تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

كون صدوره في محلّ الحاجة إلى بيانه لو كان المعتبر عند المتكلّم هو المقيّد ، لأنّ الإغراء القبيح إنّما يلزم على هذا التقدير بخلاف ما لو كان في غير محلّ الحاجة إلى بيانه ، كما لو كان السامع واجدا للشرط الّذي هو القيد إذ لا يلزم من عدم ذكر القيد مع اعتبار المقيّد على هذا التقدير إغراء بالجهل حتّى ينفي احتماله بقبحه ، فلا يجري حكم العقل المثبت للعموم حينئذ.

ومن هنا ترى أنّ المحقّق البهبهاني منع من التمسّك بإطلاق الآية في صلاة الجمعة لإثبات كون وجوبها مطلقا غير مشروط بحضور السلطان العادل أو نائبه الحادث على القول باختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين بسند أنّ الخطاب ليس معنا حتّى يلزم الإغراء القبيح في حقّنا ، وأمّا في حقّ المشافهين فمن الجائز كونه مشروطا بما ذكر وإنّما لم يصرّح بذكره في الخطاب لعدم حاجة المخاطبين الى التصريح بذكره لمكان وجدانهم الشرط ، فلا يلزم الإغراء بالجهل حتّى ينفي احتمال التقييد والإشتراط بقبحه.

ثمّ إنّ العموم الإطلاقي المبنيّ على حكم العقل المنوط بقبح السكوت عن البيان في مقام الحاجة إليه كما يجري بالنسبة إلى أفراد الماهيّة كذلك يجري بالنسبة إلى توابع الماهيّة ولوازمها ، وقد يعبّر عنه بـ « حجّيّة الإطلاق بالنسبة إلى اللوازم » كما أنّه حجّة بالنسبة إلى الأفراد ، وذلك كإطلاق ما دلّ على صحّة الصلاة في ثوب فيه عذرة السنّور أو الكلب ممّن لم يعلم به الدالّ على كون خلوّ لباس المصلّي من الشروط العلميّة المتناول لما هو من لوازم نجاسة هذه العذرة وهو كونه جزءا لما لا يؤكل لحمه ـ بناء على تعميم الأجزاء للفضلات ـ فيدلّ على عدم قدحها في صحّة الصلاة من هذه الجهة ؛ لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل بسبب السكوت في معرض البيان لو كانت مبطلة للصلاة من الجهة الثانية اللازمة للجهة الاولى ، ومن هذا القبيل طهارة البلل الباقية في المحلّ المغسول وطهارة يد الغاسل لإطلاق ما دلّ على طهارة المحلّ بالغسل فإنّه لولا طهارتهما تبعا للمحلّ لزم الإغراء من السكوت عن البيان في مقام الحاجة إليه ، وقد يعبّر عن ذلك بـ « قاعدة التبعيّة ».

ومنها : طهارة آلات إذهاب ثلثي العصير لإطلاق ما دلّ على طهارة العصير بذهاب ثلثيه وطهارة آلات النزح من الدلو والحبل ويد النازح وجوانب البئر على القول بنجاسته ، لإطلاق ما دلّ على طهارته بنزح المقدّر ، إلى غير ذلك من موارد الطهارة بالتبعيّة فإنّها في الجميع تثبت بإطلاقات النصوص الواردة فيها.

٨٠١

ولا ينافيها ما سيأتي في بيان شرائط حجّيّة الإطلاق في المطلقات من اشتراطها بعدم وروده مورد بيان حكم آخر ، نظرا إلى أنّ حكم الملزوم بالقياس إلى اللوازم حكم آخر والنصّ الوارد لبيانه وارد مورد بيان حكم آخر فلا معنى للتمسّك بإطلاقه بالنسبة إلى اللوازم ، لأنّ مورد قاعدة التبعيّة ما يكون بحسب العرف من توابع مورد النصّ ، وضابطه كونه لازما دائميّا أو لازما غالبيّا له.

وأمّا ما يندر ويتّفق ندرة فهو ممّا لا يجري فيه قاعدة التبعيّة ولا يتناوله الإطلاق ، وهذا مورد قاعدة عدم حجّيّة إطلاق المطلق لوروده مورد بيان حكم آخر ، ولذا لا نجري قاعدة التبعيّة فيما يندر في الحصر والبواري الّتي تطهّر إذا جفّفتها الشمس من الخيوط المعمولة ، ولا فيما عدا يد النازح في نزح المقدّر من ثيابه وسائر مواضع بدنه ، ولا فيما عدا الآلات والمباشر في إذهاب ثلثي العصير من أرض بيت الطبخ وجدرانه ومن لا يباشر لندرة اتّفاق تنجّسها بهذا العصير فلا يعدّه العرف من التوابع فلا يشمل الإطلاق.

ثمّ إنّه شاع في كلام العلماء منع العموم في بعض المطلقات تعليلا بأنّه نكرة في سياق الإثبات وهي لا تفيد العموم ، وهذا لا ينافي حكم العقل فيه من جهة الإغراء اللازم من السكوت في معرض البيان بالعموم ، لأنّ المنفيّ هو العموم الشموليّ أعني عموم الإيجاب بحيث يكون القضيّة معه موجبة كلّية ، فإنّهم ذكروا ذلك في النكرة المثبتة قبالا للنكرة المنفيّة المفيدة لعموم السلب بحيث تكون القضيّة معه سالبة كليّة يريدون بذلك أنّها ليست كالنكرة في سياق النفي مفيدة للعموم الشموليّ ، والمثبت بحكم العقل هو العموم البدلي فلا تنافي بين النفي المذكور وهذا الإثبات ، فقوله : « أعتق رقبة » ليس معناه : « أعتق كلّ رقبة » وإن كان العقل يحكم بعموم حكمه لأيّ رقبة على البدل.

ثمّ إنّ العموم المستفاد من المطلق بضميمة حكم العقل قد يكون بدليّا كما لو كان الحكم المعلّق عليه أمرا إيجابيّا أو ندبيّا سواء كان المطلق ممّا دلّ على الماهيّة كما لو قال : « أعتق الرقبة » أو ممّا دلّ على فرد مّا من الماهيّة بمعنى الفرد المنتشر كما لو قال : « أعتق رقبة » فالعقل بملاحظة السكوت في معرض البيان يحكم بأنّ اللازم من إيجاب الماهيّة أو فرد مّا منها وجوب أيّ فرد منها أو أيّ مصداق منه على البدل ، ومن ندب الماهيّة أو فرد مّا منها استحباب أيّ فرد منها أو أيّ مصداق منه على البدل وإلاّ لزم الإغراء بالجهل وهو قبيح.

وقد يكون شموليّا كما لو كان الحكم المعلّق عليه نهيا تحريميّا أو تنزيهيّا كما لو قال :

٨٠٢

« لا تعتق الرقبة » أو « لا تعتق رقبة » أو تحليلا وإباحة كقوله : « أحلّ الله عتق الرقبة أو عتق رقبة » أو حكما وضعيّا كالطهارة كقوله : « الماء طاهر » والنجاسة كقوله : « البول نجس » أو غير هما ، فالعقل في الجميع بملاحظة السكوت في مقام الحاجة إلى البيان يحكم بعموم هذه الأحكام لجميع أفراد الماهيّة ولجميع مصاديق فرد مّا منها وإلاّ لزم الإغراء بالجهل وهو قبيح.

وبالتأمّل في جميع ما حقّقناه يظهر أنّ العموم في باب المطلقات مدلول التزامي بدلالة الإشارة ، لأنّ العقل بملاحظة الخطاب وملاحظة قبح الإغراء بالجهل يحكم بكون لازم المراد من إيجاب الماهيّة أو الفرد المنتشر منها وجوب أيّ فرد أو أيّ مصداق على البدل ، ومن تحريم الماهيّة أو الفرد المنتشر مثلا حرمة جميع أفراد الماهيّة أو جميع مصاديق الفرد المنتشر ، وأنّ هذه الدلالة قائمة بهيئة الكلام لا بنفس المطلق الّذي هو من مفرداته ، لأنّ العقل بملاحظة إيجاب عتق ماهيّة الرقبة أو الفرد المنتشر منها في المثال المتقدّم الّذي هو معنى المركّب يحكم بكون لازم المراد منه وجوب أيّ فرد أو أيّ مصداق على البدل.

وبعبارة اخرى : هذا المعنى الالتزامي كالمدلول عليه بدلالتي الاقتضاء والإيماء من لوازم المعنى المراد من المركّب.

وبجميع ما قرّرناه من البداية إلى تلك النهاية يعلم أنّ الفرق بين العموم في العمومات والعموم في المطلقات من وجوه :

منها : أنّ الأوّل وضعيّ والثاني عقلي.

ومنها : أنّ الأوّل مدلول مطابقيّ والثاني مدلول التزاميّ.

ومنها : أنّ الدلالة على الأوّل قائمة بالمفرد والدلالة على الثاني قائمة بالمركّب.

ومنها : ما ستعرفه من أنّ الثاني قد يكون بدليّا بخلاف الأوّل فإنّه دائما شموليّ.

ثمّ إنّه كثيرا ما يستفاد العموم الشموليّ في باب المطلقات بطرق اخر غير قبح الإغراء اللازم من السكوت في مقام الحاجة إلى البيان ، من قرينة مقام كورود الخطاب في مقام الامتنان كما في قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً )(١) وقوله أيضا : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ )(٢) أو دليل حكمة كما صنعه المصنّف في نحو قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٣) أو قاعدة سراية كما صنعه بعض الأعلام في نحو المثال ، والوجه في اختلافه مع المصنّف في الطريقة اختلاف نظر هما في جواز تعلّق الأحكام بالطبائع وعدمه ، فمن

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.

(٢) الأنفال : ١١.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

٨٠٣

يراه جائزا تعلّق في إثبات العموم بقاعدة السراية ، ومن لا يراه جائزا تعلّق في إثباته بدليل الحكمة ، فقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) عند الفريقين في معنى : « أحلّ الله كلّ بيع » إلاّ أنّه عند أحدهما لقاعدة السراية وعند الآخر لدليل الحكمة.

ثمّ إنّ العموم الإطلاقي في المطلقات لاستناده إلى حكم العقل من جهة قبح الإغراء ينتفي حيث لا يجري فيه حكم العقل ، وهذا يتحقّق في مواضع كثيرة :

الأوّل : كلّ مطلق علم أو احتمل عدم وروده في محلّ ابتلاء السامع على تقدير إرادة الفرد المعيّن منه ، وهذا ممّا لا يمكن نفي احتمال التعيين فيه بحكم العقل.

الثاني : ما علم أو احتمل فيه على تقدير إرادة التعيين عدم حاجة السامع إلى البيان لكونه واجدا للشرط فلا يجري فيه حكم العقل لنفي الاحتمال المذكور.

الثالث : ما علم أو احتمل فيه اقتضاء المصلحة للإجمال إلاّ أن يكون هناك في صورة الاحتمال ظهور أو أصل ينفيه فيحرز به موضوع حكم العقل.

الرابع : ما علم أو احتمل فيه تعرّض المتكلّم لبيان التعيين بنصب قرينة عليه ولكن ذهل منها السامع أو خفيت عليه على تقدير إرادة التعيين إلاّ إذا كان في صورة الاحتمال أصل أو ظهور ينفيه لإحراز موضوع حكم العقل.

الخامس : ما علم أو احتمل أيضا على تقدير إرادة التعيين اختفاء القرينة والبيان على غير السامع ممّن يريد التمسّك بالإطلاق إلاّ أن ينفي الاحتمال أيضا بأصل أو ظهور لإحراز الموضوع.

السادس : ما علم أو احتمل فيه كون مقصود المتكلّم أصالة بيان أصل الحكم لا موضوعه فضلا عن كمّيّة ذلك الموضوع كما هو الغالب في الأخبار والحكايات.

السابع : كلّما انصرف إلى الأفراد الشائعة فلو كان نظر المتكلّم فيه مقصورا على الأفراد الشائعة من دون قصد إلى تعميم الحكم للأفراد النادرة أيضا لم يلزم إغراء.

الثامن : ما كان واردا مورد بيان حكم آخر كقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )(٢) فلو لم يقصد به تعميم الحليّة بالقياس إلى موضع عضّ الكلب نظرا إلى نجاسته بالملاقاة إلاّ بعد إزالتها لم يلزم إغراء أيضا.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ٤.

٨٠٤

الأمر الثالث

في حقيقة المطلق ومجازه ، وبيان أنّه بأيّ نحو من الاستعمال يكون حقيقة وفي أيّ نوع منه يكون مجازا.

فاعلم أنّه قد ظهر من تضاعيف ما تقدّم ولا سيّما مقام التعريف أنّ المطلق له قسمان :

أحدهما : ما وضع للدلالة على الماهيّة من حيث هي.

والآخر : ما وضع للدلالة على الماهيّة من حيث الوحدة الغير المعيّنة المعبّر عنها تارة بالفرد المنتشر واخرى بفرد مّا من الماهيّة ، أيّ الفرد المعرّى عن اعتبار التعيين.

وظاهر أنّ حقيقة الأوّل إنّما هو إذا استعمل في الماهيّة لا باعتبار الوجود الملازم للتعيين ولا باعتبار الوصف المخصوص وإن لم يلازم الوجود كالإيمان والكفر وما أشبه ذلك ، ومجازه إنّما هو حيث استعمل في الماهيّة الموجودة أي المجموع من الماهيّة ووجودها بأن يكون الوجود أيضا جزء من المستعمل فيه ، أو الماهيّة الموصوفة بمعنى المجموع من الماهيّة ووصفها بأن يكون الوصف أيضا جزءا من المستعمل فيه ، فوجه المجازيّة حينئذ دخول ما خرج عن الموضوع له في المستعمل فيه.

وعلى هذا القياس حقيقة القسم الثاني ومجازه فإنّه إذا استعمل في الفرد لا باعتبار التعيين يكون حقيقة ، وإذا استعمل فيه باعتبار التعيين أي مع جزئيّته للمستعمل فيه يكون مجازا.

وأمّا إذا اطلق المطلق بالمعنى الأوّل واريد المقيّد أعني الماهيّة باعتبار الوجود الملازم للتعيين أو باعتبار الوصف وإن لم يلازم الوجود ففي كونه حقيقة مطلقا أو مجازا كذلك أو حقيقة في الجملة ومجازا كذلك خلاف على أقوال :

أوّلها : معروف عن المحقّق السلطان.

وثانيها : عن بعض الأعلام ، وإن كان يخدشه أنّ ظاهر عبارته التفصيل بين ما في الأخبار فالحقيقة وما في الإنشاء فالمجاز ، فهذا التفصيل ثالث الأقوال.

ورابعها : التفصيل بين المقيّد بالمتّصل : كـ « رقبة مؤمنة » فالحقيقة ، والمقيّد بالمنفصل كما لو حمل المطلق في قوله : « أعتق رقبة » على المقيّد بدليل قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » وهو خطاب منفصل عن الأوّل وهذا خيرة الضوابط تبعا لشيخه الشريف.

ومن المعلوم عدم إمكان تنزيل هذا النزاع على الكبرى في صغرى فرضيّة محرزة وهي فرض المطلق مستعملا في المقيّد باعتبار الماهيّة المتحقّقة فيه معرّاة عن التعيين

٨٠٥

والخصوصيّة الحاصلة من انضمام القيد إليها حتّى يكون القائل بالمجازيّة قائلا بها في نحو هذا الفرض مع أنّه غير صحيح لفرض وقوع الاستعمال على نفس ما وضع له اللفظ ، أو مستعملا في المقيّد باعتبار التعيين والخصوصيّة الحاصلة من انضمام القيد حتّى يكون القائل بالحقيقيّة قائلا بها في نحو هذا الفرض مع قضاء الضرورة ببطلانه لخروج التعيين عمّا وضع له اللفظ وقد دخل في المستعمل فيه ، بل راجع إلى الصغرى وهو جواز أن يطلق المطلق على المقيّد ويراد منه الماهية المعرّاة اللابشرط الوجود والتعيين والوصف واحيل فهم الخصوصيّة والتعيين إلى أمر خارج من اللفظ اتّصل به في الخطاب : كـ « مؤمنة » في « رقبة مؤمنة » أو انفصل عنه في الخطاب كـ « رقبة مؤمنة » في حمل المطلق عليه ، فالقائل بالحقيقة يدّعي جواز نحو هذا الاستعمال فإذا استعمل كان حقيقة ، والقائل بالمجازيّة ينكر جواز ذلك بدعوى : أنّه لا بدّ من إرادة الخصوصيّة والتعيين أيضا من اللفظ لئلاّ يلزم تعليق الحكم بالمبهم فإذا استعمل على هذا الوجه كان مجازا.

وممّا ذكرناه يعلم أنّ المجوّز الّذي هو القائل بالحقيقة مستظهر لوجود المقتضي للجواز وهو الوضع ، والمانع من الجواز القائل بالمجازيّة يطالب بسند منعه.

وقد عرفت أنّه استند في منعه إلى لزوم تعليق الحكم بالمبهم ـ كما في كلام بعض الأعلام ـ فهو ينكر الجواز لمانع عقلي لا لمانع لغويّ ليكون الاستعمال على فرض وقوعه غلطا ، فينبغي التكلّم في سند منعه الّذي لو تمّ كان مانعا عقليّا.

فنقول : إنّ الحقّ الّذي لا محيص عنه هو جواز استعمال المطلق في المقيّد على الوجه المذكور لوجود المقتضي وفقد المانع.

أمّا الأوّل : فهو الوضع لكون ما ذكر وجها من وجوه الاستعمال فيما وضع له.

وأمّا الثاني : فلعدم صلاحيّة ما ذكر من لزوم تعليق الحكم بالمبهم للمانعيّة ، فإنّ المبهم الّذي يلزم تعليق الحكم به إمّا أن يراد به الماهيّة المأخوذة بشرط الإبهام وعدم التعيين ، أو يراد به الماهيّة المأخوذة لا بشرط التعيين ولا عدمه.

فإن اريد الأوّل فبطلان اللازم وإن كان مسلّما ـ لاستحالة تعليق الحكم بالماهيّة المأخوذة على هذا الوجه فتارة لأمر يرجع إلى الشارع ، واخرى لأمر يرجع إلى المكلّف.

أمّا الأوّل : فلأنّ الماهيّة بشرط الإبهام وعدم التعيين لا وجود لها في الخارج فيقبح على الحكيم أن يجعل لها حكما أو يأمر بإيجادها لعرّاه عن الفائدة.

٨٠٦

وأمّا الثاني : فلأنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان بها امتثالا للأمر لعدم وجودها فيلزم تكليف ما لا يطاق ـ ولكنّ الملازمة غير مسلّمة ، فإنّ الماهيّة لها اعتبارات ثلاث : أخذها بشرط التعيين ، وأخذها بشرط عدم التعيين ، وأخذها لا بشرط التعيين ولا بشرط عدم التعيين ، والأوّل اعتبار لمجازيّة المطلق في المقيّد والقول بالحقيقيّة نفي لهذا الاعتبار وهو لا يلازم الالتزام بالاعتبار الثاني لثبوت الواسطة بين الاعتبارين وهو الاعتبار الثالث ، وعلى الالتزام به مبنى القول بالحقيقيّة ولا استحالة في تعليق الحكم بالماهيّة المأخوذة بهذا الاعتبار لأنّها توجد في الخارج ، فلا يقبح جعل الحكم لها ولا يكون من تكليف ما لا يطاق.

وإن اريد الثاني فكلّ من الملازمة وبطلان اللازم ممنوع.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحكم المعلّق على المطلق يتعلّق بالمقيّد بمجموع جزئيه أعني الماهيّة وتعيينها ، فموضوع الحكم مركّب غير أنّ جزءه الأوّل وهو الماهيّة يراد من المطلق وجزءه الثاني وهو التعيين يحال فهمه إلى خارج من اللفظ متّصل به وهو القيد : في « رقبة مؤمنة » أو منفصل عنه وهو المقيّد بالقياس إلى « رقبة » في : « أعتق رقبة ».

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الماهيّة المأخوذة لا بشرط شيء من التعيين وعدمه يوجد في الخارج ، فلا يلزم من تعلّق الحكم بها عراه عن الفائدة ولا تكليف ما لا يطاق.

وكذا الكلام في المطلق بالمعنى الثاني فإنّه إذا أطلق النكرة الموضوعة لفرد مّا من الماهيّة على شخص معيّن كما في : « جاء رجل » و « أعتقت رقبة » أو على فرد مّا موصوف كمعنى : « رجل عالم » إذا أطلق عليه « رجل » في قوله : « أكرم رجلا » أو « رقبة مؤمنة » إذا أطلق عليها « رقبة » في : « أعتق رقبة » لكن لا بحيث دخل التعيين أو الوصف في المستعمل فيه ، بأن يراد من اللفظ نفس الفرد الغير المعيّن المعبّر عنه بـ « فرد مّا » ويحال فهم الخصوصيّة من التعيين والوصف إلى خارج من اللفظ كان على الحقيقة ، ولا مانع من جوازه لغة ولا عقلا لا في الخبر ولا في الإنشاء.

ودعوى لزوم تعليق الحكم بالمبهم مطلقا أو في الإنشاء لأنّ الفرد الغير المعيّن الّذي هو معنى فرد ما أمر مبهم.

يدفعها : أنّ عدم التعيين المأخوذ مع الفرد هنا معناه أخذ الفرد في لحاظ الاستعمال لا باعتبار التعيين لا أخذه باعتبار عدم التعيين وبشرطه وهو المأخوذ في لحاظ الوضع أيضا ، ولا استحالة في تعليق الحكم بالمبهم بهذا المعنى ، هذا مضافا إلى منع الملازمة بالتقريب المتقدّم.

٨٠٧

لا يقال : إنّ الفرد عبارة عن الماهيّة المأخوذة من حيث الوجود ، وحاصله الحصّة الموجودة من الماهيّة والوجود المأخوذ في مفهوم الفرد لا ينفكّ عن التعيين ، فأخذ الوجود في مفهوم الفرد مع أخذ الفرد لا باعتبار التعيين يتنافيان.

لأنّا نقول : إنّ الوجود المأخوذ في مفهوم الفرد باعتبار لحاظ الاستعمال قد يعتبر على وجه التعيين كما في المعرّف بلام العهد ، وقد يعتبر على وجه الترديد لا بمعنى أنّ الوجود في الفرد الموجود في الخارج يكون بحسب الخارج مردّدا فإنّه بضابطة : « أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد » غير معقول ، بل بمعنى أنّ المتكلّم في لحاظ الاستعمال لا يقصد التعيين من اللفظ ولا ينصب عليه قرينة مع اللفظ سواء كان معهودا عنده كما في : « جاءني رجل » أو لا كما في : « جئني برجل » وهذا هو معنى عدم اعتبار التعيين.

ولا ريب أنّ عدم اعتباره في لحاظ الاستعمال لا ينافي لزومه للوجود في لحاظ الخارج ، وقضيّة عدم اعتباره في لحاظ الاستعمال أن يكون الوجود المأخوذ في مفهوم الفرد مردّدا في نظر السامع بين وجودات المصاديق الخارجيّة على البدل ، بل هذا الترديد هو نفس البدليّة وهو الانتشار المأخوذ في الفرد المنتشر المرادف لفرد مّا في معنى النكرة.

والأصل في ذلك كلّه أنّ الماهيّة تتحصّص بحصص كثيرة خارجيّة على معنى كون كلّ حصّة موجودة في الخارج متعيّنة في حدّ ذاتها باعتبار كونها متشخّصة بمشخّصها الخاصّ ، وهذه الحصّة الموجودة المتعيّنة يقال لها : « الفرد » وهذا الفرد قد يؤخذ موردا للحكم مع اعتبار تعيّنه في كلّ من تعلّق الحكم به ووقوع الاستعمال عليه كأن يقول : « أعتق رقبة » مريدا بها خصوص « المبارك » بقيد الخصوصيّة ، ولازمه المجازيّة ويجب معه على المتكلّم نصب القرينة عليه حين الخطاب أو في وقت الحاجة لو كان متأخّرا عن الخطاب ، وقد يؤخذ موردا للحكم مع اعتبار تعيّنه في تعلّق الحكم به وعدم اعتباره في وقوع الاستعمال عليه ، وهذا من حيث الاستعمال حقيقة لعدم دخول الخصوصيّة والتعيين في المستعمل فيه ولكن لكونهما معتبرين في متعلّق الحكم وموضوعه يجب على المتكلّم بيانهما في وقت الحاجة لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل.

وقد يؤخذ موردا للحكم مع عدم اعتبار تعيّنه في تعلّق الحكم به ولا في وقوع الاستعمال عليه ، وهذا أيضا من حيث الاستعمال حقيقة مع كونه مطلقا من حيث الحكم ، وقضيّة عدم اعتبار التعيين في هذا وسابقه ولو في لحاظ الاستعمال فقط أن يكون الوجود

٨٠٨

المأخوذ في مفهوم الفرد مردّدا في نظر السامع بين وجودات الحصص الخارجيّة ، ومرجعه إلى تردّد نفس الحصّة الموجودة المأخوذة في لحاظ الاستعمال لا باعتبار الخصوصيّة والتعيين بين سائر الحصص الخارجيّة ، ولأجل هذا التردّد يقال : « الحصّة الشائعة » تارة ، و « الفرد المنتشر » اخرى ، و « فرد مّا من الماهيّة » ثالثة.

وبما قرّرناه يندفع توهّمان :

أحدهما : توهّم من توهّم « فردا مّا » في معنى النكرة ونحوها كلّيا.

ووجه الاندفاع : أنّ الحصّة الموجودة المتعيّنة لم تكن إلاّ جزئيّا حقيقيّا لا متناع صدقها على الكثيرين ، وأخذها في لحاظ الوضع أو الاستعمال بلا اعتبار التعيين لا يخرجها عن الجزئيّة ولا يعطيها عنوان الكليّة لبقائها بعد على امتناع صدقها على الكثيرين ، وإنّما أوجب ذلك احتمالها للحصص الخارجيّة وهو ليس من صدقها على الكثيرين.

لا يقال : لعلّ مبنى التوهّم على أخذ « فرد مّا » بمعنى مفهوم « فرد مّا » والجزئي الحقيقي هو مصداق « فرد مّا » لا مفهومه ، إذ لا فرق في جزئيّة « فرد مّا » بين أخذه بمعنى المصداق وأخذه بمعنى المفهوم ، لأنّ المفهوميّة لا تلازم الكلّيّة ولا تنافي الجزئيّة ، فإنّ المفهوم عبارة عمّا حصل عند العقل وهو بهذا المعنى قدر مشترك بين الكلّي والجزئي ولذا جعلوا المفهوم في تقسيماتهم للكلّيّ والجزئي مقسما.

وحينئذ نقول : إنّ الحصّة الموجودة المتعيّنة إذا اخذت بلا شرط التعيين يقال لها : « فرد مّا » وإذا اعتبر حصول الحصّة المأخوذة بلا شرط التعيّن عند العقل يقال لها : « مفهوم فرد مّا » فعروض المفهوميّة لها لا يخرجها عن الجزئيّة الحقيقيّة ، لأنّ الجزئي الحقيقي أيضا إذا اعتبر حصوله عند العقل مفهوم.

وثانيهما : توهّم من توهّم عدم جريان اعتبار إطلاق الكلّيّ على الفرد في المعرّف بلام العهد الذهني كبعض الأعلام ، تعليلا بأنّ إطلاق الكلّيّ على الفرد [ لا يصحّ ] إلاّ فيما صحّ اتّحاد الكلّيّ مع الفرد ، ولا يصحّ الاتّحاد إلاّ في الفرد الموجود في الخارج ، والمأخوذ في معنى المعرّف بلام العهد الذهني « مفهوم فرد مّا » ولا وجود لمفهوم فرد مّا فلا يتّحد معه الكلّي في الوجود.

ذكره في ردّ مقالة التفتازاني ومن وافقه بكون المعرّف بلام العهد الذهني حقيقة في معناه على وجه إطلاق الكلّي على الفرد ، بإرادة الماهيّة المتحقّقة في فرد مّا من مدخول

٨٠٩

« اللام » وإحالة فهم خصوصيّة حيث الوجود في ضمن الفرد الغير المعيّن إلى الخارج (١).

ووجه الاندفاع : أنّ مفهوم « فرد مّا » ليس إلاّ الحصّة الموجودة من الماهيّة الّتي لحقها اعتباران : أحدهما : أخذها بلا شرط التعيين.

والآخر : اعتبار حصولها عند العقل ، ولا يوجب شيء من الاعتبارين انسلاخ الوجود عنها.

أمّا الأوّل : فلأنّ غاية ما يوجبه عدم اعتبار التعيين إنّما هو ترديد وجودها في نظر السامع بين وجودات سائر الحصص الخارجيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ حصولها عند العقل لا ينافي حصولها في الخارج بل يؤكّده ، فإنّ الحصّة الحاصلة في الخارج بوصف حصولها في الخارج يعتبر حصولها عند العقل.

وأقوى ما يشهد بذلك كون المفهوم جهة جامعة بين الكلّي والجزئي ووقوعه مقسما في التقسيم إليهما حسبما أشرنا إليه.

لا يقال : إطلاق الكلّي على الفرد إنّما يصحّ فيما صحّ فيه الحمل المتعارفي كما في المعرّف بلام العهد الخارجي كقوله : « أكرم الرجل » مشيرا إلى الرجل الحاضر كزيد فيصحّ أن يقال : « هذا الشخص رجل » أو « زيد رجل » وهذا لا يصحّ في المعرّف بلام العهد الذهني ، إذ لا يصحّ أن يقال : « فرد مّا رجل » لمنع عدم صحّة الحمل فيه ، ضرورة صحّة القول : « بأنّ الحصّة الموجودة من ماهيّة ذات ثبت لها الرجوليّة المأخوذة بلا شرط التعيين رجل ».

وبما بيّنّاه يظهر أنّ التقييد كما أنّه في النكرة لا يستلزم التجوّز في اللفظ كذلك لا يستلزمه في المعرّف بلام العهد الذهني الّذي هو أيضا قسم من المطلق ، فيصحّ أن يطلق على فرد معيّن على وجه إطلاق الكلّي على الفرد بإرادة الماهيّة المتحقّقة فيه من اللفظ وإحالة فهم الخصوصيّة والتعيين إلى الخارج.

فإن قلت : المعرّف باللام الّذي يجري فيه هذا الاعتبار لمكان كون الفرد الّذي أطلق عليه اللفظ معيّنا أشبه بكونه من المعرّف بلام العهد الخارجي ، فما الباعث على عدّ الاعتبار المذكور من اعتبارات المعرّف بلام الذهني؟

قلت : الباعث عليه انتفاء المعهوديّة بأحد أسباب العهد من الحضور أو سبق الذكر أو المعروفيّة في الخارج في محلّ البحث ، ولا يكفي في العهد الخارجي مطلق التعيين بل يعتبر معه المعهوديّة عند السامع أيضا بأحد أسبابها.

__________________

(١) القوانين ١ : ٢١١.

٨١٠

نعم كونه من اعتباراته دون المعرّف بلام الجنس الّذي هو من المطلق بمعنى ما دلّ على الماهيّة من حيث هي مبنيّ على كون المعرّف باللام حقيقة في العهد الذهني بناء على القول باشتراكه بين المعاني الأربع ، وأمّا على القول بالمجازيّة بناء على انحصار حقيقة المعرّف باللام في تعريف الجنس فكما أنّ وروده لفرد مّا مجازا أو حقيقة بناء على الإطلاق من اعتبارات المعرّف بلام الجنس ، فكذلك وروده لفرد معيّن مجازا أو حقيقة إذا فرض على وجه الإطلاق من اعتباراته لا من اعتبارات المعرّف بلام العهد الذهني.

وتوهّم أنّه إذا استعمل في الفرد المعيّن لمناسبته لفرد مّا كان من اعتبارات المعرّف بلام العهد الذهني ، غاية ما هنالك كونه من سبك المجاز من المجاز.

يدفعه : أنّ سبك المجاز اعتبار يلحق اللفظ بالنسبة إلى ما لا يناسب معناه الحقيقي لمناسبة بينه وبين مجازيّ آخر يناسب المعنى الحقيقي ، وما نحن فيه غير منطبق عليه لوجود المناسبة بين الفرد المعيّن والجنس نحو المناسبة بين فرد مّا والجنس ، ومع إمكان كون الفرد المعيّن مجازا عن الجنس لا معنى للعدول عنه إلى جعله مجازا عن فرد مّا فقولنا : « بكون المعرّف بلام العهد الذهني كالنكرة في عدم استلزام التقييد فيه التجوّز » مبنيّ على القول بكونه حقيقة بالوضع في العهد الذهني.

ثمّ إنّه لا فرق في عدم استلزام التقييد في المطلق للتجوّز في اللفظ بين ما قيّد بالمنفصل وما قيّد بالمتّصل كما في : « رقبة مؤمنة » فإنّ « رقبة » هنا اطلق على المقيّد بالمؤمنة الّتي هي قيد متّصل باللفظ ، ولكن عدم استلزامه التجوّز فيه مبنيّ على عدم اعتبار « المؤمنة » قيدا توضيحيّا بجعلها قيدا احترازيّا ، إذ على التوضيح تكون بيانا لما اريد من « رقبة » وهو خصوص المؤمنة ، وأمّا على اعتباره احترازيّا لابدّ وأن يراد من « رقبة » الماهيّة المطلقة الشاملة للكافرة أيضا ليكون قيد « المؤمنة » احترازا عنها ، على معنى نفيه الحكم المعلّق على المطلق عنها ، فتأمّل.

وقد يتوهّم أنّ التقييد بالمقيّد بالمتّصل في نحو المثال يوجب التجوّز ، تعليلا بأنّ « مؤمنة » في نحو المثال صفة والأوصاف بحسب المعنى إخبار فقولنا : « رقبة مؤمنة » في معنى : « الرقبة مؤمنة » وهذا إمّا إخبار عن العامّ بالخاصّ أو عن الخاصّ بالعامّ أو عن المساوي بالمساوي ، ولا سبيل إلى الأوّل للزوم الكذب ، ولا إلى الثاني لدليل الخلف ، فيتعيّن الثالث وهذا هو معنى المجاز.

٨١١

ويدفعه : أنّ قولهم بكون الأوصاف إخبارا ليس على إطلاقه بل في حقّ الجاهل بالنسبة والاتّصاف ، كما أنّ الإخبار في حقّ العالم بالنسبة أوصاف ، ولا جهل في اتّصاف « الرقبة » بالمؤمنة للعلم الضروري لكلّ أحد بانقسام الرقبة إلى المؤمنة والكافرة ، ولو سلّم قبولها الجهل فكون التوصيف حينئذ في معنى الإخبار لإفادته العلم للجاهل بالنسبة والاتّصاف لا يلازم جريان جميع أحكام الخبر في التوصيف ، فلا يلزم من عدم جواز الإخبار عن العامّ بالخاصّ عدم جواز توصيف العامّ بالخاصّ وإلاّ لانسدّ باب القيود الاحترازيّة.

لا يقال : إنّ الإخبار عن العامّ بالخاصّ إنّما لا يجوز لجهة مشتركة بينه وبين توصيف العامّ بالخاصّ وهو لزوم الكذب ، لأنّ الكذب كالصدق من صفات النسبة الخبريّة فلا يتّصف به النسبة التوصيفيّة.

هذا كلّه ثمّ لا يخفى عليك أنّ مآل قولنا : « بأنّ التقييد في المطلقات لا يستلزم التجوّز » إلى دعوى إمكان اعتبار الحقيقة في المطلق مع التقييد ، دفعا لمقالة من استحاله مطلقا أو في الإنشاء خاصّة بزعم لزومه تعليق الحكم بالمبهم ، وأمّا استلزامه الحقيقة استلزاما ظهوريّا فلا ، فإنّا إن لم ندّع ظهوره في التجوّز فلا أقلّ من عدم ادّعاء ظهوره في اعتبار الحقيقيّة.

وحينئذ فإن أردنا التكلّم في استلزامه التجوّز فنقول : الّذي يساعد عليه النظر هو الفرق بين ما قيّد بما انفصل كقوله : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرة » إذا ورد بعد قوله : « أعتق رقبة » أو قبله وما قيّد بما اتّصل كرقبة في قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » فالأوّل يوجب ظهور التجوّز ، فإنّ قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرة » قبالا لقوله : « أعتق رقبة » إذا عرضا على العرف يجري في متفاهم العرف مجرى قوله : « لا تكرم زيدا » قبالا لقوله : « أكرم العلماء » في كشفه عن حقيقة المراد ، فكما أنّ : « لا تكرم زيدا » يكشف في متفاهم العرف عن كون المراد من « العلماء » ما عدا زيد ولازمه التجوّز ، فكذلك قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرة » يكشف عن كون المراد من « رقبة » في : « أعتق رقبة » خصوص « المؤمنة » فيكون مجازا تأخّر بيانه إلى وقت الحاجة الّذي هو زمان ورود المقيّد ، بخلاف الثاني فإنّ قيد « مؤمنة » لا ينافي ظهور « رقبة » في الماهيّة.

والفارق بينه وبين المنفصل هو العرف ، فإنّ قوله : « أعتق رقبة » ينهض في نظر أهل العرف قرينة صارفة للمطلق عن الماهيّة إلى خصوص المؤمنة ، وقيد « مؤمنة » مع « رقبة » قرينة مفهمة عندهم ، ومعنى القرينة المفهمة أنّها لإفهام أنّ الماهيّة في معنى المطلق أخذت

٨١٢

باعتبار تعلّق الحكم بها بوصف الإيمان وهذا لا يوجب التجوّز ، لأنّ اللفظ اريد منه الماهيّة واعتبار الوصف معها في تعلّق الحكم بها استفيد من القيد أو من التوصيف أو من الهيئة التركيبيّة على وجه تعدّد الدالّ.

وبالجملة اعتبار الوصف مع الماهيّة من جهة القيد أو التوصيف أو التركيب لا يزاحم ظهور اللفظ في إرادة الماهيّة ولا يخرجه عنه.

لا يقال : إنّ الماهيّة في معنى المطلق اخذت لا بشرط الوصف ، والتقييد يوجب زوال اللابشرطيّة عنها ولازمه التجوّز.

لأنّ قولهم : « لا بشرط الوصف » في تفسير المطلق ليس قيدا للماهيّة مأخوذا معها في الوضع ليوجب زوالها التجوّز ، بل هو بيان لعدم اعتبار وصف مع الماهيّة في الوضع ، فالموضوع له نفس الماهيّة من حيث هي هي ، فإذا اريدت من اللفظ فلا يوجب التقييد بالمتّصل إلاّ اعتبار وصف معها من جهة الخارج فيكون معنى المجموع الماهيّة الموصوفة بوصف الإيمان مثلا من باب دالّين لمدلولين.

فعلم بما ذكرناه أنّ المتّجه من أقوال المسألة هو القول بالتفصيل.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته في توجيه الحقيقة في المقيّد بالمتّصل إنّما يتمّ في المطلق بمعنى الماهيّة ، وأمّا المطلق بمعنى الحصّة الشائعة فالتقييد فيه يوجب زوال الشيوع المأخوذ مع الحصّة في وضع اللفظ كالنكرة فيكون مجازا لزوال بعض ما دخل في الوضع.

قلت : دخول الشيوع في وضع النكرة غير واضح بل محلّ منع ، بل هو من لوازم معناها فالتعريف به من باب التعريف باللازم ، فإنّ المأخوذ في وضعها الماهيّة من حيث الوحدة لا بعينها ، وحاصله كما ذكرناه مرارا الحصّة الموجودة منها المأخوذة بلا شرط التعيين ، وعدم اعتبار التعيين مع الحصّة في الوضع والاستعمال يستلزم تردّدها في نظر السامع بين سائر الحصص الخارجيّة واحتمالها الجميع ، سواء كانت معيّنة عند المتكلّم كما في : « جاءني رجل » أو لا كما في : « جئني برجل » وهذا التردّد والاحتمال هو الشيوع المعبّر عنه بالانتشار فيكون خارجا عن الموضوع له لازما له.

ولو سلّم دخوله في الوضع شطرا أو شرطا يتطرّق المنع إلى خروجه عن الاستعمال ، فإنّ الحصّة المأخوذة بلا شرط التعيين حيث اريدت من اللفظ كانت شائعة ، وحيث طرأها الوصف من جهة التقييد اعتبارا لموضوع الحكم زال عنها الشيوع ، وزواله من هذه الحيثيّة

٨١٣

لا ينافي دخوله من الحيثيّة الاُولى لأنّ الحيثيّتين مجتمعتان فلا موجب للتجوّز.

وتوهّم أنّ التجوّز لازم باعتبار دخول الخصوصيّة ، فإنّ الحصّة أخصّ من الماهيّة وهي بهذه الخصوصيّة تراد من اللفظ.

يدفعه : أنّ هذه الخصوصيّة إنّما تدخل في الاستعمال تبعاً لدخولها في وضع النكرة نوعاً باعتبار الهيئة التركيبيّة الحاصلة من انضمام التنوين إلى اسم الجنس الموضوع للماهيّة من حيث هي ، فدخول الخصوصيّة المذكورة في الاستعمال ليس من مقتضيات التقييد بل من مقتضيات وضع النكرة وإن لم تكن مقيّدة فلا مدخليّة للتقييد فيه.

المقام الثاني

فيما يتعلّق بالمطلق من حيث انصرافه أو وروده مورد بيان حكم آخر وعدمه.

فنقول : إنّهم ذكروا للعمل بإطلاق المطلق وحجّيّته في جميع أفراد الماهيّة ومصاديق الفرد المنتشر شرطين :

الشرط الأوّل : أن يكون المطلق متواطئاً ، وقد يعبّر عنه بأن لا يكون منصرفاً إلى بعض الأفراد دون بعض.

فليعلم أوّلا أنّ الاُصولييّن كما تبعوا المنطقيّين في اصطلاح الكلّي والجزئي كذلك تبعوهم في اصطلاح المتواطئ والمشكّك ، إلاّ أنّهم وسّعوا في الاصطلاح فوصفوا اللفظ باعتبار معناه الّذي هو من قبيل المفهوم بالكلّي والجزئي والمتواطئ والمشكّك ، لأنّهم يتكلّمون عن الأحوال العارضة لأدلّة الأحكام من حيث الدليليّة ، وأدلّة الأحكام في الغالب هي الأدلّة اللفظيّة فناسب وضع اصطلاح الكلّي والجزئي والمتواطئ والمشكّك فيما يكون من أجزاء الدليل اللفظي.

وقضيّة توسّعهم في اصطلاح المتواطئ والمشكّك أن يكون مناط التواطئ والتشكيك عندهم عين ما هو مناطهما عند المنطقيّين ، وهو تساوي أفراد المفهوم الكلّي وتفاوتها في صدقه عليها من حيث الأوّليّة والأولويّة والشدّة والضعف وغيرهما ، ولكنّهم في باب المطلقات جعلوا المناط تساوي الأفراد وتفاوتها في صدق اللفظ ودلالته ظهوراً وخفاءً ، فالمتواطئ لفظ كلّي يتساوى صدقه على جميع أفراد معناه ، وصدق اللفظ عبارة عن ظهوره وتساويه عبارة عن عدم اختصاص ظهوره ببعض الأفراد ـ كالشائع أو الكامل ـ دون بعض ، والمشكّك لفظ كلّي لا يتساوى صدقه على جميع أفراد معناه بأن يختصّ

٨١٤

ظهوره ببعض الأفراد دون بعض ، ولا كلام هنا في المتواطئ لتحقّق شرط حجّيّة إطلاقه وهو التواطئ ، بل المقصود من عقد هذا الباب هو التكلّم فيما يتعلّق بالمشكّك.

فيتكلّم تارةً : في أقسام التشكيك.

واُخرى : في أسبابه.

وثالثة : في انصراف المشكّك إلى بعض الأفراد ، على معنى كون حكم المطلق مقصوراً على البعض بحيث يكون البعض الآخر مسكوتاً عنه.

ورابعة : في وجه الانصراف أهو النقل أو الاشتراك مع اشتهاره في أحد معنييه ، أو الشهرة في المجاز المشهور ، أو الأخذ بالقدر المتيقّن دخوله في المراد من أفراد الماهيّة ، أو القرينة المفهمة أو غير ذلك؟

وخامسة : في موانع الانصراف الموجبة لإجراء الحكم في جميع الأفراد وإن كان اللفظ في ذاته مشكّكاً.

وسادسة : في بيان الأصل فيما شكّ في تواطيه وتشكيكه ، فها هنا مراحل :

المرحلة الاُولى

في بيان أقسام التشكيك

فنقول : إنّ من أواخر الاُصوليّين من قسّم المشكّك إلى أقسام ثلاث : المشكّك بالتشكيك البدوي ، والمشكّك بالتشكيك المضرّ الإجمالي ، والمشكّك بالتشكيك المبيّن العدم.

ووجه الانقسام : أنّ الشكّ في دخول الفرد قد يزول بالتأمّل الموجب للعلم بدخوله في المراد فهو التشكيك البدوي ، وقد يستمرّ إلى أن أضرّ بإطلاق اللفظ فيصيّره مجملا فهو المضرّ الإجمالي ، وقد يرتفع بتبيّن عدم دخوله في المراد فهو المبيّن العدم.

وفي إطلاق المشكّك على ما يكون تشكيكه بدويّاً مسامحة واضحة لأوله إلى التواطئ فاللفظ معه من المتواطئ في الواقع ، على أنّ تساوي ظهور اللفظ في جميع الأفراد قد يكون ضروريّاً يعلم به بلا نظر وتأمّل ، وقد يكون نظريّاً يعلم به بعد النظر والتأمّل ، فإطلاق المشكّك على الثاني باعتبار عروض الشكّ في بدو الأمر على المسامحة لا على الحقيقة.

نعم انقسامه إلى المضرّ الإجمالي والمضرّ المبيّن العدم في محلّه ، فإنّ المطلقات باعتبار الخارج توجد على أنواع ثلاث :

منها : ما اعتبر فيه الماهيّة من حيث هي هي.

٨١٥

ومنها : ما اعتبر فيه الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن بعض أفرادها كالفرد الشائع مثلا.

ومنها : ما تردّد فيه الماهيّة بين اعتبارها من حيث هي هي ، وبين اعتبارها من حيث تحقّقها في ضمن الفرد الشائع.

والأوّل متواط بلا شبهة.

كما أنّ الثالث هو المشكّك بلا شبهة ، وأمّا الثاني فلا ينبغي اندراجه في المتواطئ جزماً ، فلابدّ إمّا من القول بكونه واسطة بينهما أو كونه من المشكّك ، والواسطة منفيّة بظهور تقسيم الكلّي إلى المتواطئ والمشكّك في الحصر ، فتعيّن الثاني.

مع أنّ الظهور المختصّ بالفرد أعمّ من كونه لأجل اعتبار الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمنه ، أو لأجل كونه القدر المتيقّن ممّا دخل في المراد ، وبالتأمّل في ذلك يظهر إمكان كون ثمرة الانقسام إلى هذين القسمين ما يظهر في وجه الانصراف من كونه الأخذ بالقدر المتيقّن في المضرّ الإجمالي ، ولأجل القرينة المفهمة في المبيّن العدم ، وانتظر لتتمّة الكلام في ذلك.

المرحلة الثانية

في بيان أسباب التشكيك

وهي على ما يستفاد من كلمة الاُصوليّين ممّا هو محلّ وفاق وما هو محلّ خلاف ثلاثة : غلبة إطلاق اللفظ وندرته ، وغلبة وجود الفرد وندرته ، وكمال الفرد ونقصانه ، ولا كلام لأحد في كون الأوّل منشأً للتشكيك وموجباً لتفاوت دلالة المطلق بالظهور فيما غلب إطلاقه عليه وعدمه فيما ندر إطلاقه عليه بل هو محلّ وفاق عندهم.

نعم ربّما يظهر منهم الاختلاف من جهة اُخرى وهي أنّ المراد من غلبة إطلاق المطلق على الفرد الموجبة للتشكيك هل هي غلبة استعماله في خصوص الفرد مجازاً ، أو غلبة إرادة الفرد منه باعتبار الماهيّة الكليّة المتحقّقة فيه من باب تعدّد الدالّ والمدلول لا باعتبار الخصوصيّة المأخوذة فيه؟

فقيل بالأوّل كما يظهر ذلك من المحكيّ عن الشهيد الثاني من التمثيل للمجاز المشهور بالمطلقات المشكّكة ، والمعروف هو الثاني.

فمرجع الاختلاف إلى أنّه هل يعتبر في المطلق المشكّك كونه مجازاً في الفرد المنصرف إليه الإطلاق أو لا يعتبر ذلك؟ وهو الّذي يساعد عليه النظر بملاحظة طريقة أهل العرف في محاوراتهم واستعمالاتهم للمطلقات متواطئة ومشكّكة ، حيث نرى المتكلّم

٨١٦

والمخاطب أنّهما يتّكلان في التفهيم والفهم والإفادة والاستفادة إلى وضع اللفظ ، فالمتكلّم يفيد به الماهيّة تعويلا على الوضع والسامع أيضاً يفهمها تعويلا عليه.

ثمّ الماهيّة المنفهمة من اللفظ من جهة الوضع تنصرف إلى الفرد الشائع المتعارف ، وحاصله أنّ الفرد الشائع المتعارف يراد من اللفظ باعتبار الماهيّة المتحقّقة فيه لا باعتبار الخصوصيّة المأخوذة فيه ، ومرجعه إلى اعتبار الماهيّة المراد من اللفظ لا من حيث هي بل من حيث تحقّقها في ضمن الفرد الشائع المتعارف ، وإنّما يفهم هذه الحيثيّة من الخارج وهو الشيوع والتعارف في الفرد المذكور من دون أن تدخل في المستعمل فيه ، فتكون غلبة الإطلاق الّتي هي المرادة من شيوع الفرد وتعارفه من باب القرينة المفهمة لا من باب القرينة الصارفة كما في الشهرة المعتبرة في المجاز المشهور.

وبذلك يفرّق بين المجاز المشهور والمطلقات المشكّكة ، ويندفع به توهّم التدافع بين اعتبارهم الغلبة في الثانية وعدم اعتبار الأكثر الشهرة في الأوّل ، فإنّ الشهرة فيه تزاحم وضع اللفظ ويصير اللفظ بتساوي احتمالي إرادة المعنى الحقيقي ـ كما يقتضيه الوضع ـ وإرادة المعنى المجازي ـ كما يقتضيه الشهرة ـ مجملا ، والغلبة في الثانية لا تزاحم وضع اللفظ ولا تسقط أصالة الحقيقة فيه عن الاعتبار ، بل الماهيّة المنفهمة من اللفظ من جهة الوضع تنصرف إلى حيث تحقّقها في ضمن الفرد الشائع لشيوعه من جهة غلبة الإطلاق عليه.

وأمّا الثاني : أعني « غلبة الوجود وندرته » فاختلف في كونه منشأً للتشكيك موجباً للانصراف وعدمه ، فقيل بالأوّل ولعلّه المعروف بين الاُصوليّين خلافاً لجماعة منهم غير واحد من مشايخنا العظام ـ قدّس الله أرواحهم ـ لما سمعنا منهم في مجالس مدارستهم من انكار اعتبار غلبة الوجود بانفرادها في انصراف المطلق ، وهو الّذي يساعد عليه النظر بملاحظة طريقة العرف ، بتقريب : أنّه ما من مطلق إلاّ وأفراد الماهيّة فيه مختلفة في غلبة الوجود وندرته ، ونرى أهل العرف في محاوراتهم أنّهم لا يلتفتون إلى هذا النحو من الاختلاف ولا يعتبر غلبة الوجود ، بل يجرون الأحكام المتعلّقة بالمطلقات على الماهيّة من حيث هي ومرجعه من جهة السراية إلى إجراء الأحكام على جميع أفراد الماهيّة من غير تفرقة بين الفرد الغالب والفرد النادر ، ويشهد بذلك مواضع كثيرة في الفروع على ما عليه الفقهاء فيها من إجراء الأحكام على الماهيّة من حيث هي وعدم الفرق بين أفرادها الغالبة وأفرادها النادرة ، ومن ذلك تجويزهم الطهارة عن الحدث ـ وضوءً وغسلا ـ وغسل المتنجّسات

٨١٧

بالمياه النفطيّة والكبريتيّة بلا خلاف يظهر مع ندرة وجودها بالقياس إلى غيرها.

ومنها : بناؤهم على نقض الطهارة بما يخرج من الأحداث الثلاث البول والغائط والريح من المخرج الغير الطبيعي من غير خلاف يظهر أيضاً مع ندرة وجوده.

ومنها : تصريحهم في بطلان الصوم بالأكل والشرب بعدم الفرق فيه بين أكل أو شرب ما يعتاد أكله أو شربه ، وبين أكل أو شرب ما لا يعتاد أكله أو شربه مع ندرة وجود الثاني ، من غير فرق في ذلك بين جعل الاعتياد وعدمه اللذين مناطهما غلبة الوجود وندرته في نفس المأكول أو المشروب أو في أكله وشربه ، نظراً إلى أنّ الأكل والشرب الواردين في النصوص أيضاً من المطلقات وهم لا يعتبرون الاعتياد فيهما في إبطالهما الصوم.

وبما بيّنّاه من التعميم يندفع ما عساه يسبق إلى الوهم من المناقشة في هذا المثال بمنع ندرة الوجود في أكثر ما لا يعتاد أكله وشربه من الأشياء كالحجارة والتراب وأوراق الأشجار والنباتات والأدوية والعقاقير وما أشبه ذلك ، إلى غير ذلك من المواضع الّتي يقف عليها الخبير والبصير في الفروع.

هذا كلّه في مورد انفكاك غلبة الوجود عن غلبة الإطلاق.

وأمّا في مورد اجتماعهما فلا إشكال في اعتبار الغلبة هنا وأخذها منشأً للتشكيك وموجباً للانصراف ، لكن لا من حيث إنّها غلبة وجود بل من حيث إنّها غلبة إطلاق.

وبالجملة الغلبة المعتبرة في الانصراف في محلّ الاجتماع غلبة الإطلاق لا غلبة الوجود المصادفة لها ، بل الضابط في تحقّق غلبة الإطلاق في غالب مواردها إنّما هو غلبة الوجود ، على معنى أنّ غلبة وجود فرد الماهيّة توجب غالباً عروض غلبة إطلاق اللفظ باعتبار الماهيّة على ذلك الفرد ، ولا يلزم من ذلك أن يكون لغلبة الوجود من حيث هي دخل في التشكيك والانصراف ، فليتدبّر.

وأمّا الثالث : أعني « كمال الفرد ونقصانه » فكونه منشأً للتشكيك وموجباً للانصراف معروف من أهل العربيّة ، يقولون : إنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل ، ويظهر اختياره في أواخر الاُصوليّين من صاحب هداية المسترشدين وأخيه في الفصول حيث ذهبا في بحث الأمر إلى كونه لغةً للطلب المطلق وينصرف إطلاقه إلى الوجوب لكماله ، فإنّ التعليل بظهوره يقضي بعموم اعتبار الفرد الكامل في الانصراف ، خلافاً لأكثر الاُصوليّين ومحقّقيهم فلم يعتبروه في التشكيك والانصراف ، وهو الصحيح عندي أيضاً.

٨١٨

وليس المراد بكمال الفرد ونقصانه ما هو بالنسبة إلى أصل الماهيّة لوجوب وجود الماهيّة بتمامها في الفرد على معنى كون الحصّة الموجودة في الفرد منطبقة على تمام الماهيّة فلا يعقل النقصان فيه بالنسبة إليها وإلاّ لم يكن فرداً لها ، بل المراد بهما الكمال وخلافه في العرضيّات الّتي هي من قبيل الصفات الكماليّة.

فحاصل معنى كمال الفرد استجماعه لجملة من الصفات الكماليّة ومعنى نقصانه عدم استجماعه لذلك ، كنبوّة النبيّ بالنسبة إلى الرعيّة ، وخاتميّة نبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) بالنسبة إلى الاُمّة ، وإمامة الوصيّ وولايته المطلقة بالنسبة إلى سائر الاُمّة ، وعالميّة العالم بالنسبة إلى الجاهل العامّي ، وما أشبه ذلك.

ولا ريب أنّ الكمال بهذا المعنى لا يوجب التشكيك وانصراف الماهيّة المدلول عليها بالمطلق إلى حيث تحقّقها في ضمن الفرد الكامل ما لم يكن الفرد الكامل معهوداً عند المتكلّم والمخاطب ، ومجرّد الكمال المفروض فيه لا يوجب المعهوديّة ، ولذا حصروها في المفرد بلام العهد الخارجي وجعلوا أسبابها ما عدا الكمال من تقدّم الذكر والحضور والمعهوديّة في الخارج ولم يلتفتوا إلى الكمال بالمعنى المذكور.

فانحصر سبب التشكيك في المطلقات المشكّكة في غلبة الإطلاق وندرته وإن كان منشأ عروضهما غلبة الوجود وندرته ، وهو المراد من شيوعه على معنى ظهوره عمّا بين أفراد الماهيّة من « شاع » بمعنى ظهر لا انتشر ، ويمكن أن يراد من كمال الفرد في قضيّة قولهم : « المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل » شيوعه باعتبار غلبة الإطلاق أو هي مع غلبة الوجود إن اعتبرناها فلا مخالفة في المعنى حينئذ ، وقد تقدّم منّا في الجزء الأوّل من الكتاب في مباحث الكلّيّ والجزئي ما يرتبط بالمقام وإن اشتمل على بعض من التكلّف ، فليتدبّر.

المرحلة الثالثة

في حكم المطلق من حيث انصرافه إلى الأفراد الشائعة ، على معنى وجوب إجراء حكمه على الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة لا من حيث هي ليتساوى الأفراد الشائعة والنادرة ، فيكون الأفراد النادرة مسكوتاً عنها بالنظر إلى الخطاب ، وهذا هو المعروف من مذهب الاُصوليّين في كتب الاُصول المعلوم من طريقة الفقهاء في كتب الاستدلال من غير خلاف يظهر.

وفي كلام جماعة دعوى الاتّفاق عليه تارةً ونفي الخلاف عنه اُخرى ، ولم نقف على

٨١٩

نقل مخالف فيه إلاّ ما قد ينسب إلى علم الهدى السيّد المرتضى من إنكاره أصل قاعدة الانصراف في المطلقات المشكّكة ، استظهاراً له من تجويزه إزالة الخبث وتطهير المتنجّسات بالمضاف استناداً إلى إطلاق الأوامر الواردة بغسل المتنجّسات مع كون التطهير بالمضاف من نادر أفراد الغسل كما أنّ التطهير بماء الكبريت والنفط منها ، وليست في محلّها بل النسبة غفلة من ناقلها لظهور كلام السيّد في المسألة المشار إليها في [ العدول ] عن القاعدة بالنسبة إلى غسل المتنجّسات بالدليل ، وهو الإجماع الكاشف عن جعل الحكم هنا للماهيّة من حيث هي السارية في جميع الأفراد شائعة ونادرة مع إذعانه بأصل القاعدة.

وإن شئت لاحظ عين عبارته في المسألة المشار إليها ، فإنّه بعد ما جوّز التطهير بالمضاف قال : « وليس لهم أن يقولوا : إنّ إطلاق الأمر بالغسل ينصرف إلى ما يغسل في العادة ولا يعرف في العادة إلاّ الغسل بالماء دون غيره ، وذلك أنّه لو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن لا يجوز غسل الثوب بماء الكبريت والنفط وغيرهما ممّا لم يجر العادة بالغسل به ، فلمّا جاز ذلك ولم يكن معتاداً بغير خلاف علم أنّ المراد بالخبر ما يتناوله اسم الغسل حقيقة من غير اعتبار بالعادة » انتهى (١).

وهذا كما ترى ظاهر كالصريح بل قوله : « علم أنّ المراد بالخبر » في أنّه استكشف من الإجماع على جواز الغسل بماء الكبريت والنفط وغيرهما من الأفراد النادرة عن أنّ الشارع في خصوص الغسل اعتبر الماهيّة الجارية في جميع الأفراد شائعة ونادرة وهذا يقتضي جوازه بالمضاف أيضاً ، واللازم من ذلك تخصيص القاعدة بالنسبة إلى هذا المورد لا إنكارها رأساً ، ولذا يراعيها في غير هذا الموضع كما في مسألة أكل الصائم بغير المعتاد ، لبنائه فيها على عدم كونه مفطراً ومبطلا للصوم استناداً إلى انصراف المطلق إلى أكل المعتاد.

فالفارق بين المشكّك الجاري حكمه في جميع الأفراد والمشكّك الغير الجاري إلاّ على الأفراد الشائعة أنّ كلّ مشكّك قام الدليل على اعتبار الماهيّة فيه من حيث هي فهو ممّا يجري حكمه في جميع الأفراد شائعة ونادرة تبعاً لجريان الماهيّة ، وكلّ مشكّك انصرف الماهيّة المنفهمة منه إلى حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة فهو ممّا لا يجري حكمه إلاّ في الأفراد الشائعة ، لا بمعنى دلالته على نفي الحكم عن غيرها بل بمعنى عدم شمول حكمه لغيرها.

__________________

(١) المسائل الناصريات ـ في ضمن الجوامع الفقهية ص ٢٢٩ المسالة ٢٢.

٨٢٠