تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

الكذب من خروجهما من الحكم ، واللازم باطل لعدم صدق القول المذكور في متفاهم العرف على تقدير خروج الواحد أو الاثنين من الحكم ، وهذا يكشف عن كون عموم الجمع يشمل الآحاد كالمفرد على معنى كون عمومه بالنسبة إلى الأفراد لا غير.

ودفع : بأنّه على تقدير كون عمومه يشمل الجماعات أيضا لا يمكن خروج الواحد والإثنين من الحكم ، لأنّ الواحد مع إثنين آخرين من الآحاد والإثنين مع واحد آخر منها جمع من الجموع داخل في الحكم على تقدير كونه مسندا إلى جمع من الجموع.

وبالجملة الواحد والإثنان إذا اخذا منضمّين إلى اثنين آخرين أو واحد آخر من آحاد جمع من الجموع المختلفة الآحاد بحسب القلّة والكثرة حصل جمع آخر ويندرج ذلك الجمع أيضا في العموم ، والمفروض أنّ الخطاب الّذى علّق فيه الحكم على الجميع ظاهر في متفاهم العرف في ثبوت الحكم لكلّ واحد من آحاد كلّ جمع لا لمجموعها من حيث المجموع حتّى لا ينافيه خروج البعض واحدا كان أو أكثر ، وقضيّة ذلك كذب القول المذكور على تقدير انتفاء الحكم عن الواحد والاثنين مطلقا وإن اعتبر العموم بالنسبة إلى الجماعات أيضا.

ويزيّفه : منع المقدّمة الاولى ، إذ الإنضمام المزبور إمّا أن يراد به ما هو حاصل بحسب الواقع أو أنّه بمجرّد فرض الفارض ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلخروجه عن محلّ كلام المورد ، فإنّه فرض انتفاء الحكم عن الواحد أو الاثنين منفردين لا منضمّين.

وأمّا الثاني : فلأنّ فرض الشيء لا يحقّق ذلك الشيء.

ومنها : أنّ إرادة ذلك يستلزم تكرارا في مفهوم الجمع المستغرق واللازم باطل فكذا الملزوم.

وبيان الملازمة : أنّ « الثلاثة » مثلا جماعة فيدخل في الحكم ، ومندرج في الأربعة فيدخل فيه أيضا ، وفي الخمسة فيدخل فيه أيضا ، وفي السّتة فيدخل فيه أيضا وهكذا إلى الجميع ، و « الأربعة » أيضا في نفسها جماعة فيدخل في الحكم ومندرج في الخمسة فيدخل فيه أيضا وفي الستّة فيدخل فيه أيضا وهكذا إلى الجميع ، وكذلك « الخمسة » و « الستّة » و « السبعة » وغيرها فإنّ كلاّ من ذلك جماعة في نفسه ومندرج في كلّ واحد ممّا فوقه فيثبت الحكم لكلّ واحد من المذكورات مرارا عديدة.

وأمّا بطلان اللازم : فلعدم انفهام التكرار عرفا من الجميع ، وهذا يكشف عن عدم كون

٧٦١

عمومه بالنسبة إلى الجماعات ، ولذلك ترى أئمّة التفسير يفسّرون الجمع المستغرق إمّا بكلّ فرد أو بالمجموع من حيث المجموع.

وأصل هذا الإيراد من المحقّق الشريف في حاشيته على المطوّل حكاه عنه الفاضل الچلبي نقلناه ملخّصا.

واجيب عنه أوّلا : بالنقض بقوله تعالى : ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )(١) و ( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها )(٢) وقولنا : « أكرم كلّ جماعة من العلماء » و « أكرم كلّ جماعة من القوم » وغير ذلك ممّا صرّح فيه باستغراق الجماعات وهو على ما زعمه المورد مستلزم للتكرار.

وثانيا : بالحلّ بأنّ المراد استغراقه للجماعات الغير المتداخلة ، وقد يردّد في الجواب الحلّي بما لا طائل فيه.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ توهّم لزوم التكرار إنّما نشأ عن عدم التفرقة بين كون شيء فردا للعامّ المنطقي وكونه فردا للعامّ الاصولي وليس كذلك (٣) لعدم الملازمة ، فكما أنّ لفظ « كلّ » في قولنا : « شربت كلّ قصع من الماء » يقتضي بالوضع استيعاب الحكم للأقصاع المتبائنة المتغائرة في الوجود الخارجي من دون أن يدخل بعضها في بعض ولا أن يندرج الأقلّ منها في الأكثر ، ولا يقتضي بالوضع شمول الحكم لأبعاض كلّ قصع على وجه يكون البعض أيضا كالكلّ موضوعا مستقّلا له واقعا في طرف العرض من الكلّ وإن صدق عليه باعتبار عموم مفهوم جنس « الماء » أنّه ماء ، فكذلك « اللام » أو « الهيئة » في الجمع المحلّى باللام فإنّه أيضا يقتضي بالوضع استغراق الحكم للجماعات المتبائنة المتغائرة في الوجود الخارجي توافقت في أعداد آحادها قلّة وكثرة أو اختلفت ، من غير أن يدخل بعضها في بعض ولا يندرج الأقلّ منها في الأكثر ، ولا يقتضي بالوضع شموله لأبعاض كلّ جماعة على وجه يكون كلّ بعض ككلّه موضوعا مستقلاّ له واقعا في طرف العرض من كلّه وإن صدق عليه الجمع باعتبار عموم مفهوم الجماعة.

وعلى هذا فالثلاثة إذا كان في نفسه جماعة داخلة في الحكم بهذا الاعتبار فلا يمكن دخوله فيه أيضا باعتبار اندراجه في « الأربعة » الّذي هو جماعة اخرى مقابلا للثلاثة ، لأنّ ما اندرج من الثلاثة في الأربعة غير هذه الثلاثة المفروض كونها في نفسها جماعة وهكذا يقال في « الأربعة » وغيرها ، هذا كلّه فيما ذكره القوم من الإيرادات على الدليل.

__________________

(١) الروم : ٣٢.

(٢) الأعراف : ٣٨.

(٣) أي ليس كما توهّم.

٧٦٢

والتحقيق في الإيراد عليه على معنى الجواب عنه : منع كون « الجمع » المعرّف ـ من قبيل المعرّف [ باللام ] ـ مفيدا للعموم في مصاديق ما يفهم منه بحسب المادّة ، لما سبق في بيان وجه استفادة العموم من الجمع المعرّف باللام من أنّه ما يستفاد من « اللام » ومدخولها باعتبار وضعيهما الأفراديّين ، بتقريب : أنّ « اللام » موضوعة للإشارة وهي تستدعي تعيّن المشار إليه عند المتكلّم والمخاطب ، فإن كان قرينة عهد على تعيين شيء من المراتب ممّا دون الجميع حمل عليه وإلاّ حمل على الجميع لعدم كون شيء من المراتب متعيّنا عند السامع إلاّ الجميع ، فعموم الجمع بهذا الإعتبار عبارة عن شمول الحكم لجميع الأفراد لا الجماعات الّتي هي مصاديق لمفهوم الجماعة.

هذا مضافا إلى تطرّق المنع إلى كون كلّ جمع موضوعا لمفهوم الجماعة ، فإنّه على ما سبق تحقيقه إنّما يسلّم في الجموع المكسّرة الموضوعة بالوضع العامّ للمعنى العامّ لا الجموع المصحّحة الّتي مقتضى وضع الأداة فيها كونها موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات المراتب ، فلا تكون الجماعات حينئذ مصاديق لمدلول المادّة في « الجمع » لعدم كون ما يفهم منها مفهوم الجماعة.

حجّة القول بالعموم المجموعي : أنّه الّذي يقتضيه الأصل ، فإنّ مدلول الجمع مجموع الآحاد لا كلّ واحد واحد ، وليس مفاد « اللام » الداخلة عليه إلاّ الإشارة إلى تلك الأفراد والظاهر من تعلّق حكم أو نسبة بما يدلّ على المجموع تعلّقه به من حيث المجموع ، فقول القائل : « جئني بالعلماء » بمنزلة قوله : « جئني بهذه الجملة » هذا إذا لم ينصب قرينة على اعتبار تعلّق الحكم بالمجموع من حيث الآحاد وإن نصبت عليه قرينة كما هو المستفاد غالبا من الحكم المتعلّق به كان للعموم الأفرادي وأمثلته كثيرة هكذا قرّره بعض الفضلاء (١).

ويزيّفه : منع كون العموم المجموعي ما يقتضيه الأصل سواء أراد به الظاهر أو أصالة العدم بل مقتضى الأصل بكلا المعنيين العموم الأفرادي ، لوضوح عدم كون مجموع الأفراد ولا كلّ واحد واحد عنوانا في مدلول الجمع بل هما أمران اعتباريّان ومفهومان انتزاعيّان ينتزعان عن مدلول الجمع المحمول على العموم باعتبار كيفيّة تعلّق الحكم به المختلفة بجعل المتكلّم واعتباره ، فإنّ مدلوله في محلّ العموم جميع الأفراد على معنى الأفراد بتمامها بل نفس الأفراد من حيث عدم خروج شيء منها عن الحكم ، والإتيان بلفظي

__________________

(١) الفصول : ١٧١.

٧٦٣

« الجميع » و « تمامها » إنّما هو للتنبيه على هذه الحيثيّة ، والحكم المتعلّق بالجمع قد يتعلّق بالأفراد بتمامها بشرط انضمام بعضها إلى بعض بحيث يكون موضوعه أمرا واحدا ومركّبا اعتباريّا فيكون كلّ فرد بالنسبة إليه جزءا لموضوع الحكم لا موضوعا مستقلاّ ويقال له بهذا الاعتبار : « مجموع الأفراد من حيث المجموع » وقد يتعلّق بها لا بهذا الشرط فيكون كلّ فرد بنفسه موضوعا مستقلاّ فيتعدّد موضوعه على حسب تعدّد الأفراد ، ويقال له بهذا الاعتبار : « كلّ واحد واحد » ومن المعلوم أنّ مقتضى الأصل هو الثاني لأنّ شرط الانضمام اعتبار زائد في مدلول الجمع يحتاج إلى جعل آخر والأصل عدمه ، وكذلك الظاهر من إطلاق الجمع حيث يتعلّق به حكم أو نسبة هو الثاني.

والسرّ فيه على ما حقّقناه سابقا من أنّ مدلول الجمع بحسب الوضع هو الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد فيكون مدلوله في محلّ العموم الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد بتمامها ، وذكرنا أنّ معنى تحقّق الماهيّة في ضمن الأفراد تحقّق حصصها فيها ولا ريب أنّها تحقّق في كلّ فرد لا بشرط تحقّقها في فرد آخر ، وذكرنا أيضا أنّ الماهيّة المتحقّقة في الأفراد بعينها هي الأفراد ، فرجع الكلام إلى أنّ مدلول الجمع في محلّ العموم هو الأفراد بتمامها لا بشرط انضمام بعضها إلى بعض ، وإذا تعلّق به حكم أو نسبة فالظاهر يقتضي تعلّقه بالأفراد على هذا الوجه ولا نعني من العموم الأفرادي إلاّ هذا.

وبما قرّرناه تبيّن أنّ حمله على ما عداه يحتاج إلى نصب قرينة ، وهو كما أنّه ينهض ردّا على حجّة القول المذكور كذلك ينهض حجّة على القول المختار ، ويخرج كلّما استدلّ عليه مؤيّدا لها بل حجّة اخرى مثل تبادر « كلّ عالم » من قولك : « أكرم العلماء » ونصّ جماعة من أهل الفنّ وتصريح أئمّة التفسير به في كلّ ما وقع في التنزيل من هذا القبيل نحو : ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ )(١)( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها )(٢)( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا )(٣)( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )(٤)( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ )(٥)( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ )(٦) إلى غير ذلك ، وأنّه يصحّ بلا خلاف : « جاءني العلماء ، إلاّ زيدا » و « جاءني القوم إلاّ عمرا » مع امتناع قولك : « جاءني كلّ جماعة من العلماء إلاّ زيدا » بناء على إرادة الاستثناء المتّصل ولو كان مفاد اللفظين واحدا لجاز ذلك في المقامين.

كما تبيّن أيضا أنّه لا ابتناء لوروده للعموم الأفرادي على طروّ وضع جديد للهيئة

__________________

(١ ـ ٤) البقرة : ٣٣ و ٣١ و ٣٤ و ١٩٥.

(٥) هود : ٨٣.

(٦) آل عمران : ١٠٨.

٧٦٤

التركيبيّة ـ كما التزمه بعض الأعلام ـ ولا على انسلاخ معنى الجمعيّة عنه كما عزى النصّ بذلك عن جماعة والتزمه أيضا بعض الأعلام ، وقد سبق منّا بعض ما يتعلّق بهذا المقام فراجع وتأمّل فيه فإنّه من مزالّ الأقدام.

كما تبيّن ايضا أنّ القول بأنّ استغراق المفرد في المعرّف باللام أشمل من استغراق الجمع لأنّ الأوّل يتناول كلّ واحد واحد فينافيه خروج الواحد والثاني يتناول كلّ جماعة جماعة فلا ينافيه خروج الواحد أو الاثنين ممّا لا أصل له.

نعم إنّما يسلم القاعدة في النكرة المنفيّة فإنّ استغراق مفردها كقولنا : « لا رجل في الدار » أشمل من استغراق جمعها كقولنا : « لا رجال في الدار » فإنّ وجود رجل أو رجلين فيها لا ينافي صدق الثاني لكون استغراقه يتناول كلّ جماعة جماعة بخلاف الأوّل.

ثمّ إنّ ظهور الجمع المعرّف في العموم الأفرادي هل هو ظهور وضعي ـ على معنى أنّه موضوع للأفراد بشرط عدم انضمام بعضها إلى بعض ، فلو استعمل في العموم المجموعي وهو الأفراد بشرط انضمام بعضها إلى بعض كان مجازا لوقوعه على خلاف ما وضع له ـ أو إطلاقي ، على معنى أنّه موضوع للأفراد لا بشرط الانضمام ولا بشرط عدم الانضمام وإذا تعلّق به حكم أو نسبة فالإطلاق بمعنى السكوت عن ذكر شرط الانضمام ـ الّذي هو تقييد للأفراد بانضمام بعضها إلى بعض ـ بعدم نصب قرينة على إرادة العموم المجموعي يقتضي تعلّقه به لا بشرط الانضمام؟ وجهان بل قولان ، أجودهما الثاني للأصل ، ضرورة أنّه كما أنّ شرط الانضمام اعتبار زائد في مدلول الجمع يحتاج إلى جعل آخر من الواضع والأصل في محلّ الشكّ ينفيه فكذلك شرط عدم الانضمام اعتبار زائد في مدلوله يحتاج إلى جعل آخر من الواضع والأصل في محلّ الشكّ ينفيه.

وعلى المختار من الظهور الإطلاقي في العموم الأفرادي فإذا ورد في الكلام للعموم المجموعي عند مساعدة قرينة عليه فهل يكون مجازا أو لا؟ وجهان ، يختلفان باختلاف اعتبار المعتبر وهو المتكلّم.

وتوضيحه : أنّه إن أراد من اللفظ الأفراد مقيّدة بانضمام بعضها إلى بعض وأورد عليها الحكم على هذا الوجه كان مجازا على حدّ المجاز اللازم من استعمال المطلق في المقيّد بقيد الخصوصيّة ، وإن أراد منه الأفراد لا بقيد الانضمام ولكن أورد عليها الحكم مشروطا بانضمام الأفراد بعضها إلى بعض بأن يكون شرط الانضمام قيدا للحكم على حدّ استعمال

٧٦٥

المطلق في معناه وإحالة انفهام الخصوصيّة إلى قرينة خارجيّة كان حقيقة على حدّ الحقيقة اللازم من إطلاق الكلّي على الفرد ، وأمّا تشخيص أنّ الوارد في الكلام للعموم المجموعي من أيّ الوجهين فلا يندرج تحت ضابط كلّي بل يتبع خصوصيّات القرائن ، وقد تكون القرينة مجملة ساكتة من هذه الجهة.

الأمر الثالث

في أنّ الظاهر أنّه لا كلام عند القائلين بالعموم في الجمع المعرّف في كون اسم الجمع المعرّف كـ « القوم » و « الرهط » و « النساء » أيضا مثله ، فيفيد العموم حيث يفيده الجمع وهو حيث لا عهد ، وهو كذلك لتبادر العموم واطّراد الاستثناء ، والمتبادر منه العموم الأفرادي لا الجمعي ولذا يصحّ استثناء الواحد كقولنا : « جاءني القوم إلاّ زيدا » و « أكرم القوم إلاّ واحدا » ولا المجموعي لعدم انفهام الآحاد بعضها إلى بعض ، مضافا إلى أنّ شرط الانضمام اعتبار زائد [ يحتاج ] إلى جعل من الواضع في لحاظ الوضع أو من المتكلّم في لحاظ الاستعمال والأصل ينفيه.

وأمّا الفرق بينه وبين الجمع فبيانه وإن لم يكن من وظيفة الاصولي إلاّ أنّه لا بأس بالتعرّض له هنا رفعا لبعض الاشتباهات.

فنقول : الظاهر أنّ الفرق بينهما في الدلالة على الجمعيّة كالفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرّف باللام في الدلالة على التعريف فاسم الجمع يدلّ على الجمعيّة بجوهره والجمع يدلّ عليها بالأداة أو بالهيئة مع دلالة المادّة مع كلّ منهما على الماهيّة.

ومن هذا يظهر أنّ للجمع وضعين : أحدهما باعتبار المادّة ، والآخر : باعتبار الأداة كما في الجموع المصحّحة أو الهيئة كما في الجموع المكسّرة ، ولإسم الجمع وضعا واحدا متعلّقا بمجموعيّ المادّة المخصوصة في ضمن الهيئة المخصوصة ، ومن ثمّة اشتهر بينهم في بيان الفرق : « أنّ الجمع ما كان له مفرد من لفظه واسم الجمع ما لم يكن له مفرد من لفظه كقوم ورهط ونساء »

وقد يستشمّ من بعض العبارات في بيان الفرق أنّ الجمع ما له مفرد من لفظه اعتبر في وضعه واسم الجمع ما ليس له مفرد من لفظه اعتبر في وضعه ، سواء لم يكن له مفرد أصلا كالأمثلة المتقدّمة أو كان ولكن لم يعتبر في وضعه كـ « ركب » و « صحب » فإنّ المفرد لهما من لفظهما « الراكب » و « الصاحب » غير أنّه لم يعتبر في وضعهما ، بدليل أنّ الجمعيّة إنّما

٧٦٦

تفهم من نفس اللفظ دون الهيئة لأنّ الهيئة فيهما كهيئة المفردات ، هكذا يستفاد من كلام بعض الفضلاء (١).

وفيه نظر.

أمّا أوّلا : كون هذين اللفظين من قبيل اسم الجمع ينافيه ما في كلام بعض أهل اللغة من عدّهما جمعين للراكب والصاحب.

وأمّا ثانيا : فلمنع عدم استناد فهم الجمعيّة فيهما إلى الهيئة ، ولا ينافيه كونها كهيئة المفردات لأنّ الجمع المكسّر ما كسر بناء مفرده لا محالة بزيادة أو نقيصة أو بهما معا في الحروف أو الحركات أو فيهما معا ، وقد ينتهي بعد كسر بناء المفرد وتغييره إلى ما هو من أوزان المفردات.

غاية الأمر حينئذ كون الهيئة مشتركة بين المفرد من غير هذه المادّة والجمع من هذه المادّة ولا ضير فيه ، وكم من هذا القبيل في صيغ الجمع المكسّر.

وقد يفرّق بينهما باعتبار الوضع وهو كون الجمع من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ موضوعا لخصوصيّات المراتب ، واسم الجمع من باب الوضع العامّ والموضوع له العامّ موضوعا للقدر المشترك بين المراتب.

وفيه : أنّ اطّراد الأوّل غير مسلّم ، وإنّما يسلّم في الجموع المصحّحة كما سبق تحقيقه وثبوت الثاني من أصله غير واضح.

وقد يفرّق بينهما باعتبار المعنى وهو أنّ الجمع ما يدلّ على آحاد مجتمعة واسم الجمع ما يدلّ على مجموع الآحاد.

والأوّل : مسلّم إن اريد بالآحاد المجتمعة أفراد الماهيّة لا بشرط انضمام بعضها إلى بعض.

والثاني : غير واضح إن اريد بمجموع الآحاد أفراد الماهيّة بشرط انضمام بعضها إلى بعض.

الفصل الخامس

في المفرد المعرّف باللام المختلف في كونه مفيدا للعموم وعدمه ، والمراد به اسم الجنس المفرد الّذي صحبه « الأل » المؤثّرة أو صحبه « لام » التعريف لإفادته ، واحترزنا بالاسم عن نفس الجنس الّذي هو من قبيل المعنى فلا يقبل « اللام » لأنّه إنّما يلحق الألفاظ

__________________

(١) الفصول : ١٦٨.

٧٦٧

أصل

الجمع المعرّف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. ولا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب. ومحقّقوا مخالفينا على هذا أيضا. وربّما خالف في ذلك بعض من لا يعتدّ به منهم ، وهو شاذّ ضعيف ، لا إلتفات إليه.

وأمّا المفرد المعرّف ؛ فذهب جمع من الناس* (١) إلى أنّه يفيد العموم. وعزاه المحقّق إلى الشيخ. وقال قوم بعدم إفادته ، واختاره المحقّق والعلاّمة ، وهو الأقرب. لنا : عدم تبادر العموم منه إلى الفهم ، وأنّه لو عمّ لجاز الاستثناء منه مطرّدا ، وهو منتف قطعا.

_______________________________

لا المعاني ، واحترزنا بإضافته إلى الجنس عن اسم غير الجنس كالأعلام سواء لم يلحقها « اللام » أصلا أو لحقها لكن لا للتعريف بل للتزيين أو للمح المعنى الأصلي إذا كان من الأعلام المنقولة عن المعاني الوصفيّة.

وإنّما قيّدناه بالمفرد احترازا عن المثنّى والمجموع لخروجهما عن بحث المعرّف باللام ، واحترزنا بالموصول مع صلته عن النكرة واسم الجنس المنوّن والخالي عن « اللام » والتنوين ، وبالقيد الأخير عمّا صحبه « لام » الموصول كالمشتقّ في بعض الأحيان ، لأنّه ليس لإفادة التعريف في مدخوله بل هو نفسه معرفة وعن علم الجنس الّذي صحبه « اللام » في بعض الأحيان كـ « الاسامة » لأنّه لم يقصد به أيضا إفادة التعريف في مدخوله لكون المدخول بنفسه معرفة.

(١) * اعلم أنّ الأقوال في المفرد المعرّف على ما ضبطه الفاضل المحشّي (١) خمس :

أحدها : ما اختاره بعض الأعلام وجماعة ممّن تبعه من كونه حقيقة في تعريف الجنس بالمعنى المقابل للعهد الخارجي والذهني والاستغراق ومجازا في غيره من المعاني الثلاث المذكورة.

ثانيها : كونه حقيقة في الاستغراق ، نسبه المصنّف إلى جمع وحكي عن المحقّق نسبته أيضا إلى الشيخ وفسّره في آخر كلامه بكونه موضوعا لخصوص الاستغراق بحيث

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٢٠٥.

٧٦٨

لو استعمل في غيره كان مجازا.

ثالثها : القول بالاشتراك اللفظي بين الاستغراق والمعاني الاخر ، ويلوح ذلك من المصنّف فيما يأتي من كلامه نافيا لظهور الخلاف فيه بينهم لمكان قوله : « ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة وكونها أحد معانيها ممّا لا يظهر فيه خلاف بينهم ».

رابعها : التفصيل بين ما يتميّز الواحد منه بالتاء كتمر الّذي يقال لواحده « التمرة » وما لا يتميّز به كالرجل فيفيد العموم في الأوّل دون الثاني ، وحكى القول به عن إمام الحرمين.

خامسها : التفصيل المذكور بعينه إلاّ أنّه ألحق بما يتميّز الواحد منه بالتاء ما يصحّ وصفه بالوحدة ـ كالدينار والدرهم ـ فإنّه يصحّ أن يقال : « دينار واحد ودرهم واحد » بخلاف نحو الذهب والفضّة إذ لا يقال : « ذهب واحد وفضّة واحدة » وحكي القول به عن الغزالي.

وهاهنا أقوال ثلاث اخر حدثت عن جماعة من أوائل أهل عصرنا :

منها : القول بكونه حقيقة في الأعمّ من تعريف الجنس والعهدين والاستغراق على وجه الاشتراك المعنوي ، وهو تعريف الجنس بالمعنى المتناول للجميع لا المعنى المقابل للثلاث الأخيرة وهو خيرة الفاضل المحشّي.

ومنها : القول بكونه حقيقة في تعريف الجنس والعهد الخارجي ومجازا في العهد الذهني والاستغراق وهو خيرة الضوابط.

ومنها : القول بكونه حقيقة في تعريف الجنس ومجازا في العهد الذهني والاستغراق ، وأمّا العهد الخارجي ففيه وجهان ، اختاره في النتائج.

وتنقيح المقام مع اختلال البال وضيق المجال يستدعي رسم مقدّمات :

المقدّمة الاولى

في بيان إطلاقات المعرّف باللام

فاعلم أنّه يأتي في الكلام لمعان أربع ، ووجه الانحصار : أنّ « اللام » على ما ذكرناه سابقا موضوعة للإشارة والإشارة تستدعي مشارا إليه يكون معيّنا عند المتكلّم والمخاطب ، وهو قد يكون جنسا معيّنا وهو الماهيّة المعيّنة المأخوذة تارة من حيث هي أي من دون اعتبار تحقّقها في الفرد ، واخرى من حيث تحقّقها في جميع أفرادها وثالثة من حيث تحقّقها في فرد واحد لا بعينه ، وقد يكون شخصا معيّنا وهو الفرد الخارجي المعيّن لديهما المأخوذ بوصف التعيّن فالأقسام أربعة :

٧٦٩

القسم الأوّل

أن يراد به الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار تعيّنها من حيث هي ، بأن يراد أصل الماهيّة المتعيّنة من مصحوب « اللام » ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنها ويقال له : تعريف الجنس ، وقد يقال : تعريف الحقيقة ، ولأجل ذا يعدّ المعرّف باللام من المعارف ، نظرا إلى أنّ المعرفه عبارة عمّا يدلّ على شيء معيّن باعتبار كونه معيّنا سواء كان شخصا معيّنا أو جنسا معيّنا كما فيما نحن فيه ، وبذلك يحصل الفرق بين اسم الجنس الخالي عن « اللام » والمعرّف بلام الجنس فإنّهما يتشاركان في الدلالة على الماهيّة المتعيّنة نظرا إلى أنّ الماهيّة في نفسها أمر متعيّن لامتيازها عمّا عداها من الماهيّات وهو المراد من تعيّنها ، إلاّ أنّ الثاني يدلّ عليها باعتبار تعيّنها ولامه إشارة إلى أخذها باعتبار التعيّن والأوّل يدلّ عليها لا بهذا الاعتبار لخلوّه عمّا يكون إشارة إلى أخذها باعتبار تعيّنها.

فحاصل الفرق يرجع إلى اعتبار التعيّن وعدم اعتباره لا إلى أصل التعيّن وعدمه.

نعم المعرّف بلام [ الجنس ] يوافق علم الجنس في الدلالة على اعتبار الماهيّة كـ « الأسد » و « اسامة » فإنّهما يتشاركان في الدلالة على الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار التعيّن ولذا يعدّ علم الجنس أيضا من المعارف ويجري عليه أحكامها ، ومن هنا يصحّ أن يقال : « رأيت اسامة مقبلة » على الحاليّة ولا يقال : « رأيت أسدا مقبلا » ويتفارقان في أنّ الثاني يدلّ على اعتبار التعيّن بنفس اللفظ لدخوله في وضعه والأوّل يدلّ عليه بواسطة « اللام » وهذا هو معنى ما يقال في الفرق بينهما : أنّ علم الجنس يدلّ على اعتبار التعيّن مع الماهيّة بجوهره والمعرّف بلام الجنس يدلّ عليه بالأداة.

ثمّ إنّ بالبيان المتقدّم يظهر أنّ تعريف الحقيقة من المعرّف بلام الجنس يعتبر فيه أخذ الماهيّة المأخوذة باعتبار التعيّن من حيث هي ولا بشرط تحقّقها في الفرد مطلقا ، سواء أمكن تحقّقها فيه ولكنّه لم يعتبر في لحاظ الحكم عليها بشيء كما في قولنا : « الرجل خير من المرأة » و « الإنسان حيوان ناطق » ونحوه من المعرّفات نظرا إلى أنّ التعريف إنّما يكون للماهيّة ، أو لم يمكن باعتبار لحاظ الحكم لا بالذات كما في قولنا : « الحيوان جنس » و « الإنسان نوع » نظرا إلى أنّ الجنسيّة والنوعيّة من المعقولات الثانية وهي ما يكون الذهن شرطا في عروضها والاتّصاف بها على معنى أنّها لا تعرض الشيء إلاّ في الذهن ولا يتّصف بها الشيء إلاّ في الذهن ، فلا تعرض الشيء باعتبار الخارج الّذي هو الفرد الموجود

٧٧٠

في الخارج ولا يتّصف بها الشيء باعتبار الخارج ، فلا يقال : « زيد جنس » على معنى أنّه كلّي مقول على الكثرة المختلفة الحقائق ، ولا أنّه نوع على معنى أنّه كلّي مقول على الكثرة المتّفقة الحقيقة لكونه كذبا صرفا ، حتّى أنّه في حمل الحيوان أو الإنسان عليه بقولنا : « زيد حيوان » أو « زيد إنسان » لو اخذت الماهيّة الحيوانيّة أو الماهيّة الإنسانيّة بوصف الجنسيّة أو النوعيّة ثمّ حملت على « زيد » لم يصحّ لأجل ذلك.

ثمّ إنّ هاهنا كلاما آخر وهو أنّه قد يقال : بأنّ المعتبر من التعيّن المأخوذ مع الماهيّة في المعرّف بلام الجنس وعلمه إنّما هو التعيّن الجنسي لا التعيّن الذهني ، والمراد بالأوّل أن تكون الماهيّة المتعيّنة باعتبار أنّها هذا الجنس ممتازة عمّا عداه من الأجناس. وبالثاني أن تكون باعتبار وجودها في الذهن ممتازة عمّا عداها من الأجناس.

وهذا خلاف ما يظهر من الأكثر من أنّ المعتبر فيهما التعيّن الذهني حيث صرّحوا بأنّ « أسدا » يدلّ على الماهيّة الحاضرة في الذهن لكن لا باعتبار حضورها وتميّزها فيه ولفظ « الأسد » و « اسامة » يدلاّن عليها باعتبار حضورها وتميّزها فيه ، ولكلّ وجه.

وحاصل الفرق بينهما : أنّ التعيّن الجنسي ما يثبته العقل للماهيّة وإن قطع النظر عن وجودها في الذهن ، والتعيّن الذهني ما لا يثبته إلاّ بملاحظة وجودها فيه والمسألة علميّة.

ومن ثمرات هذا الفرق : أنّه لا يرد على التعيّن الجنسي ما قد يورد على التعيّن الذهني ، وهو أنّه إذا كان كلّ من علم الجنس والمعرّف بلامه عبارة عن الماهيّة الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها وتميّزها فيه كما يقولون لكان معنى : « أكرم الرجل » : أكرم الماهيّة الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها فيه ، ولكان معنى « رأيت اسامة » : رأيت الماهيّة الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها فيه ، وظاهر أنّ الماهيّة باعتبار حضورها في الذهن ممّا لا يصلح لتعلّق الإكرام والرؤية بها بل هما إنّما يتعلّقان بها باعتبار الخارج ، وكذلك المجيء في قولنا : « جاءني الرجل لا المرأة » وعلى قياسه سائر الموارد.

فإنّ هذا الإشكال لا يتوجّه إلاّ إلى إرادة التعيّن الذهني ، وإن كان واضح الدفع على تقديرها بكونها مغالطة مبنيّة على الخلط بين لحاظ الوضع والحمل الّذي هو لحاظ الإسناد الّذي هو عبارة عن الحكم على الماهيّة بشيء أو الحكم بها على شيء ، ولحاظ تعلّق المسند إليها باعتبار وقوعه عليها كالإكرام و « الرؤية » أو صدوره عنها ، والماهيّة المأخوذة باعتبار حضورها في الذهن لا تصلح لأن يتعلّق بها « الإكرام » و « الرؤية » و « المجيء » بهذا

٧٧١

المعنى ، لأنّها إنّما تقع عليها أو تصدر عنها من حيث هي أو باعتبار الخارج وهذا لا ينافي صلاحيّتها لإسناد هذه الأفعال إليها بهذا الاعتبار في القضيّة.

فمفاد القضيّة في الأمثلة المذكورة أنّه يسند إلى الماهيّة باعتبار حضورها في الذهن ما يتعلّق من حيث هي أو باعتبار الخارج من الإكرام والرؤية والمجيء وغيرها من الأفعال الّتي لا تقع عليها ولا تصدر عنها إلاّ من حيث هي أو باعتبار الخارج.

وهذا أسدّ ممّا قيل في الذبّ عن الإشكال : « من أنّ ملاحظة الماهيّة باعتبار في إطلاق اللفظ عليه لا يوجب أن يكون الحكم عليها بذلك الاعتبار ، فيجوز أن يلاحظ الماهيّة باعتبار حضورها في الذهن ويحكم عليها باعتبار آخر » انتهى.

فإنّ اعتبار حضور الماهيّة في الذهن ليس في الملاحظة فقط بل فيه وفي الحكم عليها أيضا الّذي هو الإسناد في الوضع والحمل في القضيّة ، فيبقى الإشكال بالنسبة إلى تعلّق المسند وهو « الإكرام » و « الرؤية » و « المجيء » وغيره من الأفعال المتعلّقة بالماهيّة لا باعتبار حضورها في الذهن بحاله.

وبالتأمّل فيما بيّنّاه مضافا إلى ما سبق يندفع ما لعلّه يورد على اعتبار التعيّن الذهني بمعنى حضور الماهيّة في الذهن في مدلول علم الجنس والمعرّف بلامه أيضا من أنّه لو صحّ ذلك لكان جميع معاني العالم ممّا اعتبر حضورة في الذهن حتّى معنى النكرة ومعنى اسم الجنس المنكّر ، فيكون الألفاظ بأسرها معارف حتّى النكرة والمنكّر ، لأنّ كلّ لفظ دالّ على معناه لا يدلّ عليه إلاّ وهو حاضر في الذهن بل يدلّ عليه باعتبار حضوره في الذهن ، لوضوح أنّ الحضور في الذهن إمّا نفس الدلالة إن فسّرناها بالفهم التصوّري أو من شروطه إن فسّرناها بالفهم التصديقي وهو التصديق بأنّ المعنى مراد من اللفظ.

وتوضيح وجه الاندفاع : أنّه فرق واضح في الحضور في الذهن بين ما يعرض المعنى في دلالة اللفظ عليه وما اخذ مع المعنى في وضع اللفظ بإزائه ، فإنّ الأوّل عبارة عن مجرّد حضور المعنى في الذهن أو اعتبار حضوره على الوجه الّذي اخذ في وضع اللفظ الدالّ عليه ولو بوصف الإبهام وعدم التعيين كما في النكرة واسم الجنس المنكّر ، فإنّ الفرد الغير المعيّن أو الماهيّة الملحوظة لا باعتبار التعيّن إنّما يحضر في الذهن عند دلالة النكرة والمنكّر عليه بهذا الوصف ، بخلاف الثاني وهو الحضور في الذهن المأخوذ مع الماهيّة في وضع علم الجنس والمعرّف بلامه فإنّه عبارة عن تعيّن الماهيّة في الذهن وتميّزها باعتبار

٧٧٢

وجودها الذهني عمّا عداها من الماهيّات.

ولا ريب أنّ الحضور في الذهن بهذا المعنى هو الّذي اعتبر مع الماهيّة المتعيّنة الحاضرة في الذهن في وضع اللفظ الدالّ عليها ، وهو بهذا المعنى غير مأخوذ في وضع النكرة والمنكّر.

وقد يقال في دفع هذا الإشكال : بأنّه فرق ظاهر بين حصول الصفة للشيء واعتباره معه ، فقد يوضع اللفظ للمعنى سواء حصل عند العقل أو لا لكن دلالة اللفظ عليه يستلزم حصوله فيه حال الدلالة ، فليس خصوص المقيّد بالحصول هو الموضوع له ، وقد يوضع له مقيّدا بالحصول في الذهن فالحصول فيه بالفعل قيد للوضع مأخوذ فيه وليس ما عداه من موضوع اللفظ ، فالأوّل هو حال الوضع في اسم الجنس والنكرة والثاني هو الحال في علم الجنس والمعرّف بلام الجنس والعهد الذهني ، وما ذكرناه أجود.

القسم الثاني

أن يراد به الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار تعيّنها الجنسي أو الذهني من حيث تحقّقها في جميع الأفراد ، بأن يراد من مصحوب « اللام » أصل الماهيّة ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنها الجنسي أو الذهني ويراد اعتبار تحقّقها في جميع الأفراد من خارج اللفظ كالاستثناء في قوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا )(١) الآية ، أو اريد ذلك من مصحوب « اللام » أيضا ويفهم بسبب الخارج من قرينة الاستثناء ونحوها.

والفرق بين الاعتبارين يظهر بالتجوّز في اللفظ على الثاني وعدمه على الأوّل ، وهو المسمّى على التقديرين بالمعرّف بلام الاستغراق.

فهاهنا امور ثلاثة : الماهيّة الّتي يدلّ عليها مصحوب « اللام » واعتبار تعيّنها الّذي يدلّ عليه « اللام » واعتبار تحقّقها الّذي يدلّ عليه القرينة الخارجة من اللفظ ومن هنا يعلم بأنّ هذه « اللام » لم ترد بها الأفراد بأن تكون إشارة إليها ، وتسميتها بلام الاستغراق لمصاحبتها الاستغراق لا لكونها مستعملة فيه ، وبذلك حصل الفرق بين استغراق المفرد المعرّف باللام واستغراق جمعه ، فإنّ الاستغراق في الثاني كما تقدّم بيانه مشروحا مدلول « اللام » لكونها فيه إشارة إلى الأفراد ولذا يكفي في الحمل على الجميع انتفاء العهد ، لأنّ « اللام » لكونها

__________________

(١) العصر : ٢.

٧٧٣

للإشارة تستدعي مشارا إليه معيّنا عند المتكلّم والسامع ولا معيّن عند السامع من مراتب الجمع بعد انتفاء القرينة على تعيين بعض ما دون الجميع إلاّ الجميع فيحمل عليه لا على ما دونه ، بخلاف استغراق الأوّل فإنّه لكونه مدلول القرينة الخارجة من اللفظ لا يكفي في الحمل عليه مجرّد انتفاء قرينة العهد بل يعتبر معه وجود قرينة دالّة على اعتبار الماهيّة متحقّقة في جميع أفرادها ، ومع عدم القرينة على ذلك يحمل اللفظ على الماهيّة المأخوذة باعتبار التعيّن الجنسي أو الذهني من حيث هي ولا بشرط تحقّقها في الفرد مطلقا وهو تعريف الجنس والحقيقة ، فلامه على كلا تقديري وجود قرينة الاستغراق وعدم وجودها مستعملة في التعريف أي الإشارة إلى اعتبار التعيّن مع الماهيّة المتعيّنة.

القسم الثالث

أن يراد به الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار تعيّنها من حيث تحقّقها في فرد واحد لا بعينه ، بأن يراد أيضا من مصحوب « اللام » أصل الماهيّة ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنها ويراد اعتبار تحقّقها في الفرد الغير المعيّن من خارج اللفظ ، أو يراد ذلك أيضا من مصحوب « اللام » ويفهم بسبب الخارج كالدخول في نحو : « ادخل السوق واشتر اللحم » على ما قيل وإن كان لا يخلو عن نظر ، والتوصيف بالجملة في نحو : « لقد أمرّ على اللئيم يسبّني » (١) وقوله تعالى : ( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً )(٢) والفرق بين الاعتبارين نظير ما تقدّم في الاستغراق من لزوم التجوّز في اللفظ على ثانيهما وعدم لزومه على أوّلهما ، ويسمّى ذلك على التقديرين بالمعرّف بلام العهد الذهني.

فهاهنا أيضا امور ثلاث : الماهيّة الّتي يدلّ عليها مصحوب « اللام » واعتبار تعيّنها الّذي يدلّ عليه « اللام » واعتبار تحقّقها في الفرد الّذي يدلّ عليه القرينة الخارجة من اللفظ.

فالمعرّف بلام العهد الذهني والمعرّف بلام الاستغراق سيّان في كون « اللام » إشارة إلى اعتبار تعيّن الماهيّة وهو التعريف ، ولذا يكون كلّ منهما كالمعرّف بلام الجنس والحقيقة معرفة ويجري عليهما أحكام المعارف بأجمعها ، وما اشتهر بينهم من أنّ المعرّف بلام العهد الذهني في معنى النكرة إنّما يراد به أنّه معرفة يشوبه معنى النكرة وهو نكارة الفرد الّذي اعتبر تحقّق الماهيّة المتعيّنة ـ المأخوذة من التعيّن ـ فيه وعدم تعيّنه ، ولأجل ذلك قد

__________________

(١) البحار ٥٩ : ٤٤ والتبيان ١ : ٣٥١ ومجمع البيان ١ : ٣٢٢.

(٢) الجمعة : ٥.

٧٧٤

يجري عليه في بعض الأحيان بعض أحكام النكرات وهو صحّة وصفه بالجملة الّتي هي في معنى النكرة ، على معنى وقوعها نعتا نحويّا له كما في المثالين المتقدّمين ، فإنّه اعتبار يلحق المعرّف باللام مع كونه معرفة باعتبار معناه لمجرّد نكارة الفرد الخارج عن أصل المعنى لا لنكارة أصل المعنى.

ومن هنا يعتبر في الجملة الواقعة وصفا كونها صفة للشخص لا الجنس كما في المثالين ، ضرورة أنّ سبّ الإمام عليه‌السلام ليس صفة لماهيّة « اللئيم » بل هو صفة شخصها الّذي اريد في المقام ، وحمل « الأسفار » بمعنى الكتب الكبار من العلم في وصف الحمار به أيضا صفة لشخصه لا لجنسه ، ومعناه : أنّه يحمل الكتب الكبار ولا يعلم بما فيها من العلوم ، ضرب مثلا لأهل الكتاب الّذين حمّلوا التوراة ولم يعلموا ما فيها من العلوم باعتبار عدم عملهم بعلومه كالعالم الحامل للعلم الّذي لا يعمل بعلمه ، وأمّا ما كان صفة للجنس كما لو قيل في مثال : « لقد أمرّ على اللئيم يسبّني » « لقد أمرّ على اللئيم يبخلني أو يمنعني » فلا يصحّ وقوعه نعتا لعدم نكارة في الجنس بل لا بدّ من اعتباره حالا.

القسم الرابع

أن يراد به الفرد الخاصّ المعيّن باعتبار كونه معيّنا بأن يراد من مصحوب « اللام » نفس الفرد ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنه ، ويسمّى ذلك : بالمعرّف بلام العهد الخارجي ، قبالا للعهد الذهني.

ووصف العهد فيهما لمعهوديّة الفرد الملحوظ فيهما عند المتكلّم والسامع وكونه في الأوّل خارجيّا وفي الثاني ذهنيّا ، لأنّ معهوديّة الفرد فيما بينهما لأمر خارجيّ في الأوّل وهو ما يكون مظروفا للخارج من تقدّم ذكر ، كما في قوله تعالى : ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ )(١) أو حضور في المجلس كما في قولك : « أكرم الرجل واغلق الباب » ومنه قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )(٢) أو اشتهار في الخارج كقولك : « أكرم العالم » مشيرا إلى عالم البلد المشتهر عند أهله.

ولأمر ذهني في الثاني وهو ما يكون مظروفا للذهن كانطباق الفرد على الماهيّة المتعيّنة وكونه من جزئيّاتها ، فالمعهوديّة هنا إنّما هو لمجرّد هذا الانطباق لا غير ، ولذا

__________________

(١) المزمّل : ١٦.

(٢) المائدة : ٣.

٧٧٥

لا تنافي عدم تعيين الفرد باعتبار الخارج عندهما أو عند السامع فقط.

وبالتأمّل في الترتيب الّذي اعتبرناه في بيان الأقسام يظهر خروج المعرّف بلام العهد الخارجي عن المعرّف بلام الجنس وكونه قسيما له ، بخلاف المعرّف بلام الاستغراق والعهد الذهني فإنّهما قسمان منه ، بناء على إرادة معناه الأعمّ الشامل للأقسام الثلاث الأول ، فإنّ « اللام » فيها اريد بها الإشارة إلى تعريف الجنس وتعيينه ولم يقصد فيها حتّى المعهود الذهني والاستغراق تعيين الفرد ومعرفته فالجميع من المعرّف بلام الجنس.

غاية الأمر أنّ الجنس في بعضها يعتبر من حيث هو وفي بعض آخر من حيث الوجود في ضمن جميع الأفراد وفي ثالث من حيث الوجود في ضمن فرد غير معيّن ، بخلاف المعهود الخارجي الّذي لم يقصد باللام فيه الإشارة إلى تعريف الجنس وتعيينه أصلا بل إلى تعريف الفرد وتعيينه ، فلا يصدق عليه المعرّف بلام الجنس ، وهو المصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين منهم التفتازاني في المطوّل والمحقّق الشريف في حواشيه ، وعلّله الشريف : بأنّ معرفة الجنس لا يكفي في تعيين شيء من أفراده.

ومحصّله : أنّه لمّا كان المقصود بالذات في المعهود الخارجي تعيين الفرد ومعرفته فلا جرم يشار فيه باللام إلى تعريف الفرد وتعيينه ، ولا يكفي فيه معرفته الجنس بأن يشار بها إلى تعريفه وتعيينه ويقال : بأنّه يؤدّي إلى معرفة الفرد لأنّه لا يفيد تعيين شيء من أفراده.

وهذا كما ترى متين إلاّ أنّ بعض الأعلام لم يرتض به واعترضه بما محصّله : نقض التعليل بالمعرّف بلام الاستغراق والمعهود الخارجي لجريان ما ذكر فيهما أيضا فوجب خروجهما عنه أيضا فقال : « بأنّ إرادة الاستغراق وإرادة فرد غير معيّن أيضا لا يكفي فيهما معرفة الجنس ، بل يحتاج إلى الخارج وهو القرينة الخارجة من اللفظ ، وهو ما يدلّ على عدم إمكان إرادة الماهيّة فيهما وما يدلّ على عدم إمكان إرادة فرد غير معيّن في الاستغراق » انتهى ملخّصا (١).

وهذا كما ترى ممّا لا وقع له لعدم كون المراد من التعليل إبداء الفرق بينه وبينهما في احتياجه إلى القرينة وعدم احتياجهما إليها ، فإنّ الاحتياج إلى القرينة إلى اعتبار الفرد بعضا أو كلاّ أمر مشترك بين الجميع ، فالمعهود الخارجي أيضا يشاركهما في الاحتياج إلى القرينة ويفارقهما في القصد إلى تعريف الفرد وتعيينه فيه دونهما.

__________________

(١) القوانين ١ : ٢٠٣.

٧٧٦

وقضيّة ذلك أن يشار فيه باللام إلى تعريف الفرد ولا يكفي فيه معرفة الجنس الحاصلة بالإشارة إلى تعريفه بخلافهما إذ « اللام » يشار بها فيهما إلى تعريف الجنس لا غير فلا مقتضي فيهما للعدول عنه إلى الإشارة إلى تعريف الفرد ، فالنقض في غير محلّه.

ثمّ إنّه بعد الاعتراض المذكور قال : « فالأولى أن يجعل المقسم اسم الجنس إذا عرّف باللام ويقال : إمّا أن يقصد باللام محض الطبيعة والإشارة إليها فهو تعريف الجنس ، وإمّا أن يقصد به الطبيعة باعتبار الوجود فإمّا أن يثبت قرينة على إرادة فرد خاصّ فهو العهد الخارجي ، وإلاّ فإن ثبتت قرينة على عدم جواز إرادة جميع الأفراد فهو العهد الذهني وإلاّ فللاستغراق » (١) فادرج الأقسام الأربعة في اسم الجنس المعرّف باللام لا في المعرّف بلام الجنس.

وهذا حسن ولا مخالفة فيه لما في كلام الجماعة ظاهرا إلاّ في جعله العهد الخارجي ممّا اريد به الطبيعة وهذا محلّ إشكال بل موضع منع ، لما علم بضرورة من المحاورة والاستعمال أنّ المتكلّم في موارد العهد الخارجي لا نظر له إلى الجنس أصلا بل نظره مقصور على الفرد الخاصّ بخصوصيّته ، والسامع أيضا لا ينساق إلى ذهنه إلاّ الفرد الخاصّ.

وهل الأمور الثلاث المتقدّمة فيه لبيان ما به معهوديّة الفرد من سبق الذكر والحضور والاشتهار قرائن على كون « اللام » فيه للإشارة إلى تعريف الفرد الخاصّ وتعيينه ، أو قرائن على إرادة الفرد الخاصّ من مصحوب « اللام » أو أنّها أسباب لمجرّد معهوديّة الفرد الخاصّ فيما بين المتكلّم والمخاطب من غير مدخليّة ولا تأثير لها في كون « اللام » للإشارة إلى تعيين الفرد ولا في إرادة الفرد من مصحوبه نظير تقدّم الذكر في ضمير الغائب الموجب لمعهوديّة مرجعه من دون مدخليّة له في إرادة ذلك المعهود من الضمير وانفهامه منه بل هما فيه يستندان إلى وضع اللفظ؟ وجوه.

ولعلّه لزعم الوجه الأخير استظهر المحقّق الشريف كون العهد الخارجي موضوعا بالوضع العامّ لخصوصيّة كلّ معهود ، نظرا إلى أنّ انفهام كون « اللام » للإشارة إلى تعيين الفرد وانفهام الفرد من مصحوبه لابدّ لهما من مستند وهو إمّا وضع اللفظ أو القرينة الخارجة منه ، والمفروض في المقام بعد جعل الامور المذكورة أسبابا لمجرّد معهوديّة الفرد انتفاء القرينة الزائدة عليها فتعيّن أن يكون المستند هو الوضع ، والظاهر أنّ مراده به الوضع الجديد العرفي الّذي حصل للهيئة التركيبيّة لا الوضع الأصلي اللغوي.

__________________

(١) القوانين ١ : ٢٠٣.

٧٧٧

ولكنّ الّذي يساعد عليه النظر الصحيح هو أنّ مقايسة ما نحن فيه على ضمير الغائب غير صحيحة ، لأنّ الضمير لا وضع له سوى وضعه العامّ لخصوصيّة كلّ معهود حصل معهوديّته بتقدّم ذكره لفظا أو معنى ، بخلاف ما نحن فيه لكون مصحوب « اللام » بدونه موضوعا بالوضع العامّ لغير ما اريد منه منعه من المعنى العامّ مع العلم الضروري بأنّ للامور المذكورة مدخليّة في كلّ من انفهام الفرد الخاصّ من المصحوب وانفهام كون « اللام للإشارة » إلى اعتبار كونه معيّنا ، كما أنّ للاّم أيضا مدخليّة في انفهام الفرد الخاصّ ، ضرورة أنّه لو قيل : « فعصى فرعون الرسول » من دون تقدّم ذكر ، أو « أكرم الرجل » من دون حضور ، أو « أكرم العالم » من دون اشتهار لم يفهم إرادة الفرد الخاصّ ، كما لم يكن معهوديّة للفرد لاحتمالي تعريف الجنس أو العهد الذهني ، كما أنّه لو قيل مكان الأمثلة المذكورة : « فعصى فرعون رسولا » ، أو « أكرم رجلا » أو « أكرم عالما » مع تحقّق الامور المذكورة لم يفهم إرادة الفرد الخاصّ.

فالوجه أن يقال : إنّ كلاّ من الامور المذكورة حال وجود « اللام » سبب لمعهوديّة الفرد الخاصّ ، ومعهوديّة الفرد الخاصّ المستفادة من الامور المذكورة توجب انفهام كون « اللام » إشارة إلى الفرد الخاصّ ، وكون « اللام » إشارة إلى الفرد الخاصّ الناشئ من معهوديّة ذلك الفرد المستفادة من الامور المذكورة يوجب انفهام إرادة الفرد الخاصّ من مصحوب « اللام » فكلّ من الامور المذكورة إمّا علّة تامّة لانفهام إرادة الفرد الخاصّ كما أنّه علّة تامّة لمعهوديّة ذلك الفرد الخاصّ أو جزء للعلّة ، وأيّا مّا كان فله مدخليّة وتأثير في انفهام إرادته من مصحوب « اللام » فلا مقتضى لالتزام الوضع العامّ لخصوصيّة كلّ معهود.

المقدّمة الثانية

فيما يتعلّق بلام التعريف من تعيين معناه الموضوع له وغيره.

فنقول : إنّها في دخولها على اسم الجنس حالها كحال سائر الحروف الداخلة على مدخولاتها لإفادة معانيها الحرفيّة متعلّقة بمدلولات مدخولاتها من دون حاجة لها ولا لمدخولاتها باعتبار الضمّ والتركيب إلى وضع آخر متعلّق بالهيئة التركيبيّة ، فإنّ كلمة « من » مثلا موضوعة بالوضع الأفرادي للابتداء وإذا دخلت على « البصرة » الموضوعة بالوضع الأفرادي أيضا لمعناها المخصوص تفيد معنى الابتداء متعلّقا بمعنى البصرة من دون أن يقصد منهما باعتبار الضمّ والتركيب معنى آخر زائد على الابتداء ومتعلّقه من معنى البصرة ، فلا حاجة لهما بالاعتبار المذكور إلى وضع آخر ولو نوعيّا متعلّق بالهيئة التركيبيّة لكونه

٧٧٨

خلاف الأصل فلا يلتزم به إلاّ في موضع الضرورة ولا ضرورة هنا دعت إلى التزامه ، ومن هذا القبيل « لام » التعريف الداخلة على اسم الجنس فإنّ الضمّ والتركيب الحاصل بينهما لا يقتضيان معنى زائدا على معنييهما الأفراديّين فلا مقتضي فيهما لطرّو وضع آخر غير وضعيهما الأفرادييّن متعلّق بالهيئة التركيبيّة ، فمن يدّعي الوضع النوعي في المعرّف باللام الحاصل بسبب دخول « اللام » على اسم الجنس ـ كبعض الأعلام ومن تبعه ـ إن أراد به مجرّد الضمّ والتركيب فلا اختصاص له بتعريف الجنس لحصوله في العهدين والاستغراق أيضا ، فلا داعي لتخصيص الحقيقة بالأوّل ونفيها عمّا عداه ، وإن أراد به أمرا زائدا على الضمّ والتركيب فلا مقتضي له والأصل ينفيه.

والعمدة في المقام بيان ما وضع له « اللام » بوضعها الأفرادي ، وقد اختلفوا فيه بين قائل باشتراكها لفظا بين المعاني الأربع كما يظهر من المصنّف نافيا لظهور الخلاف فيه بقوله : « كيف ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة وكونه أحد معانيها ممّا لا يظهر فيه خلاف بينهم ».

وقائل بالحقيقة في تعريف الجنس والمجاز في البواقي كما عليه بعض الأعلام إن صرفنا كلامه عن دعوى الوضع النوعي المتعلّق بالهيئة التركيبيّة.

وقائل بأنّ حقيقة التعريف توجد في العهد الخارجي دون البواقي فيكون تعريفها لفظيّا كما يظهر من نجم الأئمّة ويظهر منه البناء على كون تعريف علم الجنس أيضا لفظيّا ، قال ـ بعد توجيه كلامهم في كون أعلام الأجناس من المعارف ـ : « أقول : إذا كان لنا تأنيث لفظيّ كغرفة وبشرى ونسبة لفظيّة نحو كرسي فلا بأس أن يكون لنا تعريف لفظي إمّا باللام كما ذكرنا قبل وإمّا بالعلميّة كما في اسامة » انتهى.

وقائل بالاشتراك المعنوي على معنى كونها موضوعة لمعنى واحد يتساوى نسبته إلى الجميع ، وهو إمّا الإشارة الّتي تستدعي مشارا إليه ولا بدّ أن يكون معيّنا ليصحّ الإشارة إليه ، وهو قد يكون جنسا معيّنا وقد يكون شخصا معيّنا والجامع بينهما الحقيقة المعيّنة جنسيّة كانت أو شخصيّة ، وعلى تقدير كونه جنسا معيّنا فقد يؤخذ من حيث هو ، وقد يؤخذ من حيث الوجود في فرد غير معيّن ، أو في جميع الأفراد ، أو بمعنى (١) أنّها موضوعة لملاحظة حال مدلول مدخولها من حيث كونه شخصا معيّنا اخذ باعتبار كونه معيّنا ، أو جنسا معيّنا

__________________

(١) عطف على قوله : « وهو إمّا الإشارة الّتي الخ ».

٧٧٩

أخذ باعتبار كونه معيّنا من حيث هو ، أو من حيث الوجود في البعض الغير المعيّن أو في الجميع كما عليه بعض الفضلاء (١) في تفسيره الأوّل تبعا لأخيه في هداية المسترشدين (٢).

ويظهر ذلك من كلّ من أطلق كون « اللام » للإشارة كالأكثر.

ولا خفاء في ضعف القول الأوّل لأنّ مدلول « اللام » هو التعريف الّذي هو أمر واحد يتساوى نسبته إلى المعاني الأربع كما عرفت ، وإضافته إلى الجنس دون غيره والعهد الذهني والعهد الخارجي والاستغراق ليست من قبيل المعاني المرادة من « اللام » المأخوذة في وضعها ليتعدّد بتعدّدها الوضع ، بل هي حيثيّات مختلفة تتلاحق مدخولها باعتبارات مختلفة ، وهي اعتباره بحيث اريد منه الشخص ، أو الجنس المأخوذ من حيث هو ، أو من حيث الوجود في ضمن البعض الغير المعيّن ، أو الجميع ، أو مدلول مدخولها باعتبارات مختلفة من اعتباره شخصا معيّنا أو جنسا معيّنا اخذ من حيث هو ، أو من حيث الوجود في ضمن البعض الغير المعيّن ، أو الجميع وهو الأظهر ، لكون الحيثيّات المذكورة من عوارض المعنى لا من لواحق اللفظ.

ومثله القول الثاني في الضعف لمنع دخول الإضافة إلى الجنس في وضع « اللام » ومنع كون العهدين والاستغراق من المعاني المرادة منها ليلزم المجاز ، بل هي كما عرفت حيثيّات مختلفة تتلاحق مدلول مدخولها باعتبارات شتّى.

وأضعف منهما القول الثالث لأنّ التعريف اللفظي فيما عدا العهد الخارجي لا يتعقّل له معنى إلاّ على تفسير التعريف بتعيين المعنى واحضاره في الذهن ، فيقال حينئذ : إنّه لا يتأتّى إلاّ في العهد الخارجي لعدم كون الفرد في نفسه معيّنا.

وأمّا لو فسّرناه بالدلالة على الأخذ بالمعيّن المراد من المصحوب باعتبار كونه معيّنا شخصا كان أو جنسا فلا ، لوضوح الفرق بين تعيين الشيء في نفسه وبين اعتبار تعيينه في إطلاق اللفظ عليه فيكون التعريف في الجميع حقيقيّا ، فتعيّن القول الرابع فهو المختار بلا إشكال ، إلاّ أنّ الكلام في دخول الإشارة في وضع « اللام » كما عليه الفاضلان (٣) المتقدّم ذكرهما بل الأكثر ، وعدمه بأن يكون مدلولها مجرّدا عن اعتبار الإشارة ، والأوّل أظهر لتبادر الإشارة الّتي هي هنا وفي إسم الإشارة عبارة عن الإيماء إلى الشيء المتعيّن باعتبار أنّه أخذ من حيث كونه متعيّنا ، سواء كان محسوسا مشاهدا أو محسوسا غير مشاهد

__________________

(١) الفصول : ١٦٧.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ١٨٨.

(٣) صاحب الفصول وصاحب هداية المسترشدين.

٧٨٠