تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

نعم القائل بها يجعل ذلك خطابا شرعيّا والقائل بالعدم يجعله حكما عقليّا وليس في هذا كثير ثمرة ».

ومن الأعلام من أورد عليه بكمال وضوح الثمرة والفائدة في الموافق للأصل أيضا ، لأنّ المدّعي للحجّيّة يقول : بأنّ هاهنا حكمين من الشارع فلا يحتاج إلى الاجتهاد في طلب حكم المسكوت كما أنّ المنكر يحتاج ، وكونه موافقا للأصل لا يكفي إلاّ بعد استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بعدم الدليل كما سيأتي في محلّه.

وأيضا الأصل لا يعارض الدليل ولكنّ الدليلين يتعارضان ويحتاج المقام إلى الترجيح ، فإذا اتّفق ورود دليل آخر على خلاف المفهوم فيعمل عليه من دون تأمّل على القول بعدم الحجّية ، ويقع التعارض بينه وبين المفهوم على القول بالحجّيّة وربّما يرجّح المفهوم على مناطيق إذا كان أقوى ، فضلا عن منطوق واحد.

ومن الفضلاء من أورد عليه أيضا : بأنّ المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه بين أن يكون موافقا للأصل أو مخالفا له ، مع أنّ الثمرة تظهر في الموافق عند التعارض.

ومن مشايخنا من أورد عليه أيضا : بأنّا وإن لم نقل بإفادة القضيّة الشرطيّة المفهوم بوجه من الوجوه ، إلاّ أنّها تفيد أنّ الجزاء فيها لا يشمله لباس الوجود إلاّ بواسطة سبب ، فوجوده في نفسه مخالف للأصل ما لم يوجد له سبب ، فقولك : « إن جاءك زيد فيباح إكرامه ، أو لا يجب إكرامه » مثلا إنّما يفيدان إباحة إكرامه أو عدم وجوب إكرامه مستندا إلى سبب وهو مجيئه ، ولازمه أن لا يوجد الإباحة المذكورة ولا عدم الوجوب المذكور إلاّ بسبب ، وأنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي ، فحينئذ لا يتفاوت الحال بين القولين في الثمرة الّتي ذكروها.

أقول : وكأنّه نقض لما ذكره الجماعة من عدم ظهور ثمرة للقولين في المفهوم الموافق بما سلّموا من ظهورها في المخالف للأصل بطريق المعارضة ، ومبناها على أنّ إنكار حجّيّة المفهوم في الجملة الشرطيّة راجع إلى منع دلالتها على التلازم بين الشرط والجزاء في العدم كما تقدّم.

وأمّا دلالتها على التلازم بينهما في الوجود فلا ينكره المنكرون للحجّيّة.

وعلى هذا فالجملة الشرطيّة باعتبار دلالتها على هذا التلازم أخرجت واقعة « إكرام زيد » على تقدير عدم مجيئه في المثالين عن تحت الأصل المقتضي للإباحة أو عدم

٢٦١

الوجوب وهذا هو معنى قوله : « إنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي » ، وحينئذ فكما لا يصحّ للقائل بحجّيّة المفهوم المخالف للأصل القول بإباحة إكرام زيد أو عدم وجوبه على تقدير عدم مجيئه تمسّكا بالأصل فكذلك لا يصحّ لمنكرها القول بهما تمسّكا بالأصل أيضا ، لاتّفاق الفريقين على الدلالة المنطوقيّة وهي الدلالة على التلازم في الوجود.

غاية الأمر أنّ القائل بالحجّيّة له مانع آخر عن التمسّك بالأصل وهو الدلالة المفهوميّة.

وأنت خبير بما في كلّ من نفي ظهور الثمرة بين القولين في الموافق للأصل وكلّ من الإيرادات المذكورة عليه من الضعف.

أمّا الأوّل فلأنّ مرجع نفي الثمرة بينهما إلى اتّحاد نتيجة القولين في مقام الاستنباط في المسألة الفرعيّة ، فإنّ كلاّ من الفريقين في واقعة « إكرام زيد » على تقدير « عدم مجيئه » في المسألة الفرعيّة ، عند ورود قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » مثلا يبني على عدم الوجوب ، فهو اتّحاد بينهما في النتيجة وإن كان القائل بالحجّيّة يبني عليه لدلالة الخطاب عليه والمنكر لها يبني عليه لدلالة العقل عليه.

ويدفعه : أنّ اتّحاد النتيجة إن اريد به اتّحادها صورة فهو لا ينافي تغايرهما ذاتا ، وإن اريد به الاتّحاد بحسب الذات فهو واضح المنع ، لوضوح التغاير بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فعدم الوجوب على القول بالحجّيّة متعلّق بواقعة إكرام زيد عند عدم مجيئه لعنوانه الخاصّ فيكون حكما واقعيّا ، وعلى القول الآخر متعلّق بها لعنوان مجهول الحكم وما لا نصّ فيه فيكون حكما ظاهريّا ، فيترتّب على الأوّل كلّما هو من آثار الحكم الواقعي ، وعلى الثاني كلّما هو من آثار الحكم الظاهري.

وأمّا الإيرادات : فأمّا ما ذكره بعض الأعلام ففيه :

أوّلا : أنّ ثمرة المسألة ـ على ما بيّنّاه مرارا في غير موضع ـ عبارة عن الفائدة المطلوبة من عقد تلك المسألة وتدوينها ، والضرورة قاضية بعدم كون الغرض من عقد هذه المسألة لزوم الفحص وعدمه ، ولا وقوع المعارضة ووجوب الترجيح وعدمها ، بل الغرض من تمهيد المسائل الاصوليّة الباحثة عن أحوال الأدلّة بأسرها على ما هو مفاد « لام » الغاية المأخوذة في تعريف اصول الفقه بأنّه : « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة » إنّما هو استنباط الأحكام من الأدلّة بواسطتها ، وطريقه أن تؤخذ تلك القواعد ـ الّتي هي مسائل اصول الفقه ـ في مقدّمات الاستدلالات على المسائل الفرعيّة ، ولأجل

٢٦٢

ذلك عدّ علم اصول الفقه من مباني الفقه ومبادئ الاجتهاد ، كما يقال ـ في أخذ ثمرة كون صيغة « افعل » للوجوب عند إثبات الوجوب للصلاة مثلا في المسألة الفرعيّة استدلالا بقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) ـ : « أقيموا » صيغة « افعل » وكلّ صيغة « افعل » حقيقة في الوجوب « فأقيموا » حقيقة في الوجوب.

ثمّ يقال في أخذ ثمرة أصالة الحقيقة في الاستعمال : أنّ « أقيموا » لفظ مستعمل في الخطاب مجرّدا عن قرينة المجاز ، وكلّ لفظ مستعمل في الخطاب مجرّدا عن قرينة المجاز يجب حمله على معناه الحقيقي « فأقيموا » يجب حمله على معناه الحقيقي وهو الوجوب ، فدلّت الآية على وجوب الصلاة.

وفي إثبات وجوب الحجّ على المستطيع استدلالا بمثل : « إن لم تكن مستطيعا فلا يجب عليك الحجّ » على تقدير وروده في خطاب الشرع على القول بحجّيّة مفهوم الشرط ، يقال : الحجّ ما ورد بعدم وجوبه على تقدير عدم الاستطاعة الجملة الشرطيّة ، وكلّما ورد بعدم وجوبه على تقدير عدم الاستطاعة الجملة الشرطيّة فهو واجب على تقدير « الاستطاعة » فالحجّ واجب على تقدير « الاستطاعة ».

أمّا الصغرى : فبحكم الفرض ، وأمّا الكبرى : فلأنّ تعليق الحكم على شرط يقتضي انتفاءه عند انتفاء الشرط ، والمنكر للحجّيّة يدرجه فيما لا نصّ فيه فيقول : الحجّ عند الاستطاعة ما لا نصّ بوجوبه ، وكلّما لا نصّ بوجوبه فليس بواجب ، فالحجّ ليس بواجب.

وحينئذ فربّما يتّجه القول بأنّ ثمرة الفرق بين القول بالحجّيّة والقول بعدمها تظهر فيما لو كان المفهوم مخالفا للأصل ، إذ النتيجة المحصّلة بالاستنباط حينئذ على الأوّل حكم مخالف للأصل وعلى الثاني حكم موافق له ، بخلاف ما لو كان موافقا للأصل إذ النتيجة المحصّلة به على القولين حكم موافق للأصل فلم يظهر بينهما فرق.

فالإيراد عليه حينئذ : بأنّ الثمرة بينهما تظهر في مسألة وجوب الفحص أو في مقام التعارض غير سديد ، إلاّ أن يراد بها مطلق الفائدة المترتّبة على المسألة وإن لم تكن مقصودة من تدوينها ، أو ما هو من الآثار المترتّبة على الحكم الواقعي والحكم الظاهري فيرجع إلى ما بيّنّاه.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ القائل بالحجّيّة ومنكرها سيّان في لزوم الفحص.

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

٢٦٣

غاية الأمر أنّ الأوّل يفحص عن المعارض والثاني يفحص عن الدليل ، لاشتراط الفحص في العمل بكلّ من الأدلّة الغير العلميّة والاصول.

وأمّا ما ذكره بعض الفضلاء ففيه : أنّ نفي ظهور الفرق بين القولين فيما وافق الأصل لا يرجع إلى نفي حجّيّته ، حتّى يقابل بأنّ المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه بين أن يكون موافقا للأصل أو مخالفا له ، بل نفي ظهور ثمرة الفرق بين القولين على ما تقدّم من الجماعة ـ خصوصا عبارة السيّدين (١) ـ مبنيّ على فرض وجود القولين في الموافق للأصل أيضا بتوهّم اتّحاد النتيجة فيهما من حيث كونها من مقتضى الأصل ، وإن استند فيه القائل بالحجّيّة إلى دلالة الخطاب لا إلى الأصل.

وحينئذ لا يتعلّق به الإيراد عليه بأنّ المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه بين أن يكون موافقا للأصل أو مخالفا له.

هذا ولكنّ الانصاف : أنّه رحمه‌الله ذكر ذلك في مقابلة صاحب الوافية من هؤلاء الجماعة ، فإنّه تعدّى من نفي ظهور الثمرة إلى نفي الحجّيّة قائلا ـ على ما حكي ـ « بأنّ فائدة المفهوم إنّما تظهر إذا كان الحكم فيه مخالفا للأصل.

وأمّا إذا كان موافقا له كما في الأمثلة الّتي استشهدوا بها ، فالحكم إنّما يثبت فيها بالأصل.

ودعوى الحجّيّة حينئذ إنّما نشأت من الغفلة عن ذلك ، لكون حكم المفهوم مركوزا في العقل من جهة الأصل » فقابله الفاضل المورد بقوله : « المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه »

وأمّا ما ذكره من العلاوة : فقد اتّضح ما فيه من قضاء الضرورة بعدم كون عقد هذه المسألة الاصوليّة لأن يظهر ثمرته عند التعارض ، إلاّ أن يراد بالثمرة مطلق الفائدة المترتّبة على المسألة وإن لم تكن مقصودة ، أو يراد منها ما هو من آثار الحكم الواقعي وما هو من آثار الحكم الظاهري فيما إذا ورد دليل آخر على خلاف المفهوم باعتبار دلالته على حكم مخالف للأصل ، فإنّه على القول بالحجّيّة يعارضه المفهوم لأنّه دليل باعتبار دلالة الخطاب عليه ، وعلى القول بعدمها لا معارض له لأنّ الأصل لا يعارض الدليل.

وأمّا الإيراد الأخير : فهو أضعف من سابقيه ، وذلك لأنّ القائل بالحجّيّة فيما خالف الأصل في نحو : « إن جاءك زيد فيباح إكرامه ، أو لا يجب إكرامه » إنّما لا يصحّ له البناء على « إباحة إكرامه » أو « عدم وجوب إكرامه » عند عدم مجيئه تمسّكا بالأصل لخروج الواقعة

__________________

(١) وهما السيّد بحر العلوم في الفوائد وصهره في المفاتيح.

٢٦٤

على قوله عن الأصل بدلالة الخطاب على الحكم المخالف للأصل من حرمة إكرامه حينئذ أو وجوبه.

وهذا الكلام لا يجري في حقّ المنكر للحجّيّة.

أمّا أوّلا : فلأنّ إنكار الحجّيّة لا يرجع إلى دعوى تسبّب الجزاء في القضيّة الشرطيّة عن سبب هو إمّا الشرط المذكور فيها أو غيره ممّا يقوم مقامه في السببيّة والتأثير في وجود الجزاء ، بل إلى منع دلالة القضيّة على التلازم بينهما في العدم المعبّر عنه بلزوم الانتفاء عند الانتفاء ، نظرا إلى جواز تعدّد الأسباب وقيام سبب آخر مقام الشرط ، والمراد بالجواز هو الاحتمال لا أنّه كذلك ألبتة ، فيحتمل عنده كون حكم الواقعة عند انتفاء الشرط المذكور هو الإباحة أيضا أو عدم الوجوب كذلك ، لاحتمال تعدّد الأسباب وقيام سبب آخر مقامه ، ويحتمل كون حكمها الواقعي ضدّ الإباحة أو نقيض عدم الوجوب أعني الحرمة أو الوجوب لاحتمال انحصار السبب في الشرط المذكور فيها ، وهذا من الشكّ في التكليف الإلزامي فتندرج الواقعة في عنوان مجهول الحكم المعبّر عنه بما لا نصّ فيه ، فيجري فيها الأصل الكلّي المقرّر لعنوان مجهول الحكم المقتضي للإباحة أو عدم الوجوب ، فكيف يقال عليه أنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المنكر للحجّيّة لا يبني في المسكوت عنه على الحكم المنطوقي حتّى يقال عليه : بأنّه بمقتضى القضيّة مستند إلى سبب وهو « المجيء » في المثالين ، لأنّه الّذي لا يكون باقيا على مقتضى الأصل الأوّلي ، فلا يصحّ الاستناد فيه حينئذ إلى الأصل لأنّ الحكم المنطوقي حكم واقعي غاية الأمر موافقته الأصل ، والمنكر لمنعه دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء متوقّف في الحكم الواقعي للواقعة ، لتردّده عنده بين الإباحة وضدّها أو عدم الوجوب ونقيضه ، فلا مناص له في مقام العمل من الرجوع إلى أصل من الاصول المقرّرة للجاهل بالحكم الواقعي الفاقد للدليل ، فالإباحة أو عدم الوجوب الّذي يبنى عليه حينئذ عملا بذلك الأصل حكم ظاهريّ لا أنّه حكم منطوقي ، فكيف يورد عليه : بأنّه ليس باقيا على مقتضى الأصل الأوّلي؟

نعم لو علم ـ ولو إجمالا ـ أنّ إباحة الإكرام أو عدم وجوبه لهما سبب آخر غير « المجيء » محقّق في الواقع قائم مقامه عند انتفائه ، اتّجه القول بأنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي من حيث مخالفة موضوعهما لموضوع مقتضى الأصل ، ولكنّه بمعزل

٢٦٥

عن مفروض المقام بل عن محلّ النزاع ، إذ القائل بالحجّيّة أيضا في مثل هذه الصورة لا يقول بالانتفاء.

ومع الغضّ عن ذلك فأيّ تعلّق لهذا الكلام بما تقدّم من القول باختصاص ظهور الثمرة بين القولين بما كان المفهوم مخالفا للأصل كما في المثال المذكور؟ إذ مرجع هذا القول إلى أنّ ما يتحصّل على القول بعدم الحجّيّة نتيجة تخالف النتيجة الحاصلة على القول بالحجّيّة ، والحال في المثال كذلك إذ القائل بالحجّيّة يبني على الحرمة أو الوجوب والقائل بعدمها يبني على الإباحة أو عدم الوجوب ولو من غير جهة الأصل وهما متخالفان ، بخلاف ما لو كان المفهوم موافقا للأصل فإنّ النتيجة واحدة على القولين ، فتأمّل.

المقدّمة الرابعة

في تأسيس أصل يرجع إليه عند فقد الدليل على أحد القولين في المسألة.

فنقول : إنّ الاصول المتصوّرة في المقام على أنحاء :

منها : ما يرجع إلى حال المكلّف ، وهو أصالة البراءة النافية للتكليف الإلزامي إيجابا أو تحريما عند الشكّ في حكم المسكوت عنه ، وهذا الأصل قد يساعد على القول بالحجّيّة ، كما لو كان المفهوم على فرض ثبوته موافقا للأصل كقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » وقد يساعد على القول بنفيها كما لو كان المفهوم على تقدير ثبوته مخالفا للأصل كقوله : « إن جاءك زيد فيباح إكرامه أو لا يجب إكرامه ».

ومنها : ما يرجع إلى حال الواقعة أعني الجزاء ، وهو أصالة عدم تعدّد أسباب وجوده ، فإنّه بعد الالتزام بسببيّة الشرط ـ أخذا بدلالة القضيّة الشرطيّة على سببيّة الشرط له الّتي مرجعها إلى التلازم بينهما في الوجود ـ يشكّ في أنّه هل جعل له سبب آخر أم لا؟ والأصل عدمه ، ومرجعه إلى انحصار السبب في الشرط ، ويلزم منه التلازم بينهما في العدم أيضا ، فهذا الأصل يساعد على القول بالحجّيّة مطلقا.

ومنها : ما يرجع إلى حال الجملة الشرطيّة باعتبار لحاظ الوضع ، وهو أصالة عدم التفات الواضع حينما التفت إلى الوجود عند الوجود وأخذه في الوضع إلى الانتفاء عند الانتفاء ، وعدم تعرّضه لأخذه جزءا أو قيدا للموضوع له ليكون مدلولا عليه للّفظ تضمّنا ، بدعوى : وضع الجملة لمجموع الوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء أو التزاما بدعوى وضعها للوجود عند الوجود مقيّدا بالانتفاء عند الانتفاء على وجه دخول التقيّد وخروج

٢٦٦

القيد ، وهذا يساعد على القول بعدم الحجّيّة ولا خفاء في وهن الجميع.

أمّا الأوّل : فلأنّ أصل البراءة أصل قرّره الشارع للجاهل المتحيّر فلا نظر فيه إلى الواقع ، بل هو متكفّل لبيان كيفيّة عمل المكلّف الجاهل بالحكم الواقعي من حيث هو جاهل ، من غير تعرّض فيه للخطاب الوارد في المقام من حيث إنّه يدلّ أو لا يدلّ ، فلا يمكن به إثبات الدلالة ولا نفيها.

وأمّا الثاني : فلأنّه إن اريد بأصالة عدم تعدّد الأسباب ـ أي عدم جعل سبب آخر للجزاء ـ ما يكون من الاستصحاب المستفاد من عمومات الأخبار الواردة فيه كقولهم عليهم‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (١).

ففيه : أنّه حينئذ يكون حكما ظاهريّا فيرد عليه ما ورد على أصل البراءة.

وإن اريد به ما يكون من الاصول العدميّة المعمولة في باب الألفاظ الّتي مدركها بناء العرف وطريقة أهل اللسان ، كأصالة عدم النقل ، وأصالة عدم القرينة ، وما أشبه ذلك.

ففيه : أنّه لم يتحقّق من أهل العرف أنّ طريقتهم فيما شكّ في تعدّد أسبابه بعد ثبوت سببيّة شيء له بالجملة الشرطيّة هو البناء على العدم ، فلم يثبت كون أصالة عدم جعل سبب آخر من الاصول المعمولة لدى أهل العرف.

وأمّا الثالث : فلما أورد عليه من أنّ الدليل على اعتبار الاصول في الألفاظ إنّما هو بناء العرف وطريقة أهل اللسان ، ولم يتحقّق لنا من حالهم إجراء الأصل في أمثال المقام ـ ممّا يشكّ في وضع لفظ لمعنى في جزئيّة شيء أو قيديّته له ، ليدلّ عليه بالتضمّن أو الالتزام ، وعدم إجرائه ، بل الظاهر كون بنائهم في نفي التفات الواضع وأخذه واعتباره الشيء الفلاني مع الموضوع له على وجه الجزئيّة أو القيديّة وإثباته على الوقف ، كما يرشد إليه كون الوضع وكلّما يرجع إليه من الامور التوقيفيّة التوظيفيّة عندهم بلا خلاف فيه.

نعم يعاملون في بعض الأحيان مع ما شكّ في جزئيّته أو لزومه للموضوع له معاملة الأصل المذكور ، بحيث يدخل في الوهم كون تعويلهم على هذا الأصل مع عدم كونه كذلك في نفس الأمر ، مثل أنّهم لا يخصّصون العمومات ولا يقيّدون المطلقات فيما لو قال : « أكرم العلماء أو أكرم العالم » ثمّ قال : « إن جاءك زيد فأكرم » مثلا ـ مع فرض الشكّ في المفهوم باعتبار الشكّ في كون الانتفاء عند الانتفاء ممّا أخذه الواضع واعتبره مع الوجود عند

__________________

(١) الوسائل ١ : ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١ ـ ٦ ـ ٧.

٢٦٧

وهو مختار أكثر المحقّقين ، ومنهم الفاضلان* (١).

وذهب السيّد المرتضى إلى أنّه لا يدلّ إلاّ بدليل منفصل. وتبعه ابن زهرة. وهو قول جماعة من العامّة.

________________________________

الوجود جزءا أو قيدا ـ بمثل هذا الدليل وبواسطة هذا المشكوك في كونه جزءا أو لازما ، لا لأنّ الأصل عدم الوضع على الوجه المذكور كما قد يدخل في الوهم ، بل لأصالة عدم التخصيص أو أصالة عدم التقييد الّتي هي من الاصول المسلّمة.

وممّا يرد على الأصل بالمعنى الأوّل المتوهّم كونه مع المثبت للحجّيّة في المفهوم الموافق للأصل على تقدير ثبوته أنّه إنّما يستقيم إذا كان النافي ملتزما لمحلّ السكوت بمثل الحكم الثابت لمحلّ النطق من وجوب أو حرمة ، ولكنّه بديهيّ الفساد ، بتقريب : كونه شاكّا في هذا المعنى ، وهو يوجب له التمسّك بالأصل أيضا ، فلا يتفاوت الحال في البناء على الأصل العملي بين القولين في المفهوم الموافق له على تقدير ثبوته ، بل هما يشاركان في موافقة الأصل لهما.

والسّر في ذلك : اندراج محلّ السكوت عندهما معا فيما لا نصّ فيه.

(١) * وهذه هي المقدّمة الخامسة من مقدّمات المسألة المنعقدة لتحرير أقوال المسألة.

وملخّصه : أنّه بعد ما ثبت بحكم التبادر الوضعي أو الإطلاقي إفادة القضيّة الشرطيّة سببيّة المقدّم للتالي ، فهل تفيد مع ذلك انحصار سببه في المقدّم حتّى يلزم من انتفائه انتفاؤه أو لا؟ وقد عظم فيه الاختلاف وطال التشاجر بين الاصوليّين حتّى حصل منهم في المسألة أقوال :

أحدها : ما أشار إليه المصنّف وعزاه إلى أكثر المحقّقين ، وهو القول بدلالة القضيّة الشرطيّة على انتفاء التالي عند انتفاء المقدّم باعتبار إفادتها انحصار السببيّة في المقدّم.

ونسبه بعض الأعلام إلى الأكثرين.

وقال السيّد في المفاتيح : « إنّه للفاضلين والشهيد وصاحب المعالم والفاضل البهائي وجدّي قدس‌سره ووالدي العلاّمة رحمه‌الله والبيضاوي والمحكيّ عن الشيخين والشهيد الثاني وصاحب المدارك والمدقّق الشيرواني والشافعي وأبي الحسين البصري وإبن شريح وأبي الحسين الكرخي والرازي وأتباعه والحاجبي وحكاه الشهيد الثاني والمحقّق الثاني عن أكثر المحقّقين ».

وثانيها : القول بالعدم ، حكاه المصنّف عن السيّدين المرتضى وابن زهرة وجماعة من العامّة.

٢٦٨

وقال في المفاتيح : « وهو المحكيّ عن السيّد وابن زهرة والحرّ العاملي والفاضل البشروي وأبي عبد الله البصري والقاضيين والآمدي ومالك وأبي حنيفة وأتباعه وأكثر المعتزلة.

وحكي عن بعض أصحابنا المتأخّرين الميل إليه ».

وثالثها : ما حكاه السيّد في المفاتيح من أنّه يدلّ عليه في الشرع لا غير ، ولم يتعرّض لتعيين قائله.

ورابعها : ما حكاه أيضا من أنّه يدلّ في الإنشاء لا غير ، ولم يعيّن قائله أيضا.

ومن الأعاظم من جعل الأقوال خماسيّة حيث قال : « اختلفوا في مدلول القضيّة الشرطيّة على أقوال : فقول بالتلازم في الوجود والعدم وهو الأقوم ، وآخر بالتلازم في العدم وثالث بالعدم مطلقا ورابع بالثبوت شرعا لا لغة وعرفا كما عن بعضهم ، وعن آخر بالفرق بين الخبر وغيره وهو خامسها ».

ومن الفضلاء من قرّر الأقوال هكذا : « ثمّ من المثبتين من نصّ على أنّ الدلالة المذكورة ثابتة بالوضع ، ومنهم من أثبتها بالنظر إلى دليل الحكمة ، وأطلق الباقون ، والظاهر من مثبتيها بالوضع ثبوتها عندهم بطريق الالتزام ، وذهب بعض الأفاضل إلى ثبوتها بالتضمّن.

ثمّ الظاهر من المثبتين القول بدلالته على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط مطلقا ، والظاهر من النافين نفي دلالته على ذلك مطلقا ».

ثمّ قال : « والتحقيق أنّه يدلّ بالالتزام على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط بالوضع في الجملة وبالإطلاق مطلقا ».

إلى أن قال ـ بعد ما فرغ عن الاستدلال على مختاره : ـ « فنقول : كما أنّ الظاهر من التعليق شرطيّة المقدّم ، كذلك الظاهر من إطلاق الشرطيّة كون المذكور شرطا على التعيين ، فلا جرم يلزم من انتفائه انتفاء الجزاء لاستحالة وجود المشروط بدون الشرط ، فظهر أنّ دلالة التعليق بالشرط على انتفاء التالي عند انتفاء المقدّم في الجملة مستندة إلى الوضع لأنّ ذلك قضيّة التعليق ، وعلى انتفائه عند انتفائه مطلقا مستندة إلى ظهور التعليق في شرطيّة المقدّم وظهور الشرطيّة في الشرطيّة التعيينيّة » انتهى (١).

وتوضيح مرامه رفع مقامه : أنّه أراد من الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة المستندة إلى الوضع ، دلالة التعليق عليه بالالتزام الوضعي على وجه القضيّة المهملة ، المردّدة

__________________

(١) الفصول : ١٤٧ ـ ١٤٨.

٢٦٩

بين انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط على تقدير انتفاء غيره ممّا يحتمل كونه شرطا أيضا حال انتفاء ذلك الشرط ، وبين انتفائه عند انتفاء ذلك الشرط على كلا تقديري انتفاء غيره ممّا يحتمل كونه شرطا أيضا ووجوده.

ومن الدلالة عليه مطلقا المستندة إلى الإطلاق ، دلالة إطلاق الشرطيّة ـ على معنى السكوت عن ذكر القيد في معرض البيان ـ على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط على كلا تقديري انتفاء غيره ووجوده ممّا يحتمل كونه شرطا.

وهذا نظير ما يقال : إنّ الأمر يدلّ على وجوب الفعل في الجملة ـ أي الوجوب المردّد بين المشروط والمطلق ـ بالوضع ، وعلى الوجوب المطلق أي الغير المتوقّف على حضور أمر غير حاصل بالإطلاق.

ووجه استناد الدلالة الثانية فيما نحن فيه الى الإطلاق هو أنّ انتفاء الشرط في جانب المدلول الالتزامي له إطلاق بالإضافة إلى وجود الغير معه وانتفائه ، فكونه بحيث اعتبره المتكلّم حال انتفاء الغير ممّا يحتمل كونه شرطا أيضا تقييد له بتلك الحالة في قضيّة انتفاء الجزاء عند انتفائه ، والإطلاق بمعنى السكوت عن ذكر القيد في معرض البيان ينفيه ، بنفي إرادة المقيّدة لئلاّ يلزم منافاة الحكمة من جهة أدائه إلى الإغراء بالجهل ، فنحكم على الشرط المذكور بأنّه ما يلزم انتفاء الجزاء عند انتفائه مطلقا ، أي سواء وجد معه غيره ممّا احتمل كونه شرطا أيضا أو انتفى ، فيثبت بذلك كون الشرط سببا على التعيين. وهذا هو معنى انحصار السبب.

ومن مشايخنا من جعل ظهور الجملة الشرطيّة في انحصار السبب وتعيينه لأجل الانصراف.

وتحريره : أنّ القضيّة بالوضع النوعي أو أداة الشرط بالوضع الشخصيّ تفيد سببيّة الشرط للجزاء مطلقا ، بالمعنى الدائر بين كونه سببا على التعيين أو كونه سببا على البدل باعتبار كونه أحد الأسباب ، وهذه السببيّة المطلقة تنصرف عند الإطلاق إلى كونه سببا على التعيين ، ولعلّه من جهة الغلبة إطلاقا أو وجودا.

فظهر بجميع ما ذكرناه نقلا وتحصيلا أنّ المثبتين للمفهوم بين قائل بدلالة التعليق عليه بالوضع تضمّنا. وربّما حكي ذلك عن السيّد الآتي ذكره (١) في بعض تأليفاته.

__________________

(١) السيّد بحر العلوم.

٢٧٠

وقائل بدلالته عليه بالوضع التزاما ، أي التزاما وضعيّا.

وقائل بدلالته عليه التزاما عرفيّا من جهة الانصراف.

وقائل بدلالته عليه التزاما عقليّا ، ومعناه : اقتران القضيّة الشرطيّة المفيدة بالوضع للسببيّة المطلقة ـ على معنى كون الشرط سببا للجزاء لا بقيد كونه سببا على التعيين ولا بقيد كونه سببا على البدل ـ بحكم العقل بالنظر إلى الحكمة ونحوها بأنّ مراد المتكلّم السببيّة على التعيين.

وعزى ذلك إلى المدقّق الشيرواني تبعا للمقدّس الأردبيلي وسلطان العلماء.

وعن فوائد السيّد بحر العلوم نسبته إلى أكثر أصحابنا المتأخّرين.

وقائل بدلالته عليه التزاما شرعيّا ، على معنى اقتران القضيّة المفيدة للسببيّة المطلقة وضعا في الخطابات الشرعيّة بما يكشف عن كون مراد الشارع منها خصوص السببيّة على التعيين.

وربّما يحكى عن الشهيد ما يومئ إلى اختصاص النزاع في هذه المسألة والمسألة الآتية في مفهوم الوصف بغير الأوقاف والوصايا والنذور والأيمان من قوله : « في الشرط والوصف ، ولا إشكال في دلالتهما في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان ، كما إذا قال : « وقفت هذا على أولادي الفقراء » أو إن كانوا فقراء أو نحو ذلك ».

ولا خفاء في ضعفه لخروجه عن معقد البحث ، لأنّ الكلام على ما بيّنّاه في مدلول القضيّة الشرطيّة من حيث هي ولو خلّيت وطبعها ، أي مع قطع النظر عن الدلالات الخارجيّة ، وعدم الخلاف في الموارد المذكورة لعلّه من جهة دلالة خارجيّة ، أو أنّ رفع الحكم في أمثال هذه الموارد من جهة الاصول لا بواسطة المفهوم كما تنبّه عليه بعض الأعاظم ، فعدم الخلاف لا يقضي بخروجها عن محلّ النزاع.

ثمّ إنّ التعليق على الشرط على ما هو مأخوذ في عنوان المسألة ـ كما صرّح به جماعة ـ أعمّ من أن يكون مستفادا من الأدوات كـ « إن » و « لو » و « إذا » حيث اريد منها الشرطيّة ، أو الأسماء المتضمّنة لمعنى الشرط المعبّر عنها بكلم المجازاة كـ « حيثما » و « أينما » و « مهما » و « متى ما » وما أشبه ذلك ، أو غيرها ممّا يتضمّن معنى الشرط ولو لقرينة المقام كالمبتدأ المتضمّن لمعنى « من » موصول كـ « من » و « ما » الموصولتان في نحو : « من دخل الدار فله درهم » و « ما تفعل تجز به » أو نكرة موصوفة في نحو : « كلّ رجل يأتيني فله درهم » فإنّ الكلّ من محلّ النزاع ، لجريان أدلّتهم المقامة على النفي والإثبات في الجميع كما صرّح به

٢٧١

لنا : أنّ قول القائل : « أعط زيدا درهما إن أكرمك » يجرى في العرف مجرى قولنا : الشرط في إعطائه إكرامك والمتبادر من هذا انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعا ، بحيث لا يكاد ينكر عند مراجعة الوجدان فيكون الأوّل أيضا هكذا* (١). وإذا ثبت الدلالة على هذا المعنى عرفا ، ضممنا إلى ذلك مقدّمة اخرى ، سبق التنبيه عليها ، وهي أصالة عدم النقل ، فيكون كذلك لغة.

________________________________

بعض الأعاظم وغيره ، بل سببيّة المقدّم للتالي الّتي هي معنى الشرطيّة تستفاد من هذه الكلمات وما يؤدّي مؤدّاها ، فالنزاع في الحقيقة في تحقيق مدلولها ، وإلاّ فقد ذكرنا سابقا أنّ الجملة الشرطيّة في أصلها جملتان حمليّتان لا يقتضي إحداهما لذاتها ربطا ولا ارتباطا بالاخرى ، والرابط لإحداهما بالاخرى على ـ معنى ما يفيد الربط السببي ـ هو الأداة وما بمعناها ، وحاصل معنى الربط السببي ـ على ما بيّنّاه سابقا ـ هو النسبة بين الجملتين من حيث ترتّب مضمون ثانيتهما على مضمون اولاهما في الوجود.

(١) * الظاهر أنّه أراد بلفظ « الشرط » في تفسير مفاد الجملة الشرطيّة المذكورة معناه العرفي المتقدّم في المقدّمة الاولى من مقدّمات المسألة ، وهو ما يتوقّف عليه وجود الشيء مطلقا ، لا المعنى المصطلح الاصولي ليرد عليه : أنّ الجملة الشرطيّة تفيد أزيد من ذلك.

وقد عرفت أنّ الشرط بالمعنى العرفي يعمّ جميع المقدّمات حتّى الأسباب ، فإذا اريد منه في عبارة الدليل ذلك المعنى من حيث تحقّقه في ضمن السبب رجع محصّل الدليل إلى دعوى تبادر السببيّة على وجه الانحصار ، أو أنّ المتبادر ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء انتفاء الشيء عند انتفائه ولو تبادرا ثانويّا.

وبالجملة فالحقّ والصحيح من أقوال المسألة هو دلالة التعليق بالشرط على الانتفاء عند الانتفاء التزاما وضعيّا.

والعمدة من دليله هو التبادر من القضيّة باعتبار ما يفيد معنى الشرطيّة عند إطلاقها ، ونعني بالتبادر الانتقال إلى انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط من تبادر كون الشرط بحيث يترتّب على وجوده وجود الجزاء ، أو تبادر كون الجزاء بحيث يترتّب وجوده على وجود الشرط وهذا مدلول مطابقي وانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط مدلول التزامي باللزوم البيّن

٢٧٢

ممّا وضع له ، لأنّه بحيث يلزم من تصوّره تصوّر الانتفاء عند الانتفاء ، لوضوح أنّه لو [ لا ] انتفاؤه عند انتفاء الشرط كان معناه أنّه يوجد بدون وجود الشرط وهو خلف ، لمنافاته ما فرض من كون وجوده مترتّبا على وجوده ، ومعناه أنّه لا يوجد بدون وجوده وهو المطلوب.

وبالجملة المتبادر من القضيّة المفيدة لتعليق الجزاء على الشرط كون الشرط ما يلزم من وجوده وجود الجزاء ، على معنى كون وجود الجزاء ناشئا من وجود الشرط على ما هو مفاد كلمة « من » النشويّة ، وظاهر أنّ كون شيء بهذا الوصف يقتضي أن يلزم من عدمه العدم أيضا.

ولذا ذكرنا في بحث المقدّمة عند شرح السبب في معناه الاصطلاحي أنّ لزوم العدم من العدم ممّا لا حاجة إلى أخذه في تعريفه بما يلزم من وجوده الوجود ، لأنّ الشيء إذا كان لازما لوجود شيء يلزمه أن يعدم عند عدمه ، وإلاّ لا يكون وجوده لازما من وجوده ، فلزوم العدم من العدم خارج عن لزوم الوجود من الوجود ولازم له باللزوم البيّن ذهنا وخارجا ، ومرجعه إلى حصول تصوّر اللازم من تصوّر الملزوم.

وقضيّة اللزوم المذكور كونه مرادا للمتكلّم بالقضيّة عند إطلاقها تبعا لإرادة الملزوم ، لعدم انفكاك إرادته من إرادته ، وحيث استعملت القضيّة فيما لا مفهوم لها كانت مجازا ، لأنّ مرجع عدم إرادة الانتفاء عند الانتفاء إلى عدم إرادة لزوم وجود الجزاء من وجود الشرط ـ ولو باعتبار إرادة لزوم وجوده من وجود أحد أمور منها الشرط ـ فإنّه خلاف ما وضع له ، فإرادته دون ما وضع له تجوّز ، فليتدبّر.

واستدلّ أيضا بفهم أهل اللسان من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، بل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بأنفسهم كما يكشف عنه جملة من الأخبار :

منها : ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال له رجل جعلت فداك أنّ الله تعالى قال : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(١) فإنّا ندعو ولا يستجاب لنا؟ قال : إنّكم لا توفون لله بعهده ، وأنّ الله تعالى يقول : ( أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ )(٢) « والله لو وفيتم لله لوفى لكم » (٣).

وجه الاستدلال : أنّ الإمام عليه‌السلام دلّ السائل على أنّ انتفاء الاستجابة في مورد الآية إنّما هو لانتفاء شرطها أعني سببها ، ببيان : أنّه ليس هو الدعاء المطلق ، بل الدعاء المقارن للوفاء لله بعهده وهو الإطاعة له في كلّ ما يأمر وينهى ، فالوفاء لله بالعهد شرط لتأثير

__________________

(١) غافر : ٦٠.

(٢) البقرة : ٤٠.

(٣) تقسير عليّ بن إبراهيم ١ : ٤٦ والبحار ٦٦ : ٣٤١.

٢٧٣

الدعاء في الاستجابة ، فانتفاؤها لانتفاء سببها باعتبار انتفاء قيده الّذي هو شرط لتأثيره ، نظرا إلى أنّ انتفاء الشرط الموجب لانتفاء الجزاء أعمّ من انتفائه لذاته أو انتفاء شرط من شروط تأثيره ، فكان اشتباهه في أنّه زعم أنّ الآية من عدم استلزام الوجود للوجود لجهله بكون الوفاء بالعهد شرطا لتأثير الشرط ، فدلّه الإمام عليه‌السلام على أنّه من استلزام الانتفاء للانتفاء ببيان شرط التأثير الّذي هو المنتفي ، ففهم المفهوم من التعليق وفهمه عليه‌السلام حجّة.

ومنها : ما رواه عبيد بن زرارة قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(١) قال : ها ابيّنها من شهد منكم الشهر فليصمه ومن سافر فلا يصمه. (٢) يعني لا يجب عليه صومه ، كما هو قضيّة الانتفاء عند انتفاء الشرط ، فالتعبير عنه بصيغة النهي توسّع وهو في مثل المقام متداول ، ويمكن إبقاؤه على ظاهره بملاحظة الحرمة من حيث التشريع كما ثبتت في الشرع.

والمناقشة في الدلالة بأنّ الحاجة ببيان المفهوم دليل على انتفاء الدلالة عليه في اللفظ ، لأنّ السائل من أهل اللسان والمفروض جهله بالمفهوم وإلاّ لما حاجة له إلى السؤال.

يدفعها : أنّ السؤال لم يقع لجهله بالمفهوم بل لجهله بما اريد من الشهود الّذي اخذ شرطا في الآية ، نظرا إلى أنّه يطلق تارة على الحضور المطلق ، واخرى على الحضور الخاصّ المقابل للسفر المعبّر عنه « بالحضر » ، فتوهّم أنّ التعليق الوارد فيها ليس في محلّه ، لسبق ذهنه إلى الحضور المطلق الّذي يعمّ الجميع ولا يختصّ ببعض دون آخر ، فدلّه الإمام عليه‌السلام على أنّ المراد به الحضور الخاصّ بمعنى الحضر ، فيكون تقدير الآية في حاصل المعنى : من كان حاضرا في الشهر غير مسافر فليصم ما دام حاضرا ، وانتصاب « الشهر » حينئذ على الظرفيّة كما نصّ عليه في المجمع ، فينهض فهمه عليه‌السلام المفهوم دليلا على المطلوب.

ومنها : ما عن أبي أيّوب الخزّاز في الحسن أو الصحيح عن الصادق عليه‌السلام في حديث : فإنّ الله جلّ ثناؤه يقول : ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ )(٣) فلو سكت لم يبق أحد إلاّ تعجّل ، ولكنّه قال : ( وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ )(٤).

وهذا في الدلالة على ظهور الجملة الشرطيّة بلفظها عند عامّة أهل اللسان في المفهوم في غاية الوضوح ، فإنّ إخبار الإمام عليه‌السلام بعدم بقاء أحد إلاّ تعجّل على تقدير السكوت عن

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) الكافي ٤ : ١٢٦ والوسائل ٧ : ١٢٥ ، الباب ٤ من أبواب من يصحّ من الصوم ، ح ٨.

(٣) البقرة : ٢٠٣.

(٤) الكافي ٤ : ٥١٩ ، ح ١ والوسائل ١٤ : ٢٧٥ والبحار ٩٦ : ٣١٥.

٢٧٤

الجملة الثانية إنّما نشأ عن علمه بثبوت المفهوم في متفاهم العامّة حسبما يقتضيه اللفظ ، إذ لولا ظهوره فيه على الوجه المذكور لم يترتّب عليه على تقدير السكوت عدم بقاء أحد إلاّ تعجّل فلم يكن إخباره عليه‌السلام في محلّه.

ومنها : ما رواه الكليني في الموثّق كالصحيح عن ابن بكير عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « لا ينبغي أن يتزوّج الرجل الحرّ المملوكة اليوم ، إنّما كان ذلك حيث قال الله عزّ وجلّ : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً )(١) (٢) و « الطول » المهر ومهرة الحرّة اليوم مثل مهرة الأمة أو أقلّ » (٣).

وجه الدلالة : أنّ الاستطاعة على نكاح الأمة يكشف عن الاستطاعة على نكاح الحرّة ، لصيرورة مهر الحرّة اليوم مثل مهر الأمة في المقدار أو أقلّ ، وهي نقيض للشرط المعلّق عليه إباحة نكاح الأمة ، وهذا هو انتفاء الشرط فيلزم منه انتفاء الإباحة المعلّقة عليه كما فهمه الإمام عليه‌السلام حيث قال : « لا ينبغي أن يتزوّج الرجل الحرّ ... إلى آخره » ولا ضير في التعبير عن المنع باللفظ الظاهر في الكراهة لشيوعه وكثرة وروده في الإخبار بمعنى المنع والتحريم ، والإمام عليه‌السلام من أفصح أهل اللسان وأعلمهم وقد فهم من التعليق الانتفاء عند الانتفاء وفهمه حجّة ، ولا يصادمه احتمال استناد فهمه عليه‌السلام إلى قرينة خارجة من اللفظ إذ لا قرينة في الآية مع أنّ الأصل عدمها.

فبما بيّناه من كون المتمسّك به فهم الإمام عليه‌السلام الّذي مرجعه إلى تبادر المفهوم من التعليق عند أهل اللسان سقط ما قد يناقش في الدلالة من أنّ غاية ما يكشف عنه الرواية وقوع استعمال الشرطيّة في الآية في إفادة المفهوم وهذا ممّا لا ينكره الخصم وإنّما ينكر الوضع والظهور ، لأنّا لا نعني من الفهم والتبادر عند أهل اللسان إلاّ الظهور الناشئ من الوضع.

ومنها : رواية يعلى بن اميّة في قوله لعمر : ما بالنا نقصر وقد امنّا وقد قال تعالى : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ )(٤)(٥) فقال عمر : فتعجّبت ممّا تعجّبت منه فسألته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « إنّما هي صدقة تصدّق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته » (٦)

__________________

(١) النساء : ٢٥.

(٢) تتمة الآية : ( أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) منه.

(٣) الكافي ٥ : ٣٦٠ ، ح ٧ ، والوسائل ٢٠ : ٥٠٢.

(٤) النساء : ١٠١.

(٥) تمام الآية ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) سورة النساء : الآية ١٠١.

(٦) عوالي اللآلي ٢ : ٦١.

٢٧٥

فإنّ عمر ويعلى بن أميّة فهما من التعليق القصر بحالة الخوف انتفاءه حال عدمه ، ولذا تعجّبا من ثبوته حال الأمن ، وقد أقرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر على فهمه ولذا أجابه بأنّه صدقة من الله ، ولو لا صحّة فهمه كان عليه أن يجيب بمنع دلالة التعليق على الانتفاء عند الانتفاء.

أقول : وكأنّهما فهما المفهوم من التعليق في الشرطيّة الاولى ، بناء منهما على وقوع الشرط الثاني قيدا للشرط الأوّل كما هو الظاهر من هذا التركيب نوعا ، ونظيره ما لو قيل : « إن جاءك زيد فأكرمه إن كان ماشيا » فيكون « وجوب القصر » معلّقا على « الضرب في الأرض » مقيّدا « بالخوف » لا مطلقا.

وقضيّة التعليق انتفاء وجوب القصر تارة بانتفاء ذات الشرط واخرى بانتفاء قيده ، والمفروض عدم انتفائه بانتفاء القيد لثبوت القصر في السفر حالة الأمن أيضا ، وهذا ممّا يقضي بالتعجّب لوروده على خلاف مقتضى التعليق ، وجوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ على ما حكاه عمر ـ يفيد عدم كون ذكر الشرط الثاني للتعليق ولا لتقييد الشرط الأوّل ، بل هو باعتبار الغالب في ذلك الوقت فلا تأثير له في التقييد ، ولعلّ النكتة في ذكره حينئذ أنّه لبيان علّة تشريع الحكم فلا يجب اطّراده لا لتقييد علّته ليجب اطّراده.

ومنها : ما عن العيّاشي في تفسيره عن الحسن بن زياد قال : سألته عن رجل طلّق إمرأته [ ثلاثا ] فتزوّجت بالمتعة أتحلّ لزوجها الأوّل؟ قال عليه‌السلام : لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره ، لأنّه تعالى يقول : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ )(١) والمتعة ليس فيها طلاق (٢).

وقد فهم عليه‌السلام من التعليق في شرطيّة الآية انتفاء حلّ الزوجة لزوجها الأوّل بانتفاء الطلاق من الزوج الثاني ، فإنّه أعمّ من أن لا يكون هناك زوج آخر أو كان ولكن بالمتعة لا بالدوام ، فإنّهما سيّان في انتفاء الطلاق المعلّق عليه الحكم.

ومنها : ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره والصدوق في معاني الأخبار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ في قصّة إبراهيم عليه‌السلام : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا )(٣) وما كذب إبراهيم عليه‌السلام فقلت كيف ذلك قال : إنّما قال إبراهيم : ( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ )(٤) فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا وما كذب عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) البقرة : ٢٣٠.

(٢) الوسائل ٢٢ : ١٢٦.

(٣) الأنبياء : ٦٣.

(٤) الأنبياء : ٦٣.

(٥) معاني الأخبار : ٢٠٩ ، تفسير القمّي ٢ : ٧٢ وهداية المسترشدين : ٢٨٢.

٢٧٦

وجه الدلالة : أنّه علّق الحكم بكون كبيرهم فعل ذلك على نطقهم ، وقد استدلّ الإمام عليه‌السلام على عدم الكذب بكون انتفاء التالي من جهة انتفاء المقدّم ، ولو لا ذلك مرادا من جهة المفهوم لما ارتفع الكذب ، كما أنّه لولا فهم الإمام عليه‌السلام ذلك لما استقام الاستدلال ، فالحجّة إنّما هو فهمه لا مجرّد إرادة المتكلّم ، فلا يرد عليه : أنّ الاستعمال ممّا لا ينكره الخصم حتّى يستدلّ عليه بالرواية.

ومنها : ما أورده الصدوق في فضل هشام بن الحكم أنّه تناظر مع بعض المخالفين في الحكمين بصفّين ـ عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري ـ قال المخالف : إنّ الحكمين لقبولهما الحكم كانا مريدين للإصلاح بين الطائفتين ، فقال هشام : بل كانا غير مريدين للإصلاح بين الطائفتين ، فقال المخالف : من أين قلت هذا؟ قال هشام : من قول الله عزّ وجلّ في الحكمين حيث يقول : ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما )(١) فلمّا اختلفا ولم يكن بينهما اتّفاق على أمر واحد ولم يوفّق الله بينهما علمنا أنّهما لم يريدا الإصلاح (٢).

لا يقال : انّه يدلّ على ما لا كلام لأحد فيه من استلزام انتفاء التالي في الجملة الشرطيّة للعلم بانتفاء المقدّم ، على حدّ قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(٣) فإنّ هشاما استدلّ بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم ، والّذي كان يجدي نفعا في إثبات المطلب ما لو فرض أنّه استدلّ بانتفاء المقدّم على انتفاء التالي ، وهذا خلف.

لأنّ هشاما استدلّ في مورد خاصّ بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم بعد ما فهم من الآية كون انتفاء المقدّم مستلزما لانتفاء [ التالي ] وقضيّته أن يستلزم انتفاء التالي للعلم بانتفاء المقدّم ، ولذا صحّ الاستدلال بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم في المورد الخاصّ ، فتأمّل.

لإمكان أن يقال : إنّ صحّة الاستدلال بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم لا تكشف عن فهم هشام من الآية استلزام انتفاء المقدّم لانتفاء التالي ، لجواز كون المقدّم أحد أسباب وجود التالي ، فانتفاؤه يدلّ على انتفاء جميع أسبابه فيدلّ على انتفاء السبب الخاصّ أيضا.

وأمّا حجج سائر الأقوال :

فاحتجّ بعض الأعاظم لما حكاه من القول بالتلازم في العدم دون الوجود بوجوه :

أوّلها : أنّ الشرط ليس علّة في وجود المشروط ولا مستلزما له فلو لم يستلزم العدم للعدم خرج عن كونه شرطا ، وإلاّ جاز أن يكون كلّ شيء شرطا لكلّ شيء.

__________________

(١) النساء : ٣٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٢٢.

(٣) الأنبياء : ٢٢.

٢٧٧

واجيب عنه : بكونه خلطا بين الشرط المبحوث عنه في المقام وبين الشرط الاصولي.

والأولى أن يجاب : بأنّ الشرط هنا بمقتضى ظاهر الشرطيّة ـ مع استلزام عدمه عدم المشروط ـ يستلزم وجوده الوجود بل علّة في وجوده أيضا ، واستلزام عدمه العدم لأجل ذلك لا غير.

وثانيها : أنّ كلمة « إن » أداة الشرط باتّفاق النحاة ، ويعنون بذلك أنّ ما يقترن بها شرط لما بعده والأصل في الاستعمال الحقيقة ، والشرط ما ينتفي بانتفائه المشروط لاتّفاق الفقهاء على ذلك.

ويزيّفه : الخلط المذكور أيضا ، بل نقول : إنّ النحاة وإن اتّفقوا على كون كلمة « إن » أداة الشرط ولكنّهم فسّروا الشرط أيضا بسببيّة الأوّل للثاني أو للحكم به ، وجعلوا كلم المجازاة للشرطيّة وفسّروها بالسببيّة والمسبّبيّة بين الجملتين ، وسمّوا الجملة الثانية جزاء في مقابلة الشرط ، وليس إلاّ لأجل كونه بحيث يترتّب على الشرط في الوجود ، واتّفاق الفقهاء على المعنى المذكور ليس في الشرط بهذا المعنى بل في الشرط الاصولي ، ففساد وضع الدليل إنّما هو في هذه المقدمّة.

وثالثها : إنّ قول القائل : « أعط زيدا درهما إن أكرمك » ، يجري في العرف مجرى قولنا : « الشرط في إعطائه إكرامك » والمتبادر من هذا انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعا بحيث لا يكاد ينكر عند مراجعة الوجدان ، فيكون الأوّل أيضا هكذا.

وتقدّم في شرح عبارة المصنّف ما يوضح ضعف هذا الاستدلال وحاصله : أنّه لنا لا علينا ، لأنّ الشرط في العبارة المفسّرة كالشرط في قولنا : « الشرط في حركة المفتاح حركة اليد » و « الشرط في العلم بالنتيجة النظر في المقدّمتين » و « الشرط في الكون على السطح الترقّي من درجات السلّم وما أشبه » فإنّ الشرط في هذه التراكيب يراد به المعنى العرفي العامّ وهو ما يتوقّف عليه وجود الشيء مطلقا بل خصوص السبب لا الشرط الاصولي.

ورابعها : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ )(١) إنّه قال : « لأزيدنّ على السبعين » فإنّه يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فهم أنّ عدم الشرط وهو الاقتصار على السبعين يقتضي عدم المشروط وهو عدم الغفران.

وفيه : منع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فهم ذلك ، فإنّ الشرطيّة في الآية ليست للتعليق بل لنفي تأثير

__________________

(١) التوبة : ٨٠.

٢٧٨

الشرط في وجود الجزاء كما يفصح عنه قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) فإنّه لبيان أنّ وجود الاستغفار وعدمه سيّان في عدم الغفران.

وقوله : « لأزيدنّ على السبعين » إنّما هو لرجاء أنّه يغفر بالزيادة ، مع كونه معارضا بنبوي آخر : « لو علمت أنّي إن زدت على السبعين يغفر الله لهم لفعلت » وقد يحتمل كونه اظهارا لكمال الرأفة أو استمالة واستجلاب لقلوب الأحياء.

وخامسها : أنّ التعليق على الشرط لا يخلو إمّا أن يكون لانتفاء المشروط [ عند عدم الشرط ] وهو المطلوب ، أو لوجود المشروط عند وجوده فيكون سببا ، ومنه يحصل المطلوب أيضا ، فإنّ الأصل عدم تعدّد الأسباب فيكون السبب متّحدا ، وإذا اتّحد انتفى المسبّب بانتفائه ، بل كان أحرى بالانتفاء ممّا فقد الشرط الّذي ليس بسبب.

وفيه : اختيار الشقّ الثاني مع دعوى الظهور في الانحصار كما تقدّم فلا حاجة الى انضمام الأصل ليتوجّه إليه ما تقدّم عند تأسيس الأصل.

حجّة القول بثبوت المفهوم تضمّنا وجهان بل وجوه :

أحدها : أنّه لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين ثبوت الشيء عند شيء آخر كما هو المنطوق وبين انتفائه عند انتفائه كما هو مفاد المفهوم ، وقد ثبت بالتبادر وغيره دلالة الشرط على كلّ من الأمرين ، فيتعيّن أن يكون موضوعا للدلالة عليهما فتكون دلالته على كلّ منهما بالتضمّن.

وقد يقرّر ذلك بما لا يخلو عن مصادرة وهو : أنّ الموضوع له هو الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء ، واللفظ دالّ على المجموع بالمطابقة وعلى كلّ من الأمرين بالخصوص بالتضمّن ، وهذا واضح الضعف.

وأمّا الأوّل : فهو أيضا ضعيف ، لأنّه مغالطة ناشئة من ملاحظة الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء بمفهوميهما ، وحينئذ فما ذكر من انتفاء الملازمة بينهما عقلا وعرفا كما ذكر ، لأنّ ثبوت الشيء عند ثبوت شيء آخر بمفهومه يجامع صورة انتفاء العلاقة والربط المعنوي بين الشيئين ، بأن يكون ثبوت أحدهما عند ثبوت الآخر لمجرّد المقارنة الاتّفاقيّة كما في قولنا : « إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا » ولا ريب أنّ ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط في نحوه لا يلزم انتفائه عند انتفائه أصلا ، فلا يلزم من انتفاء ناطقيّة الإنسان انتفاء ناهقيّة الحمار ، كما أنّ انتفاء ناهقيّة الحمار لا يكشف عن انتفاء ناطقيّة الإنسان ، ولكن محلّ البحث ليس من هذا القبيل ، لأنّ ثبوت الجزاء عند ثبوت

٢٧٩

الشرط في محلّ البحث ناش عن العلاقة والربط المعنوي بينهما ، وهو كون الشرط بحيث يترتّب عليه الجزاء في الوجود.

ولا ريب أنّ الثبوت عند الثبوت الملحوظ على هذا الوجه يلازم عند العقل الانتفاء عند الانتفاء ، لأنّه لولا انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط كان معناه أنّه يوجد مع عدم وجود الشرط ، وكان معناه أنّ وجوده لا يترتّب على وجود الشرط ، وهذا خلف.

فثبت أنّ التعليق على الشرط يدلّ على وجود الجزاء عند وجود الشرط بالمطابقة وعلى انتفائه عند انتفائه بالالتزام ، باعتبار دلالته بالوضع على النسبة بينهما باعتبار كون الشرط بحيث يترتّب على وجوده وجود الجزاء.

وثانيها : أنّ الالتزام دلالة اللفظ على الخارج اللازم وهذا ليس بخارج.

وهذا كما ترى أضعف من سابقه ، لأنّه إن اريد بعدم كون الانتفاء عند الانتفاء خارجا أنّ الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط موضوعة لمجموع الوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء فلا يكون الانتفاء عند الانتفاء خارجا عمّا وضع له اللفظ ، فهو مصادرة واضحة.

وإن اريد به أنّ الجملة أو الأداة موضوعة للسببيّة ، والسبب عبارة عمّا يدخل فيه المجموع من لزوم الوجود من الوجود ولزوم العدم من العدم ، ولذا يعرف : « بأنّه ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم » فالانتفاء عند الانتفاء ليس بخارج عن مفاد السببيّة.

ففيه : أنّه خلط بين لفظ « السبب » والجملة الشرطيّة أو أداة الشرط المفيدة للسببيّة ، فإنّ كون الأوّل لمجموع الأمرين مسلّم إلاّ أنّه اصطلاح للاصوليّين ، فإنّه في عرفهم عبارة عمّا يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، كما أنّ الشرط عندهم عبارة عمّا يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود.

ولا ريب أنّ البحث ليس في لفظ « السبب » بل في الجملة الشرطيّة.

وقد عرفت أنّها بالوضع تفيد كون الشرط بحيث يترتّب عليه وجود الجزاء ويلزم منه أن ينتفي الجزاء بانتفائه ، فيكون الانتفاء عند الانتفاء خارجا لازما ، والسببيّة في قولنا : « إنّ الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط تدلّ على السببيّة » أو « أنّ التعليق على الشرط يفيد السببيّة » عبارة عمّا ينحلّ إلى هذين الأمرين : أحدهما مدلول مطابقي للّفظ ، والآخر مدلول التزامي له.

وثالثها : أنّ الدلالة الالتزاميّة غير مجدية في الإرادة إلاّ إذا كان اللازم لازما بحسب الوجود بحيث لا ينفكّ عنه في الخارج ، والمعتبر في المفهوم ثبوت كونه مرادا ككون

٢٨٠