تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

المصلحة إلى المكلّف نفسه ، بمعنى كونها ممّا يضاف إليه دون غيره من مقتضيات الاختصاص ، لأنّ معنى الاختصاص كون ما يضاف من الفعل إلى المكلّف ممّا لا يتمشّى بعنوان كونه مطلوبا للآمر وراجحا في نظره إلاّ ممّن توجّه إليه طلبه وأنّ لمباشرته بنفسه مدخليّة في حصول المصلحة الباعثة على حدوث ذلك الطلب ، وأنّها ممّا يعود إليه على جهة الاختصاص ، وقضيّة ذلك كون الواجب عينيّا في محلّ الفرض فلا وقف ولا حاجة إلى إعمال الأصلين.

ولكن يدفعه : أنّ غاية ما يلزم من اقتضاء الاضافة للاختصاص ـ بعد فرض تسليمه في غير باب الألفاظ أيضا ـ أنّ المصلحة الملحوظة في نظر الآمر لا تتأتّى في الخارج إلاّ بمباشرة المكلّف لأداء الفعل الّذي كلّف به ، وأمّا عودها إليه على الوجه المذكور فلا يظهر من الأمر إذا كان لفظيّا ولا تقتضيه الاضافة الظاهرة في الاختصاص أيضا حتّى في مورد اللفظي ، كيف وأنّ الغالب في العرفيّات عود المصلحة إلى الآمر دون المكلّف كما لا يخفى ، ولا غلبة للعيني في الشرعيّات لتكون منشأ لظهور عودها إلى المكلّف نفسه ، بل قضيّة غلبة الكفائي بحسب الوجود عمّا بين الواجبات الشرعيّة ـ كما يشهد بها التتبّع وملاحظة كثرة الحرف والصنائع الّتي وجبت كلّ واحدة منها كفاية ـ عدم عودها إلى المكلّف على جهة الاختصاص إن اعتبرنا تلك الغلبة وإلاّ فوجه حصر المناص في الوقف اجتهادا ظاهر حتّى في مورد الأمر اللفظي لو غضضنا البصر عمّا قرّرناه سابقا من الأصل اللفظي فكيف بالأمر اللبّي الّذي هو بمعزل عن ذلك.

وعلى أيّ حال كان فإذا ثبت وجوب شيء في الشريعة وقام من الخارج ما يقضي بكونه فرض كفاية لا إشكال في وجوب المصير إليه وتعيّن الخروج عن الأصل الّذي قرّرناه ، وإنّما الإشكال في كيفيّة هذا الوجوب وحقيقة محلّه من حيث المكلّف ، فإنّه دائر بين ما عدا الأوّل من الوجوه المتقدّمة من الخمس الباقية ولأجل ذلك اختلف الاصوليّون على أقوال :

منها : أنّه يتعلّق بالجميع ويسقط بفعل البعض ، وهو الّذي عزاه بعض الفضلاء إلى المحقّقين ولم ينقل من أصحابنا خلاف ذلك ، بل وفي كلام بعض الأفاضل أنّه المحكيّ عن أصحابنا ، وفي مناهج النراقي ذهب إليه أكثر الإماميّة.

وعن بعضهم أنّه المشهور وعليه أصحابنا وأكثر العامّة ، وعليه الحاجبي في المختصر

٨١

وتبعه شارحه في بيانه ، وصرّح به العلاّمة في التهذيب وتبعه السيّد في المنية. واختاره بعض الأعلام وبعض الأعاظم وبعض الفضلاء وفاقا لأخيه مع تغاير مّا بينه وبين ما ذهبا إليه ، من جهة أنّهما جعلا الوجوب على كلّ واحد على البدل بخلافه على ما يظهر منهم عنوانا ودليلا من حيث كونه وجوبا على كلّ واحد على التعيين ، حتّى أنّ الثاني نزّله إلى ما اختاره على ما في صريح كلامه ، وهو الّذي يقتضيه ظاهر الأوّل حيث إنّه صار إلى مختاره بزعم الموافقة للمحقّقين فيما عزاه اليهم.

ومنها : أنّه يتعلّق بالبعض ممّن قام به الكفاية ، عزاه في المنية إلى قوم وعليه البيضاوي في المنهاج ، ويظهر من شرحه المعراج حيث قرّر مذهب المصنّف ولم ينكر عليه.

وفي كلام بعض الأفاضل : « أنّه محكيّ عن جماعة من العامّة كالرازي والبيضاوي ، وعزى إلى الشافعيّة ولم ينسب ذلك إلى الخاصّة بل أكثر العامّة على خلافه ».

ويظهر عن جمال المحقّقين ـ فيما حكي عنه من الإيراد على الاحتجاج الآتي للقول الأوّل كما يأتي بيانه ـ الميل إليه.

ومنها : أنّه يتعلّق بالمجموع من حيث هو لا بكلّ واحد ولا بالبعض. فمع الترك يلزم تأثيم المجموع بالذات وتأثيم كلّ واحد بالعرض ، ومع إتيان البعض به يصدق حصول الفعل من المجموع في الجملة ويسقط الوجوب ، وهذا القول ممّا لم نجد قائلا به بالخصوص غير أنّ نقله في كلام القوم بالغ حدّ التواتر.

وفي كلام بعض الأفاضل عزى إلى قطب الدين الرازي.

ومنها : ما اختاره الفاضل النراقي بعد ما نقله عن بعض الإماميّة من أنّ الكفائي واجب مطلق على البعض الغير المعيّن ومشروط على الكلّ.

وحكاه بعض الأفاضل عن بعض المتأخّرين مستظهرا عن كلامه تفسير البعض الغير المعيّن بالبعض اللابشرط الصادق على كلّ بعض من جهة انطباقه على البعض اللابشرط.

والظاهر أنّ مراد هذا القائل من دعوى الوجوب المشروط بالقياس إلى الكلّ كونه مشروطا بعدم إقدام من يكون من المعيّنين مصداقا للبعض اللابشرط الّذي يكون الوجوب بالنسبة إليه مطلقا.

ويؤيّده ما حكي عن بعض آخر من المتأخّرين أيضا من أنّ كلّ واجب كفائي يستلزم واجبا عينيّا مشروطا يدلّ عليه الأمر بالكفائي التزاما فهو واجب على كلّ واحد بشرط

٨٢

عدم قيام غيره بأدائه وهو مع ذلك واجب مطلق على بعض غير معيّن ، فإذا لم يقم أحد منهم عوقب الكلّ بالترك لا لأجل تركهم الكفائي بل لتركهم الواجب المشروط مع تحقّق الشرط ، ومع قيام البعض لا يعاقب الباقون لعدم تحقّق شرط الوجوب.

وإنّما جعلناه مؤيّدا لإمكان الفرق بينهما بكون الأوّل ناظرا إلى الجمع بين القولين بزعم أنّ الكفائي في كلّ خطاب يرد على هذين الوجهين ويفيد الخطاب مفاد القولين معا لا هذا وحده ولا ذاك وحده غير أنّه بالنسبة إلى القول الأوّل مشروط وبالنظر إلى الثاني مطلق ، والكلّ من قسم الكفائي المغاير للعيني لمكان الفرق بينهما بكون العيني ما يتعلّق بالكلّ أو بالبعض المعيّن مطلقا أو مشروطا ولا يسقط بفعل البعض فيما إذا تعلّق بالكلّ والكفائي ما يتعلّق بالكلّ مشروطا وبالبعض الغير المعيّن مطلقا ، والأوّل يسقط بحصول امتثال الثاني لاستلزام عدم اتّفاق تحقّق شرط الوجوب ، بخلاف الثاني المحتمل لكونه مصيرا إلى كون مفاد كلّ خطاب كفائي وجوبا كفائيّا مطلقا متعلّقا بالبعض الغير المعيّن وهو مدلوله المطابقي ووجوبا عينيّا مشروطا متعلّقا بالكلّ وهو مدلول له بالالتزام.

ولا ريب أنّه مبنيّ على إناطة الفرق بين العيني والكفائي بمجرّد كون الأوّل متعلّقا بالكلّ أو بالبعض المعيّن مطلقا كان أو مشروطا ، وكون الثاني متعلّقا بالبعض الغير المعيّن فيكون راجعا إلى اختيار القول الثاني في الجملة لابتنائه على توهّم هذا الفرق لا على ما عليه المشهور من أنّ الفرق بينهما في السقوط بالبعض الغير المعيّن وعدمه.

وممّا يشهد به ما في معراج الوصول في شرح منهاج الاصول من أنّه عند بيان مذهب البيضاوي الّذي هو من أصحاب القول الثاني جعل الفرق بين النوعين منوطا بما ذكر لا بما عليه المشهور ، فقال : « انّ الوجوب إمّا أن يكون متناولا لجميع المكلّفين كالصوم والصلاة أو متناولا للبعض المعيّن كالتهجّد ويسمّى فرض العين ، أو متناولا لبعض غير معيّن كالجهاد ويسمّى فرض كفاية » إلى آخره.

ثمّ إنّك بالتأمّل في مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم في تحرير الأقوال المذكورة وتقرير أدلّتها مع ما ذكروه من النقوض والابرامات والتنظيرات تعرف أنّ الاختلاف بينها معنويّ وليس النزاع لفظيّا بزعم رجوع تلك الأقوال إلى معنى واحد ، وهو كون الوجوب على الجميع على وجه يقتضي أداء الواجب بفعل البعض الّذي يعبّر عنه بوجوبه على الكلّ على سبيل البدليّة الموجب لكون سقوطه عن الباقين من جهة أداء الواجب لا لعروض مسقط له.

٨٣

فما في كلام بعض الأفاضل من احتمال كون مرجع الأقوال إلى شيء واحد فيعود الخلاف بينها لفظيّا ليس على ما ينبغي ، كيف وأنّ استدلال القائلين بتعلّق الوجوب بالبعض على إبطال مذهب المشهور بأنّ الواجب الكفائي يسقط بفعل البعض فلو كان واجبا على الجميع لما كان كذلك ، لأنّ ما وجب على المكلّف يستبعد أن يسقط عنه بفعل غيره ، مع ما أجاب به عنه ابن الحاجب وغيره من أنّ ما ذكرتم استبعاد وهو لا يقتضي الامتناع ممّا ينادي بالمغايرة بينهما بحسب المعنى.

ثمّ إنّ الحقّ في المسألة ما عليه المشهور من وجوبه على الكلّ وسقوطه بفعل البعض إذا كان على قدر الكفاية.

وقبل الخوض في الاستدلال ينبغي التنبيه على دقيقة يترتّب عليها فوائد مهمّة.

وهي : إنّا وإن وافقنا المشهور في أصل المذهب غير أنّه خالفناهم فيما يفرّق به بين العيني والكفائي ، فإنّهم جعلوا ملاك الفرق بينهما بسقوط الفرض بفعل البعض وعدمه ، ونحن جعلناه بإضافة مصلحة الواجب إلى المكلّف نفسه وعودها إليه على جهة الاختصاص وإضافتها إلى ما يتساوى نسبته إلى الجميع على الوجه الّذي قرّرناه.

والفرق بين الطريقين : أنّ الأوّل يقضي بكون ما يقابل الكفائي من العيني هو العيني التعبّدي خاصّة الّذي لا يسقط بفعل غير المكلّف.

والثاني يقضي بكونه أعمّ من العيني التعبّدي والعيني التوصّلي ، وبذلك ينقدح فساد الطريق الأوّل ، فإنّ سقوط الفرض عن المكلّف بغير فعله ليس من خصائص الكفائي بما هو كفائي لاشتراك العيني التوصّلي معه في ذلك ، ولذا أشرنا في ذيل تحديد الكفائي ـ بما تقدّم ـ إلى أنّ كلّ كفائيّ توصّليّ من هذه الجهة.

وقضيّة عدم الفرق بين التوصّلي والكفائي من تلك الجهة كون الأصل في الواجب [ عدم ](١) كونه توصّليا كما أنّ الأصل فيه كونه عينيّا ، فإنّ مخالفة الكفائي للأصل إنّما هي لأجل تلك الجهة وهي مشتركة بينه وبين التوصّلي من العيني ، فيكون التوصّلي من العيني أيضا على خلاف الأصل بالتقريب الّذي قرّرناه طابق النعل بالنعل ، فحينئذ يشكل الحال من جهة منافاة ذلك الأصل لما قرّرناه ـ في مباحث الجزء الثاني من الكتاب ـ من أنّ

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٨٤

الأصل في الواجب كونه توصّليا وأنّ التعبّدي منه على خلاف الأصل بالوجه المقرّر ثمّة ، ولكن يندفع الإشكال باختلاف الجهة في جريان هذين الأصلين اختلافا رافعا للمنافاة ، فإنّ التعبّدي والتوصّلي يمتازان من جهتين :

إحداهما : أنّ التعبّدي منوط صحّته بقصد الامتثال والإتيان به على وجه القربة ، لكونه ما أمر به لأجل التقرّب والزلفى بخلاف التوصّلي بما هو توصّلي ، لكونه ما أمر به لأجل حصوله في الخارج على أيّ نحو اتّفق.

واخراهما : كون التوصّلي ما أمر به لغرض يحصل بفعل الغير أيضا بخلاف التعبّدي ، فإنّ الغرض المطلوب منه إمّا يعلم بأنّه لا يحصل بفعل الغير أو لا يعلم بأنّه هل يحصل ذلك الغرض بفعل الغير أو لا يحصل؟

ومن البيّن أنّ عدم العلم بالحصول كاف في الحكم بعدم الحصول أخذا بظاهر الأمر المقتضي للمباشرة النفسيّة ولزوم حصولها من المكلّف نفسه ، فسقوط تلك المباشرة اللازمة بفعل الغير يحتاج إلى دليل منفصل دلّ على أنّ المطلوب من هذا الأمر غرض يحصل بفعل المكلّف نفسه وبفعل غيره مكلّفا كان ـ كما في الكفائي ـ أو غيره كما في التوصّلي من العيني كالطهارة من الخبث.

فإذا دار الأمر بين التعبّدي والتوصّلي من الجهة الاولى كان الأصل هو التوصّلي ، لأنّ مرجعه إلى الدوران بين كون الأمر واردا على الشيء بشرط شيء أو واردا عليه لا بشرط شيء.

وظاهر أنّ اللابشرط من مقتضى الأصل لفظا واعتبارا اجتهادا وعملا بخلاف بشرط شيء.

وإذا دار الأمر بينهما من الجهة الثانية كان الأصل هو التعبّدي بتقريب ما تقدّم ، فهذا الأصل على النحو المقرّر ليس من خصائص الكفائي كما يوهمه كلامنا المتقدّم لجريانه فيه وفي التوصّلي من العيني على نهج سواء.

وإن شئت تقريره على وجه عامّ فافرض موضوعه الواجب التوصّلي فإنّه يعمّ من الجهة الّتي ينوط بها الأصل المذكور له وللكفائي أيضا كما تبيّن.

وبقي الكلام في هذا المقام في بيان منشأ ذلك الأصل ومدركه ، وقد أشرنا إجمالا إلى أنّ مبناه على دعوى الظهور العرفي القائم باللفظ كائنا ما كان ، وواضح أنّ الظهورات العرفيّة لا بدّ وأن تستند إلى دلالة اللفظ على اختلاف أنواعها من أوليّة أو ثانويّة أو ثالثيّة ، ولا بأس

٨٥

بأن نشير إلى قاعدة يتبيّن بها لمّ هذه الدلالة المفيدة للأصل المذكور وكيفيّتها والسرّ فيها ، لتجدي في إلزام من رام المخاصمة في منع ذلك الأصل وكابر في دعوى عدم ثبوته.

فنقول : انّ الأمر صيغة ومادّة حسبما يساعد عليه المتفاهم العرفي له ظهور في الطلب الإلزامي مستندا إلى دلالة الأوليّة المستندة إلى الوضع ، وظهور في حدث مّا وفاعل مّا مستندا إلى دلالته الثانويّة ، وظهور في مباشرة ذلك الفاعل لذلك الحدث مستندا إلى دلالته الثالثيّة على حدّ صيغ سائر الأفعال المفيدة بظاهرها للمباشرة.

والمراد بالدلالة الأوليّة : كون المدلول مدلولا مطابقيّا كالطلب الإلزامي المستفاد من الصيغة أو المادّة وضعا كما قرّرناه في محلّه.

وبالدلالة الثانويّة كونه مدلولا له بالالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ كالحدث والفاعل اللذين هما في مدلول الأمر ليسا بداخلين في وضعه لعدم ثبوت الوضع في لحاظ الواضع إلاّ لمجرّد الطلب ، وإنّما يستفادان منه بعد استفادة الطلب من جهة اقتضاء الأمر النسبي للطرفين المطلوب والمطلوب منه ، فالطلب في وضع الأمر له مقيّد بهما على نحو دخول التقييد وخروج القيد كما في « العمى » لعدم البصر ، ولذا يلزم من تصوّره تصوّرهما على نحو الترتّب في الانتقال غير أنّهما في لزومهما للطلب ليسا إلاّ مفهومين مبهمين لا بيان فيهما في حدّ أنفسهما وإنّما يبيّنهما أمر خارج عمّا وضع للطلب ، فالخصوصيّة في كلّ من الحدث والفاعل تستفاد عمّا اعتبره المتكلّم مطلوبا ومطلوبا منه لا عمّا هو داخل في مدلول الأمر بما هو أمر ، وهو الصيغة في الأمر بالصيغة ومادّة « أم ر » في الأمر بالمادّة.

ومن هنا يتبيّن أنّ الطلب في مدلول الصيغة بل المادّة نسبة قائمة بنفس الأمر متضمّنة للنسبة الفاعليّة ، فصيغة الأمر تشارك صيغ سائر الأفعال في دلالتها على النسبة الفاعليّة وتفارقها في اقتران تلك النسبة للنسبة الطلبيّة وكونها مقيّدة بها ، وإلى ذلك ينزّل مقالتهم المعروفة في الفرق بين النسب الخبريّة والنسب الانشائيّة من أنّ الاولى ما كانت ثابتة بين طرفيها مع قطع النظر عمّا يفيدها من الألفاظ بخلاف الثانية فإنّها لا توجد إلاّ بإيجاد اللفظ.

ومحصّل ذلك : أنّ النسبة الخبريّة نسبة ترد مطلقة وتنوط بالواقع ونفس الأمر ولم يؤخذ معها قيد ولا تقييد بغير منتسبيها ، بل هو في الحقيقة تقيّد لا أنّه تقييد ، والنسبة الانشائيّة نسبة مقيّدة بما لا وجود له إلاّ بإيجاد اللفظ وهو الطلب ، فتوقّف النسبة الإنشائيّة على اللفظ إنّما هو من جهة توقّف قيدها عليه ، وبذلك يستقيم حدّ الخبر بكلام لنسبته

٨٦

خارج تطابقه أو لا تطابقه ، ولا ينتقض بالإنشاء ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ـ فإنّ العبرة في الإنشاء بما هو إنشاء إنّما هي بالنسبة المقيّدة ، وهي أن لا تحقّق له في لحاظ الخارج حتّى يعتبر المطابقة واللامطابقة بينه وبين ما هو في لحاظ اللفظ ، بل إنّما يتحقّق حين التلفّظ وكما أنّ التلفّظ لا خارج له أصلا بالمعنى الّذي هو في الخبر فكذلك ما يتحقّق حينه.

نعم ربّما يمكن اعتبار المطابقة واللامطابقة في الإنشاء بالقياس إلى النسبة الفاعليّة إذا لو حظت معرّاة عن القيد المذكور ، نظرا إلى أنّ المخاطب قد يمتثل فيصدر عنه الفعل وقد لا يمتثل ولا يصدر عنه الفعل ، فيكون قولك : « قم » بهذا الاعتبار نظير قولك : « ستقوم » في احتمالي المطابقة واللامطابقة ، غير أنّ هذا الاعتبار بمراحل عن مدلول الإنشاء بما هو مأخوذ في وضع الصيغة وما يؤدّي مؤدّاها.

وقد يذكر في دفع الإشكال ما لا يكاد يستقيم كما لا يخفى على المتأمّل وهو الّذي أشرنا إليه في مباحث الصيغة.

فما في كلام جماعة من الأعلام من أنّ لصيغة « افعل » نسبتين طلبيّة وفاعليّة إن كان ناظرا إلى ما قرّرناه فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ ففي حيّز المنع بعدم كونه ممّا يساعد عليه الفهم والاعتبار.

وبما ذكر تقرّر أنّ دلالة صيغة « افعل » على النسبة الفاعليّة تضمّنيّة كدلالتها على النسبة الطلبيّة ، ولا ينافيه ما تقدّم من أنّ الطلب الإلزامي مدلول لها مطابقة بالوضع ، إذ ليس المراد به الطلب من حيث إضافته إلى المتكلّم فقط بل الطلب من هذه الحيثيّة ومن حيث تضمّنه للنسبة الفاعليّة فيكون كلّ جزء للموضوع له ، وإلى ذلك ينزّل ما حقّقناه في بحث الصيغة من أنّها حقيقة في الإيجاب.

ويبقى الكلام في شيء آخر لا يخلو عن إشكال وهو أنّه هل العبرة في الإنشاء والإخبار بالقياس إلى الأفعال بالمعنى الإفرادي الّذي يستفاد من الصيغة وحدها ، أو بالمعنى التركيبي المستفاد من انضمام الفعل إلى ما اعتبر كونه فاعلا له بالخصوص؟ وأمّا غيرها كالجمل الاسميّة فلا إشكال في أنّ العبرة فيهما بالقياس إليه بالمعنى التركيبي ، فقضيّة ما اتّفق عليه [ علماء ] العربيّة والاصوليّة من أخذ الكلام جنسا في حدّيهما هو الثاني ، كما أنّ قضيّة ما يذكره [ علماء ] العربيّة من كون الفعل للنسبة والزمان والفاعل هو الأوّل ، وهو الّذي يساعد عليه أيضا قول الاصوليّة من أنّ صيغة « افعل » لها نسبتين طلبيّة

٨٧

وفاعليّة ، ومن أنّها موضوعة للطلب مطلقا أو إذا كان حتميّا ونحوه وهو كما ترى تهافت بين كلماتهم.

ويمكن الجمع بأنّ العبرة فيهما بالنسبة التامّة الّتي يصحّ السكوت فيها ، وهي منوطة باعتبار التركيب بين الفعل وفاعله ، لا لأنّ المجموع المركّب موضوع بالنوع للنسبة التامّة كما توهّم ، بل لأنّ المأخوذ في مدلول الفعل وضعا نسبة إجماليّة من جهة إبهام متعلّقها وهو المنسوب إليه المدلول عليه بالفعل التزاما ، فيفتقر حصول الفائدة التامّة إلى انضمام ما يبيّنه وهو الّذي اعتبر كونه فاعلا بالخصوص ليصير النسبة المذكورة تفصيليّة ، فمرادهم بالنسبة في حدّي الخبر والإنشاء هي النسبة التفصيليّة كما أنّ المأخوذ في مدلول الفعل باعتبار الصيغة هو النسبة الإجماليّة ، فإن اعتبرنا المعنى الإنشائي أو الإخباري نسبة إجماليّة كان العبرة فيه بالمعنى الإفرادي وإن اعتبرناه نسبة تفصيليّة كان العبرة فيه بالمعنى التركيبي فارتفع التهافت عمّا بين الكلمات المذكورة.

وبالدلالة الثالثيّة : كونه مدلولا بالالتزام الغير البيّن بالمعنى الأخصّ كلزوم المباشرة النفسيّة الّذي يحصل الانتقال إليه بعد تصوّره وتصوّر توجّه الخطاب إلى ما اعتبر كونه فاعلا وتعلّق الطلب به وتصوّر النسبة بينهما ، نظرا إلى أنّ الإلزام على الفعل لا معنى له إلاّ الإلزام على إيجاده وهو لا يحصل إلاّ بالمباشرة فتكون لازمة.

وقضيّة ذلك أن لا يسقط الطلب بعد تعلّقه به إلاّ إذا حصلت المباشرة منه بنفسه ، فلو اتّفق في موضع أنّه سقط بغير مباشرته كان لدليل دلّ على كون [ فعل ](١) الغير موجبا للسقوط ، وأمّا الدلالة على رجحان الفعل واشتماله على المصلحة الملزمة واشتراط القدرة عليه أو غيرها من الشرائط العامّة فليست لفظيّة بل هي عقليّة تحصل بضمّ مقدّمة خارجيّة إلى ما دلّ عليه اللفظ من قبح الترجيح بغير مرجّح ، وامتناع التكليف بما لا يطاق ونحوه ، فيكون هذه الامور من لوازم المأمور به باللزوم الغير البيّن بالمعنى الأعمّ ، فلو قام من الخارج ما دلّ على سقوط الفعل بغير مباشرته كان الواجب توصّليا ، كما أنّه لو قام مع ذلك ما قضى بكون الغرض من إيجابه ما يتساوى نسبته إلى المكلّف ومكلّف آخر غيره كان كفائيّا ، فينبغي أن ينظر حينئذ إلى أصل آخر يقتضي تعلّقه بالجميع مع سقوطه بفعل البعض أو تعلّقه بالبعض الغير المعيّن أو بالمجموع من حيث هو.

__________________

(١) أضفناه لاستقامة العبارة.

٨٨

وظاهر أنّ الّذي يليق بذلك النظر إنّما هو ما لو علّق الحكم بظاهره على صيغة الجمع ، كما لو قال : « إفعلوا » أو « أمرتكم » أو « يجب عليكم » وأمّا لو علّق بظاهره على أمر مبهم كما لو قال : « ليفعل بعضكم أو طائفة منكم » فلا يبعد الالتزام بتعلّقه في الواقع بذلك الأمر المبهم ، غير أنّه قليل الوجود في الخطابات الشرعيّة وإنّما الّذي يكثر وقوعه فيها هو الوجه الأوّل ، فعليه نقول قد سبق منّا الإشارة إجمالا إلى ما يقتضي تعلّقه بالجميع.

وتفصيله هنا : أنّ ما ذكرناه من الوجوه على حسب الأقوال المتقدّمة لا يختلف الحال فيها بالقياس إلى ما قرّرناه من المعيار في الكفائي من تساوي مصلحة الإيجاب إلى الجميع ، فإنّ غاية ما يقتضيه ذلك إنّما هو عدم التعلّق بالبعض المعيّن لأدّائه إلى الترجيح بلا مرجّح ، وهذا المحذور كما ترى يندفع بكلّ من الوجوه المذكورة ، وإنّما يختلف الحال فيها بالقياس إلى التعليق على صيغة الجمع ، فإنّ ظاهر الجمع يقتضي التعلّق بكلّ واحد بعينه لأنّه باعتبار الوضع اللغوي عبارة عن الآحاد المجتمعة ومعلوم أنّ العبرة في آحاد الجمع باعتبار التعيين والإبهام إنّما هو بحال مفرده الّذي يدلّ على واحد من تلك الآحاد وضعا ، فإن كان المفرد باعتبار وضعه لشيء بعينه ـ كالمعارف ـ كان جمعه للآحاد المجتمعة على هذا الطريق ، وإن كان لشيء لا بعينه ـ كالمنكرات ـ كان جمعه للآحاد المجتمعة على هذا النهج ، وكما أنّ المفرد إذا كان لشيء بعينه وتعلّق به الحكم في ظاهر الخطاب كان الظاهر مقتضيا لتعلّقه به بعينه فتكون إرادة غير ذلك منه مستلزمة لتطرّق التجوّز إليه ، فكذلك الجمع إذا كان لأشياء بأعيانها ، وتعلّق الحكم به في ظاهر الخطاب فيكون الظاهر مقتضيا لتعلّقه بهذا وهذا وهذا بأعيانها ، وظاهر أنّ هذا المعنى يخالف تعلّقه ببعض منها لا بعينه ، أو بالمجموع منها من حيث المجموع بحيث كان المجموع موردا للحكم لا هذا بعينه وهذا بعينه ، فكان المتعيّن حينئذ هو الوجه الأوّل أخذا بحقيقة اللفظ وظاهره وحذرا عن التجوّز الّذي لا داعي إليه من العقل والنقل ، مضافا إلى ما نجد من بناء المسلمين قاطبة في جميع الأعصار وعملهم كافّة في كلّ الأعصار على الإتيان بالواجب مع الاجتماع ومع الانفراد مع كون كلّ واحد على تقدير الاجتماع ناويا لوجوبه عليه بالخصوص كما في صلاة الأموات ونحوها ، فلولا تعلّقه بكلّ واحد كان ذلك منهم على تقدير الاجتماع تشريعا محرّما وهو خلاف البديهة من بنائهم ومذهبهم.

وإلى أنّ إيجابه على الجميع ممّا يقتضيه العدل والحكمة ، لأنّ الإيجاب على البعض

٨٩

يوجب الترجيح الممتنع إن كان مع التعيين وربّما يفضي إلى فوات الغرض وعدم إتمام الحجّة إن كان مع الإبهام ، نظرا إلى أنّ فعل الواجب أمر يثقل الإقدام عليه في أكثر النفوس ، وإذا علموا أنّ الوجوب على البعض فكثيرا مّا يتعاقدون عنه على وجه يردّه كلّ إلى صاحبه فيختلّ به أمره ولا يحصل الغرض المطلوب من إيجابه ، والمجموع من حيث هو أمر اعتباري لا وجود له في الخارج فالإيجاب عليه ربّما ينافي الحكمة في نظر العقل كما لا يخفى على المتأمّل ، وهذه الوجوه كما ترى وإن لم يطّرد بعضها بحيث يشمل كلاّ ممّا ثبت وجوبه باللفظ أو باللبّ ، غير أنّ الباقي مطّرد فثبت تعلّق الوجوب بالجميع ، ولا ينافيه سقوطه بفعل البعض عن الباقين ، لأنّه خلاف ظاهر أوجبه الدليل في الكفائي فلابدّ من المصير إليه.

ثمّ إنّ هذا السقوط هل هو من جهة أداء الواجب أو لعروض مسقط؟ فإنّ سقوط الوجوب عن المكلّف بعد تعلّقه به قد ينشأ عن حصول الفعل المأمور به في الخارج ـ وإن كان إطلاق السقوط عليه حينئذ لا يخلو عن مسامحة من جهة ابتناء صدقه حقيقة على الارتفاع لعارض خارجي مع قابليّته للبقاء لولا ذلك المعارض ، ولا ريب أنّ حصول المتعلّق في الخارج رافع للقابليّة ـ وقد ينشأ عن حصول مصلحة الإيجاب أو ارتفاع الموضوع بطروّ ما يرفعه ممّا هو خارج عن اختيار المكلّف وقدرته كنزول المطر أو ورود السيل الرافعين للنجاسة عن المحلّ ، ومثله وصول حقّ الغير إليه بأداء المتبرّع ، ومثله أيضا إبراء الغريم ، واحتمل الأوّل بعض الأفاضل في كلام الجماعة واختاره أيضا ومنه نشأ ما عرفت منه من إرجاع الأقوال إلى معنى واحد ، ولكن ظاهرهم عنوانا ودليلا ـ كما يشهد به التتبّع ـ يقتضي خلاف ذلك.

وكيف كان فالوجهان مبنيّان على التحقيق في شيء آخر وهو النظر في أنّ مفاد الخطاب على الكفاية هل هو تعلّق الوجوب بالجميع على طريق العينيّة على حدّ الخطاب في الواجبات العينيّة ثمّ سقوطه بفعل البعض ، فيكون السقوط حينئذ من جهة حصول المصلحة ، بل حينئذ ارتفاع في بعض الفروض بالنسبة إلى الباقين كما يظهر من الجماعة ، أو تعلّقه بالجميع على طريق البدليّة على حدّ الخطاب في الواجبات التخييريّة بالقياس إلى الأفعال المخيّر فيها ، فيكون السقوط حينئذ من جهة أداء الواجب المردّد بين الباقين ومن قام بأدائه كما رجّحه الفاضل المذكور وتبعه بعض الفضلاء؟

فيه وجهان من قضاء الوجدان بأنّ المبغوض في نظر الآمر والمبغوض عنده في كلّ

٩٠

فرض كفائي إنّما هو ترك الجميع لا ترك البعض مع قيام بعض آخر بالفعل ، فلو لا تعلّقه بهم على طريقة البدليّة القاضية بارتفاع المنع بفعل أيّ بعض كان لما كان كذلك كما في الواجبات العينيّة ، ومن قيام الإجماع على تأثيم الكلّ ـ كما استفاض نقله من العامّة والخاصّة ، بل هو متواتر حقيقة ـ فلولا تعلّقه بهم على طريق العينيّة لما كان لتوجّه التأثيم اليهم على طريق العينيّة وجه.

ويمكن دفعه : بأنّ استحقاق التأثيم إنّما يستند إلى صدق المخالفة وتحقّق العصيان من الكلّ ، وهو على تقدير ترك الجميع مع بدليّة الوجوب فيما بينهم متساوي الصدق على الجميع كما لا يخفى ، فلا منافاة بين تأثيم الجميع وتعلّق الوجوب بهم على طريق البدليّة.

وقضيّة ذلك تعيّن الوجه الثاني المستلزم لكون السقوط عن الباقين من جهة أداء الواجب ، ولكن ما ذكرناه من ظاهر اللفظ وبناء المسلمين قاطبة يكشف عن خلاف ذلك ، إذ قضيّة البدليّة وحدة التكليف مع إسقاط جهة التعيين عن الآحاد المجتمعة المدلول عليها بصيغة الجمع ، فيكون الأداء بنيّة الوجوب من كلّ واحد تشريعا وهو بديهيّ الفساد ، فالمتعيّن حينئذ هو الوجه الأوّل فيفسد به ما توهّمه الفاضلان المذكوران.

ويظهر فائدة الفرق بين الوجهين فيما ذكر من التشريع في صورة الاجتماع بنيّة الفرض ، وفيما لو علّق الظهار على فعل ما وجب عليه بالخصوص ، وفي انعقاد النذر الموجب للزوم الحنث لو تعلّق بأداء صلاة الميّت ونحوها حال عدم قيام غيره بأدائها ، نظرا إلى أنّه يقتضي محلاّ قابلا ولا يكون إلاّ إذا لم يتعلّق بفعله بالخصوص وجوب ، لأنّ سبق تعلّقه به على النذر مانع عن انعقاده من جهة امتناع تعلّق الوجوبين بفعل واحد ، وهو على تقدير كون الوجوب على طريق البدليّة قابل له ، إذ لم يتعلّق به بالخصوص حينئذ وجوب وإنّما تعلّق بما كان صدقه عليه على نحو البدليّة ، وكونه موجبا للامتثال من جهة [ أنّه أحد الأبدال لا من جهة ](١) أنّه واجب بالخصوص ، فيكون بالقياس إلى متعلّق [ .... ](٢) بينهما ، كما لو نذر إيقاع صلاة الظهر في المسجد ، بخلافه على تقدير عينيّة الوجوب لسبق تعلّق الوجوب بفعله حينئذ بالخصوص على النذر فلا يقع النذر مؤثّرا ، كما لو نذر الإتيان بصلاة الظهر مثلا.

وممّا ذكر تبيّن ظهور الفائدة أيضا في جواز أخذ الاجرة على صلاة الميّت ونحوها

__________________

(١) هكذا يقرأ ما في نسخة الأصل.

(٢) ساقط عن نسخة الأصل.

٩١

وعدمه ، فعلى بدليّة الوجوب يجوز ذلك لأنّه لا يأخذها على مورد الوجوب وهو الكلّي البدلي بل يأخذها على فرد منه وهو فعله الخاصّ بوصف كونه فعله بخلافه على عينيّة الوجوب.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه من أولويّة أوّل الوجوه المذكورة إنّما هو مبنيّ على الترجيح ، وإلاّ فالأمر في الحقيقة دائر بين طرح ظاهر الأمر وهو عدم سقوط لزوم المباشرة من المكلّف بفعل غيره وطرح ظاهر الجمع وهو تعلّق الحكم بكلّ واحد من آحاد مدلوله على سبيل التعيين إن قسنا الوجه الأوّل في مقابلة الوجه الثاني ، وإن قسناه في مقابلة الوجه الثالث فالأمر يدور بين طرح ظاهر وطرح ظاهرين.

أمّا الأوّل : فلأنّه على تقدير تعلّق الحكم بالبعض الغير المعيّن لا يلزم بالنسبة إلى الأمر مخالفة ظاهر كما لا يخفى ، بل هو مخالفة لظاهر الجمع بخلافه على تقدير تعلّقه بكلّ واحد على جهة التعيين مع سقوطه بفعل البعض عن الباقين ، فإنّه ارتكاب بخلاف ظاهر الأمر ، غير أنّ ذلك أولى من مخالفة ظاهر الجمع لكون الجمع أظهر في مدلوله من الأمر في مدلوله المذكور ، لكون الأوّل مدلولا مطابقيّا والثاني مدلولا التزاميّا ، ولا ريب أنّ دلالة المطابقة أقوى بمراتب من دلالة الالتزام ، ولا سيّما الالتزام الغير البيّن.

وأمّا الثاني : فلأنّ الحمل على الوجه الثالث يستلزم طرح ظاهر الجمع وطرح ظاهر الأمر.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ مبنى هذا القول على سقوط الأمر بفعل البعض عمّا تعلّق به في الواقع من المفهوم الاعتباري ، ضرورة أنّ ما يصدر عن البعض ليس بصادر عن المجموع من حيث هو حقيقة ، وصدق إسناده إليه لو سلّمناه مجازيّ نظير ما في قولك : « قتل بنو فلان زيدا » وقد قتله واحد منهم ، بخلاف ما لو حملناه على الوجه الأوّل فإنّه لا يستلزم إلاّ طرح ظاهر الأمر فكان أولى بالضرورة.

هذا كلّه على حسبما تفرّدنا في تقرير الدليل على مذهب المشهور ولم نر أحدا تعرّض لذكر شيء ممّا ذكر ، بل المشهور من حجّتهم أنّه لو لم يكن على جميع المكلّفين لما أثم الجميع ، والتالي باطل بالإجماع فيلزم بطلان المقدّم.

بيان الملازمة : أنّه يمتنع مؤاخذة الإنسان بترك ما لا يجب عليه.

وفيه : ما لا يخفى من أنّه إنّما يستقيم إذا كان المراد بالبعض عند القائل بالوجوب عليه

٩٢

ما يكون مبهما في الظاهر دون الواقع ، [ أو ما يكون ملحوظا بشرط ](١) الإبهام في الظاهر والواقع نظرا إلى عدم صدقه حينئذ الكلّ (٢).

به ما لم يعتبر فيه تعيينه الذاتي لا في الظاهر ولا في الواقع المعبّر عنه بالبعض اللابشرط الصادق على كلّ معيّن صدقا بدليّا فلا ، ضرورة أنّ استحقاق الاثم يناط بالعصيان وهو حاصل من الكلّ على تقدير ترك الجميع ، لكون كلّ واحد ممّا صدق عليه البعض اللابشرط ، فتكون قضيّة العصيان صادقة على كلّ صدقها على صاحبه ، وإلى ذلك ينظر ما قيل في الإيراد عليه من أنّه لا ملازمة بين تأثيم الكلّ واستحقاقهم العقوبة وبين الوجوب على الكلّ ، إذ يمكن القول بوجوبه على مطلق البعض وتأثيم الكلّ.

ألا ترى أنّه يصحّ أن يقول المولى لعبيده : « ليأت أحدكم بهذا الفعل في هذا العام البتّة ولو تركتموه أجمع لأعاقبكم جميعا على ترك مطلوبي » ويحكم العقلاء حينئذ بتأثيم الجميع واستحقاقهم للعقوبة مع إيجابه على أحدهم.

وأمّا ما يقال في ردّه : من أنّه إن اريد بوجوبه على مطلق البعض كون المكلّف هو البعض في الجملة من غير أن يتعلّق الوجوب بكلّ منهم ، فقضاء ذلك بتأثيم الكلّ غير معقول بل قضيّة ذلك تأثيم المكلّف الّذي هو البعض ، وإن اريد به وجوبه على كلّ واحد من جهة كونه بعضا منهم فهو غير القول بوجوبه على الكلّ ، فليس في محلّه بعد ما كان المراد بمطلق البعض البعض اللابشرط الموجب لتحقّق العصيان من الجميع بتركهم أجمع.

فإن قلت : فرض الوجوب على البعض على هذا الوجه يستلزم الوجوب على كلّ واحد على طريق البدلية لصدق البعض بهذا المعنى على كلّ واحد كذلك فلا يغاير القول بوجوبه على البعض حينئذ القول بوجوبه على الكلّ.

قلت : إن اريد به كون الوجوب ثابتا على هذا الوجه على كلّ واحد بالأصالة بدعوى أنّ البعض المطلق ليس ملحوظا في المقام إلاّ عنوانا لملاحظة الخصوصيات على هذا الوجه فهو ليس بلازم لهذا القول ضرورة أنّ مراد قائله بالبعض ما يكون ملحوظا بالأصالة لإثبات الحكم له أوّلا وبالذات من دون نظر إلى الخصوصيات.

وإن اريد به لزوم ثبوته لكلّ واحد بالعرض مع تسليم ثبوته أصالة للبعض نظير وجوب

__________________

(١) ومن المؤسف عليه وقوع سقط هنا من نسخة الأصل ونحن مع شدّة فحصنا عنها لم نعثر عليها.

(٢) هكذا يقرأ ما في نسخة الأصل.

٩٣

لوازم الواجب فهو غير قادح نظرا إلى أنّ النزاع فيما يثبت له الوجوب الأصلي دون العرضي.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ المنع عن لزوم ثبوت الوجوب على كلّ واحد بالأصالة على تقدير تعلقه بالبعض اللابشرط لا يخلو عن مكابرة كيف وإنّ البعض اللابشرط ممّا لا محصل له ذهنا ولا خارجا سوى الخصوصيّات الّتي اعتبرت بينها في لحاظ الأمر.

ومن البيّن أنّها إذا لوحظت على هذا الوجه يعبّر عنها بالبعض المطلق اللابشرط في مقابلة البعض بشرط التعيين والبعض بشرط الإبهام.

وقضيّة ذلك كون الوجوب الثابت لعنوان البعض المطلق ثابتا لعنوان كلّ واحد على سبيل البدليّة بحسب الحقيقة غير أنّه لا يجدي نفعا في دفع الإيراد بعد ملاحظة ما سبق تحقيقه من أنّ مقصود القائلين بكون الوجوب على الجميع تعلّقه بهم على سبيل العينية المستلزمة لتعدّد الطلبات والتكاليف على حسب تعدّد المكلفين المندرجين في الخطاب لا على سبيل البدليّة.

وما ذكر في الاحتجاج غير قاض به لعدم منافاة تأثيم الكلّ للوجوب عليهم على سبيل البدليّة أو للوجوب على البعض له المطلق منهم كما لا يخفى.

وإليه ينظر أيضا ما عن جمال المحقّقين في حاشيته على العضدي « من منع التنافي بين تعلق الوجوب بالبعض المبهم وتعلّق الاثم بالجميع بل لا مانع منه وكون ذلك غير ممنوع.

فالظاهر كما تشهد به الملاحظة الصحيحة تعلّق الوجوب على البعض المبهم والغرض صدور الفعل من البعض أيّ بعض كان لكن لما لم يمكن تأثيم البعض الغير المعين معقولا تعلّق القصد ثانيا بتأثيم الجميع لو تركوه ولا يمكن إنكار ذلك فضلا عن أن لا يكون معقولا » انتهى.

والعجب عن بعض الأفاضل في فهمه المغايرة بين هذا والإيراد السابق مع أنّ مؤدّاهما واحد.

وأمّا ما في تقرير هذا الإيراد من دعوى كون التعلّق بالبعض المبهم ممّا تشهد به الملاحظة الصحيحة ، ففيه ما فيه ، بل الملاحظة الصحيحة شاهدة بخلافه كما عرفت.

وقد يحكى الاحتجاج على مذهب المشهور أيضا بوجهين آخرين :

أحدهما : أنّه لو وجب على أحدهم فلا تعيّن له عندنا ضرورة فإمّا أن يكون معيّنا في الواقع أو يكون مبهما في الواقع ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلوضوح عدم استحقاق شخص للعقوبة من جهة ترك غيره ما وجب عليه ،

٩٤

بل قضيّة دوران التكليف بين شخصين في غير الكفائي عدم استحقاق شيء منهما للعقوبة على تركه كما في الجنابة الدائرة بين شخصين.

وأمّا الثاني : فلكون الوجوب أمرا خارجيّا لا يمكن تعلّقه خارجا بالمبهم بل لا بدّ له من متعلّق معيّن في الخارج ليصحّ تعلّقه به.

ووهنه واضح للمتأمّل ، فإنّ البعض عند القائل بالوجوب عليه من حيث كونه أمرا منتزعا عن المعنيين وهم آحاد المكلفين له نوع تعيّن ، لوضوح عدم كون مراده به ما يكون مبهما من جميع الجهات بحيث لم يكن له اضافة إلى المكلّفين المعيّنين ، بل المراد به ما يضاف إليهم من حيث كونه فيما بينهم ... توصيفه بالمبهم لكون المراد بالإبهام عدم اعتبار فيه ... على حدّ الخطاب في الواجبات العينيّة ثمّ سقوطه بفعل ... (١) عدم التعيين من هذه الجهة تعيّنه من جهة اضافته إلى المعنيين والوجوب في تعلّقه وإن كان يقتضي محلاّ معيّنا ولكن يكفي فيه هذا النحو من التعيّن ولا يقتضي أزيد من ذلك بالضرورة.

وثانيهما : أنّه يصحّ لكلّ منهم أن ينوي الوجوب بفعله إجماعا ولو كان واجبا على البعض لما صحّ ذلك لكون قصد الوجوب من غير من يجب عليه بدعة محرّمة.

حجّة القول بتعلّق الوجوب بالبعض وجوه :

الأوّل : أنّ الواجب على الكفاية يسقط عن المكلّفين بفعل البعض ، فلو كان واجبا على الجميع لما كان كذلك ، لأنّ الواجب على المكلّف يستبعد أن يسقط عنه بفعل غيره.

الثاني : أنّه كما يجوز أمر المكلّف بواحد مبهم كخصال الكفّارة ، فكذا يجوز أمر واحد مبهم قياسا عليه ، والجامع تعدّد متعلّق الوجوب مع سقوط الوجوب بفعل البعض.

الثالث : قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ )(٢) فإنّ طلب الفقه من فرض الكفاية ، والآية أوجبت على كلّ فرقة أن ينفر منهم طائفة وتلك غير معيّنة ، فيكون المأمور بعضا غير معيّن.

والجواب عن الأوّل : بأنّه استبعاد محض لا يصلح دليلا ولا سيّما في مقابلة الدليل ، كيف وهو من مقتضى الترجيح الّذي قدّمنا ذكره ، مع أنّ سقوط التكليف عن المكلّف بفعل الغير ليس بعادم النظير ليكون منشأ للاستبعاد ، وكفى بسقوط وجوب أداء الدين عن المديون بأداء المتبرّع شهيدا بذلك.

__________________

(١) وقع سقط هنا في نسخة الأصل.

(٢) التوبة : ١٢٢.

٩٥

وعن الثاني : ببطلان القياس أوّلا ، ومنع الحكم في المقيس عليه ثانيا ، إن اريد بالجواز وقوعه لما تقدّم تحقيقه في بحث الواجب المخيّر ، وإن اريد به الإمكان يرتفع المنع ولكنّه غير مجد في المقام لأنّه أعمّ من الوقوع الّذي هو المتنازع فيه ، وكونه مع الفارق ثالثا ، فإنّ العقاب بترك واحد ولو مبهما معقول من غير محذور بخلاف عقاب واحد ، فإنّه مع تعيين ذلك الواحد يستلزم الترجيح [ بلا مرجّح ] ومع عدمه لا يعقل.

وعن الثالث : بأنّ الآية مسوقة لبيان من يسقط بهم الوجوب ويتأدّى بفعلهم الواجب لا من يتعلّق بهم الوجوب ، بدليل أنّ « لولا » مع الماضي للتنديم والتوبيخ ، وهو لا يصحّ من العدل الحكيم إلاّ مع سبق تكليفهم بطلب الفقه جامعين لشرائط التكليف.

وقضيّة ذلك حصول الإيجاب وتعلّق التكليف بهم قبل نزول الآية ، فصحّ كونها لمجرّد بيان المسقط مع قطع النظر عمّن تعلّق به التكليف.

نعم لو كانت الآية ابتداء خطاب في إيجاب التفقّه لكان في دلالتها على تعلّق الوجوب بالبعض المبهم قوّة واضحة ، وقد عرفت القرينة على خلافه.

وكأنّ النكتة في نزولها لبيان المسقط أنّهم لمّا علموا أنّ هذا التكليف قد تعلّق بهم جميعا وكان اقدامهم جميعا على أداء المكلّف به قاضيا ـ من جهة طول زمانه ـ باختلال امور معاشهم وعدم انتظام سائر حوائجهم ، فتحيّروا أو تثاقلوا إلى أن يتعاقدوا عن الفعل ، فنزلت الآية في سياق ذمّهم وتوبيخهم على التقاعد مع إرشادهم إلى طريق الامتثال والخروج عن العهدة جمعا بين الحقّين ، أو تعليما لحكم الواجب على الكفاية.

مع أنّ كون الآية مقيّدة لتعلّق الوجوب على البعض ـ على فرض كونها ابتداء خطاب ـ لا يقدح لما نبّهنا عليه من أنّ الّذي يصلح محلاّ للنزاع ومثار الأقوال إنّما هو ما لو ورد الخطاب على صيغة الجمع الظاهرة في تناول الجميع باعتبار الوضع اللغوي والآية ليست منه ، وعلى ذلك يحمل كلّما ورد في خطاب الشرع من نظائر الآية كما في قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(١) وقوله أيضا : ( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )(٢).

وقد يقرّر الجواب ـ على ما في بيان المختصر ـ : بأنّ « الطائفة » كما يحتمل أن يكونوا هم الذين أوجب الله عليهم طلب الفقه ، احتمل أن يكونوا هم الذين يسقطون الوجوب

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

(٢) النور : ٢.

٩٦

بالمباشرة عن الجميع ، والاحتمال الثاني وإن كان مرجوحا ولكن يحمل عليه جمعا بين الدليلين ، فإنّا لو حملنا « الطائفة » على الذين أوجب الله عليهم يلزم بطلان دليلنا وهو الإجماع على تأثيم الجميع بتركه ، ولو حملنا على المسقطين لم يلزم بطلان دليلنا ولا ترك العمل بالآية ، فتعيّن المصير إليه ، لأنّ الجمع بين الدليلين واجب بقدر الإمكان.

وهو كما ترى ، فإنّ لزوم الجمع فرع التنافي ، وقد عرفت أنّ مفاد الإجماع لا ينافي تعلّق الوجوب بالبعض.

ولو سلّم أنّه ينافيه فالآية لا تنافي الإجماع بعد ما ذكرنا من القرينة على إرادة بيان المسقط ودعوى أنّه مرجوح بالقياس إلى إرادة بيان محلّ الوجوب واضحة المنع ، إذ لا ظهور لها فيما عدا ذلك ليكون ذلك مرجوحا بقرينة ما ذكر ، فلا حاجة إلى إجراء قاعدة الجمع.

حجّة القول بوجوبه على المجموع من حيث هو : أنّه لو تعيّن على كلّ واحد كان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحقّقه فيكون نسخا فيفتقر إلى خطاب جديد ، ولا خطاب ولا نسخ فلا يسقط ، بخلاف الإيجاب على المجموع من حيث هو ، فإنّه لا يستلزم الإيجاب على كلّ واحد ، فيكون التأثيم للجميع بالذات ولكلّ واحد بالعرض.

وجوابه : أنّ النسخ الّذي يحتاج إلى خطاب جديد ما يكون موجبا لإخراج بعض الأزمان عمّا اقتضاه ظاهر الخطاب الأوّل المثبت للحكم من ثبوته على سبيل الاستمرار والدوام ، بأن يكون في إثبات الحكم عامّا لجميع الأزمان ، وإنّما يحصل ذلك في المقام لو قيل بارتفاع الأمر بالكفائي بالمرّة بعد ثبوته إلى هذا الزمان ، بحيث لم يكن الفعل واجبا بعد [ ه ] إلى يوم القيام ولو عند تحقّق أسباب وجوبه المقرّرة له قبل ذلك.

ولا ريب أنّ المقام ليس من هذا الباب ، بل الوجوب فيه يرتفع بعد قيام من قام به الكفاية ، لانتفاء موضوعه وحصول متعلّقه في الخارج بحيث لو بقي بعد ذلك على ذمّة الباقين كان طلبا للحاصل ، بل ارتفاعه حينئذ إنّما هو من مقتضيات الخطاب الّذي أثبته ، فإنّ الحكمة الباعثة على صدوره ليست إلاّ حصول المصلحة المقصودة بحصول الفعل وقد حصلت ولو بمباشرة غير هذا المكلّف ، فيكون كالأمر بغسل الثوب إذا ارتفع بمباشرة غيره ولو بغير اطّلاعه ، وكما أنّه لا يحتاج إلى خطاب جديد إجماعا ضروريّا ولا يكون من باب النسخ أيضا فكذلك المقام ، مع أنّ فرض الوجوب على هذا الوجه ممّا لا يكاد يتعقّل له محصّل ، فإنّ الإيجاب لا يقصد منه حيثما تعلّق بالمكلّف إلاّ مباشرته بنفسه ، وإذا فرض

٩٧

تعلّقه بالمجموع من حيث هو فلا بدّ وأن يكون ممّا قصد به مباشرة المجموع من حيث هو ، وهو كما ترى غير معقول ، نظرا إلى أنّ المجموع من حيث هو مفهوم اعتباري لا وجود له في الخارج ، وما يحصل من البعض أو من كلّ واحد ليس ممّا حصل من المجموع ... (١).

وأمّا الثاني : فلمنع الغلبة إن اريد بها ما ثبت في حقوق الله الّتي منها محلّ البحث.

نعم لا نضائق ثبوتها في حقوق الناس ولكنّها غير مجدية هنا ، ولو سلّم الجميع يتّجه المنع عن اعتبارها ، إذ قصارى ما يحصل منها إنّما هو الظنّ فيبتني اعتباره على فتح باب مطلق الظنّ ، وستعرف تفصيل القول في منعه.

وأمّا الثالث : فلمنع العموم في أدلّة قبولها كما لا يخفى على المتتبّع في الروايات الواردة في قبولها في موارد ليس المقام منها ، ولا سيّما على تقدير الاستناد لقبولها في تلك الموارد إلى الإجماع.

وأمّا الرابع : فلأنّ كونها في معنى العلم شرعا مسلّم في موارد قبولها ، وكون المقام من تلك الموارد أوّل الكلام ، وقد عرفت المنع من عموم ما دلّ على اعتبارها في تلك الموارد.

وأمّا الثاني : فقد يقال في منع كونه حجّة بعدم عموم ما دلّ على حجّيته إلاّ آية النبأ وهي مع الشكّ في عمومها لنحو المقام معارضة بعموم ما دلّ على عدم حجّية الظنّ ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، ولا مرجّح أو المرجّح هنا للثاني بسبب كونه منطوقا والاصول والشهرة ، ولذا لو كانت عموما مطلقا لا ينفع.

وفيه : ما لا يخفى من وروده على خلاف التحقيق ، فإنّ العامّ إنّما يؤخذ بعمومه على حسبما يقتضيه مفهومه الوارد تارة جنسا هنا لأنواع واخرى نوعا لأشخاص.

وهو على الأوّل يعتبر عمومه بالقياس إلى الأنواع.

وعلى الثاني بالقياس إلى الأشخاص.

ولا ريب أنّ الظنّ أو ما وراء العلم في مورد ما دلّ على منع العمل بهما واردان جنسا لأنواع منها خبر العدل الواحد ، فيعتبر عمومهما في منع العمل بهما من هذه الجهة ، فيكون خبر الواحد من جملة تلك الأنواع ممنوعا عن العمل به بالنوع ، ويتبعه أشخاصه المندرجة تحته في ذلك المنع ، غير أنّه لا يعتبر في الجنس عموم آخر بالقياس إليها على سبيل الاستقلال ليكون عنوانا للحكم الاصولي ومناطا للقاعدة الكليّة ، فإذا قوبل ما دلّ على

__________________

(١) سقط من نسخة الأصل هنا بعض ما يرتبط بالمقام كما لا يخفى.

٩٨

حجّية خبر العدل لذلك العامّ كان أخصّ منه ، رافعا لموضوعه بالنسبة إلى نوع من أنواعه ، مزاحما لصغرى القياس المأخوذة بالنسبة إلى ذلك النوع لإثبات حكم العامّ له فيكون واردا عليه ، سواء اعتبرنا أصالة الحقيقة في العامّ من باب التعبّد أو الظنّ النوعي أو الظنّ الشخصي ، لكونها مقيّدة على الأوّل بعدم العلم بالخلاف.

وعلى الثاني بعدم العلم أو عدم الظنّ الشخصي بالخلاف.

وعلى الثالث بالعلم أو الظنّ الفعلي بالوفاق.

وما فرض من العامّ الثاني المخالف لكونه قطعي السند رافع للقيد بجميع أقسامه ، ومزاحم للصغرى بجميع صورها ، إذ معه لا يقال : « انّ خبر الواحد ما لم يعلم بخروجه عن عموم ما دلّ على المنع » ولا أنّه : « ما لم يعلم أو يظنّ بخروجه » ولا « أنّه ما علم أو ظنّ بدخوله » وإذا كان الحال فيه كذلك فكيف يتوهّم العامّ الأوّل معارضا له.

وكيف يصحّ القول بكون النسبة بينهما عموم من وجه مع أنّه ليس الحال فيهما إلاّ كما لو قال : « يصحّ بيع الحيوان » ثمّ قال : « لا يجوز بيع الإنسان » حيث لا يقال فيهما أنّهما عامّان متعارضان وبينهما عموم من وجه ، لكون الثاني عامّا للمملوك وغيره والأوّل عامّا للإنسان وغيره ، فيجتمعان في الإنسان المملوك ، إذ لا يعقل في مثل ذلك مادّة افتراق من أحد الجانبين لينفرد عنه مادّة الاجتماع ، نظرا إلى أنّ الثاني ليس له فرد يكون خارجا عن الأوّل كما أنّه له فرد خارج عنه.

وقضيّة ذلك كونه بالقياس إليه خاصّا وإن كان عامّا بالقياس إلى ما تحته ، وظاهر أنّ الخاصّ مقدّم في جميع أحواله بجميع أفراده.

هذا كلّه إذا فرضنا عموم ما دلّ على اعتبار خبر العدل بالقياس إلى ما يجري في الأحكام وما يجري في موضوعاتها الّتي فيها محلّ الكلام ، وأمّا لو فرضناه بالقياس إلى ما لا يفيد منه العلم وما يفيده ولو بمعونة القرائن الداخلة أو الخارجة اتّجه القول بكون النسبة بينه وبين ما دلّ على المنع عموما من وجه ، لكن يقع المناقشة في دعوى عدم الترجيح أو كون المرجّح في جانب عموم المنع ، لما قرّر في محلّه من أنّ العامّين من وجه إذا كانا من باب الظاهر والأظهر يبنى على ما كان منهما أظهر ، تقديما لمرجّح الدلالة على سائر المرجّحات ، داخليّة كانت أو خارجيّة كالأصل والشهرة على ما [ في ] كلام القائل.

ولا ريب أنّ ما يقضي بالجواز من العامّين أظهر دلالة ممّا يقضي منهما بالمنع من

٩٩

جهات شتّى وإن كانت دلالته مفهوميّة.

منها : أنّ الأوّل أقلّ أفرادا من الثاني ، ومن المقرّر المصرّح به أنّ العامّ كلّما قلّ أفراده قربت دلالته بخلاف ما لو كثرت أفراده.

ومنها : أنّ الثاني في مورد التخصيصات كثيرة بخلاف الأوّل ، وظاهر أنّ كثرة التخصيص من موجبات ضعف الدلالة بالقياس إلى قلّته ، بل التخصيص ولو واحدا ممّا يوجب وهنا في العامّ ، ولذا صار قوم إلى منع حجّية العامّ المخصّص.

ومنها : أنّ الثاني وارد مورد توهّم الاختصاص ، ولذا صرّح بعض الأعلام في غير موضع بكونه مختصّا باصول الدين بخلاف الأوّل.

وممّا ذكر يتّضح ما في قوله : « ولذا لو كانت عموما مطلقا لا ينفع ».

والأولى في منع نهوض خبر العدل حجّة في المقام أن يقال : بمنع نهوض آية النبأ دليلا على حجّية خبر الواحد مطلقا ، لأنّ العمدة في وجه الاستدلال إنّما هو البناء على مفهوم الشرط ، وهو على تقدير ثبوته هنا غير قاض بحكم نبأ العدل نفيا واثباتا ، إذ ليس نبأ العدل بما سيق الكلام لبيان حكمه لا منطوقا ولا مفهوما.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ العبرة في المفهوم إنّما هو بالدلالة على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط ، فلا بدّ وأن يكون المعتبر انتفائه في جانب المفهوم ما اعتبر ثبوته من الشرط في جانب المنطوق.

وظاهر أنّ ما اعتبر ثبوته في منطوق الآية إنّما هو مجيء الفاسق بالنبأ ، فيكون المعتبر في مفهومها عدم مجيء الفاسق بالنبأ ، فأقصى ما يحصل من الدلالة المفهوميّة حينئذ إنّما هو عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق ، وأمّا مجيء العادل فليس بداخل فيه أصلا ولا أنّه من لوازمه عقلا ولا عرفا.

ودعوى : أنّه يشمل ما لو جاء العادل بنبأ فلا يجب التبيّن فيه أيضا.

يدفعها : أنّ هذا الشمول ليس ممّا يقتضيه لفظ ، حيث لا لفظ في جانب المفهوم ولا فهم عرفي ، حيث إنّه شيء يعتبره العقل من جهة أنّ قضيّة عدم مجيء الفاسق قد تجامع من باب الاتّفاق مجيء العادل ، ومثل هذا الاعتبار لا اعتداد به في نظر العرف ولا ينوط به أمر المحاورة وطريقة أهل اللسان كما لا يخفى على المتأمّل ، ولذا ترى أنّ العرف في مفهوم

١٠٠