة إيجاد السبب إن اريد بها حرمته من حيث سببيّته فهي ملزومة للفساد ، لأنّ معنى حرمة إيجاده من حيث سببيّته حرمته من حيث عدم كون ترتيب آثار السببيّة عليه في محلّه وهذا بعينه معنى الفساد ، وكذلك حرمة المسبّب إن اريد بها حرمته من حيث مسبّبيّته فهي ملزومة للفساد ، لأنّ حرمته من هذه الحيثيّة حرمته من حيث إنّ ترتيبه على السبب لم يكن في محلّه وهذا أيضا عين معنى الفساد ، فكيف يقال : بأنّ ما عدا المعنى الأخير لا يستلزم الفساد.

وإن اريد بحرمة كلّ منهما حرمته من حيث مصادفته عنوانا آخر محرّما ثبت حرمته بالخارج أو بذلك النهي فهو إخراج للمورد عن محلّ بحث الأعلام ، فإنّ الكلام في النهي الراجع إلى المعاملة لا إلى أمر خارج عنها مصادف لها.

وبالجملة حرمة إيجاد السبب لا يعقل لها وجه إلاّ من جهة تضمّنه أو استلزامه عنوانا محرّما ، وهذا العنوان إمّا أن يكون هو التصرّف في مال الغير بغير حقّ أو أكل المال بالباطل ، أو يكون غيره من العناوين المحرّمة في الشريعة.

فإن كان الأوّل كان النهي معه مقتضيا للفساد.

وإن كان الثاني كان النهي فيه راجعا إلى أمر خارج عن المعاملة.

ومحصّله يرجع إلى التفصيل الّذي قرّرناه من أنّ النهي إن كان متعرّضا لسببيّة المعاملة كان معارضا لمقتضى السببيّة ودليل الصحّة ومعه يمتنع الصحّة لتقدّم الخاصّ على العامّ ، وإن لم يكن متعرّضا له بكونه ساكتا نفيا وإثباتا كان مقتضى السببيّة ودليل الصحّة سليما عن المعارض ومعه يمتنع الفساد أخذا بظاهر مقتضى السببيّة ودليل الصحّة ، فلو قال : « لا تبع المسلم أو المصحف من الكافر لأنّه يوجب أكل المال بالباطل » كان ملازما للفساد ، ولو قال : « لا تبعهما لأنّه يوجب إذلال المسلم أو إثبات السبيل للكافر على المسلم ، أو

٦٧٣

يوجب إهانة الإسلام أو المصحف » و « لا تبع وقت النداء أو حال التكليف بالمضيّق لأنّه يوجب فوات الجمعة أو فوات الواجب المضيّق » و « لا تبع العنب ليعمل خمرا أو الخشب ليتّخذ صنما لأنّه إعانة على الإثم » لم يكن ملازما للفساد ، لخلوّ دليل الصحّة عن المعارض في اقتضاء السببيّة ، وهذا عند التصريح بما هو مناط النهي كالأمثلة المذكورة ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال فيما لو ورد النهي مطلقا من غير تعرّض لذكر المناط فهل يجب حمله على القسم الأوّل الملازم للفساد أو القسم الثاني الغير المنافي للصحّة؟

والحقّ أنّ الموارد مختلفة بحسب اختلاف قضايا النهي وعباراته ، فلا بدّ من النظر فيها استعلاما لما هو حقيقة الحال ، وضابطه الكلّي كون النهي ناشئا عن جهة ترجع إلى أصل المعاملة أو الصيغة المعتبرة أو أحد أركانه من المتعاقدين أو العوضين إن كانت من قبيل العقود ، أو من جهة لا ترجع إلاّ إلى عنوان آخر خارج عن حقيقة المعاملة مصادف لها متّحد معها في الوجود وعدمه ، فلو قال : « لا تبع بغير العربيّة ، أو سفيها ، أو مملوكا ، أو ما ليس عندك ، أو ما ليس ملكا لك ، أو ما ليس بمعلوم القدر أو الوصف ، أو ما ليس بمقدور على تسليمه ، أو ما كان نجس العين ، أو مائعا متنجّسا » و « لا تذبح وأنت ذمّي ، أو بغير الحديد » كان من القسم الأوّل.

كما أنّه لو قال : « لا تبع وقت النداء ، أو مكان الخطاب بالمضيّق ، أو العنب ليعمل خمرا ، والخشب ليتّخذ صنما ، أو لا تتكلّم مع الأجنبيّة في البيع ، أو لا تنظر إليها في البيع ، أو مطلقا فيهما » كان من القسم الثاني.

وقد يكون عبارة النهي مجملة مردّدة بين القسمين فيشتبه فيه الحال كما لو قال : « لا تبع المسلم أو المصحف من الكافر » أو « لا تبع امّ ولدك » أو نحو ذلك ، فإنّ هذا النهي على تقدير وروده بهذا اللفظ مردّد بين كونه لجهة راجعة إلى أصل المعاملة أو أحد أركانها أو العناوين الخارجة عنها من إذلال أو إهانة أو إعانة أو نحو ذلك ، غير أنّ المتّجه حينئذ هو الصحّة إلحاقا له بالقسم الثاني في الحكم عملا بظاهر المقتضي لها نوعا في فرض لم يثبت معه ما يعارضه ، إلاّ أن يطرأه الإجمال من إجمال النهي بحيث خرج عن ظهوره النوعي وأوجب كون المورد مجملا مصداقيّا ، فحينئذ لا مناص من إلحاقه بالقسم الأوّل من حيث الحكم عملا بالأصل الأوّلي في المعاملات الّذي أصّلناه في رسالة منفردة.

وما قرّرناه من التفصيل يرجع محصّله إلى أنّ كلّ معاملة لو كانت من حيث إنّها معاملة

٦٧٤

معصية لله عزّ وجلّ كانت فاسدة ، وكلّ معاملة من حيث إنّها معاملة لم تكن معصية لله لم تكن فاسدة وإن صادفت عنوانا آخر هو معصية له وإن استند حرمة ذلك العنوان إلى النهي الوارد فيها.

وعلى طبق هذا التفصيل وردت روايات في نكاح المملوك بغير إذن سيّده :

منها : ما عن الكافي والفقيه عن الباقر عليه‌السلام (١) سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال : ذلك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما ، قلت : أصلحك الله أنّ الحكم بن عتيبة (٢) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله إنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز.

ومنها : ما عنهما أيضا عنه عليه‌السلام (٣) سأله عن الرجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، فقال : عليه‌السلام ذلك إلى مولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقت إلاّ أن يكون اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا ، وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل.

فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله ولرسوله وإنّما عصى سيّده ولم يعص الله ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدّة وأشباهه.

ومنها : ما عن الكافي أيضا عن الصادق عليه‌السلام في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله؟ قال : عاص لمولاه ، قلت : حرام هو؟ قال ما أزعم أنّه حرام ، وقل له : أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه (٤).

فإنّ دلالتها على إناطة فساد النكاح من حيث كونه نكاحا بكونه عصيانا لله عزّ وجلّ واضحة لا ينبغي الاسترابة فيها ، ولا سيّما الاولى منها المشتملة على العلّة المنصوصة ، ودونها الثانية خصوصا ما فيها من قوله : « أنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » القاضي بأنّ النكاح في العدّة وأشباهه على وجه العموم إنّما يفسد باعتبار التحريم في نفس المعاملة لعنوانها الخاصّ من نكاح وغيره لا غير ، فيخرج ما طرأه العصيان باعتبار أمر خارج عن المعاملة ككونها مخالفة للسيّد ومعصية له لا باعتبار كونها نكاحا.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، ح ٣ ومن لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٤١.

(٢) عيينة خ ل.

(٣) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، ح ٢.

(٤) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، ح ٥.

٦٧٥

وبالجملة دلالة الروايات على التفصيل المذكور واضحة لا تشتبه على اللبيب المنصف ، وقد فهمه منّا بعض مشايخ بعض الأعاظم على ما حكاه في إشاراته غير أنّه لم يرتضه فأجاب عنه : « بأنّ المتبادر من تلك الروايات كون العصيان في النفي والإثبات بمعنى واحد ، وظاهر أنّه في طرف المولى بمعنى عدم الإذن فيكون في الطرف الآخر كذلك ، فمفاده أنّ العقد ليس ممّا لم يأذن فيه الله بل لم يأذن فيه المولى وهو ليس ممّا يبطل به العقد ، وأمّا قوله عليه‌السلام : « إنّ ذلك ليس كإتيانه بما حرّم الله تعالى من نكاح في عدّة وأشباهه » فيستفاد منه أنّ الحرمة في العدّة تكون لعدم قابليّة المحلّ للنكاح وليس هذا هكذا فإنّ النكاح مشروط بإذن المولى سواء كان سابقا أو لاحقا » انتهى.

وهذا كما ترى بظاهره اعتراف بعين ما فهمه شيخه على وفق ما قرّرناه ، فإنّ تعليل صحّة العقد المفروض بكونه ممّا أذن فيه الله نظرا إلى أنّ النفي في النفي يوجب الإثبات يقتضي كون ما لم يأذن فيه الله الّذي منه ما منعه ونهى عنه ملزوما للفساد وإلاّ كان التعليل لغوا فيقبح ، لفرض مساواة العصيان وعدمه في عدم اقتضاء الفساد فيقبح تعليل عدم الفساد بعدم عصيان الله تعالى فكيف يؤخذ جوابا عمّا فهمه.

وحينئذ نحتجّ عليه : بأنّ نهي الشارع عن معاملة من حيث إنّها هذه المعاملة باعتبار تضمّنه لعدم إذنه فيها يقتضي الفساد.

وكأنّه قدس‌سره أخذ ما ذكره عمّا أفاده بعض الأعلام في دفع الاحتجاج بالرواية بقوله : « إنّه على خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد من المعصية في الرواية لا بدّ أن يكون مجرّد عدم الإذن والرخصة من الشارع وإلاّ فمخالفة السيّد أيضا معصية ، والحاصل أنّه لمّا كان في مثل هذا العقد إذن من الله تعالى من جهة العمومات وغيرها ممّا يدلّ على صحّة الفضولي بعد الإجازة فيصحّ وعدم إذن السيّد غير مضرّ.

وبالجملة المراد أنّ العقد ليس خاليا عن مقتضى الصحّة وإن كان معلّقا على إذن المولى أيضا » انتهى.

ومحصّله : أنّ العصيان الوارد في الرواية ليس عبارة عن مخالفة التكليف الإلزامي من أمر أو نهي كما هو الظاهر المتبادر منه في إطلاقات أهل الشرع ، لئلاّ يتناقض القضيّتان في النفي والإثبات ، لوضوح وحدة المعنى من العصيان مضافا إلى الله تعالى في النفي وإلى

٦٧٦

السيّد في الإثبات ، نظرا إلى أنّ عصيان السيّد بهذا المعنى يتضمّن عصيان الله تعالى فلا وجه لإثباته بعد ما نفاه ، بل المراد بهما العصيان بمعنى الإتيان بما لم يأذن فيه الله تعالى أو السيّد ، وهو بهذا المعنى منتف بالقياس إليه تعالى من حيث إنّ هذا العقد بمقتضى عموم صحّة عقد الفضولي ممّا أذن فيه الله تعالى في الجملة باعتبار توقّفه على الإجازة ، وكونه عصيانا بالنسبة إلى السيّد لأنّ السيّد لم يأذنه في هذا العقد لا أنّه منعه منه.

وفيه أوّلا : أنّه ليس معنى قوله : « أنّه على خلاف المطلوب أدلّ » إلاّ مع فرض وجود النهي مجامعا للعصيان المحمول في النفي والإثبات على المعنى المذكور ، ويبطله : دليل الخلف إذ لا نهي في المورد.

وثانيا : أنّه لا يستقيم إلاّ على تقدير أخذ الإذن في النفي والإثبات بمعنى الإذن الوضعي لئلاّ ينافي المنع التكليفي.

ويبطله : أنّ الإذن الوضعي من جانب السيّد غير معقول في العقود الشرعيّة حتّى يكون مخالفته معصية للسيّد بهذا المعنى ، بل الإذن الوضعي مخصوص بالشارع فإنّ وضع الشيء سببا لا يتلقّى إلاّ من الشارع ، فلا بدّ وأن يراد من الإذن المضاف إلى السيّد الإذن التكليفي ، فيكون هو المراد من الإذن المضاف إليه تعالى بضابطة رجوع النفي والإثبات إلى موضوع واحد ومعه يتمّ المطلوب.

وثالثا : أنّ ما ذكره خروج عن الظاهر من حيث إنّ العصيان في محاورات العرف والشرع ظاهر في مخالفة تستعقب استحقاق العقوبة فيختصّ بالتكليف فلا بدّ في العدول عنه من قرينة واضحة دعت إليه ، والقرينة الّتي أشار إليها وهي أنّ مخالفة السيّد أيضا معصية لله تعالى فلا معنى لنفيها عن طرفه تعالى وإثباتها لطرف السيّد ليست ممّا ينبغي الاستناد إليه في صرف الظواهر ، بعد ملاحظة الفرق الواضح بين معصية الله تعالى في أصل النكاح من حيث إنّه نكاح ومعصية في عنوان آخر خارج عن حقيقته مصادف له ، فإنّ الأوّل معصية موضوعها النكاح من حيث هو والثاني معصية موضوعها مخالفة السيّد وهما موضوعان متغايران بينهما بحسب المورد عموم من وجه ، والمنفيّ في الرواية بالنسبة إليه تعالى هو الأوّل واللازم من معصية السيّد هو الثاني ولا ملازمة بينهما ، والمقصود من الاستدلال كون المقتضي للفساد هو الأوّل وهو منتف في نكاح المملوك وإن كان الثاني ثابتا فيه ، فإنّه لخروجه عن أصل النكاح لا يوجب الفساد.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره أخيرا في توجيه قوله عليه‌السلام : « انّ ذلك ليس كإتيانه بما حرّم الله تعالى

٦٧٧

من نكاح في عدّة وأشباهه » فهو أيضا خروج عن الإنصاف بل لا ينبغي الإصغاء إليه ، فإنّ ظاهر العبارة أنّ الإمام عليه‌السلام بصدد الفرق بين المقام وما ذكره من المثال في أصل التحريم وعدمه كما هو المقصود من الاستدلال ، لا في جهة التحريم مع اشتراكهما في أصله كما هو مفاد التوجيه.

وبالجملة هذا المعنى بمكان من البعد عن لفظ الرواية وسياقها ولا ينساق إلى الأذهان الصافية.

ثمّ إنّه رحمه‌الله حكى عن شيخه بعد الاستدلال بما ذكر الاستناد إلى أخبار اخر :

منها : ما هي واردة في الطلاق وهي أيضا كثيرة أظهرها دلالة على ما رامه ما رواه الشيخ عن أبي بصير عنه عليه‌السلام : « قال من طلّق ثلاثا في مجلس فليس بشيء ، من خالف كتاب الله ردّ إلى كتاب الله » (١) وذكر طلاق ابن عمر.

وما عن سماعة وفي طريقه عثمان بن عيسى قال : سألته عن رجل طلّق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقال عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ردّ على عبد الله بن عمر امرأته طلّقها ثلاثا وهي حائض فأبطل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الطلاق وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ شيء خالف كتاب الله والسنّة ردّ إلى كتاب الله والسنّة (٢).

وما عن الكليني عن محمّد بن مسلم قال قال أبو جعفر عليه‌السلام : من طلّق ثلاثا في مجلس على غير طهر لم يكن شيئا ، إنّما الطلاق الّذي أمر الله عزّ وجلّ به فمن خالف لم يكن له طلاق ، وإنّ ابن عمر طلّق امرأته ثلاثا في مجلس وهي حائض فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينكحها ولا يعتدّ بالطلاق (٣).

وما عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : من طلّق امرأته ثلاثا في مجلس وهي حائض فليس بشيء ، وقد ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلاق عبد الله بن عمر إذ طلّق امرأته ثلاثا وهي حائض فأبطل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الطلاق ، وقال : كلّ شيء خالف كتاب الله فهو ردّ إلى كتاب الله عزّ وجلّ (٤).

وفي معناها غيرها ، وأنت إذا تأمّلت فيها بعين الدقة والإنصاف ولاحظت سياقها ومفادها عرفا لا تجد منها شائبة دلالة على ما رامه ، وإن ذكر في وجه الاستدلال أنّها

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ٢٨٧ ح ١٠ والتهذيب ٨ : ٥٤.

(٢) التهذيب ٨ : ٥٥ والكافي ٦ : ٩٦٠ ح ١٥.

(٣) الكافي ٦ : ٥٨ ح ٧.

(٤) الكافي ٦ : ٦٠ ح ١٥.

٦٧٨

تضمّنت أصلا وهو أنّ كلّ شيء يخالف الكتاب فهو مردود إلى ما يقتضيه الكتاب من البطلان والفساد.

ولا ريب أنّ المعاملة المحرّمة ممّا يخالف الكتاب فيجب ردّها إليه ، ولو لا أنّ النهي يقتضي الفساد لما كان الردّ إلى الكتاب موجبا له.

وقد يقرّر الوجه : بأنّها جعلت معيار البطلان مخالفة الكتاب والسنّة ، ولا ريب أنّ مخالفة النهي الكتابي في المعاملة مخالفة للكتاب فيكون المنهيّ عنه فاسدا فإنّ المتبادر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كلّ شيء خالف كتاب الله فهو ردّ إلى كتاب الله » ـ والله أعلم ـ أنّ كلّ عمل خارجي وقع مخالفا لما ورد في كتاب الله من العنوان الكلّي الّذي علّق عليه الحكم الشرعي تكليفا ووضعا مردود في استفادة حكمه من حيث الصحّة والفساد إلى ذلك العنوان الوارد في الكتاب ، فيرتّب عليه أحكام الفساد لمخالفته له أو يردّ إلى ذلك العنوان في اقتضاء الفساد فيما يخالفه.

ولا ريب أنّ المخالفة حيثما قيّدت بالعبادة كانت ظاهرة في مخالفة الحكم التكليفي ، وحيثما قيّدت بالمعاملة كانت ظاهرة في مخالفة الحكم الوضعي ، وحيثما اطلقت كانت ظاهرة فيما يعمّ القسمين ، فيراد بها مخالفة ما قرّر في الشريعة من تكليف أو وضع ، فيتعيّن بالقياس إلى كلّ قسم بمعونة الخارج كالصيغة المستعملة في القدر المشترك بين الوجوب والندب كما في قوله : « اغتسل للجنابة والجمعة والزيارة ».

وهذه الروايات إن لم نقل باختصاصها بالقسم الثاني ـ لورودها في الطلاق الّذي هو من قبيل المعاملات نظرا إلى أنّ المورد لا يصلح مخصّصا للعامّ ـ فلا أقلّ من كونها من قبيل القسم الأخير المنصرف في العبادة إلى مخالفة الحكم التكليفي وفي المعاملة إلى مخالفة الحكم الوضعي ، فأقصى ما يستفاد منها أنّ المعاملة إذا وقعت مخالفة لما في الكتاب فيما هو مختصّ به من الحكم الوضعي كانت فاسدة على حسب ما يقتضيه الكتاب وما ورد فيه من العنوان الكلّي.

وهذا كما ترى ليس من المتنازع فيه في شيء ، فإنّ الكلام في مخالفة النهي الّذي هو حكم تكليفي والمخالفة المضافة إلى المعاملة لا تنصرف إليها حتّى يكون المنهيّ عنه من المعاملة محكوما عليه بالفساد عملا بموجب الروايات.

وممّا يفصح عن كون المراد بالمخالفة في المعاملة إنّما هو المخالفة في الحكم

٦٧٩

لنا على اوليهما : أنّ النهي يقتضي كون ما تعلّق به مفسدة ، غير مراد للمكلّف. والأمر يقتضي كونه مصلحة مرادا. وهما متضادّان ؛ فالآتي بالمنهيّ عنه لا يكون آتيا بالمأمور به* (١).

_______________________________

الوضعي ما ورد في أخبار الطلاق أيضا من « أنّ الطلاق الّذي أمر الله به في كتابه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ المرأة إذا حاضت وطهرت من حيضها أشهد برجلين عدلين قبل أن يجامعها على تطليقة ثمّ هو أحقّ برجعتها ما لم تمض لها ثلاثة قروء ، فإن راجعها كانت عنده على تطليقتين ، فإن مضت ثلاثة قروء قبل أن يراجعها فهي أملك بنفسها ، فإذا أراد أن يخطبها مع الخطّاب خطبها ، فإن تزوّجها كانت عنده على تطليقتين وما خلى هذا فليس بطلاق ».

فإنّ قوله عليه‌السلام : « وما خلى هذا فليس بطلاق » تصريح بنفي الطلاق عمّا عدا الطلاق المذكور بالشرائط المذكورة أي ما خالفه ولم يطابقه ، وهو في الرواية معنون بالأحكام الوضعيّة ، فإنّ كلّما ذكر فيها من التفاصيل حكم وضعي ارشد إليه ، وكذلك ما هو وارد في الكتاب فإنّه معنون بالأحكام الوضعيّة وإن ورد الخطاب بها في بعض الأحيان بصورة الأمر.

وفي معناها في الدلالة على ما بيّنّاه ما في الموثّق عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الطلاق الّذي أمر الله عزّ وجلّ به في كتابه والّذي سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخلّى الرجل عن امرأته فإذا حاضت وطهرت عن محيضها أشهد برجلين عدلين على تطليقه وهي طاهر من غير جماع فهو أحقّ برجعتها ما لم تنقض ثلاثة قروء وكلّ طلاق ما خلى هذا فباطل ليس بطلاق ».

وأصرح منهما في الدلالة عليه ما عن البزنطي سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل طلّق امرأته بعد ما غشيها بشهادة عدلين فقال عليه‌السلام : ليس هذا طلاقا ، فقلت : جعلت فداك كيف طلاق السنّة؟ فقال عليه‌السلام : يطلّقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشيها بشاهدين عدلين كما قال الله عزّ وجلّ في كتابه ، فإن خالف ذلك يردّ إلى كتاب الله عزّ وجلّ (١).

(١) * الضمير عائد ظاهرا إلى كونه مرادا وكونه غير مراد وإلاّ فأصل المصلحة والمفسدة لا تضادّ بينهما إذا كانت إحداهما مستندة إلى أصل الماهيّة والاخرى ناشئة عن الخصوصيّة المكتنفة بها غاية ما هناك امتناع قيام التأثير فعلا بكلّ منهما.

وأمّا قوله : « فالآتي بالمنهيّ عنه لا يكون آتيا بالمأمور به » فالظاهر أنّه لا يرتبط بما

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٨٢ الباب ١٠ من أبواب مقدّمات الطلاق ح ٤.

٦٨٠