تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

المنطوق مرادا ، ولا يثبت كونه مرادا إلاّ باللزوم الخارجي ، وهو منتف فيما بين الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء لكمال المعاندة فيما بينهما ، واللزوم الذهني إن كان غير كاف في الإرادة ، لأنّ غايته أن يوجب فهمه ويلزم تصوّره من تصوّره وهو غير الإرادة ، مع أنّ اللزوم الذهني أيضا منتف فإنّ تصوّر الثبوت عند الثبوت لا يستلزم تصوّر الانتفاء عند الانتفاء.

ويزيّفه : أنّ اللزوم الذهني ثابت بينهما بحسب الوضع كما قرّرناه ، وهو إذا كان ناشئا من الوضع كاف في الإرادة كما في « العمى » و « البصر » فإنّ البينونة والمعاندة بينهما بحسب الوجود الخارجي واضح مع كون الثاني لازما للأوّل باللزوم الذهني الناشئ من وضع الأوّل للعدم المقيّد بالثاني ، فيلزم تصوّر الثاني من تصوّر الأوّل ويكون مرادا بإرادته ، ولزوم الانتفاء عند الانتفاء للثبوت عند الثبوت من هذا القبيل ، لأنّه ذهنيّ ناش من الوضع ـ لا أنّه ثابت بمجرّد حكم العقل فيلزم تصوّره من تصوّره ـ ويكون مرادا للمتكلّم بإرادته ، فالإرادة في الدلالة الالتزاميّة ليست مقصورة على اللزوم الخارجي فيما هو لازم للماهيّة في الوجود الخارجي.

وبالجملة انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط خارج عن كون الشرط بحيث يترتّب عليه الجزاء في الوجود الخارجي لازم له باللزوم الذهني الناشئ من الوضع ، فاللفظ الدالّ على الثبوت عند الثبوت بالمطابقة دالّ على الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.

حجّة القول بالدلالة العقليّة : أنّه لو لم يفد التعليق انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لكان التعليق لغوا يجب تنزيه الكلام عنه.

ويزيّفه أوّلا : النقض بموارد انتفاء المفهوم وعدم إرادته من التعليق ، فإنّ وجودها ضروري فيلزم اللغو. ودفعه : بجواز العدول إلى فائدة اخرى ، يدفعه : أنّ التعليق على الشرط لو كان صالحا للعدول إلى فائدة اخرى غير الانتفاء عند الانتفاء لكان احتماله قائما في محلّ النزاع أيضا فبطل به الاستدلال.

وثانيا : الحلّ بمنع الملازمة لولا الحمل على هذه الفائدة.

وتوضيحه : أنّ المتكلّم إذا قال : « أكرم زيدا » أفاد وجوب إكرام زيد وجوبا مطلقا غير متوقّف على مجيئه غير منتف عند عدم مجيئه ، وإذا قال : « إن جاءك زيد فأكرمه » أفاد وجوب إكرامه وجوبا مشروطا بمجيئه متوقّفا وجوده على وجوده ولو من جهة كونه أحد أسبابه.

وهذه فائدة عظيمة تترتّب على التعليق غير مرتبطة بفائدة الانتفاء عند الانتفاء ،

٢٨١

فلا يلزم خروجه عن الفائدة.

وبعبارة اخرى أوضح : أنّ القول بحجّيّة مفهوم الشرط يرجع إلى دعوى فائدتين في التعليق :

إحداهما : إفادة كون الشرط بحيث يترتّب عليه الجزاء في الوجود ، ومرجعه إلى التلازم بينهما في الوجود.

واخراهما : إفادة كونه بحيث ينتفي بانتفائه الجزاء ، ومرجعه إلى التلازم بينهما في العدم.

والمنكر للحجّيّة يوافقه في الفائدة الاولى ويخالفه في الثانية ، اعتناء منه إلى احتمال تعدّد الأسباب بعد تسليم الدلالة على السببيّة في الجملة.

وبما بيّنّاه ينقدح أنّ تغيير صورة الدليل بما قيل ـ من أنّا نقول : إنّ مفهوم الشرط حجّة إذا لم يظهر فائدة سوى انتفاء الحكم عند انتفائه ، ظهورا مساويا لها أو أزيد منها.

وبعبارة اخرى إذا كان هذه الفائدة أظهر الفوائد لا إذا لم يحتمل فائدة اخرى ـ غير مجد في إثبات الدلالة العقليّة أو في إثبات الحجّيّة ، إذ لو اريد من أظهريّة هذه الفائدة ما يستند إلى اللفظ فهو عدول إلى إثبات المفهوم بالدلالة اللفظيّة ولا حاجة معه إلى التمسّك بلزوم اللغويّة ، بل لا حكم للعقل فيه مع قيام احتمال فائدة اخرى ولو مرجوحا بل في غاية المرجوحيّة ، وإن اريد منها ما يستند إلى خارج من اللفظ فهو عدول عن القول بالحجّيّة إلى إثبات إرادة هذه الفائدة بالقرينة ، فيكون خارجا عن محلّ النزاع ، مع أنّه لا حاجة إلى الدليل المذكور بل لا يجري مع قيام الاحتمال وإن كان غير أظهر ، مع أنّه لا يتّفق للصورة المفروضة مورد أصلا ، لدوام ثبوت فائدة توقّف الوجود على الوجود ومرجعها إلى السببيّة في الجملة.

وهذه أظهر من فائدة استلزام الانتفاء للانتفاء دائما ، لكونها على فرض ثبوتها متفرّعة على فائدة توقّف الوجود على الوجود.

حجّة القول بالدلالة الشرعيّة : غلبة إرادة نفي الحكم عن غير المذكور في التعليقات الشرعيّة.

وفيه أوّلا : أنّه قد يدّعى الغلبة في الخلاف كما في العبارة المحكية عن الشيخ البارع الحرّ العاملي حيث قال في مقدّمات الوسائل : « إنّ التتبّع والاستقراء شاهدان بأنّ الفصحاء قد يقصدون مفهوم الشرط وقد لا يقصدونه ، فكيف يوثق بإرادته ويجعل دليلا شرعيّا من غير قرينة على إرادة المتكلّم له أو دليل آخر عليها.

وقد ذكرت في الفوائد الطوسيّة مائة وتسعة وعشرين آية من القرآن مفهوم الشرط

٢٨٢

فيها غير مراد ولا معتبر ، والآيات الّتي مفهوم الشرط فيها معتبر لا تكاد تبلغ هذا القدر وكذا الأخبار وأكثر كلام البلغاء » (١).

وثانيا : أنّ الغلبة المدّعاة إنّما نشأت عن أمر يرجع إلى اللغة ، وهو وضع الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط على وجه اقتضى الانتفاء عند الانتفاء التزاما وضعيّا لا عن أمر يرجع إلى الشرع ليكون التزاما شرعيّا.

وقضيّة ذلك كون ما لم يقصد فيه نفي الحكم عن غير المذكور من الموارد النادرة فإنّما هو لقرينة خارجيّة.

وبالجملة الغلبة المذكورة غير منافية للالتزاميّة الوضعيّة بل مبتنية عليها ، فلا تكون الدلالة شرعيّة.

حجّة القول بالفرق بين الخبر والإنشاء : أنّ المتبادر كون الشرط شرطا لإيقاع الحكم أي إصداره من المتكلّم ، فإنّ قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » يفهم منه : إن لم يجئك فلا حكم بوجوب الإكرام ، وقوله : « إن نزل الثلج فالزمان شتاء » يفهم منه : إن لم ينزل الثلج فلا حكم بكون الزمان شتاء ، وذلك في الإنشاء يستلزم نفي الحكم عن غير المذكور ، فإنّ عدم حكمه بالمعنى المصدري يستلزم عدم الحكم في نفس الأمر لأنّه تابع له ، وليس ذلك جاريا في الخبر لأنّ عدم الإخبار لا تستلزم عدم وقوع النسبة الخبريّة وذلك واضح.

وجوابه ـ بعد تصحيح ما ادّعي من كون الشرط المذكور في القضيّة شرطا لإيقاع الحكم وإصداره الّذي هو فعل المتكلّم ـ : منع الفرق بين الإنشاء والخبر في عدم استلزام انتفاء إيقاع الحكم بسبب انتفاء شرطه انتفاء الحكم ، فكما أنّ بانتفاء نزول الثلج ينتفي إيقاع الحكم وهو الإخبار بكون الزمان شتاء وهو لا يستلزم انتفاء الحكم في نفس الأمر وهو وقوع النسبة الخبريّة أعني كون الزمان شتاء ، فكذلك بانتفاء المجيء ينتفي إيقاع الحكم الإنشائي وهو الإيجاب وهذا لا يستلزم انتفاء أصل الحكم الإنشائي وهو الوجوب ، لجواز ثبوته للمسكوت عنه بسبب آخر ، بل بإيقاع آخر غير هذا الإيقاع الواقع في هذه القضيّة سابق عليه أو لا حق به ، على أنّ المراد من الحكم المتنازع في انتفائه عند انتفاء الشرط إنّما هو نوعه لا خصوص شخصه الّذي أنشأه المتكلّم بتلك القضيّة ، فإنّه ممّا لا خلاف لأحد في انتفائه عن المسكوت عنه وعدم شموله له ، لقصور القضيّة المنطوقيّة عن

__________________

(١) الفصول المهمّة في اصول الأئمّة ١ : ٨٤.

٢٨٣

احتجّ السيّد رحمه‌الله بأنّ الشرط هو تعليق الحكم به* (١) ، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن أن يكون شرطا الا ترى أنّ قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه آخر؟ فانضمام الثاني إلى الأوّل شرط في القبول. ثمّ نعلم أنّ ضمّ امراتين إلى الشاهد الأوّل يقوم مقام الثاني. ثمّ نعلم بدليل ، أنّ ضمّ اليمين إلى الواحد يقوم مقامه أيضا. فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى.

________________________________

إفادته له أيضا ، فإنّ قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » لا يفيد وجوب الإكرام لصورة عدم المجيء أيضا.

وبالجملة يجوز ثبوت الوجوب لغير المذكور بإنشاء آخر سابق على الإنشاء المذكور أو لاحق به ، وهذا الاحتمال لا يقصر عن احتمال وقوع النسبة الخبريّة في الخبر في صورة انتفاء إيقاعه وهو إخبار المتكلّم به ، هذا مع تطرّق المنع إلى دعوى كون الشرط شرطا لإيقاع الحكم استنادا إلى التبادر ، بل الظاهر المتبادر من التعليق كونه شرطا لنفس الحكم ـ على معنى السببيّة على وجه الانحصار كما ذكرناه مرارا ـ فيلزم ظهوره في الانتفاء عند انتفائه ، وهو لا ينافي احتمال عدم انتفائه فيجب الأخذ بهذا الظهور ، إلاّ حيث دلّ دليل من الخارج على كون الشرط شرطا للحكم بوجود الجزاء لا لوجوده كما في المثال : « إن نزل الثلج فالزمان شتاء » ومنه قوله تعالى : ( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ )(١).

(١) * وهذا مقطوع من عبارته في الذريعة وتمام العبارة : « أنّ الشرط عندنا كالصفة في أنّه لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه ، وبمجرّد الشرط لا يعلم ذلك وإنّما نعلمه في بعض المواضع بدليل منفصل ، لأنّ تأثير الشرط أن يتعلّق الحكم به ، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب عنه شرط آخر ويجري مجراه ولا يخرج من أن يكون شرطا ، ألا ترى أنّ قوله تعالى » (٢) إلى آخر ما قرّره المصنّف.

ويظهر منه أنّه معترف بإفادة الجملة الشرطيّة سببيّة المقدّم للتالي ، وإن كان ربّما يأباه

__________________

(١) النحل : ٥٣.

(٢) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٤٠٦.

٢٨٤

واحتجّ موافقوه ـ مع ذلك ـ : بأنّه لو كان انتفاء الشرط مقتضيا لانتفاء ما علّق عليه ، لكان قوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (١) دالا على عدم تحريم الإكراه ، حيث لا يردن التحصّن ، وليس كذلك ، بل هو حرام مطلقا*.

والجواب عن الأوّل : أنّه ، إذا علم وجود ما يقوم مقامه ، كما في المثال الذي ذكره ، لم يكن ذلك الشرط وحده شرطا. بل الشرط حينئذ أحدهما ؛ فيتوقّف انتفاء المشروط على انتفائهما معا ؛ لأنّ مفهوم أحدهما لا يعدم إلاّ بعدمهما. وإن لم يعلم له بدل ، كما هو مفروض المبحث ، كان الحكم مختصّا به ، ولزم من عدمه عدم المشروط ، للدليل الّذي ذكرناه.

________________________________

الاستشهاد بآية الاستشهاد (٢) ولكنّه ينكر إفادتها كونه سببا على التعيين وعلى وجه الانحصار ، واستند في ذلك الى عدم امتناع تعدّد الأسباب ، ونيابة سبب آخر عن السبب المذكور في القضيّة في صورة انتفائه.

ويرد عليه : أنّ القول بإفادة التعليق على الشرط انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لا يرجع إلى دعوى الامتناع حتّى يقابل بنفي الامتناع الّذي أقصاه قيام الاحتمال ، بل يبنى على دعوى الظهور في التعيين والانحصار الملازم للانتفاء عند الانتفاء ، وهذا لا ينافي الاحتمال كما أنّ الاحتمال لا يعارض الظهور ، وأمّا ما قام فيه دليل من الخارج على التعدّد والنيابة فلا كلام.

وبذلك ظهر أنّ محلّ البحث على عكس ما ذكره من أنّه : « إنّما نعلمه في بعض المواضع بدليل منفصل ».

(١) * والتحقيق في جوابه : أنّ الشرط المذكور بعد النهي في الآية كالشرط المذكور بعد النهي في مثل : « لا تشرب الخمر إن كنت مؤمنا » لم يقصد به حقيقة التعليق ، وهو تعليق الجزاء على الشرط بحيث يترتّب وجوده على وجوده وعدمه على عدمه ، كما هو قضيّة السببيّة على التعيين ، بل يقصد به تعليل الحكم به على معنى ورود الشرطيّة في الكلام

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) والمراد بآية الاستشهاد هو قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ).

٢٨٥

وعن الثاني بوجوه : أحدها ـ أنّ ظاهر الآية يقتضي عدم تحريم الإكراه إذا لم يردن التحصّن ، لكن لا يلزم من عدم الحرمة ثبوت الإباحة ؛ إذ انتفاء الحرمة قد يكون بطريان الحلّ ، وقد يكون لامتناع وجود متعلّقها عقلا ؛ لأنّ السالبة تصدق بانتفاء المحمول تارة وبعدم الموضوع اخرى. والموضوع هنا منتف ، لأنّهنّ إذا لم يردن التحصّن فقد أردن البغاء ومع إرادتهنّ البغاء* (١) يمتنع إكراههنّ عليه ؛ فإنّ الإكراه هو حمل الغير ما يكرهه. فحيث لا يكون كارها يمتنع تحقّق الإكراه. فلا يتعلّق به الحرمة.

________________________________

لتعليل الحكم بالشرط المذكور في القضيّة ليفيد عموم وجوده حيثما وجد الشرط ، على وجه ينتظم به في حاصل المعنى قياس مشتمل على كبرى كلّيّة على حدّ المنصوص العلّة ، فيكون تقدير المثال المذكور : « لا تشرب الخمر لأنّك مؤمن ، وكلّ مؤمن يحرم عليه شرب الخمر ، فأنت يحرم عليك شرب الخمر ».

وهذا كما ترى لا يقتضي انتفاء الحكم حيثما ينتفي الشرط المعلّل به ، بل لا يقتضي كون الشرط المعلّل به سببا مؤثّرا في وجود الحكم فضلا عن اقتضائه انتفاء الحكم عند انتفائه ، لجواز كون العلّة المؤثّرة في وجوده أمرا مشتركا بين ذلك الشرط وغيره ممّا يضادّه كالإيمان والكفر في المثال المذكور ، أو يناقضه كإرادة التعفيف وعدم إرادته في الآية ، فلا يلزم الانتفاء عند الانتفاء على التقديرين.

وإن شئت فاستوضح جميع ما بيّنّاه من ملاحظة ما لو قيل : « العالم حادث إن كان متغيّرا » فإنّه في حاصل المعنى يؤول إلى قولنا : « العالم حادث لأنّه متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث » مع عدم كون التغيّر علّة لوجود الحدوث كما هو واضح.

وهذا هو معنى ما قد يقال « من كون القيد الوارد بعد النهي للعلّة » فإنّ المراد به في المثال المذكور ونظائره الّتي منها الآية كونه للتعليل ، وإن لم يكن الشرط المعلّل به علّة مؤثّرة في وجود الحكم في نفس الأمر.

(١) * فيه : منع واضح ، لأنّ عدم إرادة التحصّن ليس بعين إرادة البغاء ولا مستلزما له ، لثبوت الواسطة المقتضية لانتفاء إرادة التحصّن وإرادة البغاء معا ، كما في صورة ما لو لم يكن البغاء

٢٨٦

محبوبا ولا مبغوضا لهنّ ، فيتحقّق الإكراه ـ على معنى الإجبار ـ على الفعل ، فتأمّل.

ويرد عليه أيضا : أنّ هذا الجواب يؤول بالأخرة إلى إنكار المفهوم في الآية والمقصود إثباته ، فإنّ معنى القول بالمفهوم أنّ انتفاء الشرط سبب لانتفاء الجزاء ، ولازمه عدم كون السبب للانتفاء هو عدم الموضوع أو المحمول ، بل لا بدّ من بقائهما على حالهما مع انتفاء الشرط فقط ، فلو كانت الآية ذات مفهوم كان ذلك المفهوم : إنّ عدم إرادة التعفّف سبب لعدم حرمة الإكراه ، والمفروض في الجواب أنّ عدم إمكان الإكراه في صورة عدم إرادة التعفّف سبب لعدم حرمته ، وبينهما بون بعيد.

ثمّ إنّ لموافقي السيّد في نفي المفهوم وجوه اخر غير ما نقله المصنّف ، مذكورة في بعض الكتب ولا جدوى في الإطناب بذكرها وذكر ما يرد عليها ، فلنقتصر على الوجهين المتقدّمين.

فائدتان

الفائدة الاولى

قد تقرّر من تضاعيف كلماتنا في المسألة ومقدّماتها أنّ القضيّة الشرطيّة عند مشهور الطائفة يقتضي التلازم بين المقدّم والتالي في كلّ من طرفي الوجود والعدم ، وينحلّ ذلك التلازم إلى ملازمة وجود الأوّل لوجود الثاني ، وملازمة وجود الثاني لوجود الأوّل ، وملازمة عدم الأوّل لعدم الثاني ، وملازمة عدم الثاني لعدم الأوّل.

وربّما يتوهّم المنافاة بينه وبين ما عليه جمهور أهل الميزان في القياس الاستثنائي من اختصاص إنتاجه بصورتين : استثناء نقيض التالي ينتج رفع المقدّم ، واستثناء وضع المقدّم ينتج وضع التالي ، بخلاف ما عليه الاصوليّون فإنّه يقتضي الإنتاج في كلّ من الرفع والوضع لكلّ من المقدّم والتالي ، فصور النتيجة الحاصلة من القياس الاستثنائي عندهم أربعة.

وربّما اعتذر بتغاير طريقة الفريقين في أدوات الشرط ، فإنّ أهل الميزان اصطلحوها في الدلالة على مجرّد التلازم بين الشيئين.

وفيه : ما لا يخفى أن يقال بأنّ الاختلاف الّذي يتراءى بين الفريقين اختلاف نشأ من اختلاف موضوعي بحثهما ، فإنّ الاصوليّين خصّوا محلّ بحثهم بالألفاظ باعتبار دلالاتها على المعاني إثباتا ونفيا ، ليظهر فائدته في الشرعيّات الّتي يكتفى فيها بالظنّ والظهور المستندين إلى دلالات الألفاظ ، والآخرين خصّوا موضوع بحثهم بالمعاني من حيث إيصالها إلى المجهول النظري إثباتا ونفيا ، ليحصل فائدته في العقليّات الّتي يضرّ بدلائلها

٢٨٧

مجرّد الاحتمال ، فجعلوا موضوع كلامهم في القياس الاستثنائي ما كان مقطوعا به من تلازم الطرفين في المقدّم والتالي ، وليس بمقطوع به إلاّ ملازمة وضع المقدّم لوضع التالي وملازمة رفع التالي لرفع المقدّم ، بخلاف الأوّلين ، فإنّهم بنوا في مدلول اللفظ على الملازمة بين المقدّم والتالي في كلّ من الوجود والعدم لعدم اقتصارهم في دلالات الألفاظ على المقطوع به ، بل المظنون به عندهم معمول به أيضا.

وممّا يشهد بالفرق المذكور استدلال الأوّلين فيما صاروا إليه بالتبادر والظهور ، وتعليل الآخرين فيما حكموا به بجواز عموم التالي ، فلولا نظرهم إلى المعاني والإيصال في العقليّات مع اعتبار القطع فيها لما كان تعليلهم منطبقا على المعلّل له ، لأنّ الاحتمال إنّما يقدح في الدلائل العقليّة الّتي يطلب فيها القطع بالمطلوب ، كما أنّه لولا نظر الأوّلين في الدلالات اللفظيّة بالقياس إلى الشرعيّات لما استقام استدلالهم المذكور لكون الظهور أعمّ من القطع بالمطلوب ، فلا منافاة بين كلاميهما ، ضرورة اعتبار وحدة الموضوع في التناقض ، ولم يظهر لأهل الميزان ولا غيرهم اصطلاح خاصّ في أدوات الشرط ، وإنّما يستعملونها في كشف مقاصدهم على طريقة استعمال غيرهم في المخاطبات ، وكثيرا مّا يستعملها العرف في إفادة اللزوم فقط وهو القدر المتيقّن من مفادها والجامع بين استعماليها ، فليتدبّر.

الفائدة الثانية

إذ قد عرفت اقتضاء التعليق على الشرط سببيّة المقدّم للتالي المستلزمة لانتفاء التالي بانتفاء المقدّم.

فاعلم : أنّه قد يرد في الخطاب قضايا شرطيّة متعدّدة اعتورت فيها شروط عديدة على جزاء واحد ، فيقع فيها التعارض بين منطوق كلّ ومفهوم الآخر على وجه تعارض العامّ والخاصّ نظرا إلى عموم المفهوم في كلّ ، كما لو قال : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن أعطاك فأكرمه » و « إن ألبسك فأكرمه » وهكذا ، فإنّ مفهوم الأوّل أنّه إن لم يجئك فلا يجب إكرامه ، اعطاك أو لا ، ألبسك أو لا وحينئذ فلا بدّ من العلاج الّذي يتصوّر فيه وجوه :

أحدها : الالتزام بتعدّد الجزاء على حسب تعدّد الشروط فيما لو كان قابلا للتعدّد كإكرام زيد ، حتّى يكون كلّ شرط سببا تامّا لجزائه غير مقيّد بشيء من الامور الوجوديّة والعدميّة ، ويلزم من انتفائه انتفاء الجزاء الخاصّ به وهو الإيجاب المعلّق عليه خاصّة.

وقضيّة ذلك تعدّد الايجابات في صورة اجتماع الشروط وعدم تداخل المسبّبات ،

٢٨٨

ومرجعه إلى تقييد المفاهيم كلّ بحالة انتفاء الشرط الآخر ، بناء على أنّه بإطلاقه يقتضي انتفاء الحكم بنوعه.

وثانيها : التقييد في المناطيق بجعل كلّ شرط في تأثيره مقيّدا بوجود شرط آخر ، حتّى يكون موضوع السببيّة مجموع الشروط من حيث المجموع ، على وجه يكون انتفاء كلّ شرط بانفراده موجبا لانتفاء الجزاء ، بضابطة : أنّ انتفاء الجزء يقضي بارتفاع حكم الكلّ.

وقضيّة ذلك تطرّق التقييد إلى المنطوق خاصّة دون المفهوم ، وبناء هذا الاحتمال على جعل التعليق في كلّ قضيّة لمجرّد التلازم بين طرفيه في العدم دون الوجود.

وثالثها : كون القضايا المتعدّدة مرادا بها بيان قيام السببيّة بالقدر المشترك الاعتباري بين الشروط المعبّر عنه بـ « أحدها » على وجه يكون إفراد كلّ شرط بالذكر من جهة كونه فردا من ذلك القدر المشترك محصّلا له ، فيكون الجزاء حينئذ يدور على ذلك القدر المشترك وجودا وعدما.

ومن البيّن أنّه يوجد مع وجود إحدى الخصوصيّات ويلزم أن يترتّب الجزاء عليه ، وينعدم بانعدام جميع ذلك الخصوصيّات ويلزم انتفاء الجزاء حينئذ ، فلو اتّفق وجود أكثر من خصوصيّة فإن كان ذلك على سبيل الدفعة يترتّب عليه وجود الجزاء مرّة ، لأنّ وجود أكثر من فرد واحد في آن واحد لا يوجب التعدّد في تحقّق القدر المشترك [ الواحد ](١) وواحد وإن كان على سبيل التدريج يلزم التكرار في الجزاء ، لأنّ وجود أكثر من فرد واحد تدريجا يوجب تعدّد القدر المشترك في تحقّقه الخارجي ، والجزاء تابع له فيتعدّد لمكان تعدّد سببه.

ورابعها : التزام التقييد في كلّ من المناطيق والمفاهيم ، بكون كلّ شرط مقيّدا في تأثيره بأمر عدمي وهو حالة انتفاء سائر الشروط ، فيلزم أن يكون انتفاؤه في اقتضاء انتفاء الجزاء مقيّدا بانتفاء سائر الشروط أيضا.

وخامسها : الالتزام بخلوّ القضايا عن المفهوم بالمرّة ، بدعوى : أنّ المتكلّم إنّما أراد بها إفادة العلقة بين كلّ شرط وجزائه في الوجود فقط ، ولم يتعلّق من قبله حكم بصورة انتفاء الشروط لا نفيا ولا إثباتا ، فيندرج انتفاؤها حينئذ في عنوان ما لا نصّ فيه.

وقضيّة ذلك عدم تداخل المسبّبات حال اجتماع الأسباب إن كان موضوعها قابلا للتعدّد ، بخلاف ما لم يقبل التعدّد كالقتل فلا مناص حينئذ من التداخل ، لا من جهة أنّه

__________________

(١) وفي الأصل : « وواحد » بدل « الواحد » والصواب ما أثبتناه في المتن ، نظرا إلى السياق ، فتأمّل.

٢٨٩

الأصل بل من جهة عدم قابليّة المحلّ لعدم التداخل.

وسادسها : الالتزام بكون القضايا مرادا بها نفي الترتّب بين الجزاء والشروط المذكورة دفعا لتوهّم المكلّف إيّاه ، فيكون مفاد الجميع ثبوت الحكم في جميع أحوال الموضوع وعدم اختصاصه ببعض دون بعض ، وأنّ موضوع الجزاء لازم الإيجاب في أيّ من أحواله اتّفق مع التكرار حسبما يقتضيه الإمكان ، أو على حسب تكرار الإنشاء في تلك القضايا مع قابليّة المحلّ ، أو لا معه بإرادة إيجاب الطبيعة مع عدم قابليّة المحلّ ، أو معها بناء على أنّ القضايا المتعدّدة اريد بها التأكيد دون التأسيس.

وربّما يحتمل في المقام وجوه اخر :

منها : تقييد مفهوم كلّ بمنطوق الآخر ، فيؤول المفاد إلى أنّ انتفاء المجيء سبب لانتفاء وجوب الإكرام إن لم يخلفه الإعطاء ولا الإلباس.

ووجهه : منع المنافاة بين المناطيق ، نظرا إلى أنّه في صورة الاجتماع الّذي هو محلّ توهّم المنافاة يعمل بالجميع ويحكم بلزوم التكرار ، إن لم يدلّ دليل على التداخل ولم يكن موضوع الجزاء ممّا لا يقبل التعدّد كقوله : « إن زنى فاقتله » و « إن ارتدّ فاقتله » و « إن سبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقتله ».

ومنها : عكس الأوّل وهو تقييد منطوق كلّ بمفهوم الآخر مع إبقاء المفاهيم على إطلاقها ، فيؤول المفاد : أنّ المجيء سبب لوجوب الإكرام إن لم ينتف معه الإعطاء والإلباس.

ومنها : رفع اليد عن إطلاق بعض المناطيق حتّى يكون سببيّة بعض الشروط مطلقة وسببيّة البعض مقيّدة بصورة الاجتماع مع الأوّل أو بحالة انتفاء الأوّل.

ولا خفاء في وهن هذه الوجوه :

أمّا الأوّل : فلأنّ قضيّة القول بعدم المنافاة بين المناطيق ليتفرّع عليه العمل بالجميع والحكم بلزوم التكرار ، كون كلّ شرط سببا تامّا لجزائه المعلّق عليه من غير ارتباط له بالشرط الآخر في السببيّة لا وجودا ولا عدما ، ومعه ارتفع المنافاة عمّا بين المفاهيم ، فلا حاجة حينئذ إلى تقييد ، لوضوح أنّ الّذي يوجب انتفاؤه انتفاء الشرط من الحكم المنطوقي إمّا أن يكون خصوص ما علّق على ذلك الشرط ، أو الحكم الكلّي الّذي لم يؤخذ معه شيء من الخصوصيّات ، ولا سبيل إلى ذلك إذ المفهوم إنّما ينفي الحكم الّذي أثبته المنطوق والحكم الكلّي ـ مع أنّه خلاف الفرض ـ ليس ممّا أثبته ذلك الشرط الّذي فرض انتفاؤه ،

٢٩٠

ولو فرض كونه نافيا لما أثبته ذلك الشرط فلا يحتاج إلى تقييده بانتفاء سائر الشروط ، لفرض عدم مدخليّتها في الحكم الخاصّ المعلّق على ذلك الشرط.

وأمّا الثاني : فلأنّ المقصود بالتأويل إن كان رفع التنافي بين المناطيق والمفاهيم فهو لا يتأتّى بمجرّد التصرّف في المناطيق ، مع أنّ هذا الوجه يرجع إلى ثاني الوجوه الاولة والفرق بينهما اعتباري باعتبار الانضمام والتقييد.

وأمّا الثالث : فلأنّ بعض المناطيق لو قيّد بحالة انتفاء الشرط في المنطوق الآخر لم يرتفع التنافي المتوهّم بين مفهومه والمنطوق الآخر ، ولو قيّد بصورة اجتماع شرطه مع شرط المنطوق الآخر لم يترتّب عليه الفائدة المقصودة من التعليق ، لكون الشرط في المنطوق الآخر مستقلاّ في السببيّة ، ففرض الشرط المقيّد معه كان كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

وقد يوجّه ذلك : بكون اعتبار ذلك من جهة أنّه كاشفيّ غالبيّ عن وجود المطلق لا لمدخليّته في التأثير حتّى ينافي استقلال المطلق ، وهذا كما ترى ممّا لا يكاد يتعقّل ، ضرورة أنّ القيد إمّا أن يفرض اعتباره في موضع العلم بوجود المطلق معه كان الإشكال باقيا ، وإلاّ لم يعلم تحقّق شرط اعتباره وهو الاجتماع ، ومعه لا يعقل كونه كاشفا.

وأمّا الوجوه الاولة : فأوجهها وأوفقها بظاهر اللفظ أوّلها ، حيث لم يعلم وحدة التكليف لما فيه من رجحان التأسيس على التأكيد ، وعدم الخروج عن الظاهر لا في الشرط ولا في الجزاء ولا في التركيب ، مع أنّه المنساق إلى الذهن في متفاهم العرف ، وعليه مبنى أصالة عدم التداخل في الأسباب والمسبّبات ـ على ما حقّقناه في رسالة منفردة (١) ـ استنادا إلى ظهور أدلّة الأسباب.

وملخّصه : أنّ تعدّد أسباب الوجوب مثلا بمقتضى ظهور أدلّة سببيّتها يقتضي تعدّد الوجوب ، وتعدّد الوجوب يقتضي تعدّد الواجب ، وتعدّد الواجب يقتضي تعدّد الامتثال ، وحيث ثبت التداخل كان خروجا عن أحد هذه الظهورات الثلاث ، مع أنّه لولاه لزم الخروج عن الظاهر من غير داع وتطرّق التقييد إلى المطلق من غير شاهد ، ومرجعه إلى عدم التعارض بعد البناء على تعدّد الجزاء على حسب تعدّد الشروط كما هو قضيّة ظاهر التعليق في القضايا ، فإنّ المفهوم رفع للحكم المنطوقي وهو عبارة عن الحكم المنوط

__________________

(١) وهي الرسالة المسمّاة بـ « رسالة في عدم تداخل الأسباب والمسبّبات » وحتّى اليوم مخطوطة ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا لنشره وطبعه ، إن شاء الله تعالى.

٢٩١

وجوده بوجود الشرط ، ورفع ذلك الحكم المنوط بوجود الشرط عند انتفاء الشرط لا ينافي ثبوت الحكم المنوط بوجود شرط آخر عند وجود ذلك الشرط ، فقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » يدلّ بالمطابقة على إناطة وجود وجوب إكرام زيد بوجود مجيئه وبالالتزام على نفي ذلك الحكم المنوط وجوده بوجود المجيء على تقدير انتفاء المجيء ، وهذا لا ينافي إثبات وجوبه منوطا بوجود الإعطاء أو الإلباس.

لا يقال : هذا لا يلائم ما تقدّم عند الكلام في ثمرة النزاع في المسألة ، من أنّه على القول بالمفهوم لو وجد في خطاب آخر ما يدلّ على ثبوت الحكم للمسكوت عنه حصل التعارض بينه وبين المفهوم فلا بدّ من الترجيح.

وقضيّة ذلك وقوع التعارض بين مفهوم كلّ شرطيّة ومنطوق الآخر.

لأنّا نقول : أنّ ما تقدّم ثمّة لا ينافي ما ذكرناه هنا ، فإنّ إثبات الحكم للمسكوت عنه غير إثباته لمقارنه من الشرط الموجود المقارن لعدم الشرط المعدوم وهو المسكوت عنه الّذي يعبّر عنه بغير المذكور ، فمفهوم قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » نفي وجوب إكرامه على تقدير عدم مجيئه ، وهذا المعنى ثابت بطريق القضيّة المعقولة ، ولو اوّلت هذه القضيّة بالقضيّة الملفوظة كانت عبارة عن قوله : « إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه » وحينئذ لو ورد في خطاب آخر قوله : « إن لم يجئك زيد وجب إكرامه » كان معارضا له ، بخلاف ما لو ورد قوله : « إن أعطاك زيد وجب إكرامه » فإنّه لا يعارض قوله : « إن لم يجئك زيد لا يجب إكرامه ».

والسرّ في الفرق : أنّ وحدة الشرط الّتي هي من الوحدات الثمانية المعتبرة في التناقض متحقّقه فيه مع قوله : « إن لم يجئك وجب إكرامه » لا فيه مع قوله : « إن أعطاك وجب إكرامه ».

لا يقال : قد تقدّم سابقا الإشارة إلى أنّ المفهوم عبارة عن نفي سنخ الحكم على تقدير انتفاء الشرط لا خصوص شخصه الّذي هو الحكم المنطوقي ، وقضيّة نفيه انتفاء جميع أفراده ، وهذا ينافي ثبوت ما أثبته الشرط الآخر على تقدير وجوده لأنّه من جملة أفراده.

لأنّ المراد من سنخ الحكم ما يلاحظ سنخيّته بالقياس إلى حالات انتفاء الشرط المشخّصة له ولو باعتبار الزمان والمكان ، فإنّ « عدم مجيء زيد » في أيّ زمان تحقّق وفي كلّ مكان فرض سبب لانتفاء وجوب إكرامه المنوط بمجيئه وهكذا بالقياس إلى سائر أحواله المشخّصة له ، وهذا هو المراد من سنخ الحكم المنتفي عن المسكوت عنه ، لا بالقياس إلى مقارناته الغير المشخّصة له ، والشرط الآخر الموجود حين انتفاء الشرط المعدوم مقارن له

٢٩٢

لا أنّه مشخّص له ، وثبوت الفرد الآخر من الحكم منوط بوجود المقارن لا بما هو من أحوال انتفاء الشرط المعدوم ، فليس من الأفراد المعتبر انتفاؤها بفرض انتفاء سنخ الحكم.

وأمّا ما علم (١) باعتبار الخارج وحدة التكليف في واقعة « إكرام زيد » الّذي توارد فيه القضايا المذكورة فلا مناص من المصير إلى ثالث الوجوه ، لكونه ممّا عداه وفيه الخروج عن بعض مراتب ظهور القضيّة الشرطيّة بل أداة الشرط ، وهو ظهورها في كون الشرط سببا على التعيين لا على البدل.

وقضيّة الجمع بين مفاهيم القضايا ومناطيقها جعل كلّ شرط سببا على البدل ، وهذا ضرب من التجوّز في الشرطيّة بل الأداة ، نظرا إلى أنّها وضع للنسبة بين الشرط والجزاء من حيث ترتّب الجزاء على الشرط بعينه في الوجود ، فاستعمالها في النسبة بينهما من حيث ترتّب الجزاء في الوجود على أحد امور منها : ذلك الشرط استعمال لها في خلاف وضعها ، فليتدبّر في فروع المسألة فإنّها كثيرة جدّا.

ومن جملة ذلك قوله : « إن خفي الجدران فقصّر » و « إن خفي الأذان فقصّر » فنقول : إنّ شرط وجوب القصر أحد الأمرين من خفاء الجدران وخفاء الأذان.

الفائدة الثالثة (٢)

اختلفوا في أنّ تعدّد الأسباب هل يقتضي تعدّد المسبّبات مطلقا أو لا يقتضيه مطلقا أو يقتضيه إذا كان السببان متخالفين كالتكلّم في الصلاة والشكّ بين الأربع والخمس فيها لسجود السهو ، والجنابة ومسّ الميّت لوجوب الاغتسال ، دون ما إذا كانا متجانسين كالتكلّم في الصلاة مرّة بعد اخرى على أقوال.

أوّلها للمشهور المنصور وعليه بعض الأعاظم وغيره.

فقالوا : بأنّ الأصل في الأسباب عدم التداخل إلاّ ما أثبته الدليل وهو الأقوم.

وثانيها لجماعة منهم المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس والفاضل النراقي في عوائده وبعض الأفاضل فعبّروا عنه بأصالة التداخل في الأسباب إلاّ ما أخرجه الدليل.

وثالثها محكيّ عن ابن إدريس على ما في المحكيّ عن العلاّمة من أنّه حكاه عنه في بحث تكرار ما يوجب سجدة السهو ، ونسب إلى العلاّمة والمحقّق أيضا في الشرائع

__________________

(١) عطف على قوله سابقا : « حيث لم يعلم وحدة التكليف ... ».

(٢) أخذناها عن التحرير الأوّل من التعليقة ، وأدرجناها هنا تتميما للمرام ، والله الموفّق المسدّد.

٢٩٣

والمختلف في مسألة تكرار وطء الحائض.

ومن هنا يتبيّن أنّ التعدّد في عنوان كلامهم أعمّ ممّا ينشأ عن فعل المكلّف كما لو أتى بفردين من نوع واحد كما عرفت ، أو من جعل الشارع كما لو كانت السببيّة بين نوعين مختلفين فصاعدا.

كما تبيّن أنّ نزاعهم في إحراز الأصل الأوّلي الّذي يجوز التخلّف عنه في بعض الموارد بدليل خارج.

وأظهر محامل الأصل هنا إنّما هو القاعدة ، لكون النظر في استفادتها نفيا وإثباتا عن أدلّة الأسباب وغيرها من العقل والنقل ، فما في المحكي عن المحقّق الخوانساري من ترديد الأصل هنا بين الظاهر والاستصحاب والغلبة ليس بشيء. والداعي إلى التعرّض لذكر المسألة في ذيل بحث مفهوم الشرط كونه أنسب وألصق من جهة ما يظهر منهم في مطاوي كلماتهم هنا دليلا وتمثيلا من كون موضوع المسألة أعمّ ممّا ثبتت سببيّته بالقضيّة الشرطيّة الّتي أثبتنا كونها لإفادة السببيّة أو بغيرها ممّا وقع فيه التصريح بلفظ « السبب » أو غيره ممّا يؤدّي مؤدّاه ، بل وأنت وإذا لاحظت الشرعيّات حقّ الملاحظة لوجدت أنّ ما ثبت السببيّة له بنحو التصريح ممّا يعزّ وقوعه في الخطابات الشرعيّة ، بل الغالب في الأسباب كون سببيّتها ثابتة بالقضايا الشرطيّة.

ومن الأعاظم من عنونها في مباحث الأوامر فقال في عنوانها : « اختلفوا فيما إذا تعدّد الأمر بتعدّد الأسباب إيجابا أو ندبا أو مختلفا في أنّه هل تقتضي تعدّد المأمور به أو لا؟ »

وفي كون المسألة اصوليّة أو فقهيّة أو من المبادئ الفقهيّة كأصالة الصحّة في فعل المسلم ونحوها وجوه ، من رجوع البحث إلى إثبات الدلالة لأدلّة الأسباب نفيا وإثباتا وهو بحث عن حال الدليل ، ومن رجوعه إلى وجوب التعدّد في المسبّب والتكرار في المأمور به وهو حكم فرعي في فعل المكلّف ، ومن إمكان ارجاعه إلى الملازمة بين تعدّد السبب وتعدّد المسبّب نفيا وإثباتا.

واحتجاج المدّعي لأصالة عدم التداخل بالتبادر ونحوه ممّا يرشد إلى الأوّل ، كما أنّ استنادهم إلى ما يأتي من البرهان العقلي ممّا يكشف عن الأخير.

نعم استدلال القائلين بأصالة التداخل بالاصول الشرعيّة من أصل البراءة وأصالة العدم ونحوها ممّا يلائم الأوسط.

٢٩٤

ولو قيل : بأنّ الكلام إنّما هو في الملازمة نفيا واثباتا لا غير ، وما تجده من اختلاف أدلّتهم يكشف عن اختلافهم في دعوى تلك الملازمة ، فإنّ منهم من يدّعيها لفظيّة حاصلة عن أدلّة الأسباب.

ومنهم من يدّعيها عقليّة ناشئة عمّا يأتي من البرهان العقلي.

ومنهم من يدّعيها شرعيّة كما يفصح عنه استدلال بعضهم باتّفاق الفقهاء على عدم التداخل ، وباستقراء الشرعيّات في أبواب العبادات والمعاملات القاضي بأنّ المدار فيها من الطهارات إلى الديات على تعدّد المسبّبات إذا تعدّد أسبابها ، لكان جيّدا وعليه كان أليق بمباحث المبادئ ، وإنّما تعرّض لذكره أهل الاصول لما فيه من مناسبة مّا بمباحث فنّهم من جهة ما طرئته من الجهة الكليّة المطّردة في مقامات كثيرة غير محصورة.

وبالجملة فهو في حدّ ذاته مسألة مهمّة يتبعها فروع متكثّرة في جميع أبواب الفقه من الطهارات إلى الديات كما لا يخفى على المتتبّع ، ومن أجل ذلك جاء الالتزام بالاهتمام فيها بصحيح النظر في أدلّتها المقامة عن الطرفين. وتمام الغور في أطرافها واستفراغ الوسع في حقيقة حالها.

فقبل الخوض في تقرير الأدلّة على المختار وجرح الأدلّة الناهضة فيها على النفي والاثبات وتعديلها ينبغي الإشارة إلى امور لها مزيد دخل في زيادة البصيرة على شقوق المسألة وأطرافها.

الأمر الأوّل : لا يذهب عليك أنّ تداخل الأسباب لا يراد به دخول بعض في البعض

بحسب الوجود الخارجي حتّى صار الجميع في وجودها في الخارج أمرا واحدا فإنّه غير معقول ، بل عدم جوازه عقلا ممّا لا يقبل الخلاف ، بل إنّما يراد به تداخلها في السببيّة بمعنى تواردها على مسبّب واحد واتّحاد ما يترتّب عليها من الأثر.

وبعبارة اخرى : اجتماعها على التأثير في أثر واحد.

وقد يقال : كان المناسب في المقام التعبير بتداخل المسبّبات ، لأنّ غرضهم في عنوان المسألة أنّه هل يكفي وضوء واحد فيما لو قال : « إذا نمت فتوضّأ » و « إذا بلت فتوضّأ » فنام وبال ، أو نام مرّة بعد اخرى ، وقد يعتذر للعدول عن ذلك إلى العنوان المشهور بكونه للتنبيه على وجه الحكم ، فإنّ عدم تداخل الأسباب هو السبب في عدم تداخل المسبّبات فصار التعبير به أنفع وأبلغ من جهة تضمّنه لعنوان المسألة مع التعرّض لبيان دليله إجمالا.

٢٩٥

أقول : لو قال الشارع : « إذا بلت فتوضّأ » و « إذا نمت فتوضّأ » فيلاحظ الاتّحاد والتعدّد بالقياس إليه في مراتب :

أحدها : الأثر المترتّب على السببين وهو الوجوب.

وثانيها : متعلّق ذلك الأثر وهو الواجب.

وثالثها : الغرض المطلوب من ايراث ذلك الأثر وهو الامتثال والخروج عن العهدة.

فإذا اجتمع على المكلّف هذان السببان يقع التشكيك أوّلا في أنّهما هل يقتضيان وجوبا واحدا أو وجوبين؟

وثانيا في أنّه على تقدير اقتضائهما وجوبين فهل يقتضي تعدّد الوجوب تعدّد الواجب أولا؟

وثالثا في أنّه على تقدير اقتضاء تعدّد الوجوب لتعدّد الواجب فهل يقتضي تعدّد الواجب تعدّد الامتثال وإيجاد فعلين في الخارج أو لا بل يكتفى بامتثال واحد وإيجاد فعل واحد؟

وظاهر أنّ دعوى القائلين بأصالة عدم التداخل لا تنطبق على مدّعاهم إلاّ على تقدير التزامهم بالتعدّد في جميع تلك المراتب.

وأمّا القائلون بأصالة التداخل فيظهر منهم أنّ لهم كلاما في كلّ واحدة منها ، فتراهم ينكرون التعدّد تارة في المرتبة الاولى.

وممّا يشهد بذلك استدلالهم على ما صاروا إليه بأنّ الأصل النفي دون الاثبات ، والاتّحاد دون التعدّد ، وأنّ الأسباب الشرعيّة أمارات ومعرّفات فإذا اجتمعت كان مقتضى الكلّ واحدا.

وتارة اخرى في المرتبة الثانية كما يرشد إليه ما سيأتي عن النراقي من الاستدلال على مذهبه بما يرجع محصّله إلى أنّ تعدد الأسباب الشرعيّة لو اقتضى تعدّد مسبّباتها لاقتضى تعلّق وجوبين بتصدّق الدينار وبالوضوء ، والكلام إنّما هو في وجوب تعدّد التصدّق والوضوء لا تعدّد وجوبه ولا تلازم بينهما ، لإمكان تعلّق فردين من حكم بفعل واحد من جهتين متغايرتين كوطء الأجنبيّة الحائضة وشرب الخمر أو الزنا في نهار رمضان ، ووجوب قتل زيد المرتدّ القاتل لغيره عمدا ، إلى أن قال : « بل الأصل هو التداخل ، أي عدم لزوم تعدّد الفعل الصادر من المكلّف بتعدّد أسباب الحكم المتعلّق به وإن قلنا باقتضاء الأسباب المتعدّدة تعدّد الحكم ، لأنّ تعدّده لا يوجب لزوم تعدّد الفعل.

والحاصل أنّ الكلام في وجوب تعدّد الفعل وهو غير تعدّد المسبّب الّذي هو الحكم

٢٩٦

المتعلّق به ... » إلى آخره (١).

وتارة ثالثة في المرتبة الثالثة كما نسب ذلك إلى بعضهم من منع اقتضاء تعدّد التكليف والمكلّف به تعدّد الأداء والامتثال ، بل يجوز الاجتزاء بتأدية واحدة وامتثال واحد ، كما في تداخل الأغسال ، فإذا كان هذا أمرا جائزا ممكنا فالأصل عدم لزوم الإتيان بأكثر من مصداق واحد.

وعن المحقّق الخوانساري أنّه زاد في بحث الأغسال أنّ الظاهر اقتضاء كلّ منها مسمّى الغسل وهو يتحقّق في ضمن فرد واحد ، وظاهره دعوى ظهور الأدلّة في كفاية الفرد الواحد.

وأصرح منه ما يأتي عنه أيضا في مسألة أنّ التداخل حيثما ثبت جوازه هل هو عزيمة أو رخصة؟ من قوله : « إنّ ما ذكرنا من تحقّق الامتثال يقتضي كونه عزيمة ، لأنّ بعد الامتثال لا معنى للاتيان به ثانيا كما هو الظاهر ، سواء كان الأمر للوحدة أو للطبيعة من غير وحدة ولا تكرار ... » إلى آخره.

فكأنّ التعبير بتداخل الأسباب من جهة تعميم العنوان لكلّ من المراتب الثلاث بنحو من الاضمار ، أي تداخلها في تأثيراتها أو في مؤثّراتها أو في لازم مؤثّراتها.

ثمّ إنّ أصحاب القول بالتداخل إن أرادوا بالعنوان ما يرجع إلى المرتبتين الأخيرتين لا محيص من أن يراد به توارد التكليفين على أمر [ واحد ] أو كفاية امتثال واحد عن امتثالات واحدة ، ولو أرادوا به ما يرجع إلى المرتبة الاولى فقد ذكروا أنّ المراد به تواردها على مسبّب واحد.

وربّما يشكل تصوير ذلك من جهة اجمال كلامهم في هذا المقام ، إذ لا يدرى أنّ مرادهم به تواردها على مسبّب واحد بعنوان كون كلّ واحد بالقياس إليه سببا تامّا وعلّة كاملة حتّى يكون المسبّب بوحدته الحقيقيّة مسبّبا عن كلّ واحد على البدل والإعتوار.

أو تواردها على مسبّب واحد على نحو يكون كلّ واحد جزءا للسبب وهو المجموع منها من حيث المجموع ، حتّى يكون المسبّب مستندا إلى الماهيّة الاجتماعيّة على نحو الشركة في التأثير.

أو تواردها على مسبّب واحد على وجه يكون كلّ واحد مؤثّرا في أثر يرجع إلى المسبّب ، بدعوى : أنّ الوجوب لمّا كان ممّا يتضاعف ويتأكّد ويقبل الشدّة وعدمها فالأثر

__________________

(١) عوائد الأيّام : ١٠٥.

٢٩٧

الحاصل عن كلّ سبب إنّما هو ما يوجب تأكّد الوجوب ، حتّى يكون المسبّب عن الجميع الوجوب المتأكّد. أو تواردها على مسبّب واحد على نحو يستند الأثر إلى بعض منها لا على التعيين وكان الباقي فارغا عن التأثير مجامعا مع الأوّل من باب المقارنات الاتفاقيّة.

فإن حاولوا الأوّل يرد عليهم : أنّه مقالة بما لا يعقل ، بل بما يكذّبه ضرورة الوجدان وبداهة العقل ، فإنّ الموجود كيف يوجد ثانيا والحاصل كيف يتحصّل في آن واحد بحصولات عديدة؟

وإن حاولوا الثاني يردّهم : أنّكم تتسالمون معنا إنّ كلّ واحد من تلك الأسباب إذا وجد منفردا كان سببا مستقلاّ فأيّ شيء أخرجه عن الاستقلال حال الاجتماع؟

فإن قلتم : بأنّ الداعي إليه منافاة مقتضاها حال الاجتماع وعدم امكان كونها أسبابا تامّة في مسبّب واحد.

يرد عليكم : أنّه أيّ منافاة وأيّ امتناع في فرض كون كلّ سببا تامّا في مسبّب غير مسبّب الآخر ، ولزوم مخالفة الأصل على ما زعمتموها لا يصلح داعيا إلى هذا الأمر الشنيع المخالف للظاهر والاعتبار ، كما أنّ لزوم الخروج عن مقتضى الأصل لا يزاحم لزوم الخروج عن مقتضى ظاهر الأدلّة.

وإن حاولوا الثالث يتوجّه إليهم : أنّ الأدلّة إذا اقتضت كون كلّ سبب سببا لأصل الوجوب فأيّ شيء دعاكم إلى الخروج عن مقتضاها بجعل ما عدا السبب الواحد سببا لتأكّد الوجوب لا أصله؟

فإن تشبّثتم بقضيّة المنافاة أو الامتناع يردّكم ما تقدّم ، فإنّ الخروج عن الظاهر إنّما يتّجه مع تعذّر الظاهر وقد منعنا تعذّره بالتزام تعدّد المسبّبات على حسب تعدّدها.

وإن حاولوا الرابع يلزمهم الخروج عن مقتضى الأدلّة بالقياس إلى ما يفرضون وجوده من باب المقارنات ، فإنّ ذلك حال انفراده بالوجود كان سببا تامّا باتّفاق منّا ومنهم ، فأيّ شيء سلخ عنه ذلك العنوان وألبسه ثوب اللغويّة والعبثيّة؟

فإن قلتم : بأنّه لا محلّ له بعد ما أثّر غيره في المسبّب.

قلنا : إن أردتم بالمحلّ نفس ذلك المسبّب فنحن نفرض محلّه مسبّبا آخر قبالا لذلك المسبّب ، وإن أردتم به متعلّق ذلك المسبّب فإنّما يتّجه ذلك لو فرض المتعلّق واحدا شخصيّا وهو ليس بلازم ، لجواز كون المتعلّق الواحد بالنوع القابل للتعدّد والتكثّر باعتبار تعدّد

٢٩٨

أفراده وتكثّرها ، فيؤثّر الأسباب المجتمعة في وجوب إيجاده في ضمن أفراده المتعدّدة على حسب تعدّد تلك الأسباب ، ولازمه التكرار ولا ضير فيه بعد ما اقتضاه ظاهر الأدلّة.

فإن قلتم : هذا أخذ بظاهر وطرح لظاهر آخر ولا مرجّح له ، نظرا إلى ظهور الأمر في الماهيّة لا بقيد الوحدة ولا بقيد التكرار.

قلنا أوّلا : أنّ معنى كون الأمر لطلب الماهيّة أنّه لا يدلّ على مرّة ولا تكرار لا أنّه ظاهر في نفي المرّة والتكرار ، وإلاّ لحصل التعارض بينه وبين ما دلّ على التكرار في مواضع وجوبه ولا نظنّ أحدا يقول به ، فلا ينافي ظهوره في طلب الماهيّة لو اقتضت أدلّة الأسباب لزوم التكرار.

وثانيا : أنّ ذلك إنّما يتّجه لو كان الأمر المفروض مع الأسباب المتعدّدة واحدا والمفروض خلافه ، لاختصاص كلّ سبب بأمر فكلّ أمر مع سببه لا يقتضي إلاّ طلب الماهيّة ، والتكرار إنّما هو من لوازم اجتماع تلك الأوامر باجتماع أسبابها لاقتضاء كلّ طلبا ومطلوبا وامتثالا ، لا أنّه مراد من أمر واحد حتّى يقال : انّه خلاف الظاهر.

فحينئذ نقول : انّ كلّ أمر إذا كان له ظهور فيما هو ظاهر فيه فالبناء على التداخل بالمعنى المفروض يوجب الغاء تلك الظهورات زيادة على ما تقدّم ، ولا يقابلها ظهور آخر أوجب ذلك ودعى إليه.

الأمر الثاني : لا خفاء في أنّ البحث في مسألة التداخل ليس مبنيّا على البحث في حجّية مفهوم الشرط حتّى يكون القول بعدم التداخل ملازما للقول بالحجّية والقول بالتداخل ملزوما للقول بعدم الحجّية.

أمّا أوّلا : فلعدم انحصار السبب هنا فيما ثبت سببيّته بالقضيّة الشرطيّة كما عرفت.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الكلام في حجّية المفهوم وعدمها كلام في ثبوت التلازم بين الشرط والجزاء في العدم بعد إحراز التلازم بينهما في الوجود ، فالقائل بالحجّية مدع للتلازم بينهما في الوجود والعدم ، والقائل بالعدم يخصّه بجانب الوجود فقط.

وقد سبق في مقدّمات مسألة الحجّية أنّ الفريقين بعد اتّفاقهم على أنّ التعليق على الشرط ممّا يفيد العلقة السببيّة بين الشرط والجزاء اختلفوا في أنّ هذه السببيّة هل هي سببيّة مطلقة على معنى أن يكون الشرط بحيث يلزم من وجوده وجود الجزاء ومن عدمه عدمه ، أو هي سببيّة في الجملة على معنى كونه بحيث يلزم من وجوده الوجود. وأمّا لزوم العدم من عدمه فالتعليق ساكت عنه ولا يفيده؟ بخلاف كلامهم في هذا المقام فإنّه لا يرجع

٢٩٩

إلى مفهوم القضيّة بل هو راجع إلى منطوقها الّذي يسلّمه الفريقان معا.

ومرجع ذلك الكلام حينئذ إلى أنّ الشروط المتعدّدة بعد ثبوت سببيّتها للجزاء في جانب الوجود فهل يوجب تعدّدها تعدّد مسبّباتها أو لا يوجبه ، بل المسبّب متّحد وإن تعدّدت الأسباب؟

فانقدح بذلك أنّ النزاع في هذا المقام يرجع إلى كبرى القياس الّتي موضوعها الأسباب المتعدّدة بعد فرض السببيّة والعلّيّة فيها ، لا إلى صغراه وهي أنّ القضيّة الشرطيّة هل تفيد السببيّة أو لا؟

فما عن بعض الأفاضل في منع القول بعدم التداخل استنادا إلى امتناع توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد من منع كون الأسباب الشرعيّة محلاّ حقيقيّة ، بدعوى أنّ القضايا الشرطيّة لا تفيد سوى التلازم في الوجود من غير دلالة على السببيّة ، والقدر المتيقّن منه المعرفيّة ، ليس على ما ينبغي.

كما أنّ ما عن أصحاب القول بالتداخل من الإيراد على ما يأتي من دليل الآخرين على عدم التداخل بأنّ مناط هذا الاستدلال إطلاق الشرط واستقلاله في التأثير ليلزم منه تعدّد الأثر عند تعدّد الشرط حيث إنّ المفروض استقلاله فيه ، وقد مرّ منّا ما انهدم به بنيان التمسّك بالإطلاق عند ذكر الأدلّة لحجّيّة مفهوم الشرط ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

فإنّ الكلام هنا إنّما هو في استقلال الشرط في التأثير في المشروط في جانب الوجود فقط. بمعنى ترتّب ثبوت الجزاء على ثبوته ، والممنوع فيما سلف هو استقلاله على أن يكون علّة تامّة منحصرة تلازم وجودها وجود المشروط وعدمها عدمه ولا منافاة بينهما ، إذ نفي العلّيّة التامّة أو نفي الانحصار لا يستلزم نفي التأثير مطلقا ، على أنّكم سالمتم معنا على ثبوت التأثير والترتّب في الجملة وهذا كاف في ثبوت ما نحن بصدده من لزوم تعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب.

الأمر الثالث : عن فخر الإسلام أنّه بنى القولين في المسألة على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي مؤثّرات أو معرّفات؟وخصّهما في العوائد بكون الأسباب الشرعيّة معرّفات ، حتّى أنّه يظهر منه عدم استقامة شيء من القولين على القول بكونها مؤثّرات.

وإن شئت محصّل ما حقّقه في المقام فلا حظ قوله : « ثمّ الأسباب على قسمين :

أحدهما : الأسباب الواقعيّة والعلل النفس الأمريّة الّتي هي المؤثّرات الحقيقيّة في

٣٠٠