تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

الوجه ، ولو كان مقيّدا بشيء من الزمان أو المكان أو حالة من الأحوال فلا بدّ وأن يعتبر انتفاؤه على هذا الوجه ، ولو كان الحكم المثبت في جانب المنطوق وجوبا مشروطا أو مطلقا نفسيّا أو غيريّا عينيّا أو غيره فوريّا أو غيره فلا بدّ وأن يعتبر المنتفي في جانب المفهوم على وفقه طابق النعل بالنعل ، بأن يكون المحكوم عليه بانتفائه في جانب المفهوم ما حكم عليه بالثبوت في جانب المنطوق بواسطة وجود الشرط أو الوصف بعينه ، لا ما يغايره عموما أو خصوصا أو غيرهما من أنحاء التغاير ، ولا فرق في اعتبار الوحدة فيما بين ما ثبت وما انتفى بين ما لو استفيد ذلك الحكم من مادّة « الأمر » أو صيغته أو ما يؤدّي مؤدّاهما بالوضع أو الانصراف أو القرينة الخارجيّة.

فلو استفيد من هيئة الأمر ونحوها الوجوب العيني خاصّة ـ لوضعها له بالخصوص ، أو لانصرافها إليه عند الإطلاق ، أو لقيام قرينة عليه ـ كان المحكوم بانتفائه أيضا هو الوجوب العيني خاصّة لا مطلق الوجوب ، ومثله ما لو استفيد منه الوجوب المطلق ـ من جهة الوضع كما رجّحناه في محلّه ، أو من جهة الانصراف كما عليه البعض ـ فإنّ المحكوم بانتفائه حينئذ هو الوجوب المطلق لا مطلق الوجوب.

نعم لو فرض استفادة العيني أو المطلق من الأمر من جهة الإطلاق وترك القيد لا من جهة الوضع ولا الانصراف ولا القرينة ـ كما عليه بعض مشايخنا في بحث المقدّمة ـ كان المحكوم بانتفائه مطلق الوجوب لا خصوص العيني والمطلق.

والوجه في الفرق : أنّ معنى كونه ما يستفاد من الإطلاق أنّه ماهيّة في مدلول الأمر الوارد مطلقا اعتبرت لا بشرط شيء ، وإنّ غيرهما من الكفائي أو التخييري أو المشروط هو تلك الماهيّة إذا اعتبرت مقيّدة وبشرط شيء ، فتكون منه بمنزلة الفرد من الكلّي.

ومن البيّن أنّ نفي الماهيّة الملحوظة لا بشرط شيء يستلزم نفي جميع أفرادها ، بخلاف الماهيّة المقيّدة فإنّ نفيها لا يوجب نفي الماهيّة المطلقة ، كما أنّ نفي الفرد لا يوجب نفي الكلّي ولا نفي سائر الأفراد ، والوجوب العيني وكذا المطلق عند من يستفيده من الانصراف أو من القرينة الخارجيّة أو من الوضع له بالخصوص فرد من مطلق الوجوب فلا يستلزم حينئذ نفيه نفي الوجوب مطلقا.

وبالجملة فالضابط الكلّي في جميع ما ذكرناه إنّما هو اعتبار الوحدة من جميع الجهات إلاّ بالنسبة إلى الشرط أو الوصف والكيف.

٣٦١

ومن هنا يتبيّن صدق مقالتنا سابقا من أنّ مفهوم قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » عدم وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء لا حرمته كما سبق إلى بعض الأوهام.

وقد يقال : يمكن القول في مثل : « إن جاءك زيد فهو مكرّم » بأنّ مفهومه حرمة الإكرام ، لما تقرّر عندهم من أنّ الجملة الخبريّة إذا قامت قرينة فيها على عدم إرادة الإخبار تفيد الوجوب حيث كانت واقعة في حيّز الإثبات ، والحرمة حيث كانت واقعة في حيّز النفي ، والمقام منه لوجوب اختلاف المفهوم والمنطوق في الكيف ، وحيث إنّ المنطوق جملة خبريّة في حيّز الإثبات فالمفهوم جملة خبريّة في حيّز النفي ومن لوازمها إفادة الحرمة.

ولكنّه كما ترى وهم لا يعبأ به بل ليس إلاّ مغالطة فاحشة ، فإنّ هذه القاعدة إنّما تسلّم فيما كان من مقولة القضايا الملفوظة ، كما يرشد إليه ما ذكروه في وجه حمل الجمل الخبريّة المقرونة بالقرينة على عدم إرادة الإخبار منها على المعنى الانشائي : من أنّ الحقيقة إذا تعذّرت فأقرب مجازاتها أولى.

ولا ريب أنّ قضيّة المفهوم ليست من هذه الجملة ليندرج تحت تلك القاعدة بل هي على ما عرفت قضيّة معقولة صرفة مفادها نفي مفاد القضيّة الملفوظة في جانب المنطوق ، ولا لفظ في المقام حتّى يتطرّق إليه التجوّز والأخذ معه بأقرب مجازاته ، وظاهر أنّ نفي الوجوب الّذي هو مفاد القضيّة الملفوظة لا يستلزم الحرمة لكونه أعمّ.

وقد يستثنى عمّا قرّرناه من الضابط الكلّي ما لو كان هناك أمر هو من لوازم كيف المنطوق فلا يجب اعتباره في المفهوم ، بل يختلفان فيه أيضا لمكان اختلافهما في الكيف الّذي هو ملزوم لذلك الأمر ، نظرا إلى أنّ اختلاف الملزوم يستدعي اختلاف اللازم ، وذلك كما لو اعتبر في الجزاء عموم يتولّد عن كيف القضيّة كما في قولك : « إن جاءك زيد فلا تكرم أحدا » فطنّ المفهوم لا يعتبر فيه العموم حينئذ ، لكونه في كلمة « أحد » إنّما استفيد من جهة وقوعها في حيّز النفي وهذا المعنى منتف في جانب المفهوم كما لا يخفى.

ولكنّه أيضا غير خال عن إشكال ، من جهة أنّ النكرة الواقعة في حيّز النفي إنّما أفادت العموم من جهة أنّها موضوعة لفرد مّا من الطبيعة ـ لا مصداقه بل مفهومه ـ فحيثما تقع في حيّز النفي رجع النفي إلى مفهوم فرد مّا.

ومن البيّن أنّ نفي المفهوم يستلزم نفي جميع مصاديقه ، كما أنّ نفي الطبيعة يستلزم نفي جميع أفرادها.

٣٦٢

ومن هنا نشأ القول بأنّ النهي ممّا يفيد الدوام والتكرار.

وعلى هذا القياس « الأحد » الواقع في حيّز النفي فإنّه يرجع إلى مفهومه ، ونفي مفهوم « الأحد » يستلزم نفي جميع أفراده ، فإذا كان المقصود في المنطوق نفي مفهوم « الأحد » المستلزم لنفي جميع الأفراد كان المفهوم رفع هذا النفي ، وظاهر أنّ رفع النفي عن المفهوم بما هو مفهوم يستلزم رفعه عن أفراده ، كما أنّ رفع النفي عن الطبيعة يستلزم نفيه عن جميع أفراده.

وقضيّة ذلك اعتبار العموم في المفهوم أيضا وهو رفع الحرمة عن جميع الأفراد.

نعم لو فرض أنّ المقصود في المفهوم إثبات الوجوب مكان الحرمة المثبتة في المنطوق لاتّجه دعوى عدم العموم ، ولكنّه بمعزل عن التحقيق ، لما تقرّر من أنّ المفهوم لا يفيد إلاّ نفي الحكم الثابت في المنطوق بعينه.

ولا ريب أنّه غير اثبات الوجوب وليس بينهما ملازمة ، ضرورة عدم استلزام الأعم للأخصّ ، وكما أنّ الوجوب حيثما ثبت في جانب المنطوق ليس مفهومه إلاّ نفي الوجوب الّذي هو أعمّ من الحرمة ، فكذلك الحرمة المثبتة في المنطوق مفهومها ليس إلاّ رفع الحرمة الّذي هو أعمّ من الوجوب ، ودعوى : أنّ العموم من لوازم كيف المنطوق فلا بدّ من اختلافه في المفهوم ، غير مقبولة بل هو من لوازم النكرة المتحيّزة لكيفه ، وإلاّ لوجب ثبوته معه بدونها.

فإن قلت : لولا اختلافهما في ذلك أيضا لزم كون النكرة في حيّز الاثبات مفيدة للعموم وهو باطل.

قلنا : هذا من لوازم النكرة الملفوظة وأحكامها ، وقد عرفت أنّه لا لفظ في جانب المفهوم حتّى يلحقه أحكامه بل هو أمر معنوي ثابت لأمر مغنوي ولا مانع عن كون ذلك الأمر المعنوي ملزوما للعموم من جهة خصوصيّة المقام حسبما عرفت.

هذا مضافا إلى أنّ مقتضى السببيّة ـ على ما هو المفروض ـ انتفاء المسبّب على جميع تقادير انتفاء السبب ، فالمفروض انتفاؤه في المقام بالقياس إلى جميع مصاديق « الأحد » فلو جاز مع ذلك ثبوت المسبّب بالقياس إلى بعض تلك المصاديق لزم وجود المعلول بدون وجود العلّة معه وأنّه محال.

فبجميع ما قرّرنا يتّضح حقيقة الحال في مفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء أو لم يحمل خبثا » (١) وأنّه ملزوم للعموم ، ويكون محصّل مفاده : إذا لم يكن

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ، ح ١ ، الاستبصار ١ : ٦ ، التهذيب ١ : ٤٠.

٣٦٣

الماء قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء ، كما فهمه جماعة منهم المصنّف والمحقّق البهبهاني في حاشية المدارك وشرح المفاتيح في المحكيّ عنهم ، فما عن جماعة من المتأخّرين من منع العموم في هذا المفهوم ليس على ما ينبغي.

كما أنّ ما يقال تأييدا لهذا المذهب ـ من أنّ في قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » عموما من وجوه أربع :

أحدها : في « الماء » والآخر في « الشيء » وهذان عمومان أفراديّان ، والمعنى : كلّ فرد من أفراد الماء وكلّ فرد من أفراد الشيء النجس.

والثالث : في قدر الكرّ.

والرابع : في « لم ينجّسه شيء » وهذان عمومان أحواليّان ، فالأوّل في كيفيّات مقادير الكرّ ومحالّ وقوعه وأنحاء شكله ، والثاني في كيفيّات الملاقاة من العلوّ والتساوي ، وورود الماء على النجاسة أو ورودها عليه ، وأمثال ذلك ممّا يستفاد من عدم التنجيس.

والعموم في « الماء » و « القدر » إطلاقي حكمي ، وفي « الشيء » وضعي حقيقي من باب وقوع النكرة في حيّز النفي فينبغي أن لا يكون في المفهوم عموم باعتبار الشيء.

ليس على ما ينبغي (١) إذ لا مانع من اعتبار العموم الإطلاقي فيه عملا بمقتضى رفع الحكم عمّا ثبت له الحكم في المنطوق ، وهو مفهوم « الشيء » المستلزم لرفعه عن جميع مصاديقه ، وأخذا بموجب السببيّة المستفادة من أداة التعليق القاضية بعاصميّة الكرّ ومانعيّته للماء عن التنجّس الّذي هو في حدّ ذاته قابل له ، كالعموم المستفاد في بعض المقامات عن دليل الحكمة ونحوها ممّا قرّر في محلّه.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يتّضح أنّ من جملة ما يجب اتّحاد القضيّتين فيه إنّما هو الكمّ في مثل قوله عليه‌السلام : « كلّ حيوان مأكول اللحم يتوضّأ من سؤره ويشرب » (٢) و « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » (٣) ونحوه ممّا اعتبر العموم في جانب محلّ الوصف ، فلا يتمّ المفهوم مفهوما إلاّ إذا اعتبر العموم مع خلاف محلّ الوصف ، فيكون مفاد النفي في المفهوم عموم السلب المعبّر عنه بالسلب الكلّي ، سواء عبّرت عنه بقولك : « لا شيء من غير مأكول اللحم يتوضّأ من

__________________

(١) خبر لقوله : « أمّا ما يقال تأييدا الخ ».

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٥ والتهذيب ١ : ٢٢٤ و ٢٢٨.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٨.

٣٦٤

سؤره ويشرب » أو بقولك : « كلّ حيوان غير مأكول اللحم لا يتوضّأ من سؤره ويشرب » من غير فرق بين ما لو أخذ السور آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسريته إلى جميع أفراد الموضوع المقيّد بالوصف ، بأن يكون المتكلّم قد تصوّر جواز الاستعمال من سؤر الطبيعة الحيوانيّة المقيّدة بكونها مأكول اللحم واعتبر الإسناد والحكم بينهما ثمّ ادخل عليهما السور لتسرية الحكم إلى جميع أفراد تلك الطبيعة ، كما في قولك : « كلّ إنسان كاتب » حيث إنّك تتصوّر كتابة طبيعة الإنسان وتعتبر الإسناد والحكم بينهما ، ثمّ تعتبر السور ليكون آلة لإدراك ذلك الحكم من حيث تسريته إلى جميع أفراد تلك الطبيعة.

أو موضوعا لنفس الحكم ومتعلّقا له ، بأن يكون المتكلّم تصوّر جواز استعمال السؤر من كلّ فرد فرد من تلك الطبيعة ثمّ اعتبر الإسناد والحكم بينهما.

فإن قلت : كيف تنكر الفرق بين النوعين ، مع أنّ اللازم على الأوّل كون النفي في جانب المفهوم من باب عموم السلب لعدم وروده إلاّ على الطبيعة المقيّدة بخلاف الوصف ، والسور معتبر معها لتسرية ذلك الحكم إلى أفراد تلك الطبيعة ، وعلى الثاني من باب سلب العموم ، لوروده على السور المعتبر مع الأفراد موضوعا.

قلنا : هذا الفرق عندنا غير مسلّم من أصله ، بل لفظة « الكلّ » في جميع صور وقوعها موضوعة لإدراك حال الحكم من حيث تسريته إلى جميع أفراد موضوعه وكذا سائر ألفاظ العموم ، ولذا عرف العامّ : بلفظ وضع للدلالة على استغراق جزئيّاته كما سيأتي في محلّه ، أي على استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه من غير فرق في ذلك بين كون الحكم إيجابيّا أو سلبيّا ، ولا بين ورودها على النفي أو ورود النفي عليها.

ولئن سلّمناه فإنّما نسلّمه في القضايا الملفوظة كما في : « كلّ إنسان لم يقم » أو « لم يقم كلّ إنسان » حيث إنّ المتكلّم قد يلاحظ عدم القيام لطبيعة الإنسان ويعتبر الإسناد بينهما ثمّ يدخل عليها السور لتسرية ذلك الحكم المنفيّ إلى أفراد تلك الطبيعة ، وقد يلاحظ القيام لجميع أفراد طبيعة الإنسان ثمّ يحكم عليها بالسلب بإدخال أداته لسلب ذلك العموم.

وقد عرفت أنّ محلّ البحث ليس إلاّ من القضايا المعقولة الصرفة ، ولم يتلفّظ فيها بسور ولا أداة سلب ، بل السلب إنّما جاء هنا من جهة قصد انتفاء الحكم الثابت في المنطوق عن غير محلّ الوصف ، وهو ممّا يقتضي العموم بحسب المعنى ، سواء فرضت الحكم في المنطوق ثابتا للطبيعة المقيّدة بالوصف مع دخول السور عليها من باب المرآتيّة ،

٣٦٥

أو لأفراد تلك الطبيعة المقيّدة على نحو العموم.

أمّا على الأوّل : فلأنّ المقصود بالمفهوم نفي الحكم عن الطبيعة المعرّاة عن ذلك القيد ، ومن المعلوم أنّ نفي الحكم عن الطبيعة يستلزم نفيها عن أفرادها جميعا.

وأمّا على الثاني : فلأنّ المقصود بالمفهوم نفي الحكم الثابت لعموم أفراد الطبيعة المقيّدة بذلك الوصف عمّا خلى من أفرادها عن ذلك القيد وهو أيضا يلازم العموم جدّا.

وأيضا كون الوصف سببا للحكم لا يفرق فيه بين اعتباره مع الطبيعة المدخولة للسور أو مع أفرادها الّتي أخذ العموم بالنسبة إليها موضوعا لذلك الحكم ، فيلزم من انتفائه على كلا التقديرين انتفاء الحكم عن كلّ ما خلى عن ذلك الوصف ، وإلاّ لزم وجود المسبّب بدون السبب.

ودعوى : أنّ السبب على الثاني هو سوم المجموع من حيث المجموع ، فيكتفى في انتفائه الموجب لانتفاء الحكم بعدم سوم المجموع من حيث المجموع ، فيكون المفهوم حينئذ في قوّة السلب الجزئي.

يدفعها : أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما لو فرض عموم العامّ مجموعيّا ، وهذا كما ترى معنى مجازيّ للعامّ لا يساعد عليه الذوق والاعتبار ولا فهم العرف ، لكونه ظاهرا في العموم الأفرادي ، وهذا هو الّذي يجري فيه الاعتباران ، وإلاّ فالعموم المجموعي موضوع دائما ولا يعقل وقوعه آلة ومرآتا.

وأمّا العموم الأفرادي فهو لا يقتضي كون موضوع السببيّة سوم المجموع من حيث المجموع ولو فرضناه موضوعا للحكم ، فإنّ محصّل مفاد القضيّة حينئذ يرجع الى أن يقال :

« الغنم السائمة يجب في كلّ فرد منها الزكاة ، لكون السوم في كلّ منها سببا لحكمه المختصّ به » ويلزم من ذلك أن لا يجب الزكاة فيما ينتفي عنه السوم ، سواء كان واحدا أو متعدّدا محصورا أو غير محصور.

ومحصّل مفادها على الأوّل يرجع إلى أن يقال : إنّ السوم في طبيعة الغنم سبب لوجوب الزكاة فيها على نحو يتعدّى ذلك الحكم إلى أفرادها بواسطة السور ، وقضيّة ذلك أن ينتفي عنها الحكم حيثما انتفى عنها وصف السوم وهو أيضا ملزوم للعموم جزما.

وثانيها : قالوا يشترط عند القائلين بحجيّة مفهوم الوصف ـ بل كلّ مفهوم كما يستفاد من الحاجبي وغيره ـ أن لا يكون التقييد خارجا مخرج الأغلب ، صرّح به الحاجبي وغيره في المختصر وبيانه.

٣٦٦

وعن الإحكام وبعض شروح المبادئ دعوى الاتّفاق عليه.

وقد يستظهر عن نهاية السؤول وجود الخلاف فيه ، حيث إنّه بعد ما صرّح بأنّ ما ذكر هو المعروف قال : ونقله إمام الحرمين في البرهان عن الشافعي ، ثمّ خالف وقال : إنّ الغلبة لا تدفع كونه حجّة ، وعلّل بأنّه لعلّه لأنّ المفهوم من مقتضيات اللفظ فليسقط موافقته الغالب ومثّلوا له بقوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ )(١) وقوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها )(٢) وقوله عليه‌السلام : « أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل » وقد يمثّل أيضا بقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )(٣) فإنّ الغالب في الأوّل أنّ الربيبة إنّما تكون في الحجر ، وهي بنت المرأة من غير زوجها ، وإنّما تسمّى بها لأنّ الزوج يربّيها غالبا في حجره والمراد بالحجور البيوت ، والخلع (٤) لا يجري غالبا إلاّ عند الشقاق ، والأغلب أنّ المرأة لا تنكح نفسها إلاّ عند عدم إذن الوليّ لها وامتناعه من تزويجها ، وأنّ العرب كانوا يعتادون قتل الأولاد عند خوف الفقر.

ونقل الاحتجاج عليه عن النهاية ومحكيّ المحصول ـ كما في المنية ـ بأنّه مع حصول الغلبة لا يحصل الظنّ بنفي الحكم عن المسكوت عنه ، قال السيّد في المنية عقيب كلّ من الأمثلة المذكورة : « أنّ مع احتمال كون الباعث على التقييد هو جريان الاعتياد وحصول الغلبة يمتنع حصول الظنّ بكون سببه نفي الحكم عمّا عداه ».

وقد عرفت الإيراد عليه عن إمام الحرمين بأنّ الغلبة لا تدفع كونه حجّة.

وعلّله بعض الأعاظم ـ بعد ما ردّ بعض الأعلام فيما ذكره من الوجه الّذي يأتي بيانه ـ : « بأنّ الاستقراء في العرف ينبّه على أنّ المتعارف بينهم متابعة العرب للعادة في القيود ، بمعنى أنّ مجرّد الغلبة في العادة يبعثهم على التقييد ، فبه يرتفع الحجّيّة وكأنّه المفهوم ».

ومن مشايخ العصر من وافقه وقال : بأنّ ذلك مأخوذ من فهم أهل العرف فإنّهم لا يفهمون من الأوصاف الواردة مورد الغالب المفهوم ، بل يستفيدون منها بيان الواقع لا اختصاص

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) النساء : ٣٥.

(٣) الإسراء : ٣١.

(٤) ولا يخفى أنّ مورد الآية ( النساء : ٣٥ ) ليس هو الخلع بل مطلق الطلاق كما يعلم ذلك ممّا قبلها حيث إنّ الله تعالى بيّن فيها الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه ثمّ عقبّه بذكر الحكم عند صعوبة الأمر في المخالفة ، فمورد الآية هو مطلق الفرقة والطلاق. وأمّا ما يكون في مورده الخلع هو قوله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) البقرة : ٢٢٩.

٣٦٧

الحكم بالغالب وانحصاره فيه ، بل كثيرا مّا يفهمون التعميم الّذي هو ضدّ مفاد التقييد ، كما في قولك لصديقك : « كن عندنا إلى أن يؤذّن المؤذّن ، أو حتّى يؤذّن المؤذّن ، فإذا أذّن فلا منع عليك في الخروج » حيث إنّه لا يفيد المخاطب إلاّ مطالبة الوقوف عنده إلى الظهر سواء تحقّق فيه الأذان كما هو الغالب أو لا.

قال بعض الأعلام : « ولا يحضرني منهم كلام في بيان ذلك ، وعندي أنّ وجهه : أنّ النادر إنّما هو المحتاج حكمه إلى التنبيه ، والأفراد الشائعة تحضر في الأذهان عند إطلاق اللفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللفظ فإنّما يحصل في النادر ، فالنكتة في الذكر لا بدّ وأن يكون شيئا آخر لا تخصيص الحكم بالغالب وهو فيما نحن فيه التشبيه بالولد.

وممّا بيّنّا ظهر السرّ في عدم اطّراد الحكم فيما إذا ورد مورد الغالب في غير باب المفاهيم.

ألا ترى أنّا لا نجوّز التيمّم لواجد الماء ممّن منعه زحام الجمعة عن الخروج مع أنّ الشارع أطلق الحكم بالتيمّم ممّن منعه زحام الجمعة عن الخروج ».

ومحصّل مرامه بما ذكره من الوجه في محلّ البحث : أنّ التقييد في موضع إرادة المفهوم منه إنّما يؤتى به لإفادة التخصيص والتنبيه على اختصاص الحكم بمحلّ القيد ، وإذا كان ذلك المحلّ من الأفراد الشائعة الغالبة ينصرف إليه اللفظ وينساق إليه الذهن بلا تقييد فيحصل الفائدة المقصودة ، نظرا إلى أنّ التخصيص عبارة عن تقليل الشركاء وهو فرع أن يكون لفظ قبل ذكر القيد إطلاق أو عموم ، ولا إطلاق فيه ولا عموم مع الانصراف فيوجب الاختصاص ، فيكون التقييد بلا فائدة وهو غير جائز على الحكيم ، فلا بدّ وأن يكون الفائدة المقصودة منه غير التخصيص.

وأورد عليه :

أوّلا : بمنع إفادة مثل هذا القيد الاختصاص ، لجواز افادته إيّاه تأكيدا لما أفاده أصل الموصوف لأجل الغلبة والانصراف.

وثانيا : بدعوى كون الاختصاص في مفروض الكلام مستفادا من القيد لا غير.

وبعبارة اخرى : إفادة الغلبة والانصراف الاختصاص مشروطة بعدم اقتران اللفظ بالقيد ، حتّى أنّه لو اقترن كان المفيد له هو القيد لا الغلبة والانصراف ، كما أنّ « الإنسان » لو خلّي وطبعه لانصرف إلى ذي رأس واحد.

٣٦٨

وأمّا إذا وصف بذي الرأس لم يستفد الاختصاص إلاّ من الوصف ، والدليل على هذه الدعوى ملاحظة العرف.

وأنت خبير بما فيهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ مبنى كلام الموجّه على مراعاة التأسيس وهو لزوم كون التقييد لأجل فائدة لا تحصل إلاّ بذكر القيد ، وهي في مفروض الكلام لا يجوز أن يكون إفادة الاختصاص لكونه ممّا حصل مع عدم القيد أيضا من جهة الغلبة والانصراف ، فلا بدّ وأن يكون شيئا آخر غير هذا ، فالإيراد عليه حينئذ بأنّ فائدة التقييد هو الاختصاص تأكيدا لما أفاده المقيّد ممّا لا ينطبق عليه ولا يبطل شيئا من مقدّماته كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فلمنع كون اللفظ حال اقترانه بالقيد فارغا عن افادة الاختصاص ، كيف وهو في الكلام سابق على لحوق القيد به ، والغلبة والانصراف من الامور الثابتة فيه وفهم الاختصاص من لوازمهما ، فيكون حاصلا قبل لحوق القيد لسبق الالتفات إليهما قبل لحوق القيد كما لا يخفى.

فالايراد عليه إن كان ولا بدّ فينبغي أن يقال عليه : بأنّ التخصيص الّذي هو عبارة عن قصر الحكم على بعض أفراد العامّ قد يتأتّى مع قصد نفي الحكم عن غير هذا الفرد الّذي اريد قصر الحكم عليه ، وقد يتأتّى مع عدم قصد إثبات الحكم لغيره ، والّذي ينشأ عن مجرّد الغلبة والانصراف إنّما هو التخصيص بالمعنى الثاني من جهة سكوت اللفظ عن النفي والإثبات بالنسبة إلى الفرد النادر ، ولعلّ مقصود المتكلم إفادة التخصيص بالمعنى الأوّل.

ولا ريب أنّه لا يحصل إلاّ مع قصد المفهوم وهو لا يعلم به إلاّ مع ذكر القيد من شرط أو وصف ، فلم لا يجوز أن يكون التقييد بهما لأجل هذه الفائدة الّتي لا تحصل بمجرّد الغلبة والانصراف إلى الغالب؟

فالأولى أن يقال في توجيه ما ذكروه : بأنّ الفارق بين ورود القيد مورد الغالب وعدمه إنّما هو فهم المفهوم على الثاني بحسب المتعارف وعدمه على الأوّل ، وهذا ممّا لا خفاء فيه.

والعمدة بيان منشأ هذا الفرق ، وهو إمّا من جهة وجود المانع عن الانفهام على الأوّل كما يستفاد ممّا تقدّم من تعليلاتهم في بيان تلك القاعدة كما في عبارة المنية وغيرها ، نظرا إلى أنّ فهم المفهوم ليس إلاّ من جهة ظهور اللفظ فيه والظنّ بإرادته وهما منتفيان في موضع ورود القيد مورد الغالب ، لقوّة احتمال كون ذكره في الكلام من جهة جريان العادة

٣٦٩

بما يوافقه من غير نظر إلى قصد المفهوم معه.

أو من جهة فقد المقتضي لفهم المفهوم ، فإنّ المفهوم إنّما يثبت في موضع انفهام السببيّة عن التقييد ، والسببيّة إنّما تستقيم إذا كان محلّ القيد قابلا لأن يطرءه حالتا وجود القيد معه وانتفائه عنه ، بمعنى أن يكون هو بالنظر إلى القيد أعمّ منه مطلقا أو من وجه ، فلذا ترى أنّه لا مفهوم لقولك : « أكرم الإنسان الضاحك » و « إن كان الأسد مفترسا فاحذر منه » و « إن كان الأمير قادرا عليك فلا تتعرّض لسخطه » و « إن كنت أباي فاعطف عليّ » و « إن كان الخمر مسكرا فلا تشربه » وهكذا ممّا لا يكاد يحصى ، ومتى ما كان القيد غالبا على محلّه كان هو بالنسبة إليه واردا على ما هو بمنزلة ما لا عموم فيه تنزيلا للنادر منزلة المعدوم ، وكأنّ المحلّ منحصر في نظر العرف في مورده الغالب وليس له فرد سواه ، فعلى هذا يحمل القيد على إرادة معان اخر غير المفهوم كما هو الحال في الأمثلة المذكورة.

ولعلّه في الأوّل : تنبيه المخاطب على كون الإنسان ضاحكا وتعريفه له ، نظرا إلى ما ذكروه من أنّ التوصيف للجاهل بالنسبة في معنى الإخبار ، كما أنّ الإخبار للعالم بها في معنى التوصيف ، فإنّ من لوازم التوصيف علم المخاطب بأصل النسبة ومن لوازم الإخبار جهله بها ، ولكن قد يرد كلّ منهما مورد الآخر.

وفي الثاني : تنبيه السامع على أنّ الافتراس الّذي تعلمه في الأسد ملزوم للزوم الحذر والفرار منه.

وفي الثالث : التنبيه على أنّ من لوازم قدرة الأمير مع العلم بها أن لا يتعرّض الإنسان لسخطه.

وفي الرابع : التنبيه على أنّ من لوازم الأبوّة عطف الأب على ولده ، أو تحريصه إلى الأخذ بما هو من لوازمها ببيّنة وبرهان.

وفي الخامس : التنبيه على علّة الحكم والحكمة الداعية إلى تشريعه ، والنكتة في مثل قوله : « لا تشرب الخمر إن كنت مؤمنا » التنبيه على كمال البينونة فيما بين الإيمان وشرب الخمر ، وبيان أنّ شرب الخمر مع الإيمان ممّا لا ينبغي ، وأنّه ممّا لا يلائم الإيمان.

وعلى هذا القياس قوله تعالى : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ )(١) فإنّ المقصود بالآية إنّما هو المنع عن الكتمان مطلقا مع التنبيه على أنّه ممّا لا يناسب الإيمان بالله.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

٣٧٠

ويمكن أن يلحق بتلك القاعدة قوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(١) نظرا إلى أنّ الغالب على الفتيات إرادة التحصّن ، فحينئذ يتّضح سقوط الاستدلال به على عدم حجّيّة المفهوم زيادة على ما تقدّم.

وثالثها : ذكر الحاجبي وتبعه غير واحد من شرّاح مختصره لمفهوم المخالفة مضافا إلى ما تقدّم شروطا اخر :

منها : أن لا يظهر أولويّة أو مساواة في محلّ السكوت وإلاّ لما كان مفهوم مخالفة.

ومنها : أن لا يكون واردا في الجواب عن سؤال ، كما لو سأله سائل عن الزكاة في الغنم السائمة فأجاب بقوله : « في الغنم السائمة زكاة ».

ومنها : أن لا يكون في حادثة خاصّة بالمذكور ، كما إذا مرّ بشاة ميمونة فقال : « دباغها طهورها ».

ومنها : أن لا يكون لتقدير جهالة المخاطب ، بأن لا يعلم المخاطب وجوب زكاة السائمة ويعلم وجوب زكاة المعلوفة فيقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) « في سائمة الغنم زكاة » فإنّ التخصيص حينئذ لا يكون لنفي الحكم عمّا عداها.

ومنها : أن لا يكون لرفع خوف ، مثل ما إذا قيل للخائف عن ترك الصلاة المفروضة في أوّل الوقت : « جاز ترك الصلاة في أوّل الوقت » أو غير ذلك ممّا يقتضي تخصيصه بالذكر ، فإنّه إذا تحقّق الباعث على التخصيص لا يكون مفهوم المخالفة حجّة.

وهذه الشروط إنّما يطّرد اعتبارها على تقدير الاستناد في الحجّيّة إلى لزوم العراء عن الفائدة لولاها ، وإلاّ فعلى تقدير الاستناد إلى التبادر وظهور التخصيص بالذكر في سببيّة المذكور للحكم يشكل الحال في الجملة.

إلاّ أن يقال : بأنّ الظاهر إنّما ينهض ظاهرا وحجّة إذا لم يقم ما يصادمه من ظهور آخر وارد عليه كما في كافّة قرائن المجازات ، أو مكافؤ له مانع عن الأخذ به بالمعارضة كما في المجاز المشهور الّذي يعارض ما فيه من قرينة الشهرة لظهوره في المعنى الحقيقي بالوضع.

ولا ريب أنّ ما ذكر من الامور من هذا الباب ، لأنّ منها ما هو نصّ أو ظاهر في عدم إرادة المفهوم ، ومنها : ما هو مصادم للّفظ في ظهور السببيّة.

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٨.

٣٧١

فيبقى الإشكال حينئذ في إطلاق القول بالنسبة إلى بعض تلك الامور ، فإنّ الأولويّة إنّما تصلح للاستناد إليها إذا لم تكن اعتباريّة صرفة قطعيّة كانت أو ظنّيّة عرفيّة ، وإلاّ فلا ينبغي التعويل عليه في الخروج عن ظاهر السببيّة إلاّ على تقدير التعويل على القياس الممنوع في الشريعة.

ومن هنا يتّضح ما في صورة مساواة المسكوت عنه لمحلّ النطق ، فإنّ ذلك لا يصلح مانعا عن الأخذ بظاهر السببيّة إلاّ على البناء على القياس فيما بين المتساويين ، وهو كما ترى بل لا يستقيم ذلك على مذهب العاملين به أيضا ، لما هو المعروف من مذهبهم من أنّهم يبنون عليه حيثما لم يعارضه حجّة والظهور هو الحجّة ، إلاّ أن يقال : بأنّ العبرة في الظهور بما يكون شخصيّا وقياس المساواة ممّا يوجب انسلاخ الظهور الشخصي.

ورابعها : قد سبق عن أبي عبد الله البصري القول بأنّ الوصف إذا كان واردا للبيان أو التعليم أو كان ما عدا الصفة داخلا تحتها يدلّ على النفي عمّا عداه.

واعترض عليه بعض الأعاظم : بأنّه وإن كان حقّا لكن لا من جهة الوصف ، بل في الأوّلين من أجل وروده للبيان فإنّ ذلك يفيد الحصر ، وليس هذا مخصوصا به بل كلّ ما ورد للبيان فعلا أو تقريرا أو قولا منطوقا أو مفهوما ـ ولو لقبا ـ يفيد الحصر ، كيف ولولاه لما تمّ به البيان ، فالبيان إنّما هو المفيد للحصر دون غيره وإلاّ لما كان بيانا ، فظهر عدم مدخليّة الوصف في ذلك.

وأمّا الثالث فلأجل كونه من جهة القرينة ، فإنّ الشيء إذا كان داخلا في الشيء وتعلّق به الحكم فرفع ما كان تحته يقتضي رفعه ، ضرورة استلزام رفع الجزء رفع الكلّ ، وبه يرتفع الحكم المتعلّق بالكلّ وقد ارتفع فلا متعلّق له ، مع أنّه لولاه لزم بطلان [ المنطوق ] ألا ترى أنّه لو قيل : « أحكم بشاهدين من رجالكم » منعنا من قبول الشاهد الواحد ، لقضاء انتفاء الشاهد انتفاء الشاهدين ، والمفروض توقّف الحكم بشهادتهما فلا يمتثل بدونهما.

وبما مرّ بان حجّيّة مفهوم البيان على الإطلاق مضافا إلى أنّها مقطوع بها.

قال في المنتهى : « التخصيص في معرض البيان يدلّ على النفي إجماعا إلاّ أنّه خارج عن نظم المفاهيم السابقة ، ومن فروعه جواز الجمع بين الفاطميّين » (١) انتهى.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٤٧.

٣٧٢

أصل

والأصحّ أنّ التقييد بالغاية يدلّ على مخالفة ما بعدها لما قبلها* (١) ،

___________________________

وتنقيح المبحث يستدعي رسم امور من باب المبادئ.

الأمر الأوّل

في أنّ « الغاية » تطلق على معان ليس من المتنازع فيه إلاّ بعضها.

منها : الفائدة المطلوبة من الشيء ، على ما هو المنساق منها في مواضع إطلاقها على هذا المعنى والمصرّح به في كلام أهل اللغة.

قال في المجمع : « والغاية ، العلّة الّتي يقع لأجلها الشيء » (١) فما في بعض العبارات من أخذ الفائدة على الإطلاق في معناها على هذا الإطلاق خطأ ، للقطع بكون الفائدة عبارة عمّا يترتّب على الشيء وهو أعّم من كونها مقصودة من الشيء ، والغاية للأخصّ.

ومنها : المسافة الّتي نصّ بها في المجمع أيضا بقوله : « والغاية المسافة » (٢).

ولا يذهب عليك أنّ المسافة ظاهرة في حصّة من المكان إذا طرأه التحديد الخطّي كما يستشمّ ذلك أيضا عن المجمع في قوله : « والمسافة هي البعد وأصلها من الشمّ ، وكان الدليل إذا كان في فلاة أخذ التراب فشمّه ليعلم أعلى قصد هو أم جور فإن استاف رائحة الأبوال والأنعام علم أنّه على جادّة وإلاّ فلا ؛ يقال : ساف الرجل الشيء يسوفه ـ من باب قال ـ إذا شمّه » (٣).

نعم قد يطلق في لسان النحاة على ما يعمّ ذلك وغيره ممّا يضاف إلى الزمان أو غيره كقولهم : « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية مكانا أو زمانا أو غيرهما.

فما يقال عند ذكر هذا المعنى : من أنّ من معاني الغاية المسافة بالمعنى الأعمّ ، أي ما يمكن تحديده بالبداية والنهاية مكانا كان أو زمانا أو غيرهما كما هو المتداول في ألسنة النحاة ، إن اريد به كونه من معانيها في هذا الاصطلاح كما يومئ إليه التشبيه فهو كذلك ، وإلاّ فللتأمّل فيه مجال إذ لا يساعد عليه الانسباق العرفي ولا التنصيص اللغوي كما عرفت.

وممّا ذكر تبيّن فساد ما عن صاحب التلويح من أنّ المراد بالغاية في مثل قولنا : « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية » المسافة إطلاقا لإسم الجزء على الكلّ إذ الغاية هو النهاية ، فإنّ ذلك لا يستقيم على تقدير كون المسافة بنفسها من معاني الغاية ، وهل البداية

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادّة « ».

(٢) مجمع البحرين ، مادّة « غيا ».

(٣) مجمع البحرين ، مادّة « سوف ».

٣٧٣

والنهاية جزءان للمسافة أو فردان لها؟ وجهان بل قولان ، أحدهما ما عرفت عن التلويح ، والآخر ما عن الجلبي من أنّ التوجيه الخالي عن شائبة التعسّف أن يقال : انّ الغاية مستعملة في معناها الحقيقي وهو جنس ، والابتداء والانتهاء فردان له ، فكأنّ إضافتهما إليها إضافة الفرد إلى الجنس.

والحقّ أن يقال : إنّ البداية والنهاية إن أضفناهما إلى مصداق المسافة كانا جزئين لهما لا محالة.

وإن أضفناهما إلى مفهومها كان فردين لها فهي من باب الجنس الشامل للقليل والكثير.

وكان الخلاف بين الجلبي ومن تقدّم عليه لفظيّ كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا ما عرفت عن الجلبي من جعل إضافتهما إلى المسافة من باب إضافة الفرد إلى الكلّي ، ففيه : ما لا يخفى على الأديب ، فإنّ إضافة الأخصّ إلى الأعمّ ممّا لا يصحّ عند أهل الأدب.

ومنها : النهاية الّتي صرّح بها في المجمع بقوله : « والغاية منتهى الشيء ونهايته ، ومنه سمّيت الظروف كقبل وبعد غايات ، لأنّ غاية الكلام كانت ما اضيفت هي إليه ، فلمّا حذفت صرن غايات ينتهي بهنّ الكلام ، ومنه أيضا ما في الحديث : « الموت غاية المخلوقين » (١) أي نهايتهم الّتي ينتهون إليها » (٢).

والظاهر أنّ المنتهى إليه الشيء مقول بالاشتراك على ما يبلغه ذلك الشيء ولا يتجاوزه إلى غيره ، وعلى ما ينقطع عنده ذلك الشيء.

والفرق بينهما حقيقي يظهر بأدنى تأمّل.

وإن شئت فعبّر عن الأوّل بآخر المسافة بالمعنى الأعمّ ، وعن الثاني بما بعد المسافة ، وهذان الاعتباران يجريان في المعنى الحرفي الرابطيّ المأخوذ مدلولا لكلمة « إلى » و « حتّى » كما يشهد به الاستعمالات الواردة لدى العرف وأهل اللغة ، فمن الأوّل قولك : « ملك الأمير البلاد أو فتحها من ساحل البحر مثلا إلى الشام » وقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(٣) ومن الثاني قولك : « ملك الأمير البلاد من طهران إلى بغداد » وقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٤) ولو قيل : « قرأت القرآن إلى آية كذا أو إلى سورة كذا » كان محتملا فلا بدّ في التعيين من إعمال القرينة.

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ٦٦٠.

(٢) مجمع البحرين مادّة « غيا ».

(٣) المائدة : ٦.

(٤) البقرة : ١٨٧.

٣٧٤

ومحصل الفرق بينهما : أنّ ما بعد « إلى » على المعنى الأوّل محكوم عليه بما حكم به في الكلام على ما قبله ، بخلاف المعنى الثاني لكون ما بعدها حينئذ خارجا عن ذلك.

وممّا ذكر يتبيّن منشأ الخلاف المعروف عن النحاة في دخول الغاية في المغيّا أو خروجها عنه ، فإنّ مبنى القول الأوّل على دعوى ظهور المعنى الأوّل ومبنى القول الثاني على دعوى ظهور المعنى الثاني ، ومبنى التوقّف على تساوي الاحتمالين كما هو الأظهر ، فقولك : « سرت من البصرة إلى الكوفة » قد تريد به أنّه صدر منّي السير من البصرة وبلغ الكوفة ولم يتجاوزه ، وقد تريد به أنّه صدر منّي [ السير من البصرة ] والقطع عند الكوفة ، ومفاد الأوّل يرجع إلى : أنّ آخر سيري ما تحقّق في الكوفة ، ومفاد الثاني إلى : أنّ آخر سيري ما تحقّق قبل الكوفة ، ومرجع الخلاف المذكور إلى أنّ اللفظ بحسب الوضع اللغوي أو الانسياق العرفي ظاهر في أيّ المعنيين؟ وستعرف أنّه غير ظاهر في شيء منهما حيثما تجرّد عن القرينة الخارجة وإلاّ فالمتّبع ما اقتضته القرينة.

وقد يقال : إنّ الغاية بمعنى « النهاية » قد تطلق ويراد بها الجزء الأخير من المسافة ، وقد تطلق ويراد منها ما بعد المسافة كما يقال : « غاية الصوم الليل » و « غاية السجود رفع الرأس » وقد يطلق ويراد منها الأمر الانتزاعي الّذي ينتزعه الوهم واسطة بين المسافة وما بعدها بحيث لو قسناه إلى السجود في المثال الثاني كان متأخّرا عنه ولو قسناه إلى الرفع كان متقدّما عليه.

وأنت خبير بأنّ هذا الأخير ممّا لا شاهد عليه ، وكأنّه نشأ عمّا تكلّفه بعض الفضلاء في تشخيص موضع النزاع هنا وستعرف ضعفه.

وقد يجعل من معاني الغاية دخول « إلى » و « حتّى » كما في قولهم : هل يدخل الغاية في المغيّا أم لا؟

وقد يقال : بأنّه قد يتسامح ويسمّى نفس « إلى » و « حتّى » غاية ، كما في تعبير بعضهم هل تدخل ما بعد الغاية في المغيّا أم لا؟

الأمر الثاني

موضع الكلام في المقام إنّما هو الغاية بمعنى « النهاية » بمعناها الأوّل ، وهو بلوغ الحكم في موضوعه حدّا يكون آخر المسافة على حسبما اقتضته أداة الغاية ، كما يرشد إليه دليلهم المعروف من أنّ تقييد الحكم بالغاية لو لم يدلّ على مخالفة ما بعد الغاية لما

٣٧٥

قبلها لخرج الغاية عن كونها آخرا إلى كونها وسطا.

فصار محصّل العنوان في قوّة أن يقال : تعليق الحكم على موضوع له آخر محدود معيّن هل يدلّ على انتفاء ذلك الحكم عمّا بعد ذلك الآخر أو لا يدلّ عليه؟ وظاهر أنّ هذا العنوان لا اختصاص له بشيء من قولي خروج الغاية عن المغيّا أو دخولها فيه ، بل يجري في كلّ منهما جريه في صاحبه ، لما عرفت من أنّ ذلك خلاف يرجع إلى تشخيص « الآخر » من حيث تردّده بين كون مدخول الأداة أو ما قبله ، فهو بحث عن محلّ النهاية فيكون راجعا عند التحقيق إلى منطوق الكلام لا عمّا بعد النهاية ليكون بحثا عن المفهوم بخلاف الخلاف المتحقّق في المقام ، فإنّه كلام عمّا بعد « الآخر » بعد تبيّن « الآخر » ولو بالقرينة ، سواء كان محلّه مدخول الأداة أو ما قبله ، فلذا يكون البحث عنه بحثا عن المفهوم.

فما في الضوابط (١) من جعل هذا الخلاف مرتّبا على الخلاف في دخول الغاية وخروجها ، ومبنيّا على القول بدلالة اللفظ على الدخول أو على القول بعدم دلالته على شيء من الدخول والخروج ـ تعليلا : بأنّه على القول بالدلالة على الخروج فلا يتصوّر النزاع في المقام ، إذ لو دلّ اللفظ على خروج الغاية عن المغيّا فما بعدها أولى بالخروج ـ فواه جدّا ـ منشؤه عدم التدبّر في فهم البراهين مع وضوح الفرق بينهما موضوعا ومحمولا ، وعدم ابتناء شيء منهما على الآخر.

وأيضا قد عرفت أنّ معنى دلالة اللفظ على خروج الغاية عن المغيّا دلالته على انتفاء الحكم المنطوقي عنها ، وهو غير الدلالة المفهوميّة الراجعة إلى الدلالة على نفي سنخ الحكم عن غير محلّ النطق ، فلم لا يجوز أن يكون اللفظ دالاّ على الخروج بالنسبة إلى الحكم المنطوقي وساكتا عن الدلالة نفيا وإثباتا بالنسبة إلى سنخ الحكم؟ فليتدبّر.

وممّا قرّرناه يتّضح أنّ ما في كلام بعض الأعلام عند بيان معنى العنوان من « أنّ المراد أنّ تعليق الحكم بغاية يدلّ على مخالفة حكم ما بعد النهاية لما قبلها ، وأمّا النهاية ففيها خلاف آخر ذكروه في مبحث بيان أنّ « إلى » لانتهاء الغاية » (٢) ليس بسديد ، إلاّ أن يرجع الخلاف الآخر إليه في تعيين محلّ النهاية بمعنى الآخر فينطبق على ما بيّنّاه ، وإلاّ فالغاية بمعنى « النهاية » إذا كان المراد بها الآخر كائنا ما كان فكيف يتصوّر فيه خلاف آخر في المبحث المذكور ، بل المراد بها هنا النهاية بمعنى الآخر وثمّة مدخول الأداة وهو أعمّ من

__________________

(١) الضوابط : ١٢٥.

(٢) القوانين : ١٨٦.

٣٧٦

كونه محلاّ للآخر أو ما بعده ، فلذا كان النزاع ثمّة في تعيين الآخر وهنا في حكم ما بعد الآخر ، سواء كان محلّه المدخول أو ما قبله.

كما يتّضح به أيضا فساد ما ذكره التفتازاني في تحقيق المقام من أنّ ما بعد الغاية لم يقع فيه نزاع ، إذ لم يقل أحد بدخول ما بعد المرافق في الغسل ، وإنّما النزاع في نفس الغاية كزمان غيبوبة الشمس ونفس المرافق هل يلزم انتفاء الحكم فيه ، ولا معنى لمفهوم الغاية سوى أنّها لا تدخل في الحكم بل ينتفي الحكم عند تحقّقها ، وهو محكيّ عن العضدي كما يستفاد من التفتازاني أيضا حيث صدر منه العبارة المذكورة عند شرح كلام العضدي.

وأمّا ما عن بعضهم أيضا من أنّ المراد بما بعد الغاية هنا هو المذكور بعد الأداة فقط « كالليل » في آية الصوم فيكون المراد بالغاية أداتها ، فأوضح فسادا من الجميع.

ومن الفضلاء من تكلّف في هذا المقام تكلّفا خارجا عن مقصود العنوان بالمرّة فقال : « والمراد بالغاية هنا غير الغاية في قول النحاة : « إلى » لانتهاء الغاية ، فإنّ المراد بها هناك المسافة ، وغير الغاية في قولهم : هل يدخل الغاية في المغيّا أو لا؟ فإنّ المراد بالغاية هناك ما دخلت عليه أداة الغاية كالكوفة في قولك : « سرت إلى الكوفة » والليل في قولك : « صمت إلى الليل » وإنّما المراد بها هنا النهاية.

وهي عند التحقيق أمر اعتباري ينتزع من المغيّا من حيث ينقطع استمراره فهي في قولك : « صم إلى الليل » أمر اعتباري بين الصوم والليل بناء على خروج الغاية ، إن قيس إليه الصوم كان متقدّما عليه وإن قيس إليه الليل كان متأخّرا عنه ، نظيره السطح المشترك بين الجسمين ، فدخل ما بعد الأداة في محلّ النزاع على القول بعدم دخول الغاية في المغيّا أو عند قيام قرينة عليه ، إذ يصدق عليه حينئذ أنّه ما بعد الغاية بالمعنى المذكور ، ويخرج عنه على القول الآخر أو إذا قام قرينة على الخروج ويدخل فيه ما بعده » انتهى (١).

وفيه : مع ما فيه من التكلّف الواضح الّذي لا حاجة إلى ارتكابه ، أنّه واضح الفساد ، إذ قد عرفت أنّ النهاية هنا عبارة عن آخر المسافة والمسافة في قوله : « صم إلى الليل » عبارة عن زمان محدود يقع فيه الصوم أوّله الجزء المقارن لطلوع الفجر وآخره الجزء المتّصل بالليل ، وهو كما ترى أمر حقيقي يدركه الأفهام البادية فضلا عن الأفهام العالية.

فكيف ينزّل على الأمر الاعتباري الموهومي الّذي لا حقيقة له ولا يدركه الذهن

__________________

(١) الفصول : ١٥٣.

٣٧٧

السليم والطبع المستقيم ، والمغيّا هو الزمان المذكور في المثال ، والغاية بمعنى النهاية جزؤه وجزء الشيء الحقيقي لا يكون أمرا اعتباريّا.

وبالجملة لا إشكال في أنّ الكلام في حكم ما بعد الغاية بمعنى « النهاية » بمعنى آخر المسافة ، وهو أمر حقيقي عيّنه اللفظ المشتمل على الأداة مطلقة أو مع القرينة ولا مدخل للاعتبار فيه أصلا ، سواء فرضنا محلّه المذكور بعد الأداة أو ما قبلها ممّا وقع موضوعا للحكم من مكان أو زمان أو غيرهما ، ولا ابتناء له على شيء من أقوال الغاية من حيث الدخول والخروج لكونه ، كلاما في تعيين « الآخر » وهو عند التحقيق كلام في تشخيص ما هو من موضوع محلّ الكلام.

الأمر الثالث

يظهر من الفاضل المتقدّم تردّد في تحقيق معنى « الحكم » في محلّ النزاع ، من حيث انّ المراد به في طرفي نفي الدلالة وأمثالها هل هو نوعه المتناول لمثل ما ثبت بالخطاب المشتمل بالغاية أو شخصه المدلول عليه بذلك الخطاب؟ مع موافقته للنافين على الأوّل والمثبتين على الثاني حيث قال : « فاعلم أنّ النزاع يتصوّر هنا في مقامين :

الأوّل : أنّ التقييد بالغاية هل يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها مطلقا بحيث يكون المفهوم من قولنا : « صم إلى الليل » أنّه لا أمر بالصيام [ بعدها ] مطلقا ولو بأمر آخر أو لا يقتضي ذلك؟

الثاني : أنّ التقييد بها هل يقتضي المخالفة بالنسبة إلى الحكم المذكور ، بحيث يكون المفهوم في المثال المذكور انقطاع الصوم المأمور به بذلك الأمر عند مجيء الليل أو لا يقتضي ذلك؟ حتّى أنّه يجوز أن يكون الصوم المطلوب بذلك الخطاب مستمرّا بعد الليل أيضا من غير شهادة في اللفظ على خلافه.

فنقول : إن كان النزاع في المقام الأوّل كما هو ظاهر كلماتهم بل صريح بعضها فالحقّ فيه مع من أنكر الدلالة ، وإن كان في المقام الثاني فالحقّ فيه مع من أثبتها » إلى آخر ما ذكره (١).

وأنت خبير بأنّ ذلك ليس على ما ينبغي ، بل النزاع في المقام الثاني غير معقول فإنّ انتفاء الحكم المذكور إن اريد به الحكم الشخصي المقيّد عن غير محلّ النطق ممّا لا ينكره أحدكما هو الحال في سائر المفاهيم ، نظرا إلى قصور عبارة الخطاب المشتمل على التعليق

__________________

(١) الفصول : ١٥٣.

٣٧٨

عن الدلالة على ثبوته لغير محلّ النطق أيضا ، وأنّه لولاه لخرج المنطوق المتّفق على ثبوته عن كونه منطوقا ، أو رجع النزاع في المفهوم إلى كونه نزاعا في المنطوق ، وأنّ الحكم المذكور من جهة اختصاصه بمحلّ النطق حكم شخصيّ وجزئي حقيقي غير قابل للسراية والتعدّي إلى غير موضوعه المذكور في الكلام ، فانتفاؤه عن غير محلّ النطق من مقتضيات ذاته من حيث قصور العبارة عن الدلالة على ثبوته له ، لا من جهة دلالة الخطاب عليه وكونه من مقاصد المتكلّم ، مع أنّ القيد الوارد في الكلام على تقدير كونه قيدا للحكم ـ ولو تبعا لموضوعه ـ إنّما يعرض الحكم الكلّي الملحوظ قبل النطق فيصيّره شخصين ، أحدهما : المثبت لمحلّ النطق وهو المذكور في الكلام الّذي يقال له : « المنطوق » والآخر : المنفيّ عن غير محلّ النطق على القول بالدلالة وهو « المفهوم » فكيف يتصوّر رجوع النفي والاثبات إلى الأوّل.

الأمر الرابع

ربما يظهر في المسألة خلاف صغروي يعبّر عنه : بأنّ الغاية هل هو قيد راجع إلى الحكم أو إلى موضوعه؟ حتّى أنّ منهم من جعل مبنى القول بالدلالة على مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها على الأوّل.

فمن أفاضل العصر من صرّح به تعويلا على العرف ، حتّى أنّه في دفع ما أورده على نفسه في هذه الدعوى من أنّ القيود الواردة في الكلام على ما ذكروه متعلّقة بمادّة الفعل لا بهيئته اضطرّ إلى تكلّف تكلّفه وهو : أنّ الأمر وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ جعل الشيء قيدا للمادّة على نوعين ، فقد يلاحظ المادّة مقيّدة بالقيد ثمّ يحكم عليها بوجوب أو تحريم أو غيرهما ، وقد تلاحظ معروضة للحكم من وجوب أو غيره ثمّ تقيّد ، والمستفاد عرفا من نحو « صم إلى الليل » هو المعنى الثاني.

وهذا كما ترى ، ويمكن استفادة ذلك أيضا من عناوين أهل القول بالدلالة ، فإنّها بين مصرّحة بتقييد الحكم وظاهرة فيه كما هو ظاهر للمتتبّع.

ومن الفضلاء (١) من يظهر منه الجزم بالثاني ، مصرّحا : « بأنّ توابع الفعل ومتعلّقاته قيود لمدلول [ مادّته ] ويمكن تنزيل مقالة المنكرين للدلالة على المصير إلى هذا الاعتبار ، بدعوى : أنّ مفاد قوله : « صم إلى الليل » يرجع إلى أنّه يجب الإمساك المحدود بكون آخره

__________________

(١) الفصول : ١٥٤.

٣٧٩

الليل ، وهذا المعنى كالتقييد بالصفة لا ينافي وجوب غيره ، بل يفصح عن ذلك ظاهر عبارة السيّد المنقولة عنه في ذيل احتجاجه على نفي الدلالة على النفي كما في كلام المصنّف وهي : « أنّ من فرّق بين تعليق الحكم بصفة وتعليقه بغاية ليس معه إلاّ الدعوى وهو كالمناقض بفرقه بين أمرين لا فرق بينهما » (١) وهذا هو الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف.

لنا على ذلك : ما يستفاد من أهل العربيّة من أنّ توابع الكلام من المفاعيل وما يشبهها كالحال والتميز في أحد قسميه والظروف وما في حكمها كالمجرور بالحروف ، متعلّقات للفعل ـ ولو باعتبار المعنى ـ عدا جملة من التوابع الخمس المعهودة في بعض أحوالها كما لا يخفى ، ولذا لا عامل لها إلاّ الفعل ، مع قضاء الوجدان الصريح والذوق الصحيح بتأخّر رتبة الحكم ـ كالطلب الحتمي المتعلّق بالمادّة مثلا ـ عن تصوّر الفعل وظهور رجحانه عند المتكلّم ، وظاهر أنّ الرجحان وصف لا يظهر إلاّ بعد ملاحظة الفعل مع جميع الجهات الّتي لها مدخليّة في انعقاد هذا الرجحان من زمان أو مكان أو حالة أو اعتبار أو نحو ذلك ، ولا يكون ذلك إلاّ على تقدير [ كون ] الجهات المذكورة من مشخّصات الفعل.

ألا ترى أنّك في قولك : « اضرب زيدا راكبا ، أو يوم الجمعة ، أو في الدار ، أو تأديبا ، أو ضربا شديدا » لا تتكلّف بتركيب هذا الكلام ولا إنشاء مفاده إلاّ بعد ما ترجّح في نظرك ضرب زيد حال الركوب ، أو ضربه يوم الجمعة ، أو ضربه في الدار ، أو ضربه للتأديب ، أو ضربه الشديد.

ومن هنا قيل : إنّ مدلول الهيئة يرد على المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها ، وعلى هذا القياس التقييد بالغاية في نحو « صم إلى الليل » فإنّ الضرورة قاضية بأنّ السابق إلى ذهن المتكلّم أوّلا هو ظهور رجحان هذا المقدار من الإمساك ، وقضيّة ذلك كونها من قيود الإمساك.

ويؤيّده ما في كلام أهل العربيّة من أنّ الحروف ليس لها معان مستقلّة بنفسها بل هي امور نسبيّة رابطيّة ملحوظة آلة لتعرف حال الغير المعبّر بمتعلّقاتها ، فإنّ « من » و « إلى » في قولك : « من البصرة إلى الكوفة » إنّما يؤتى بهما لتعرف حال السير والبصرة والسير والكوفة من حيث كون البصرة محلاّ لابتداء السير والكوفة محلاّ لانتهائه ـ إمّا بمعنى بلوغه إيّاها أو بمعنى انقطاعه عندها ـ وهذا هو معنى ما ذكرناه في غير موضع من كون « من » وضعا للنسبة بين شيئين من حيث كون أحدهما مبدأ للآخر ، و « إلى » وضعا للنسبة بينهما من

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٤٠٨.

٣٨٠