تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

الحاصل حال النوم.

ثمّ إنّ بعض الأعلام بعدما أورد على ما ذكره في توجيه البداء قال : « فالأولى جعله إمّا من باب النسخ والقول بجوازه قبل العمل سيّما عند حضور وقته ، أو من باب إرادة العزم والتوطين » (١).

وقد سبق إلى بعض الأوهام عدم استقامة الوجهين ، لكون أوّلهما اعترافا بمفادّ الدليل فيكون عدولا إلى مذهب الخصم ، لأنّ ما التزمه من النسخ هو الّذي أخذه المستدلّ مناطا لما زعمه من كون الأمر بالذبح أمرا بما علم انتفاء شرطه ، وكون ثانيهما عدولا إلى ما ذكره في تزييف الجواب الأوّل.

ويندفع الأوّل : بأنّ مناط الاستدلال هو النسخ الموجب لعدم التمكّن من الفعل في وقته وهو النسخ قبل حضور وقت العمل ، سواء كان قبل دخوله أو قبل مضيّ زمان يسع الفعل كما يظهر من الفروع الآتية ، بخلاف ما التزمه وهو النسخ قبل العمل عند حضور وقته بناء على فرضه موسّعا ، فيدفع الاستدلال حينئذ بأنّه أمر بما علم تحقّق شرط وقوعه في وقته ، لكفاية مضيّ مقدار منه يسع وقوعه فيه في جوازه.

كما يندفع الثاني : بأنّ ما زيّفه أوّلا إنّما هو ما لو حمل الأمر على إرادة فعل المقدّمات مع علم المأمور بذلك.

وما اعترف به ثانيا إنّما هو ما لو حمل الأمر على إرادة العزم والتوطين على فعل الذبح بحسب الواقع مع اعتقاد المأمور بمقتضى ظاهر الأمر إرادة نفس الذبح ، فإنّ الإقدام على مقدّماته على هذا التقدير هو الّذي يكشف عن علوّ الهمّة وكمال الانقياد بخلاف الإتيان بها على أنّها المأمور بها لا غير.

ثمّ إنّه بقي من أدلّة المجوّزين أمور :

منها : الوجه الرابع الّذي نقله المصنّف مع جوابه ، وجوابه التحقيقي ما ذكرناه مرارا من أنّ الأمر الابتلائي التوطيني صحيح ولكنّه بكلا تقديريه خارج عن المتنازع فيه.

ومنها : ما أشار إليه الحاجبي عن القاضي من الإجماع على تحقّق الوجوب والتحريم قبل التمكّن ، وجوابه : منع الإجماع ، أو أنّه لا كلام لنا في تحقّق الوجوب والتحريم قبل التمكّن إذا اريد الفعل أو الترك في زمان التمكّن ، بل الكلام في تحقّقهما قبله على وجه

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٧.

٤٦١

يكون الواجب والمحرّم أيضا هو الفعل قبل التمكّن ، فإنّه ممتنع والإجماع عليه ممنوع.

وقد يردّد أيضا : « بأنّ المراد بالتكليف قبل التمكّن ممّا أمر به ونهى عنه إمّا قبل العلم بحصول التمكّن من تمام المطلوب وإن حصل الظنّ به أو قبل التمكّن من الشروع فيه ، والثاني فاسد إجماعا لكونه تكليفا بما لم يقع عند الفريقين ، والأوّل ثابت ولكن لا دخل له بما نحن فيه ، بل هو مبتن على أنّ العلم بالتمكّن في الواقع لمّا كان متعذّرا يقوم الظنّ مقامه ولو كان مستندا إلى الأصل وهو إجماع تحصيلا ونقلا ، ويطّرد في جميع التكليفات لكنّه مراعى فإن بقى بشرائط التكليف إلى آخر الفعل يظهر تعلّق الخطاب به ، فلو ادّعي الإجماع على هذا فحقّ ولا يجديه لما مرّ ، وإن ادّعي على الشقّ الأوّل فعلى خلافه الإجماع ، وإلاّ فيظهر عدم التعلّق » (١).

ومنها : وجوه اخر تعرّض لذكرها بعض الأعاظم (٢) وأجاب عنها ومن يطلبها فليراجع كلامه.

ثمّ إنّهم ذكروا للمسألة فروعا :

منها : لزوم قضاء الصلاة وعدمه على المكلّف إذا دخل عليه الوقت فجنّ ، أو حاضت المرأة قبل مضيّ زمان يسع الصلاة.

ومنها : وجوب قضاء الحجّ وعدمه على من منع في العام الأوّل ثمّ مات أو تلف ماله.

ومنها : انتقاض التيمّم وعدمه فيمن وجد الماء ولم يتمكّن من المائيّة بعدم مضيّ زمان يسعها أو لمانع منعه عنها.

ومنها : وجوب الكفّارة وعدمه على من أفسد صيام يوم من رمضان بالوقاع ونحوه ثمّ مات في ذلك اليوم.

قال العلاّمة في التهذيب : « ويتفرّع على ذلك وجوب الكفّارة على من أفطر ثمّ حصل المسقط من الإغماء أو الجنون أو الحيض أو الموت ».

ومن الفضلاء من أورد على ذلك : « بعدم الدليل على انحصار الكفّارة في إفطار الصوم المأمور به بالأمر الواقعي فلا ينافي ثبوته للقول بعدم الجواز ، لجواز أن يكون ذلك على التجرّي أو على ترك الإمساك الواجب قبل حصول المانع » (٣).

ومن الأعلام من أورد عليه أيضا بما يقرب من ذلك قائلا : « بأنّه لا دليل على انحصار الكفّارة في إفطار الصوم التامّ النفس الأمري ، بل قد يجب لأنّه فعل فعلا حراما وأفطر

__________________

(١ و ٢) إشارات الاصول : ٨٩.

(٣) الفصول : ١١٠.

٤٦٢

صوم رمضان بحسب ظنّه الّذي عليه المعوّل في التكليف ، ولذلك وقع فيه الخلاف بين الأصحاب » (١).

ومن الأعاظم (٢) من تنظّر فيه أيضا : « بأنّه إنّما يتمّ لو كانت الكفّارة لبطلان الصوم ، وأمّا إذا كانت لمخالفة الأمر ولو في الظاهر كما هو الظاهر فلا ».

أقول : وعلى القول المختار في الفقه من عدم ثبوت هذه الكفّارة إلاّ لمخالفة الأمر الواقعي بالصوم تمّ الفرع.

وإنّما عبّروا عن الامور المذكورة بالفروع لا بالثمرات ، لأنّ ثمرة تلك المسألة المقصودة بالأصالة من تدوينها إنّما هو وجوب التخصيص وعدمه في العمومات الشاملة بظاهرها لجميع المكلّفين ممّن جمع شرائط التمكّن ومن فقدها. ثمّ يتفرّع على ذلك الامور المذكورة.

وتوضيحه : أنّك قد عرفت في مفتتح المسألة أنّها من المسائل الكلاميّة الّتي تعدّ في هذا الفنّ من المبادئ الأحكاميّة.

ومحصّل الخلاف فيها يرجع إلى إحراز صغرى تنضمّ إلى كبرى كلّيّة هي من المسائل الاصوليّة وهي قولهم : « كلّ عامّ يجب تخصيصه بخاصّ مخالف له ، متّصل أو منفصل ، عقليّ أو سمعي » فإنّهم بعد ما اتّفقوا على هذه الكليّة اختلفوا في بعض صغرياتها.

ومنها : أنّه لو ظهر عدم تمكّن المكلّف عن المكلّف به بفقدانه لبعض مقدّمات وقوعه فهل ينهض ذلك لتخصيص العمومات الواردة في التكاليف بواجدي شرائط الوقوع أو لا؟

فمن قال بعدم جواز الأمر بما علم انتفاء شرطه يدّعي الأوّل ، لبنائه على كون شرائط الوقوع شروطا في التكليف أيضا فيأخذه مخصّصا عقليّا للعمومات بإخراج فاقدي الشرائط عن تحتها ، فيفرّع عليه في الفقه عدم وجوب القضاء ، وعدم انتقاض التيمّم ، وعدم الكفّارة على من طرأه العذر الرافع للتمكّن.

ومن قال بجوازه بناء منه على الشرطيّة في التكليف أيضا (٣) يدّعي الثاني ويأخذ بعموم العمومات لعدم نهوض ما يصلح مخصّصا لها ، فيفرّع عليه في الفقه وجوب القضاء وانتقاض التيمّم ووجوب الكفّارة على كلّ من الواجد والفاقد استنادا إلى وجود المقتضي وفقد المانع.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٧.

(٢) إشارات الاصول : ٨٩.

(٣) كذا في الأصل.

٤٦٣

أصل

الأقرب عندي : أنّ نسخ مدلول الأمر وهو الوجوب لا يبقى معه الدلالة على الجواز* (١)

___________________________________

(١) * لا ينبغي التأمّل في كون هذه المسألة أيضا كلاميّة أخذت هنا من باب المبادئ الأحكاميّة ، لكونها باحثة عن حال الوجوب الّذي هو محلّ النسخ أو الجواز الّذي هو جنسه.

وأيّا ما كان فهو من الحكم ومن قبيل المدلول لا الدليل ، وتوهّم رجوع البحث إلى الأمر الدالّ على الوجوب ـ من حيث إنّه بعد النسخ هل يبقى دلالته على الجواز أو لا؟ ـ وهو من الدليل ، فيكون بحثا عن حال الدليل من حيث بقاء دلالته وعدم بقائها ، بعيد عن الاعتبار خصوصا والنسخ من الحالات العارضة للمدلول لا الدليل ، مع احتجاج القائل بالعدم ، بأنّ الجنس لا بقاء له مع ارتفاع الفصل.

ولا يشهد لما ذكر احتجاج القائل بالبقاء بوجود المقتضي ـ وهو الأمر ـ وفقد ما يصلح مانعا ، ولا سيّما بملاحظة قوله أخيرا ـ على ما يأتي في عبارة المصنّف ـ : « بأنّ المدّعى ليس ثبوت الجواز بمجرّد الأمر بل به وبالناسخ ، فجنسه بالأوّل وفصله بالثاني » بدعوى أنّه يقضي برجوع البحث إلى دلالة الأمر ـ ولو بضميمة الناسخ الّذي هو أيضا دليل ـ والدلالة من أحوال الدليل ، أو بدعوى أنّه بحث في دلالة المجموع من الأمر والناسخ على الإباحة وعدمها.

فإنّ أخذ الدليل حجّة على المطلب والنظر في دلالته عليه والعدم غير البحث عن حال الدليل على وجه يكون المطلوب المبحوث عنه هو حال الدليل لا غير ، والمطلوب هنا بقاء الجواز على وجه ينعقد به بانضمام مفاد الناسخ إليه الإباحة أو حكم آخر ، والاستناد لإثباته إلى دلالة الدليل لا يوجب كون الدلالة هو المطلوب المبحوث عنه وهذا واضح.

ثمّ إنّ تخصيص الوجوب بالذكر في عنوانات المسألة ربّما يقضي باختصاص النزاع به ، غير أنّ مفاد الأدلّة عامّ له وللحرمة فوجب أن يجري فيها النزاع أيضا إذا نسخت ، نظرا إلى أنّها أيضا مركّبة من جواز الترك والمنع من الفعل والناسخ فيها أيضا كما يحتمل رجوعه إلى المجموع من الجنس والفصل كذلك يحتمل رجوعه إلى الفصل فقط ، فيصحّ أن ينازع في بقاء الجنس وهو جواز الترك على قياس جواز الفعل في الوجوب.

٤٦٤

وأمّا الأحكام الثلاثة الباقية فالظاهر عدم جريان النزاع فيها ، أمّا الإباحة فلأنّ قوله : « نسخت الإباحة » كالصريح في رفع الجواز كما أنّ قوله : « نسخت الاستحباب أو الكراهة » كالصريح في بقاء الجواز لأنّه إنّما يبقى مع فصله الأوّل والناسخ إنّما يرفع الطلب الغير الحتمي التابع لرجحان متعلّقه من الفعل أو الترك ، والنسخ ظاهر في زوال ذلك الرجحان فيلزم ثبوت الإباحة ، واحتمال كون النسخ باعتبار حدوث تأكّد الرجحان والطلب وبلوغهما حدّ الإلزام والحتم ليثبت به الوجوب أو الحرمة بعيد عن مساق العبارة ، فيحتاج المصير إليه إلى دليل.

ثمّ إنّ ظاهر العنوانات ومفاد الأدلّة وصريح بياناتهم كون مرادهم بالجواز ما كان في ضمن الوجوب الّذي أثبته الأمر ، دون الحكم الجوازي الّذي يطرأ المحلّ بدلالة الخارج ، فإنّه ممّا لا يعقل النزاع في جوازه ولا في وقوعه.

وممّا يرشد إلى ذلك أيضا تعبيرهم عن صورة المسألة بالبقاء المقتضي لسبق الوجود.

وهل المراد به الجواز بالمعنى القابل لما عدا الوجوب والحرمة من الثلاث الباقية فيكون الباقي بعد النسخ الأمر المردّد بين الثلاث ـ أعني أحدها لا على التعيين عندنا ـ أو الجواز مع الرجحان فيكون الباقي بعده خصوص الاستحباب ، أو الجواز لا مع الرجحان ولا مع المرجوحيّة فيكون الباقي بعده الإباحة الخاصّة؟ وجوه ، من أنّ الجنس الوجوبي حصّة من الجواز بالمعنى الأعمّ والحصّة الباقية من الأعمّ أعمّ ، ويؤيّده ورود ذكر الجواز متكرّرا في كلامهم مطلقا ومن غير تقييد له بالرجحان.

ومن أنّ هذه الحصّة ما دامت في ضمن الوجوب كانت مع رجحان المتعلّق مضافا إلى فصل المنع ، والقدر المتيقّن ممّا ارتفع تأكّد الرجحان المحقّق للوجوب فيكون أصل الرجحان كالحصّة باقيا ولو بحكم الاستصحاب.

وبالجملة المقتضي لبقاء الجواز مقتض لبقاء الرجحان.

وممّا حكاه بعض الفضلاء (١) عن بعض المتأخّرين أنّه صرّح بأنّ المراد الجواز لا مع الرجحان ولا المرجوحيّة ، مستظهرا كون المراد به المعنى الأعمّ أعني الوجه الأوّل بقرينة لفظ « البقاء » مع نقله تصريح بعضهم به أيضا.

ولعلّ السرّ فيه أنّه الّذي أثبته الأمر في ضمن الوجوب ، ورجحان المتعلّق ليس من مثبتات الأمر ، فتأمّل.

__________________

(١) الفصول : ١١١.

٤٦٥

وأمّا احتمال كون المراد الجواز مع المرجوحيّة ليكون الباقي بعد النسخ الكراهة فبعيد عن مساق كلامهم بمراحل ، لعدم كون المرجوحيّة من أجناس الوجوب ولا من فصوله فلا معنى للقول ببقائه ، ولذا لم يتعرّض لذكره أحد من المتعرّضين لتحرير موضع النزاع.

وربّما صرّح بعضهم بتربيع الأقوال فيما بين أهل القول بالبقاء الدائرة بين الجواز لا مع الرجحان ولا مع المرجوحيّة ولا مع عدمهما ، والجواز مع عدم المرجوحيّة ، والجواز مع الرجحان ، والجواز لا مع الرجحان ولا مع المرجوحيّة.

ثمّ بالتأمّل في ظواهر العنوان ومساق الأدلة يعلم أنّ معقد البحث هنا ما لو ثبت الوجوب مطلقا من دون تقييد بوقت أو غاية كصوم يوم الخميس ونحوه ، فلو ثبت مقيّدا فانتفى القيد كان خارجا عن هذا العنوان وإن كان فيه نزاع آخر يأتي. وظاهر العنوان كون المراد به الوجوب المطلق لا المشروط بشرط ثمّ انتفى الشرط ، فإنّه ليس من نسخ الوجوب في شيء ، بل هو المصرّح به في كلام غير واحد حيث دفعوا ما قد يذكر من فروع المسألة من صلاة الجمعة المرتفع وجوبها العيني بسبب فقد شرطه وهو حضور الإمام عليه‌السلام فهل يبقى فيها الجواز في ضمن الوجوب التخييري أو الندب أو لا؟ فقالوا : بأنّه ليس من مسألة نسخ الوجوب ، بل هو من باب انتفاء شرط الوجوب.

وأمّا ما في عبارة شارح المنهاج ممّا يوهم كون معقد البحث هو الوجوب المشروط حيث قال : « إنّ الشيء إذا كان واجبا ويصير مشروطا هل يبقى جواز ذلك الفعل الّذي كان واجبا فنسخ أم لا؟ فيه خلاف » فواضح الفساد ، والظاهر أنّ لفظة « المشروط » في النسخة الحاضرة عندنا غلط من قلم الناسخ مكان « المنسوخ » كما يرشد إليه لفظ « فنسخ » فيما بعده.

ثمّ إنّ موضع النزاع من جهة الناسخ ما كان بلفظ « نسخت » أو « رفعت » أو نحو ذلك كما هو المصرّح به في مطاوي عباراتهم ، دون ما إذا كان بلفظ « حرّمت » أو « ندبت » أو « أبحت » أو « رخصت في تركه » أو غير ذلك ممّا يدلّ بالمطابقة على تعيين حكم آخر والتزاما على رفع الوجوب ، ووجهه واضح للمتأمّل.

ثمّ إنّ هذا النزاع لا يرجع إلى وجوب بدليّة حكم آخر عن الحكم المنسوخ في النسخ ، بأن يكون القول ببقاء الجواز راجعا إلى دعوى وجوب البدليّة ، والقول بالمنع راجعا إلى دعوى عدم وجوبها ، حتّى أنّه يجوز بقاء الواقعة بعد النسخ بلا حكم ، لأنّ ظاهر كلامهم في مباحث النسخ يعطي اتّفاقهم على عدم وجوب الإبدال ومثّلوا له بنسخ وجوب الصدقة قبل النجوى.

٤٦٦

بل يرجع إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر* (١).

___________________________________

نعم ها هنا على القول بعدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب كلام آخر يأتي في شرح العبارة الآتية.

ومرجع النزاع إلى أنّ ما يقع من الشرع عند نسخ الوجوب هل هو رفع المنع من الترك وجواز الفعل معا ، أو رفع المنع من الترك مع إبقاء جواز الفعل؟ والقول ببقاء الجواز يرجع إلى دعوى ذلك ، والقول بالمنع يرجع إلى دعوى عدم إمكانه استنادا إلى أنّ الجنس لا بقاء له مع ارتفاع الفصل.

(١) * في هذا الكلام نوع اشتباه من حيث إنّ المراد بالحكم الّذي كان قبل الأمر هل هو الحكم الشرعي الّذي أثبته الدليل الشرعي في الواقعة واردا على الحكم العامّ العقلي كان هو الأصل في الأشياء قبل الشرع عند قائليه.

ولا يبعد دعوى ظهور العبارة في الأوّل كما فهمه بعض المحقّقين ، إذ من الجائز أن يكون الواقعة قبل أن يعرض لها الوجوب ممّا له أحد الأحكام الأربع ممّا عدا الوجوب قد ثبت بالدليل الوارد على الأصل الأوّلي.

وكيف كان فمن المحقّقين من اعترض على ما ذكره من رجوع الحكم الثابت قبل الأمر وقال : « الأقرب هو الأقرب ، لكن رجوع الحكم السابق المرفوع بالأمر لا دليل عليه. فالحقّ أنّه يصير من قبيل ما لا حكم فيه ».

وهذا مضافا إلى مناقشة اخرى في دعوى رجوع الحكم المذكور ـ من حيث إنّ الأمر قد لا يكون مسبوقا بحكم خاصّ آخر ، بأن يكون الحكم الثابت للواقعة في صدر الإسلام هو الوجوب ـ لا يخلو عن قوّة ، نظرا إلى أنّ رجوع ذلك الحكم الخاصّ يحتاج إلى دليل والنسخ اللاحق بالوجوب لا يصلح دليلا عليه ، خصوصا مع ملاحظة عدم بدليّة حكم آخر في النسخ فالأصل عدمه.

وقضيّة ذلك كون الواقعة ممّا لا حكم لها من الشرع بالخصوص.

فإن قلت : رجوع الحكم السابق ممّا لا يحتاج إلى دليل آخر ، بل يكفي فيه دليله الّذي أوجب ثبوته أوّلا في عوده ، وإنّما يحتاج إلى الدليل رفع المانع وهو الوجوب الثابت مكانه بالدليل الثاني وهو مفروض الارتفاع بواسطة دليل النسخ. فلا مناص من عود الحكم

٤٦٧

السابق على الوجوب لوجود المقتضي وفقد المانع.

قلنا : دليل الحكم السابق قد بطل بدليل الوجوب ، كما أنّ دليل الوجوب يبطل بدليل النسخ ومعه لا يصلح مقتضيا لعود مدلوله ، إلاّ أن يفرض ذلك في نحو ما لو ورد في الخطاب من قوله : « أكرم العلماء » المفيد باعتبار الوضع العموم الأفرادي وباعتبار إطلاق الحكم بالنسبة إلى وجوب إكرام كلّ فرد العموم الأزماني ، على معنى دوام الحكم واستمراره إلى يوم القيام ، وعمل بعمومه ثمّ نسخه بالنسبة إلى زيد العالم مثلا بقوله : « لا تكرم زيدا » ثمّ نسخ الحرمة أيضا بعد برهة من الزمان بقوله : « نسخت الحرمة أو رفعتها » فإنّ قضيّة العامّ بعد انضمام الناسخ الثاني إليه بقاء وجوب إكرامه تحت عمومه الأزماني وهو المراد من العود ، لأنّ الناسخ الثاني يكشف عن أنّ القدر المخرج من هذا العموم بمقتضى الناسخ الأوّل إنّما هو ما بينه إلى ورود الناسخ الثاني ، ومرجعه إلى انكشاف دخول ما بعد المقدار المذكور في المراد من إطلاق الحكم كما أنّ ما قبله كان داخلا فيه.

ولك إجراء هذا الكلام في مسألة نسخ وجوب الصدقة قبل النجوى ، نظرا إلى عمومات استحبابها المتناولة لهذا الفرد منها قبل عروض الوجوب لها مع وضوح استحبابه بعد نسخ الوجوب أيضا وليس هذا إلاّ من مقتضى العمومات المذكورة ثمّ يتسرّى هذا الفرض أيضا إلى ما لو انحصر عموم الخطاب الأوّل المثبت للحكم الخاصّ السابق على الأمر في العموم الأزماني ، كما لو قال الشارع : « يستحبّ غسل الجمعة » ثمّ قال بعد برهة من الزمان : « أوجبت غسل الجمعة » ثمّ قال بعد مدّة : « نسخت الوجوب » فإنّه يكشف عن أنّ القدر المخرج من عموم الخطاب الأوّل بالنسبة إلى الأزمان إنّما هو ما بين ورود دليل الوجوب إلى زمان وروده.

وهذا هو معنى ما تقدّم من أنّ رجوع الحكم السابق على الأمر لا يحتاج إلى دليل آخر لكفاية الدليل الأوّل ، وإنّما المحتاج إلى الدليل رفع المانع والمفروض وروده وهو ناسخ الوجوب فيعود الحكم السابق لوجود المقتضي وفقد المانع.

وما ذكرناه في دفعه من أنّ دليل الحكم السابق قد بطل بدليل الوجوب ، فيزيّفه : أنّ بطلان هذا الدليل إن اريد به بطلان سنده فهو غير صحيح ، لمكان كونه قطعيّ الصدور كما في الآيات القرآنيّة الّتي نسخت أحكامها مع بقاء تلاوتها ، وإن اريد بطلان دلالته فإطلاقه غير مسلّم بالنسبة إلى عموم الدليل من حيث الأزمان ، بل القدر المسلّم ممّا بطل من هذا العموم وخرج من العامّ إنّما هو زمان الوجوب لا ما قبله ولا ما بعده.

٤٦٨

فالأقوى إذن ما اختاره المصنّف من الرجوع إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر ، ولكن هذا مقصور على ما لو كان للواقعة قبل ورود الأمر بها حكم خاصّ من الأحكام الأربع الباقية غير الوجوب ، وأمّا ما عداه ممّا كان حكمه الأوّل الثابت في صدر الإسلام هو الوجوب فهل يندرج الواقعة فيه بعد نسخ الوجوب ـ على القول بعدم بقاء الجواز ـ في عنوان مسألة الحظر والإباحة أو في عنوان مسألة البراءة والإباحة؟ احتمالان أظهرهما الأوّل.

والفرق بينهما أنّ مسألة الحظر والإباحة مفروضة فيما لا حكم فيه من الشرع أصلا ، ولذا جعل موضوعها الأشياء الغير الضروريّة قبل الشرع ، فحصل النزاع في أنّه هل لها في الظاهر حكم من العقل بحظر أو إباحة أو لا؟ ويعبّر عن هذا الحكم على القول بثبوته بالحكم العقلي ، ومسألة البراءة والإباحة المقابلتين للوجوب والتحريم في الشبهات الحكميّة الوجوبيّة أو التحريميّة مفروضة فيما ثبت له من الشرع حكم بالخصوص وجهل ذلك الحكم مردّدا بين كونه الوجوب أو خلافه والتحريم أو خلافه ، فحصل النزاع في حكمه الثانوي العامّ الثابت له المستفاد من ظواهر الأدلّة الشرعيّة كتابا وسنّة وعقلا ، ولذا اخذ موضوعه ما لم يعلم حكمه بالخصوص من حيث هو كذلك.

ووجه أظهريّة اندراج الواقعة بعد نسخ الوجوب في عنوان المسألة الاولى أنّ المفروض عدم ثبوت حكم خاصّ لها قبل الأمر مع فرض عدم اقتضاء نسخ الحكم بدليّة حكم آخر عنه ، فالمتّجه دخولها حينئذ في عنوان « ما لا حكم فيه من الشرع أصلا » كما جزم به المحقّق المتقدّم وإن كان إطلاقه غير سديد كما عرفت ، لا في عنوان « ما جهل حكمه » لأنّه فرع الدلالة على أنّ لها بعد نسخ الوجوب حكما خاصّا من الشارع مردّدا بين الحرمة وغيرها ممّا عدا الوجوب ، والمفروض عدم قيام الدلالة عليه ، وعلى فرض قيامها في بعض الموارد فهو خارج عن المبحث.

لا يقال : الدليل على ذلك العمومات القاضية بأنّ لكلّ شيء حكما حتّى الأرش في الخدش ، والأدلّة الدالّة على أنّ الوقائع غير خالية عن حكم من الأحكام من الضرورة والإجماع ونحوه.

لأنّا نقول : إنّما يكفي في صدق هذه العمومات والعمل بعمومها بالنسبة إلى هذه الواقعة ثبوت الحكم الوجوبي المفروض ارتفاعه بالنسخ ، فإنّ مفادها ثبوت حكم في كلّ شيء على وجه القضيّة المهملة الصادقة على الجزئيّة أيضا ، فلا يلزم من عدم التزام قيام حكم آخر مقامه تخصيص في هذه العمومات ، فبعد ثبوت اندراجها في عنوان « ما لا حكم فيه

٤٦٩

من الشرع بالخصوص » فيجري فيه الأقوال الأربع المعروفة في الأشياء الغير الضروريّة قبل الشرع ، من أنّ العقل لا يحكم فيها بشيء أو يحكم بالحظر أو الإباحة أو التوقّف ، فكلّ يبني على مذهبه الّذي اختاره فيها.

ومن الأعلام من صرّح برجوع الحكم السابق وفسّره بالبراءة أو الإباحة أو التحريم وقال : « إنّه يختلف إمّا بحسب اختلاف الموارد كما لو كان من العبادات لأصالة التحريم ، أو كان من العادات والتلذّذات فيباح ، أو كان من المعاملات فالأصل براءة الذمّة من اللزوم لأنّ الأصل عدم ترتّب الأثر ، أو بحسب اختلاف الأقوال فيما لم يرد به نصّ بالخصوص من حظر أو إباحة » انتهى (١).

وإطلاقه بعد ما بيّنّاه في تقوية كلام المصنّف غير سديد ، كما أنّ تفسير الحكم السابق الّذي يرجع إليه بعد نسخ الوجوب بالبراءة أو الإباحة غير سديد ، لأنّه إرجاع للواقعة بعد النسخ إلى عنوان مسألة البراءة وقد عرفت منعه.

ثمّ إنّ في إطلاق حكمه بالتحريم من جهة التشريع فيما يكون من مقولة العبادات ما لا يخفى ، وكأنّ نظره إلى ما لو قصد بإتيانه جهة العبادة والتقرّب وإلاّ فلو أتى به لا بهذا القصد بل لغرض آخر من الأغراض الصحيحة العقلائيّة فلا يكون تشريعا حتّى يحرم.

وأمّا ما ذكره من أصالة البراءة عن اللزوم فيما لو كانت الواقعة من المعاملات فهو كما ذكره ، ومثاله ما لو فرض أنّ الشارع أوجب بيع المنابذة مثلا لحكمة دعت إليه ، فإنّه يدلّ بالمطابقة على حكم تكليفي وهو وجوب إيقاع تلك المعاملة وبالالتزام على حكم وضعيّ وهو الصحّة بمعنى ترتّب الأثر من النقل والانتقال ، وحينئذ فلو نسخ ذلك الوجوب بعد مدّة يقع الشكّ تارة في حكمه التكليفي أهو الإباحة أو التحريم؟ واخرى في حكمه الوضعي المقتضي للزوم ، بمعنى وجوب دفع كلّ من العوضين على المتعاقدين إلى صاحبه على ما هو من لوازم حصول الملك من الجانبين لغير من له الملك أو لا؟ غير أنّ حكمه التكليفي قد ظهر من الرجوع إلى مسألة الحظر والإباحة ، وأمّا حكمه الوضعي فمرجع الشكّ فيه بالأخرة إلى وجوب دفع العوضين على كلّ منهما إلى صاحبه ، وهو فرع على ترتّب الأثر على معنى حصول الملك لكلّ منهما في مال صاحبه ، وهو موضع شكّ فالأصل عدمه.

وقضيّة ذلك براءة الذمّة عن اللزوم بمعنى وجوب الدفع.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٧.

٤٧٠

وبه قال العلاّمة في النهاية ، وبعض المحقّقين من العامّة* (١). وقال أكثرهم بالبقاء ، وهو مختاره في التهذيب** (٢)

لنا : أنّ الأمر إنّما يدلّ على الجواز بالمعنى الاعمّ ـ اعني الاذن في الفعل فقط ـ وهو قدر مشترك بين الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة. فلا يتقوّم إلاّ بما فيها من القيود ، ولا يدخل بدون ضمّ شيء منها إليه في الوجود ، فادّعاء بقائه بنفسه بعد نسخ الوجوب غير معقول*** (٣)

___________________________________

فما اعترض عليه بعض الأواخر من أنّ الأصل بهذا المعنى ممّا لا يتصوّر له معنى في المعاملات ليس على ما ينبغي.

(١) * وكأنّ مراده الغزالي من بعض المحقّقين من العامّة ، لأنّه الّذي عزي إليه هذا القول على ما في المنية.

(٢) ** أي مختار العلاّمة ، وحكاه في المنية عن فخر الدين وأتباعه ، ويظهر منه الميل إليه بل اختياره أيضا ، حيث زيّف حجّة المانع ودفع اعتراضه على حجّة المثبت الّتي قرّرها ـ كما حكاها المصنّف ـ وسكت عليها ، واختاره جماعة منّا أيضا ، وهو مختار المحقّق على ما يظهر ممّا حكي عنه من القول ببقاء الاستحباب.

(٣) *** وآخر كلامه مع سابقه ولاحقه لا يخلو عن تشويش واضطراب ، إذ لا يدري أنّ مراده من بقائه بنفسه هل هو بقاؤه بانفراده وبدون انضمام قيد آخر إليه كما هو قضيّة كلامه السابق ، أو بقاؤه بلا مقتضي للبقاء على معنى أنّه لا مقتضي لبقائه بعد النسخ حتّى ينضمّ إليه القيد الآخر وهو الإذن في الترك اللازم من رفع المنع من الترك كما يقتضيه كلماته اللاحقة.

وعلى الاحتمال الأوّل ينطبق ما قد يقال في تقرير الدليل من : أنّ نسخ الوجوب يقتضي زوال فصله وهو المنع من الترك وزوال الفصل يقتضي زوال جنسه ، لأنّ الجنس مقوّم بالفصل ولا يعقل بقاء للمقوّم مع زوال المقوّم ، والأصل ما حقّقه علماء المعقول من أنّ الأجناس لا تحقّق لها في الخارج إلاّ بانضمام الفصول إليها ، فهي متقوّمة بالفصول فلا يعقل لها بقاء مع ارتفاع [ الفصول ] وكذلك الحصّة الجنسيّة المتحقّقة في ضمن الفصل المعيّن الّذي يتحصّل من انضمامه إليها النوع الّذي يحلّله العقل إلى جنس وفصل ، فإذا زال الفصل

٤٧١

كما هو مفروض المقام زال معه الحصّة الجنسيّة ، لأنّ وجود [ ها ] رابطي تحليلي وإن كان له منشأ انتزاع في الخارج على ما هو المذهب الحقّ في وجود الجنس ، فالتحقيق كما فرضنا انعدام الحصّة الجنسيّة المنضمّة إلى الفصل بانعدامه ، ويلزمه انعدام النوع المركّب منهما ، وتحقّق نوع آخر ممّا يحتاج إلى موجب ودليل.

أقول : وعندي أنّ مبنى هذا الدليل على الخلط بين الأجناس والفصول العقليّة المتحقّقة في الماهيّات المتأصّلة الخارجيّة وغيرها وبين الأجناس والفصول الجعليّتين المتحقّقتين في الماهيّات الجعليّة ، ودعوى أنّ الجنس يتقوّم بفصله فلا يعقل بقاؤه مع زوال الفصل على فرض صحّتها إنّما يسلم في الأجناس والفصول العقليّة ولا تسلم في الأجناس والفصول الجعليّة.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجوب قد يعتبر بالبناء للمفعول فيعبّر عنه بكون الشيء مطلوب الفعل ممنوع الترك ، وقد يعتبر بالبناء للفاعل فيعبّر عنه بطلب الفعل مع المنع من الترك.

والأوّل وصف قائم بالفعل وهو أثر حاصل من الثاني فيتبعه في كلّ من حدوثه وبقائه وارتفاعه.

والثاني فعل نفسانيّ قائم بنفس الآمر وطلب الفعل يتضمّن تجويزه فهو مع المنع من الترك أمران جعليّان منوط كلّ منهما بجعل الجاعل ، أي إحداثه وإيجاده في النفس ، والمنع من الترك يقابله الإذن في الترك كما أنّ تجويز الفعل يقابله المنع من الفعل وهذان أيضا جعليّان منوطان بجعل الجاعل ، وكما أنّ الآمر عند الأمر وإنشاء الوجوب له أن يتصدّى لجعل كلّ من تجويز الفعل والمنع من الترك وإيجاده في ضميره ، فكذلك له عند النسخ أن يتصدّى لرفع كلّ من مجعوليه المستلزم لجعل مقابلهما من المنع من الفعل والإذن في الترك وإحداثه مكانهما ، وله أيضا أن يتصدّى لرفع أحد مجعوليه وهو المنع من الترك وإبقاء الآخر وهو تجويز الفعل مقرونا بالإذن في الترك الحادث مكان المنع من الترك ، فيتولّد به الندب إن بقي في الفعل نوع رجحان ، أو الكراهة إن زال رجحانه بالمرّة وحدث مكانه نوع مرجوحيّة ، أو الإباحة إن زال رجحانه مع عدم حدوث مرجوحيّة ، وهذا هو معنى بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، وقد شهد بجوازه بل وقوعه فعلا ضرورة الوجدان من غير أن يستتبع محالا ولا محذورا.

ولك أن تقول : إنّ الجنس الجعلي في الامور الجعليّة لا تقوّم له بفصله الجعلي بل غايته اقترانه به ، ولذا قد يعرّف الوجوب بطلب الفعل المقرون بالمنع من الترك أو عدم الرضا بالترك.

٤٧٢

والقول بانضمام الاذن في الترك إليه باعتبار لزومه لرفع المنع الّذي اقتضاه النسخ ، موقوف* (١) على كون النسخ متعلّقا بالمنع من الترك الّذي هو جزء مفهوم الوجوب ، دون المجموع. وذلك غير معلوم ؛ إذ النزاع في النسخ الواقع بلفظ :

___________________________________

ولا ريب أنّ اقتران شيء بشيء ليس من تقوّمه به ليستحيل بقاؤه مع زواله ، فلا تقوّم لجنس الوجوب بفصله ، بل إطلاق الجنس والفصل هنا مسامحة أو اصطلاح آخر غير ما اصطلح عليه أهل المعقول ، ضرورة أنّ تجويز الفعل مع المنع من الترك بمنزلة الجنس والفصل من حيث إناطة تحقّقهما بجعل الآمر ، وهو ليس بمجبور في أمر مجعوله رفعا وإبقاء ، بل له رفع ما شاء وإبقاء ما أراد ما لم يؤدّ إلى التناقض.

مع أنّ من حكم الجنس والفصل المصطلحين صحّة حمل كلّ منهما على الآخر لاتّحادهما في الوجود الخارجي ، وهو السرّ في زوال الجنس بزوال الفصل ، لأنّ زوال الفصل لا يكون إلاّ بانتفاء الوجود ويلزم منه زوال الجنس أيضا ، وهو غير صحيح في الجنس والفصل الجعليّين ، فلا يقال : « تجويز الفعل منع من الترك » ولا « المنع من الترك تجويز الفعل » وهذا آية كونهما متمايزين في الوجود الخارجي ، على معنى كونهما موجودين بوجودين متغايرين.

ومن هنا يعلم أنّ الوجوب كغيره من الأحكام وإن كان ماهيّة مركّبة إلاّ أنّه ليس من قبيل المركّبات العقليّة المركّبة من الأجناس والفصول ، بل هو من قبيل المركّبات الخارجيّة ، لانتفاء ما هو من حكم المركّبات العقليّة من صحّة حمل أجزائها بعضها على بعض ، وثبوت حكم المركّبات الخارجيّة في أجزائها من عدم صحّة حمل بعضها على بعض لتغائر وجوداتها.

ومن ذلك اتّضح زيادة اتّضاح مضافا إلى ما مرّ أنّه لا تقوّم لأجزاء ماهيّة الوجوب بعضها ببعض ليزول المتقوّم منها بزوال المقوّم ، بل غايته اقتران بعض ببعض وانضمامه إليه كما في سائر المركّبات الخارجيّة.

ولا ريب أنّ الاقتران لا يوجب زوال البعض بزوال البعض الآخر.

(١) * هذا مع ما بعده يساعد على أنّ مراده ممّا ذكره في آخر الدليل من أنّ ادّعاء بقائه بنفسه هو الوجه الثاني من الاحتمالين المتقدّمين.

٤٧٣

« نسخت الوجوب » ونحوه. وهو كما يحتمل التعلّق بالجزء الّذي هو المنع من الترك ، لكون رفعه كافيا في رفع مفهوم الكلّ ، كذلك يحتمل التعلّق بالمجموع ، وبالجزء الآخر الّذي هو رفع الحرج عن الفعل ، كما ذكره البعض* (١) ، وإن كان قليل الجدوى ؛ لكونه في الحقيقة راجعا إلى التعلّق بالمجموع.

احتجّوا : بأنّ المقتضي للجواز موجود ، والمانع منه مفقود ؛ فوجب القول بتحقّقه. امّا الأوّل : فلأنّ الجواز جزء من الوجوب ، والمقتضي للمركّب مقتض لأجزائه** (٢).

___________________________________

وهذا على فرض تمامه يتوجّه إلى ما قرّرناه أيضا في إثبات جواز بقاء تجويز الفعل بعد نسخ الوجوب وإبطال مقايسة ذلك على الجنس العقلي الّذي يستحيل بقاؤه بعد زوال فصله.

ومحصّله : أنّ قصارى ما ثبت ممّا ذكرت في إبطال المقايسة هو إمكان بقاء الجواز بعد النسخ وهو لا يستلزم الوقوع على معنى بقاء الجواز فعلا ، بل لا بدّ فيه من المقتضى لبقائه ، فلا بدّ من إثبات المقتضي ، ولأجل توجّه هذه المناقشة تصدّى أهل القول بالبقاء لدفعها بالتعرّض لإثبات المقتضي ، غير أنّ كلماتهم حسبما نقلها المصنّف فيما بعد ذلك مختلفة ، فمنها ما يظهر منه أنّ المقتضي لبقاء الجواز هو الأمر الاوّل المثبت للوجوب.

ومنها ما يظهر منه أنّ المقتضي هو الأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة على النسخ ، وستعرف كليهما مع ما يرد عليهما وما لا يرد.

(١) * لا خفاء في فساد الاحتمال الأخير لإفضائه إلى تكليف ما لا يطاق ، لكون مؤدّاه مع ملاحظة بقاء المنع من الترك على حاله المنع من الفعل والترك معا ، فهذا الاحتمال مقطوع بانتفائه دفعا لذلك المحذور ، ولعلّه لأجل التفطّن بذلك قال : « وإن كان قليل الجدوى ، لكونه في الحقيقة راجعا إلى التعلّق بالمجموع » وحاصله : توجيه ما ذكره بعضهم من التعلّق بالجزء الآخر بإرادة التعلّق به مع فرض تعلّقه بالمنع من الترك لكونه مفروغا عنه في مسألة نسخ الوجوب لأنّ رفع المنع من الترك ممّا لا محيص من التزامه في نسخ الوجوب ، والكلام إنّما هو في تعلّقه بالجزء الآخر ورفعه أيضا وعدمه.

(٢) ** ظاهر هذا التقرير لإحراز وجود المقتضي مع ملاحظة ما ينقله فيما بعد ذلك ـ من أنّه ليس المدّعى ثبوت الجواز بمجرّد الأمر بل به وبالناسخ ، فجنسه بالأوّل وفصله بالثاني ـ

٤٧٤

كون المقتضي لبقاء الجواز الّذي هو جنس الوجوب لإتمام الحكم الجوازي الّذي يتولّد منه بعد انضمام الفصل الآخر الّذي خلف فصل الوجوب هو الأمر.

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه ـ مع ملاحظة ما ينقله أيضا في جواب السؤال الثاني على الحجّة من أنّ الظاهر يقتضي البقاء لتحقّق مقتضيه أوّلا والأصل استمراره ، فلا يدفع بالاحتمال ـ هو : أنّ الأمر الدالّ على الوجوب من حين وروده كان باعتبار إطلاقه ظاهرا في استمرار الوجوب إلى الأبد ، بل هو على ما حقّق في باب النسخ من شروطه.

وهذا الظهور ينحلّ إلى ظهورين :

أحدهما : ظهوره في استمرار جواز الفعل.

والآخر : ظهوره في استمرار المنع من الترك.

والّذي ارتفع بطروّ النسخ إنّما هو الظهور الثاني دون الظهور الأوّل ، ولا يزاحمه مجرّد احتمال تعلّق النسخ بالمجموع ، لأنّ الاحتمال لا ينافي الظهور ، فهو المقتضي لبقاء الجواز من جهة الأمر الدالّ على الوجوب.

ويزيّفه : أنّ ظهور الأمر في استمرار الوجوب لا يمكن تبعيضه بدعوى ارتفاع بعضه وبقاء البعض الآخر ، لأنّ دلالة الأمر على استمرار الجواز في ضمن الوجوب ليست دلالة مستقلّة مقصودة من الخطاب أصالة بل هي دلالة تضمّنيّة ، وهي على ما حقّق في باب الدلالات دلالة تبعيّة عقليّة ، لكونها عبارة عن دلالة اللفظ على الجزء باعتبار دلالته على الكلّ ، فالدلالة المقصودة من اللفظ هو الدلالة على الكلّ الّذي يتضمّن الجزء لا الدلالة على الجزء ، وإنّما يعتبر تلك الدلالة تبعا للدلالة على الكلّ باعتبار أنّه لا ينفكّ عن أجزائه ، والناسخ في زمان وروده قرينة كاشفة عن إرادة خلاف ظاهر الخطاب فيبطل ظهوره في استمرار الكلّ ويتبعه في ذلك ظهوره في استمرار الجزء باعتبار ظهوره في استمرار الكلّ ، ومرجعه إلى أنّ دلالة التضمّن تابعة لدلالة المطابقة بقاء وارتفاعا ، فإذا انكشف عدم القصد إلى الدلالة على استمرار الوجوب انكشف عدم القصد إلى الدلالة على استمرار الجواز الّذي كان في ضمنه ، ولا معنى لاستصحاب الظهور لو اريد التمسّك به لإثبات بقائه بالنسبة إلى الجواز كما هو أحد احتمالي الأصل المذكور في الجواب المتقدّم إليه الإشارة ، ولذا ذكر في توضيحه : « أنّ النسخ إنّما توجّه إلى الوجوب والمقتضي للجواز هو الأمر فيستصحب

٤٧٥

وأمّا الثاني : فلأنّ الموانع كلّها منتفية بحكم الأصل والفرض ، سوى نسخ الوجوب وهو لا يصلح للمانعيّة ؛ لأنّ الوجوب ماهيّة مركّبة ، والمركّب يكفي في رفعه رفع أحد أجزائه ، فيكفي في رفع الوجوب رفع المنع من الترك الّذي هو جزؤه. وحينئذ فلا يدلّ نسخه على ارتفاع الجواز.

فان قيل : لا نسلّم عدم مانعيّة نسخ الوجوب لثبوت الجواز ؛ لأنّ الفصل علّة لوجود الحصّة الّتي معه من الجنس ، كما نصّ عليه جمع من المحقّقين. فالجواز الّذي هو جنس للواجب وغيره لا بدّ لوجوده في الواجب من علّة هي الفصل له ، وذلك هو المنع من الترك ، فزواله مقتض لزوال الجواز ، لأنّ المعلول يزول بزوال علّته ، فتثبت مانعيّة النسخ لبقاء الجواز* (١).

___________________________________

إلى أن يثبت ما ينافيه » فلا ظهور حينئذ حتّى يتمسّك به لإثبات بقاء الجواز فلا مقتضي لبقائه من جهة الأمر.

(١) * وفي جعل الفصل علّة لوجود الجنس ما لا يخفى ، لصحّة الحمل بينهما وجواز تعقّل الجنس بدون تعقّل الفصل ، مع كونه ممّا يكذبه الحسّ كما في المسخ واستحالة الخشب ونحوه رمادا وغيره لبقاء الحيوانيّة في الأوّل والجسميّة في الثاني متفصّلة بفصل آخر ، فنسبة ما ذكر إلى نصّ جمع من المحقّقين غريب ، إلاّ أن يراد من الوجود التعيّن والانطباق على ماهيّة معيّنة والتحصّل ، ولذا وجّهه بعض الأعلام في حواشي كتابه في هذا المقام : « بأنّ مرادهم من علّيّة الفصل للجنس علّيّته لصفات الجنس في الذهن وهي التعيّن وزوال الإبهام والتحصّل وانطباقه على تمام الماهيّة ، فإنّ الجنس إذا حصل في العقل كان أمرا مبهما مردّدا بين أشياء كثيرة ، وهو غير كلّ واحد منهما بحسب الخارج وغير منطبق على تمام حقيقة واحدة منها ، فهو علّة له من حيث هو موصوف بتلك الصفات ، وإلاّ فهو ليس علّة له في العقل وإلاّ فيلزم أن لا يعقل الجنس بدون الفصل ولا في الخارج ، فيتغاير في الوجود وامتنع الحمل بالمواطاة » (١).

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٧.

٤٧٦

قلنا : هذا مردود من وجهين :

أحدهما : أنّ الخلاف واقع في كون الفصل علّة للجنس ؛ فقد أنكره بعضهم وقال : انّهما معلولان لعلّة واحدة* (١). وتحقيق ذلك يطلب من مواضعه.

وثانيهما : أنّا وإن سلّمنا كونه علّة له فلا نسلّم أنّ ارتفاعه مطلقا يقتضي ارتفاع الجنس ، بل إنّما يرتفع بارتفاعه ، إذا لم يخلفه فصل آخر** (٢) ؛ وذلك لأنّ الجنس إنّما يفتقر إلى فصل مّا ومن البيّن أنّ ارتفاع المنع من الترك مقتض لثبوت الإذن فيه ، وهو فصل آخر للجنس الّذي هو الجواز.

___________________________________

(١) * وهذا كما ترى لا يجدي نفعا للمستدلّ ، فإنّ زوال أحد المعلولين لا يكون إلاّ بزوال العلّة المشتركة وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن العلّة وأنّه محال ، ومع زوالها يزول المعلول الآخر أيضا ، فالقولان مشاركان في لزوم المحذور الّذي أورده على القول ببقاء جنس الوجوب مع زوال فصله.

ومن الفضلاء (١) من أعرض عن هذين القولين وسلك مسلكا آخر وهو أنّ الجنس والفصل متّحدان في الخارج ولا ينعدم أحدهما إلاّ بزوال وجوده الّذي هو عين زوال وجود الآخر ، فزوال أحدهما عين زوال الآخر.

وهذا أوفق بالاعتبار وأقرب بالإذعان لما يساعد عليه صحّة الحمل الّتي هي أمارة عدم تغايرهما في الوجود ولكنّه في الأجناس والفصول العقليّة لا مطلقا.

فالجواب التحقيقي عن السؤال هو ذلك ومحصّله : أنّ الامور الجعليّة لا تقاس على الامور العقليّة وقد سبق توضيحه مشروحا ، مع قضاء الوجدان الصريح بتمايز جنس الوجوب وفصله بحسب الخارج وتغايرهما في الوجود ، وعدم صحّة حمل أحدهما على الآخر.

(٢) ** محصّله : منع كون الفصل الخاصّ علّة للجنس الموجود في ضمنه على وجه الانحصار بل هو على تقدير علّيّته له أحد العلل ، بدعوى أنّ الجنس معلول له علل عديدة تتوارد عليه على سبيل البدليّة ، فلا يلزم من ارتفاع أحدها المعيّن عدم بدليّة ما عداه.

والمفروض فيما نحن فيه ثبوت بدل عن المنع من الترك وهو الإذن في الترك الّذي

__________________

(١) الفصول : ١١١.

٤٧٧

والحاصل : أنّ للجواز قيدين : أحدهما ـ المنع من الترك ، والآخر ـ الإذن فيه ؛ فإذا زال الأوّل خلفه الثاني. ومن هنا ظهر أنّه ليس المدّعى ثبوت الجواز بمجرّد الأمر ، بل به وبالناسخ ، فجنسه بالأوّل وفصله بالثاني. ولا ينافي هذا إطلاق القول بأنّه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز ، حيث انّ ظاهره استقلال الأمر به ، فانّ ذلك توسّع في العبارة. وأكثرهم مصرّحون بما قلناه.

فان قيل : لمّا كان رفع المركّب يحصل تارة برفع جميع أجزائه ، وأخرى برفع بعضها ، لم يعلم بقاء الجواز بعد رفع الوجوب ؛ لتساوي احتمالي رفع البعض الّذي يتحقّق معه البقاء ، ورفع الجميع الّذي معه يزول.

قلنا : الظاهر يقتضي البقاء ، لتحقّق مقتضيه أوّل ، والاصل استمراره. فلا يدفع بالاحتمال. وتوضيح ذلك : أنّ النسخ إنّما توجّه إلى الوجوب ، والمقتضي للجواز هو الأمر ، فيستصحب إلى أن يثبت ما ينافيه. وحيث انّ رفع الوجوب يتحقّق برفع أحد جزئيه ، لم يبق لنا سبيل إلى القطع بثبوت المنافي فيستمرّ الجواز ظاهرا. وهذا معنى ظهور بقائه.

والجواب : المنع من وجود المقتضي ؛ فانّ الجواز الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب وقدر مشترك بينها وبين الأحكام الثلاثة الاخر ، لا تحقّق له بدون انضمام أحد قيودها إليه قطعا ، وإن لم يثبت عليّة الفصل للجنس ، لأنّ انحصار الأحكام في الخمسة يعدّ في الضروريّات. وحينئذ فالشّك في وجود القيد يوجب الشّك في وجود المقتضي. وقد علمت أنّ نسخ الوجوب. كما يحتمل التعلّق بالقيد فقط ـ أعني المنع من الترك ـ فيقتضي ثبوت نقيضه الّذي هو قيد آخر ، كذلك يحتمل التعلّق بالمجموع ، فلا يبقي قيد ولا مقيّد ؛ فانضمام

___________________________________

كان لازما من رفع المنع ، ومعه لا يلزم بقاء الجنس المفروض بقاؤه بلا علّة ليكون منشأ للإشكال ويثبت به مانعيّة النسخ لثبوت الجواز كما هو المقصود بالسؤال.

٤٧٨

القيد مشكوك فيه ، ولا يتحقّق معه وجود المقتضي.

ولو تشبّث الخصم في ترجيح الاحتمال الأوّل بأصالة عدم تعلّق النسخ بالجميع لكان معارضا بأصالة وجود القيد ، فيتساقطان* (١).

وبهذا يظهر فساد قولهم في آخر الحجّة : « إنّ الظاهر يقتضي البقاء ، لتحقّق مقتضيه ، والأصل استمراره » ، فانّ انضمام القيد ممّا يتوقّف عليه وجود المقتضي ، ولم يثبت.

___________________________________

(١) * والمقصود بذلك العدول عن القول بكون المقتضي لبقاء الجواز الأمر الأوّل إلى القول بكونه الأصل والاستصحاب ، ومعنى أصالة عدم تعلّق النسخ بالجميع أصالة عدم تعرّض الشارع لرفع الجواز مع اليقين بتعرّضه لرفع المنع من الترك ، وقد يقرّر هذا الأصل باستصحاب الجواز.

وأمّا معارضة المصنّف فيدفعها :

أوّلا : أنّ رفع المنع من الترك لا يعقل إلاّ مع قيام الإذن في الترك مكانه ، ضرورة استحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما ، فاليقين بأحدهما في معنى اليقين بالآخر فبطلت المعارضة.

وثانيا : أنّ رفع المنع من الترك متيقّن الحدوث على تقديري تعلّق النسخ بالمجموع أو بالفصل فقط ، واللازم من رفع المنع عند العقل حدوث الإذن وهذا هو معنى اليقين بوجود القيد ، فلا أصل حينئذ ليعارض أصالة البقاء.

ومن الأعلام من التفت إلى بطلان المعارضة بالبيان المتقدّم في كلام المصنّف لبعض ما قرّرناه ، ثمّ أتى بأصل آخر معارض له وهو أصالة عدم الارتباط والتقييد بذلك القيد المقطوع بثبوته ، ثمّ تنبّه على ما يدفعه من أنّ الارتباط والتقيّد أمر اعتباري وبعد حصول الطرفين واتّحاد المورد فلا معنى لعدم اعتبار ذلك.

ثمّ أورد عليه بما ملخّصه ـ مع طول عبارته واشتماله على عدم حسن التأدية والتعقيد ـ : أنّ الجواز الّذي كان في ضمن الوجوب قبل طروّ النسخ له لم يكن معروضا للفصل القائم مقام الفصل المرتفع يقينا ، وبعد طروّ النسخ نشكّ في أنّه هل عرض له ذلك الفصل المتجدّد أم لا؟ وهذا أمر حادث ينفيه الأصل حتّى يثبت اليقين بعروضه ولا يقين به في المقام ، إذ لا مقتضي للعروض إلاّ استصحاب بقاء الجواز وهو لا يورث يقينا بل غايته إفادة الظنّ

٤٧٩

والأصل يجري مع الظنّ بالخلاف أيضا ، فيكون ذلك الأصل معارضا للاستصحاب المذكور وغاية التعارض التساقط فيبقى المورد بلا حكم.

وبعبارة اخرى : فكما أنّ الأصل بقاء الجواز الّذي في ضمن الوجوب فالأصل عدم تحقّق الإباحة بالمعنى الأخصّ أو الاستحباب ، فإنّ جميع الأحكام الشرعيّة الأصل عدمها » (١).

وفيه أوّلا : أنّ الاستصحاب وإن كان لا يوجب يقينا إلاّ أنّه بنفسه علم شرعيّ وهو هاهنا وارد على معارضه لكون شكّه سببيّا كما يظهر بأدنى تأمّل.

وثانيا : أنّ هذا الأصل معارض بأصل آخر غير الاستصحاب المذكور ، إذ كما أنّ الأصل عدم عروض القيد المتجدّد لجنس الوجوب فكذلك الأصل عدم عروضه لجنس غيره من الأحكام سيّما الحرمة ، فإنّ عدم عروض هذا القيد قبل النسخ لكلّ من الجنسين كان متيقّنا والأصل النافي له بالنسبة إلى جنس الوجوب ينفيه بالنسبة إلى جنس غيره ، مضافا إلى عدم لحوق جنس آخر لمحلّ جنس الوجوب ، فهذان الأصلان يعارضان الأصل المذكور ، وغاية التعارض التساقط فيبقى الاستصحاب سليما عن المعارض.

هذا ولكنّ الإنصاف ومجانبة الاعتساف يقتضي عدم تماميّة الاستصحاب هنا من أصله وهو على فرض تماميّته غير مفيد.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب إن قلنا به من حيث الظنّ ـ الحاصل بملاحظة الكون الأوّل ـ بالبقاء في الآن الثاني فهو غير حاصل ببقاء الجزء بملاحظة كونه الأوّل في ضمن كون الكلّ التابع له ، لأنّ كون الكلّ الّذي هو الكون الأوّل في الحقيقة قد ارتفع يقينا بالفرض ، وملاحظة الكون التبعي لا يوجب ظنّا ببقاء التابع منفكّا عن المتبوع ، خصوصا مع ملاحظة تساوي احتمالي تعلّق النسخ بالمجموع أو بالبعض ، بل على القول بكون الباعث على ظنّ البقاء هو ملاحظة غلبة البقاء في الممكنات الموجودة أيضا يتطرّق المنع إلى حصوله هنا ، لأنّ الغلبة إنّما كانت ثابتة في بقاء الموجود الأوّل على الوجه الّذي كان موجودا ، كما لو شكّ في نسخ حكم في زمان بعد اليقين بثبوته في الزمان الأوّل وهذا ليس منه.

وإن قلنا به من جهة الأخبار فاندراج ما نحن فيه فيها غير واضح بل ممنوع ، لأنّ الظاهر المتبادر من قولهم عليهم‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (٢) اتّحاد القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعا ومحمولا وكمّا وكيفا وجهة وغيرها بلا فرق بينهما إلاّ في اليقين

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) الوسائل ١ : ، الباب ١ من أبواب نواقص الوضوء ، ح ١ ، ٦ ، ٧.

٤٨٠