تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

ولازم ذلك عدم حصول الامتثال والخروج عن العهدة* (١). ولا نعني بالفساد إلاّ هذا.

ولنا على الثانية : أنّه لو دلّ ، لكانت إحدى الثلاث ، وكلّها منتفية. أمّا الاولى والثانية فظاهر. وأمّا الالتزام ، فلأنّها مشروطة باللّزوم العقليّ ، أو العرفيّ ، كما هو معلوم ، وهو كلاهما مفقودان** (٢).

_______________________________

قبله من غير إضمار لأنّه لا يصلح نتيجة لما أحرزه من المضادّة فيما بين الإرادة وعدم الإرادة كما هو واضح ، فلا محيص من إضمار مقدّمة بل مقدّمتين بأن يقال : إنّ المنهيّ عنه مع كونه منهيّا عنه لو كان مأمورا به لزم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد وهو محال ، فإمّا أن يقال حينئذ بعدم كونه منهيّا عنه ويبطله دليل الخلف ، أو بعدم كونه مأمورا به ثبت المطلوب من غير محذور لعدم العلم باندراجه في المأمور به وعدم ثبوت كون الأمر المطلق متناولا له ، ومحصّله يرجع إلى طرح الظاهر بالنصّ أو بالأظهر وتخصيص العام بالخاصّ أو تقييد المطلق بالمقيّد.

(١) * هذه العبارة واقعة في كلام غير واحد من الاصوليّين غير أنّه ليس من مبادئ الدليل ، لحصول الغرض في الاستدلال بما ثبت من عدم كون الإتيان بالمنهيّ عنه إتيانا بالمأمور به ، إذ الفساد إن اريد به عدم موافقة الأمر فهو عينه وإن اريد به عدم إسقاط القضاء فهو ملزوم له ، مع أداء ذلك إلى خروج المنهيّ عنه لنفسه عن تحت الدليل حيث لا تكليف معه حتّى يقتضي الخروج عن العهدة كما لا يخفى.

(٢) ** أمّا دفعه على تقدير كون نواهي المعاملات إرشاديّة كما هو الظاهر حسبما قرّرناه واضح لا حاجة إلى الإطناب بعد الإحاطة بما قدّمناه.

وأمّا على تقدير كونها تحريميّة كما عليه مبنى الاحتجاج ، فيدفعه : منع انتفاء اللزوم العرفي ، فإنّ أهل العرف يفهمون من تحريم المعاملة من حيث إنّها هذه المعاملة رجوع التحريم فيها إلى منعها باعتبار وصفها العنواني المعبّر عنه بالسببيّة ، وظاهر أنّه ينافي في نظر العقل والعرف إمضاء الشارع إيّاها باعتبار هذا الوصف ، بناء على أنّ النفي والإثبات يرجعان في نظر العرف إلى القيد ، فيكشف ذلك عن عدم تناول إمضاء الشارع أو جعله لهذا المورد ، وهو المقصود من فساد المعاملة الّذي يدلّ عليه النهي التزاما.

٦٨١

يدلّ على ذلك : أنّه يجوز عند العقل وفي العرف أن يصرّح بالنهي عنها ، وأنّها لا تفسد بالمخالفة ، من دون حصول تناف بين الكلامين* (١). وذلك دليل على عدم اللزوم بيّن.

حجّة القائلين بالدلالة مطلقا بحسب الشرع لا اللّغة : أنّ علماء الأمصار في جميع الأعصار ، لم يزالوا يستدلّون على الفساد بالنهي في أبوابه** (٢) ، كالأنكحة والبيوع وغيرها. وأيضا لو لم يفسد ، لزم من نفيه حكمة يدلّ عليها النهي ، ومن ثبوته حكمة تدلّ عليها الصحّة. واللاّزم باطل ؛ لأنّ الحكمتين ، إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا ، وكان الفعل وعدمه متساويين ، فيمتنع النهي عنه ؛ لخلوّه عن الحكمة*** (٣). وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فهو أولى

_______________________________

(١) * فيه : أنّ قصارى ما يلزم من ذلك نفي اللزوم العقلي دون اللزوم العرفي ، لأنّه مبنيّ على الظهور المبتني على تجرّد الخطاب عن قرينة الخلاف ، والتصريح المذكور على فرض وقوعه قرينة تكشف عن عدم اعتبار الظهور ، ومعقد البحث إنّما هو النهي المجرّد عن نحو هذه القرينة ، فلا يبقى للمانع إلاّ جواز التصريح عقلا وهو مسلّم ولكنّه بمجرّده لا يصلح صارفا عن الظهور العرفي وباعثا على رفع اليد عنه كما لا يخفى.

(٢) ** فيه : أنّه إن اريد به الوضع الشرعي الثابت بإجماع العلماء فأصل الوضع ثمّ الإجماع عليه كلاهما ممنوعان ، وإن اريد به التبادر الكاشف عن الدلالة ولو عند جماعة غير بالغة حدّ الإجماع فهو على فرض تسليمه لا يقضي بكونه لأمر مختصّ بالشرع ، لجواز كونه لأمر يرجع إلى العرف واللغة اللذين ورد على طبقهما خطاب الشرع ، كما يرشد إليه الضرورة القاضية بأنّ الشارع لم يتصرّف في الأوامر والنواهي تصرّفا محدثا لاصطلاح خاصّ له فيهما مغاير للعرف واللغة ، ولو لا الضرورة لكفانا الأصل في نفي هذا التوهّم ورفع هذا الاحتمال السخيف.

(٣) *** وأوّل ما يرد عليه : عدم التئام أجزائه بعضها مع بعض ، وذلك لأنّ القانون في القياس الاستثنائي أن يكون النفي الوارد في بيان بطلان التالي راجعا إلى ما اخذ لازما في أصل القياس وهو في المقام ليس كذلك ، فإنّ الّذي أخذ لازما فيه إنّما هو وجود حكمتين

٦٨٢

بالامتناع ؛ لأنّه مفوّت للزائد من مصلحة الصحّة ، وهو مصلحة خالصة ؛ إذ معارض لها من جانب الفساد ، كما هو المفروض. وإن كانت راجحة فالصحّة ممتنعة ؛ لخلوّها عن المصلحة ، بل لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي ، وهو مصلحة خالصة لا يعارضها شيء من مصلحة الصحّة.

_______________________________

يدلّ على إحداهما النهي وعلى اخراهما الصحّة ، وما ذكر في بيان بطلان اللازم إنّما يفيد نفي الأمر والنهي معا على تقدير ونفي أحدهما على تقديرين آخرين لا نفي وجود الحكمتين الّذي أخذ لازما فلا يتمّ التقريب.

إلاّ أن يوجّه بجعل السالبة المأخوذة في دعوى بطلان اللازم من باب انتفاء الموضوع ، بدعوى : أنّ المنفيّ إنّما هو وجود حكمتين بوصف أنّ إحداهما ما يدلّ عليه النهي والاخرى ما يدلّ عليه الصحّة حتّى يكون مفاده انتفاء الأمر والنهي معا أو انتفاء اجتماعهما ، فيلزم انتفاء الصحّة في تقديرين حيث لا أمر عليهما ليترتّب عليه الصحّة ، وخلاف الفرض في تقدير ثالث وهو فرض انتفاء النهي لامتناعه على تقدير رجحان حكمة الصحّة على حكمة النهي ، وهذا كما ترى تكلّف واضح.

نعم يمكن تقرير الدليل على نحو لا يحتاج معه إلى هذا تكلّف وهو أن يقال : إنّه لو لم يفسد المنهيّ عنه لاقتضى حكمتين مؤثّرتين في اقتضاء النهي فعلا واقتضاء الأمر كذلك ، فيلزم أن يجتمع فيه الأمر والنهي الفعليّان والتالي باطل ، إلى آخر ما ذكر في تقرير البطلان وحينئذ يسلم عن الحزازة المتقدّم إليها الإشارة.

وثاني ما يرد عليه : أنّ الدليل لو تمّ كان أخصّ من المدّعى لعدم جريانه في غير العبادات كما تنبّه عليه المصنّف وغيره ، فإنّ ملاحظة النسبة بين الحكمتين إنّما تصحّ إذا كانت إحداهما مقتضية للأمر والاخرى مقتضية للنهي نظرا إلى أنّهما لا تجتمعان مؤثّرتين فيهما فعلا.

ولا ريب أنّ حكمة الصحّة في المعاملات لا تقتضي أمرا ولا نهيا ، لأنّها غير خالية عن إحدى المقاصد الخمس الّتي منها حفظ الحقوق والأموال لنظم معيشة الإنسان فيما يحتاج إليه من أنواع التجارة والاكتساب أو صيانة الفروج والأنساب ولا يقتضي شيء من ذلك أمرا بالمعاملة ، فيجوز أن يقتضي صحّتها الّتي هي عبارة عن ترتّب الأثر عليها من

٦٨٣

وأمّا انتفاء الدلالة لغة ، فلأنّ فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه. وليس في لفظ « النهي » ما يدلّ عليه لغة قطعا* (١).

والجواب عن الأوّل : أنّه لا حجّة في قول العلماء بمجرّده ، ما لم يبلغ حدّ الاجماع. ومعلوم انتفاؤه في محلّ النزاع ؛ إذا لخلاف والتشاجر فيه ظاهر جليّ.

_______________________________

ملكيّة أو زوجيّة أو نحو ذلك مع ورود النهي عنها لوجود جهة مقبّحة فيها باعتبار الخارج.

وإلى ذلك ينظر ما قرّره بعض الأعلام : « من كون مصلحة أصل النهي راجحة لا تقتضي مرجوحيّة ترتّب الأثر بالنسبة إلى عدمه ، فترك الفعل أوّلا راجح على فعله ، أمّا لو فعل وعصى فترتّب الأثر عليه راجح على عدمه ، ولا منافاة بينهما أصلا إذ رجحان النهي إنّما هو على الفعل ورجحان الترتّب إنّما هو على عدم الترتّب وهاتان المصلحتان ثابتتان للنهي ولترتّب الأثر بالذات ، لا أنّه يعرض مصلحة الترتّب بعد اختيار الفعل كما توهّمه المدقّق الشيرواني » انتهى.

ومحصّله : أنّه لو دار الأمر بين الفعل والترك فمصلحة النهي تقتضي رجحان الترك على الفعل لما فيه من حسم مادّة المفسدة المترتّبة على الفعل ولكن لو عصى المكلّف واختار الفعل ودار الأمر بين ترتّب الأثر وعدمه فمصلحة الصحّة تقتضي رجحان الترتّب على عدمه لما فيه من حفظ الحقوق والأموال أو صيانة الفروج والأنساب ، ولا ينافيه فوات مصلحة النهي حينئذ وترتّب مفسدة الفعل عليه.

(١) * فيه : أنّه إنّما يتّجه لو كان المتنازع فيه دلالة لفظ « النهي » عليه باعتبار وضعه الإفرادي وليس كذلك ، بل المتنازع فيه دلالة الكلام المشتمل على النهي عليه باعتبار وضعه التركيبي الّذي يكشف عنه العرف خصوصا إذا قدّرنا النهي إرشاديّا ، فإنّ محصّله : أنّ الكلام المتعقّب للعامّ أو المطلق المقتضيين للصحّة ظاهر في نظر العرف في كون النهي الوارد فيه مرادا منه الإرشاد إلى انتفاء الصحّة في الواقع وينتهض ذلك قرينة كاشفة عن عدم اعتبار العموم أو الإطلاق في نظر المتكلّم بالقياس إلى المورد.

وإن أبيت إلاّ وأنّ الكلام في لفظ « النهي » ففرض كونه إرشاديّا يكفي في نهوض الدلالة لغة لأنّ الإرشاد من جملة معانيه اللغويّة وإن كان مجازيّا ، بل ولو فرض كونه

٦٨٤

وعن الثاني : بالمنع من دلالة الصحّة ، بمعنى ترتّب الأثر على وجود الحكمة في الثبوت ؛ إذ من الجائز عقلا انتفاء الحكمة في إيقاع عقد البيع وقت النداء مثلا مع ترتّب أثره ـ أعنى انتقال الملك ـ عليه. نعم ، هذا في العبادات معقول ؛ فإنّ الصحّة فيها باعتبار كونها عبارة عن حصول الامتثال ، تدلّ على وجود الحكمة المطلوبة ؛ وإلاّ لم يحصل.

_______________________________

تحريميّا لكفى في الجملة كما تقدّم ، نظرا إلى أنّ الحرمة الّتي لا تجامع الوجوب أو الندب في العبادات معنى لغوي ولا تجامعه في نظر العرف والعقل معا ، وهي في المعاملات تستلزم الفساد عرفا وظاهر أنّ العرف في غير موضع الاختلاف كاشف عن اللغة ، مع امكان أن يقال : إنّ المراد بالدلالة لغة ما يعمّ الدلالة العرفيّة ولو بالالتزام.

ولنختم المقام بإيراد الكلام في امور :

الأمر الأوّل : عن أبي حنيفة وصاحبيه بل تلميذيه أبي يوسف ومحمّد بن الحسن الشيباني من منكري دلالة النهي على الفساد مطلقا القول بدلالته على الصحّة.

وفي المنية : أنّه أطبق الجمهور من المعتزلة والأشاعرة على خلافه.

والظاهر أن ليس مرادهم من الدلالة على الصحّة كون النهي واسطة في إثبات الصحّة بحيث لو لاه لم يكن الانتقال إليها حاصلا ، فإنّه خارج عن موضوع البحث على ما تقدّم في مقدّمات المسألة من أنّ النزاع في دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه بعد ما ثبت له جهة صحّة من عموم أو إطلاق في دليل مشروعيّة العبادة أو المعاملة بحيث رجع الدلالة على الفساد إلى تخصيص ذلك الدليل أو تقييده ، بل المراد به كونه ملزوما للصحّة من دون تأثير له فيها ، حملا للمنهيّ عنه عليها عملا بعموم أو إطلاق مقتضيها ، وهذا بعينه هو قول منكري دلالته على الفساد مطلقا.

وملخّصه : أنّ النهي لا ينافي صحّة المنهيّ عنه ولا يعارض المقتضي لها بل المقتضي لها معه باق على اقتضائه ، فصحّ أن يقال : إنّه يدلّ على الصحّة ولكن بواسطة أنّه لا يعارض المقتضي لها ولا يوجب الخروج عن عمومه أو إطلاقه.

وبهذا التوجيه يندفع ما احتجّ به في المنية على بطلان هذا القول من أنّه لو دلّ عليها لكان إمّا بلفظه أو بمعناه والتالي بقسميه باطل ، لعدم كون لفظ « النهي » موضوعا لصحّة المنهيّ عنه ولا لملزومها.

٦٨٥

وبما قدّمناه في الاحتجاج على دلالة النهي على الفساد في العبادات يظهر جواب الاستدلال على انتفاء الدلالة لغة ؛ فإنّه على عمومه ممنوع. نعم هو في غير العبادات متوجّه.

واحتجّ مثبتوها كذلك لغة أيضا ، بوجهين :

أحدهما : ما استدلّ به على دلالته شرعا ، من أنّه لم يزل العلماء يستدلّون بالنهي على الفساد.

_______________________________

ثمّ الظاهر أنّ القضيّة في دعوى الملازمة المذكورة ليست من باب الدائمة المطلقة بل من باب العرفيّة العامّة ، على معنى أنّ النهي ملزوم للصحّة ما دام مجرّدا عمّا يقضي بخلاف الصحّة فلا ينافيه قيام دليل معه على إرادة الفساد.

فيندفع بذلك أيضا ما احتجّ به في المنية على بطلانها من أنّه لو كان دالاّ على صحّة المنهيّ عنه لزم أحد الأمرين من صحّة ما وقع الاتّفاق على عدم صحّته كصلاة الحائض ونكاح المحرّمات المنهيّ عنها ، وبيع الملاقيح وهو بيع الجنين في بطن امّه وخصّ بالبعير ، وبيع المضامين وهو بيع ما في أصلاب الفحول ، وبيع حبل الحبلة وهو بيع ولد الجنين الّذي في بطن امّه وغير ذلك ، أو تخلّف المدلول عن دليله والتالي بقسميه باطل ، والملازمة واضحة من جهة ورود النهي الشرعي عن الأشياء المذكورة ، فإمّا أن يقال بتحقّق الصحّة فيها فيلزم الأوّل ، أو يقال بعدم تحقّقها فيلزم الثاني.

ثمّ في كلام غير واحد تفريع هذا القول على القول بالصحيحة في ألفاظ العبادات بل المعاملات أيضا.

وفيه : منع الابتناء نظرا إلى التوجيه المذكور فإنّه جار على القول بالأعمّ أيضا ، ضرورة أنّ الصحّة إذا كانت من مقتضى عموم أو إطلاق دليل مشروعيّة العبادة أو المعاملة وإن لم يكن هناك نهي عنها فلا يتفاوت في ثبوتها الحال بين القولين في ألفاظ العبادات والمعاملات.

مع أنّ الصحّة الثابتة بفرض كون اللفظ اسما للصحيحة مع انضمام مقدّمة أصالة الحقيقة في الاستعمال لا تجدي نفعا في ثبوت الصحّة المطلوبة في المقام قبالا للفساد المطلوب من النهي على القول بدلالته عليه ، وذلك لأنّها صحّة بالمعنى المبحوث عنه في مسألة الصحيح والأعمّ وهي كون الماهيّة مجتمعة للامور المعتبرة فيها من الأجزاء والشرائط

٦٨٦

وأجاب عنه اولئك : بأنّه إنّما يقتضي دلالته على الفساد ، وأمّا أنّ تلك الدلالة بحسب اللّغة ، فلا. بل الظاهر أنّ استدلالهم به على الفساد إنّما هو لفهمهم دلالته عليه شرعا ؛ لما ذكر من الدليل على عدم دلالته لغة.

والحقّ ما قدّمناه : من عدم الحجّيّة في ذلك. وهم وإن أصابوا في القول بدلالته في العبادات لغة ، لكنّهم مخطئون في هذا الدليل. والتحقيق ما استدللنا به سابقا.

الوجه الثاني لهم : أنّ الأمر يقتضي الصحّة ، لما هو الحقّ من دلالته على الأجزاء بكلا تفسيريه ، والنهي نقيضه ، والنقيضان مقتضاهما نقيضان. فيكون النهي مقتضيا لنقيض الصحّة ، وهو الفساد.

_______________________________

كلّها دون الصحّة بالمعنى المبحوث عنه في مسألتنا هذه وهي موافقة الأمر بالعبادة ، فإنّ الصحّة بهذا المعنى أخصّ منها بالمعنى الأوّل كما أنّ الفساد المقابل للصحّة بالمعنى الأوّل أخصّ منه بالمعنى المقابل للصحّة بالمعنى الثاني ، فقد يكون الشيء صحيحا بالمعنى الأوّل وفاسدا بالمعنى الثاني لانتفاء الأمر كما في صلاة المجنون مثلا لو فرض صدورها منه جامعة لأجزائها وشرائطها الواقعيّة ، فلا منافاة بين الصحّة بالمعنى الأوّل والفساد بالمعنى الثاني ، كما أنّه لا ملازمة بين الفساد بالمعنى الثاني والفساد بالمعنى الأوّل.

فالتفريع المذكور لا يقتضي إلاّ الصحّة بالمعنى الأوّل وهو لا ينافي الفساد بالمعنى الثاني الّذي ينشأ من النهي باعتبار استلزامه لانتفاء الأمر عن المورد ، والمبحوث عنه هنا إنّما هو الفساد بهذا المعنى لا غير هذا.

ولكنّ التفريع المذكور من مقتضى الاحتجاج الآتي لو كان من أبي حنيفة وصاحبيه ، وإن كان لا بدّ وأن يقيّد مع ذلك بمقدّمة اخرى وهي القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد مشتمل على جهتين :

إحداهما : راجعة إلى الماهيّة.

والاخرى : إلى الخصوصيّة.

وكيف كان فحكي الاحتجاج عليه بوجهين :

أحدهما : أنّه لو لم يدلّ النهي على صحّة المنهيّ عنه شرعا لكان المنهيّ عنه غير شرعي

٦٨٧

وأجاب الأوّلون : بأنّ الأمر يقتضي الصحّة شرعا ، لا لغة ، ونقول بمثله في النهي. وأنتم تدّعون دلالته لغة. ومثله ممنوع في الأمر.

والحقّ أن يقال : لا نسلّم وجوب اختلاف أحكام المتقابلات ، لجواز اشتراكها في لازم واحد ، فضلا عن تناقض أحكامها. سلّمنا ، لكن نقيض قولنا : « يقتضي الصحّة » : أنّه « لا يقتضي الصحّة » ، ولا يلزم منه أن « يقتضي الفساد ». فمن أين يلزم في النهي أن يقتضي الفساد؟ نعم يلزم أن لا يقتضي الصحّة. ونحن نقول به.

_______________________________

والتالي باطل بالاتّفاق.

أمّا الملازمة : فلأنّ المنهيّ عنه لو كان شرعيّا لكان صحيحا ، إذ الشرعى هو الصحيح المعتبر في نظر الشارع فما لا يكون صحيحا لا يكون شرعيّا ، كصوم يوم النحر والصلاة في الأوقات المكروهة فإنّهما لعدم كونهما صحيحين معتبرين في نظر الشارع ليسا بشرعيّين.

واجيب ـ على ما أشار إليه الحاجبي وفصّله في بيان المختصر ـ : بأنّ الشرعي ليس معناه هو المعتبر فى نظر الشارع ، فإنّ الشرعي قد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا والدليل على أنّ الشرعي قد يكون فاسدا قوله عليه‌السلام : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » فإنّ الصلاة المأمور بتركها هي الصلاة الشرعيّة لأنّ اللغويّة لا يؤمر بتركها اتّفاقا ، وظاهر أنّ الصلاة المأمور بتركها فاسدة غير معتبرة في نظر الشرع.

أقول : والظاهر أنّ مبنى الجواب على جعل انتساب الشرعي إلى الشرع بواسطة أنّه ماهيّة مجعولة جعلها من الشارع.

ولا ريب أنّه لم يجعل إلاّ الماهيّة التامّة الأجزاء والشرائط ، فنهي الحائض عنها لا ينافي إتيانها بها بتمام أجزائها وشرائطها ، ولكنّه مبنيّ على عدم كون الخلوّ عن الحيض من الشروط المأخوذة مع الماهيّة في لحاظ الجعل والاختراع وهو كذلك على ما سنقرّره ونبيّن وجهه.

وثانيهما : أنّه لو لم يكن المنهيّ عنه الشرعي صحيحا لكان ممتنعا ، ولو كان ممتنعا لم يمنع عنه ، لأنّ الممتنع غير مقدور وغير المقدور لا ينهى عنه ، فيلزم من الشرطين أنّه لو لم يكن المنهيّ الشرعي صحيحا لم يمنع عنه.

٦٨٨

حجّة النافين للدلالة مطلقا ، لغة وشرعا : أنّه لو دلّ لكان مناقضا للتصريح بصحّة المنهي عنه. واللازم منتف ، لأنّه يصحّ أن يقول : « نهيتك عن البيع الفلانيّ بعينه مثلا. ولو فعلت لعاقبتك. لكنّه يحصل به الملك ».

وأجيب : بمنع الملازمة ، فإنّ قيام الدليل الظاهر على معنى لا يمنع التصريح بخلافه ، وأنّ الظاهر غير مراد. ويكون التصريح قرينة صارفة عمّا يجب الحمل عليه عند التجرّد عنها.

_______________________________

واجيب عنه ـ على ما أشار إليه الحاجبي أيضا ـ : بأنّ الامتناع لأجل النهي لا لذات المنهيّ عنه فإنّ النهي قد تعلّق به فصار ممتنعا ، والممتنع إنّما لم ينه عنه إذا كان امتناعه سابقا على النهي ولم يكن مسبّبا عنه.

وظنّي أنّ تقرير دليل هذا القول بالوجهين المذكورين اشتباه نشأ عن الخلط بين مقدّمتي دليل واحد.

وتوضيحه : أنّ ما قرّر في الوجه الأوّل مقدّمة ذكرت لإحراز أنّ المراد بالألفاظ الشرعيّة الواقعة في حيّز النواهي عبادة ومعاملة إنّما هو المعاني الشرعيّة دون اللغويّة والعرفيّة.

وما قرّر في الوجه الثاني مقدّمة ذكرت لإحراز الصحّة المطلوبة في المقام.

فملخّص الوجهين : أنّ هذه الألفاظ يراد منها المعاني الشرعيّة للاتّفاق على أنّ المعاني اللغويّة غير منهيّ عنها كما يكشف عنه عدم حرمة الدعاء ولا الإمساك المطلق على الحائض اتّفاقا.

ثمّ المعنى الشرعي المراد من اللفظ إمّا أن يكون ممّا يمكن وقوعه من المكلّف المنهيّ وتحقّقه في الخارج بوصف أنّه منهيّ عنه أو لا؟ والثاني باطل لاستحالة النهي عن الممتنع ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

وبما تقدّم من تفريع هذا القول على القول بالصحيحة يظهر التقريب في دعوى ثبوت المطلوب بمجرّد كون المعنى الشرعي المراد من اللفظ المنهيّ عنه ممّا يمكن حصوله وتحقّقه في الخارج ، إذ على القول بالأعمّ لا ملازمة بين الأمرين فإنّ الأعمّ المنهيّ عنه الممكن حصوله كما هو قضيّة الفرض لا يلازم الصحّة كما لا يخفى.

٦٨٩

وفيه نظر ، فإنّ التصريح بالنقيض يدفع ذلك الظاهر وينافيه قطعا. وليس بين قوله في المثال : « ولو فعلت لعاقبتك إلخ » ، وبين قوله : « نهيتك عنه » مناقضة ولا منافاة. يشهد بذلك الذوق السليم.

فالحقّ : أنّ الكلام متّجه في غير العبادات وهو الّذي مثّل به. وأمّا فيها ، فالحكم بانتفاء اللازم غلط بيّن ؛ إذ المناقضة بين قوله : « لا تصلّ في المكان المغصوب » و « لو فعلت لكانت صحيحة مقبولة » في غاية الظهور ، لا ينكرها إلاّ مكابر.

_______________________________

فبذلك يتبيّن أنّ ما ذكروه من الجواب عن الوجهين على ما حكيناه ليس شيء منه بشيء ، لعدم انطباقه في كلّ من وجهيه على احتجاج الخصم ومرامه من الدليل.

وممّا يرشد إلى صدق مقالتنا في توجيه الوجهين وإرجاعهما إلى دليل واحد ما قرّره في المنية من حجّة هذا القول بقوله : « احتجّا بأنّ المنهيّ عنه إمّا شرعي أو غير شرعي ، والثاني باطل لوجوب حمل اللفظ الوارد من الشارع على ما وضعه له وإلغاء غيره من موضوع اللغة والعرف كما في غير النهي ، ولأنّ النهي عن صلاة الحائض ليس عن الدعاء وكذا باقي ألفاظ الصور المذكورة ، وحينئذ نقول : ذلك المعنى الشرعي إمّا أن يمكن تحقّقه أو لا؟ والثاني باطل وإلاّ لما صحّ النهي عنه فإنّ المحال كما لا يصحّ الأمر به لا يصحّ النهي عنه ، وأيضا فإنّه لا يحسن أن يقال للمزمن : « لا تطف » و « للأعمى : لا تبصر » فثبت أنّ المنهيّ عنه هو المعنى الشرعي أعني الصحيح وهو ممكن التحقّق وهو المطلوب ».

وأجاب عنه السيّد ـ بعد ما حكي دفعه أوّلا : بالنقض بالأمثلة المتقدّمة من صور المنهيّ عنها لجريان الدليل فيها مع عدم صحّتها وفاقا.

وثانيا : بإمكان حمل النهي هنا على النسخ ، كما يقول الموكّل لوكيله في البيع : « لا تبع » فإنّه وإن كان نهيا بالصيغة إلاّ أنّه نسخ في الحقيقة ، والظاهر أنّ النسخ هنا اريد منه الإرشاد ـ فقال : « والحقّ أن يقال : إنّ الصلاة مثلا يصدق على الصحيحة والفاسدة لصحّة تقسيمها إليهما فهي أعمّ والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، وكذا البيع والنكاح وغيرهما ويمنع كون المعنى الشرعي هو الصحيح دون غيره وإلاّ لما صحّ أن يقال لمن صلّى صلاة فاسدة : « أعد صلاتك »

٦٩٠

وحمله على المجاز مخالف للأصل » انتهى.

ومحصّله يرجع إلى منع المبنيّ عليه هذا القول من كون ألفاظ العبادات وغيرها موضوعة للصحيحة من المعاني الشرعيّة ، وهذا في محلّه فإنّ الصحيح كونها للأعمّ من الصحيحة والفاسدة ، وحينئذ فالمنهيّ عنه يكون هو الأعمّ وهو مقدور ولو في ضمن فرده الفاسد ، ولو سلّم وضعها للصحيحة خاصّة يتوجّه إلى الدليل أيضا : أنّ أهل القول بذلك لا ينكرون جواز الاستعمال من الشارع في الأعمّ أو خصوص الفاسدة على ما هو المصرّح به في محلّه.

غاية الأمر أنّهم يجعلونه على وجه المجاز ، فلم لا يجوز أن يكون الشارع قد تجوّز بتلك الألفاظ الواقعة في حيّز النواهي بإرادة الأعمّ أو الفاسد خاصّة فينتفي الدلالة على الصحّة؟

والتحقيق في دفع الاحتجاج ـ بعد الإغماض عن كونه أخصّ من المدّعى لو كان دعوى الدلالة على الصحّة فيما يعمّ المعاملات أيضا لعدم جريان ما هو العمدة من مقدّماته فيها وهو لزوم التكليف بغير المقدور المستحيل من الحكيم لو كان الصحيح غير ممكن الحصول ـ : منع المقدّمة الاولى ولو بمنع كون الألفاظ أسامي لخصوص الصحيحة ، فالمعنى الشرعي أعمّ منها ومن الفاسدة.

ولو سلّم فيتوجّه إليه إنتاجه الصحّة بمعنى موافقة الأمر أو إسقاط القضاء لعدم دخول الصحّة بهذا المعنى في مسمّى اللفظ على القول بالصحيحة ، ولا في المراد منه على تقدير إرادة الصحيحة على القول بالأعمّ ، فغاية ما يثبت بمقدّمتي الدليل بعد التوجيه المتقدّم هو الدلالة على الصحّة وهو اجتماع الماهيّة الشرعيّة المنهيّ عنها للأجزاء والشرائط الواقعيّتين ، وهذا لا يلازم كونها من المكلّف المنهيّ مأمورا به ليثبت الصحّة بمعنى موافقة الأمر أو إسقاط القضاء كما تقدّم ذكره مشروحا.

ومن الأعلام من أجاب عن شبهة التكليف بغير المقدور بعد ما قرّرها في خصوص صلاة الحائض : « بأنّا نقول : إنّها متمكّنة عن الصلاة الصحيحة في الجملة وإن لم تكن صحيحة بالنسبة إلى خصوص الحائض.

ولا ريب أنّ الصلاة الجامعة للشرائط غير عدم كونها في أيام الحيض صحيحة بالنظر إلى سائر المكلّفين وبالنظر إليها قبل تلك الأيّام ، وعدم تمكّنها من الصلاة الصحيحة بالنسبة إلى نفسها وامتناعها عنها إنّما هو بهذا المعنى ، والنهي وطلب ترك الممتنع بهذا المنع لا مانع

٦٩١

منه » إلى آخره.

وهذا قريب ممّا تقدّم نقله عن ابن الحاجب وغيره.

ولكن ربّما يشكل في بادئ النظر من جهة أنّ عدم كون الصلاة في أيّام الحيض بالنسبة إلى النسوان ـ الّذي يعبّر عنه بالطهر ـ إن اعتبر كونه من الشرائط الواقعيّة من الصلاة فلا بدّ وأن يكون مأخوذا في المستعمل فيه اللفظ لفرض وقوعه على الصحيح ، ولا يكون صحيحا إلاّ إذا جامع الشرائط الّتي منها ما ذكر ، ولا ريب أنّه ممتنع في أيّام الحيض وامتناعه سابق على النهي المفروض فيكون النهي عنه نهيا عن الممتنع بغير هذا النهي وكونه مقدورا بالنظر إلى سائر المكلّفين وبالنسبة إليها قبل أيّام الحيض لا يسوّغ صحّة نهيها عنه ، إذ التمكّن الّذي هو من شرائط التكليف يعتبر وجوده بالنسبة إلى المكلّف نفسه حال التكليف ولا يكفي تمكّن غيره ولا تمكنه في غير تلك الحال ، إلاّ على مذهب الأشاعرة القائلة بأنّ الإمكان الّذي هو من شرائط التكليف هو أن يكون المكلّف به ممّا يتأتّى فعله عادة عند دخول وقته واستجماع شرائطه وامتناعه لعارض من جهة انتفاء شرط أو وجود مانع لا ينافيه.

وحاصله : أنّ شرط التكليف هو الامكان الذاتي الّذي لا ينافيه الامتناع العرضي وهذا خلاف مذهب العدليّة.

وإن لم يعتبر كونه من الشرائط الواقعيّة المأخوذة مع المكلّف به الّذي هو مسمّى اللفظ كما يظهر البناء عليه من قوله : « غير عدم كونها في أيّام الحيض » فلازمه عدم الامتناع من رأسه حتّى بعد النهي.

وبالجملة ما خلي عن الشرط المذكور مقدور لها قبل النهي وبعده ولا اختصاص لمقدوريّتها بسائر المكلّفين ولا بما قبل أيّام الحيض.

وأمّا الكلام في ترجيح أحد الاعتبارين فالظاهر أنّ المتعيّن هو الثاني ، نظرا إلى أنّ حالة الحيض كحالة الصبا والجنون ونحوها اعتبرت موانع التكليف وأثرها انتفاء التكليف ، فيكون أضدادها من الطهر والبلوغ والعقل من شروط التكليف ، بخلاف الحدث بقسميه والنجاسة ونحوها ممّا اعتبر عدمه في الصلاة فإنّها موانع للمكلّف به ، وأثرها عدم تحقّق المكلّف به في الخارج ، فيكون أضداده من الطهارة حدثا وخبثا من شروط المكلّف به لا التكليف.

وضابط الفرق بين القسمين : أنّ موانع التكليف كشروطها امور غير مقدورة للمكلّف خارجة عن اختياره لانتفاء القدرة على رفعها ولا على إيجادها ، وموانع المكلّف به امور

٦٩٢

مقدورة له للقدرة على رفعها كما أنّ شروطه مقدورة ولو بمقدوريّة مبادئها ، ومن خواصّها كون عدمها من قيود المكلّف به ، وعلى ذلك ينزّل إطلاق من صرّح بأنّ عدم المانع شرط ، بخلاف موانع التكليف فإنّ من خواصّها عدم صلاحيّة كون عدمها من قيود المكلّف به لخروجها عن المقدوريّة ، وكما يشترط في التكليف كون المكلّف به في نفسه مقدورا للمكلّف فكذلك يشترط كون الامور المعتبرة فيه من الأجزاء والشروط أيضا مقدورة له ولو بمقدوريّة مبادئها.

وبالجملة يشترط كون المكلّف به في نفسه وبجميع أجزائه وقيوده مقدورا للمكلّف ، فلا يعقل كون جزء من أجزائه ولا كون قيد من قيوده غير مقدور له خارجا عن اختياره لامتناع التكليف بغير المقدور ، فلا يصحّ كون الطهر وعدم الحيض من شروط الصلاة المأخوذة في مسمّاها على القول بالصحيحة ، فالصحيح من الصلاة على هذا القول هو الماهيّة الجامعة لجميع الشرائط الّتي ليس منها عدم كونها في أيّام الحيض.

وهذا هو السرّ في ورود هذا القيد في كلام بعض الأعلام هنا وإن كان بعض كلامه لا يخلو عن تهافت واضطراب ، وحينئذ نقول : إنّ الصلاة بهذا المعنى مقدورة لجميع المكلّفين حتّى الحائض في أيّام الحيض فلا فرق من هذه الجهة.

نعم الفرق إنّما هو في كون الماهيّة الصحيحة بالقياس إلى غيرها وإليها في غير تلك الأيّام مع كونها مقدورة ممّا أمر بها فتكون صحيحة بمعنى موافقة الأمر أيضا ، بخلافها في أيّام الحيض فإنّها وإن كانت مقدورة لها إلاّ أنّها غير مأمور بها في حقّها لامتناع الأمر مع وجود النهي فنهيها عنها نهي لها عن غير الممتنع.

نعم الممتنع في حقّها هي الصلاة الصحيحة بمعنى موافقة الأمر من جهة انتفاء الأمر لوجود النهي وحينئذ فيسأل عن أبي حنيفة وصاحبيه أنّ مرادهم من الصحّة في دعوى دلالة النهي عليها إن كان هو الصحّة بهذا المعنى فهي ممتنعة بالقياس إليها امتناعا مسبّبا عن النهي ، فكيف يعقل دلالته عليها؟ وإن كان هو الصحّة بالمعنى الأوّل فإثبات الدلالة عليها لا يجدي نفعا مع أنّ الدلالة على الصحّة بالمعنيين معا غير معقولة في المنهيّ عنه لجزئه أو لشرطه أو لوصفه اللازم سيّما إذا كان منشؤه فقدان الجزء أو الشرط أو الوصف ، فليتدبّر في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام.

٦٩٣

المطلب الثالث

في العموم والخصوص* (١)

_______________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(١) * وكأنّ التعبير بذلك ـ كما في العدّة والمنهاج أيضا ـ للمح أنّ أغلب المباحث اللاحقة للعامّ والخاصّ إنّما هو من حيث العموم والخصوص ، أو أنّه مسامحة في التعبير ، وإلاّ فموضوع الباب المقصود بالبحث في مباحثه إنّما هو العامّ والخاصّ كما عبّر بهما الأكثر.

ولذا تراهم متّفقين على تعريف العامّ أو هو مع الخاصّ لا العموم والخصوص.

وكيف كان فهذا المبحث كمباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم والمطلق والمقيّد من أظهر المباحث الاصوليّة الباحثة عن أحوال الأدلّة.

ولا ينافيه تعلّقها بأحوال اللفظ الموجب لكون المسألة من هذه الجهة لغويّة ، لأنّ العمدة من أدلّة الأحكام الكتاب والسنّة وهما لفظيّان والبحث عنهما لجزئهما الّذي منه العامّ والخاصّ كالأمر والنهي والمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيّد بحث عن حال الدليل ولذا يسمّى هذه الموضوعات في بعض الكتب الاصوليّة مشتركات الكتاب والسنّة.

ولا ينافي هذه التسمية بالنسبة إلى العامّ والخاصّ للحوق وصفي العموم والخصوص للإجماع المنقول الّذي ليس من الكتاب ولا السنّة ، لما قرّر من أنّه باعتبار العبارة الناقلة دليل لفظي يلحقه جميع أحكام اللفظ ، فقد يكون عامّا وقد يكون خاصّا وقد يكون مطلقا وقد يكون مقيّدا وقد يكون مجملا وقد يكون مبيّنا وهكذا وذلك إمّا لأنّ النظر في هذه التسمية إلى ما هو الغالب في الدليل اللفظي ، أو لأنّ تدوين الإجماع المنقول والبحث عن حجّيّته وعدّه من الأدلّة إنّما حدث من المتأخّرين ، والتسمية المذكورة جرى على مذاق القدماء الخالي كتبهم عن تدوينه والبحث عن حاله ، أو لأنّ السنّة أعمّ من التفصيليّة والإجماليّة والإجماع المنقول على القول بحجّيّته استنادا إلى أدلّة حجّيّة خبر الواحد الّتي منها آية النبأ سنّة إجماليّة ، بناء على أنّ البحث عن حجّيّة خبر الواحد بحث عن حال السنّة لرجوعه إلى أنّها هل تثبت بخبر العدل أو لا؟

ومنها الإجماع المنقول فيلحقه من المباحث والأوصاف الّتي منها التسمية المذكورة ما يلحقها فيدخل عامّه وخاصّه في عامّ السنّة وخاصّها ، وبهذا الاعتبار يندرج في عنوان المشتركات أيضا.

٦٩٤

ثمّ إنّ العامّ قد يرد في كلامهم مقيّدا بالاصولي وقد يرد مقيّدا بالمنطقي وهو ما يدلّ على الماهيّة المطلقة الملحوظة لا بشرط شيء ، غير أنّه عند إطلاقه وتجرّده عن القرينة ينصرف إلى الأوّل ولا يطلق على الثاني إلاّ مع القيد فيكون مجازا فيه وحقيقة في الأوّل وهو المعنى المصطلح عليه الاصولي المقصود بالبحث والتعريف.

وقد اختلفوا في تعريفه وذكروا له تعاريف مختلفة لا على أنّه اختلاف في المعرّف الّذي هو المعنى المصطلح عليه ليكون المسألة في معنى العامّ خلافيّة ، ولا أنّه اختلاف في مصاديقه أو أنّه ناش عن اشتباه المصاديق بمصاديق غيره بل المعنى المصطلح عليه عند الكلّ واحد معلوم لديهم حتّى قيل ـ كما في المناهج عن بعض المتأخّرين ـ : « أنّ معنى العموم بديهيّ للداخل في الفنّ ، ولذا تعرّض كلّ من أتى بتعريف للمناقشة في تعريف غيره بعدم سلامة عكسه أو طرده أو عدم عكسه وطرده معا ». فالاختلاف المذكور اختلاف في تعيين المعنى الواحد المصطلح عليه ، والمفروض أنّ مصاديقه أيضا متمايزة في الخارج عن مصاديق غيره ، فإنّهم جعلوه باعتبار ذلك المعنى الواحد العامّ اصطلاحا في نبذة من الألفاظ الموضوع كلّ واحد منها لغة أو عرفا للعموم اللغوي بمعنى الشمول المنقسم إلى استغراق الجزئيّات واستغراق الأجزاء ، وأرادوا من تعريفاتهم ما ينطبق عليها جمعا ومنعا وهي لفظ « كلّ » مضافا إلى النكرة في استغراق الجزئيّات أو إلى المعرفة في استغراق الأجزاء ، و « الجميع » و « أجمع » وأخواتها في استغراق الأجزاء ، والجمع المحلّى باللام في استغراق الجزئيّات ، و « كافّة » و « عامّة » و « قاطبة » و « من » و « ما » الشرطيّين في استغراق الجزئيّات أيضا ، و « متى » و « أين » و « مهما » و « حيثما » و « كيفما » و « متى ما » و « إذ ما » و « إذا ما » في استغراق الجزئيّات من الزمان أو المكان أو الحال ، و « لا شيء » والنكرة المنفيّة للجزئيّات أيضا بالنسبة إلى الحكم السلبي.

وهذه كلّها مصاديق العامّ الاصولي الممتازة عن مصاديق غيره وهي العشرة وغيرها من الأعداد والتثنية والجمع المنكر والمعرّف بالنسبة إلى ما عدا الاستغراق من معانيه الآتية ، والمفرد المعرّف « باللام » إلاّ في قول شاذّ ، والنكرة المصطلح عليها حسبما يأتي بيانه ، واسم الجنس منوّنا وغيره ، والأعلام شخصيّة وجنسيّة ، والضمائر إلاّ الجمع منها في قول ضعيف ، والمبهمات من أسماء الإشارة والموصولات إلاّ « من » و « ما » الموصولتان في قول ، والمشترك بالنسبة إلى معانيه على القول بجواز استعماله في الجميع بل ظهوره عند

٦٩٥

التجرّد عن القرينة في إرادة الجميع ، واللفظ بالقياس إلى معنييه الحقيقي والمجازي على القول بجواز الاستعمال فيهما.

ولا ريب أنّ الفرق بين الطائفة الاولى وبين هذه الطائفة بحسب المعنى بديهيّ بحسب اللغة يجده الوجدان السليم ويدركه الفهم المستقيم ، حيث ينساق من كلّ واحد من آحاد الطائفة الاولى في متفاهم العرف ما لا ينساق من شيء من آحاد الطائفة الثانية ، وهو أمر ذهنيّ مضاف إلى الجزئيّات أو الأجزاء على وجه دخول الإضافة وخروج المضاف إليه ، وهو الّذي يعبّر عنه في الترجمة الفارسية بـ « هر » في استغراق الجزئيّات و « همه » في استغراق الأجزاء و « هيچ » في استغراق الحكم السلبي في النكرة المنفيّة وفي « لا شيء » الّذي هو سور للسالبة الكليّة عند المنطقيّين.

وأمّا التعاريف المختلفة :

فمنها : ما عن أبي الحسين البصري من أنّه : « اللفظ المستغرق لما يصلح له » وعن بعض المتأخّرين اختياره مع زيادة قيد فعرّفه بأنّه : « اللفظ المستغرق لما يصلح له بوضع واحد ».

وقد يحكى عن أبي الحسين أنّه قد عرّفه بأنّه : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له » واختاره العلاّمة في التهذيب بزيادة قيد « بحسب وضع واحد ».

وعن قاضي القضاة اختياره أيضا مع زيادة قيد آخر مكان القيد المذكور فعرّفه بأنّه : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له في أصل اللغة » من غير زيادة احترازا عن التثنية والجمع.

ومنها : ما عن العلاّمة في النهاية من أنّه : « اللفظ الواحد المتناول بالفعل لما هو صالح له بالقوّة مع تعدّد موارده ».

ومنها : ما عن الغزالي من أنّه : « اللفظ الواحد الدالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا ».

ومنها : ما عن المحقّق في المعارج من أنّه : « اللفظ الدالّ على اثنين فصاعدا من غير حصر ».

ومنها : ما عن الآمدي في الأحكام من أنّه : « اللفظ الواحد الدالّ على مسمّيين فصاعدا مطلقا معا ».

ومنها : ما عرّفه به الحاجبي من أنّه : « ما دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة أي دفعة ».

ومنها : ما عرّفه به بعض الفضلاء من أنّه : « اللفظ المستغرق لما اندرج تحته من الأجزاء أو الجزئيّات ».

٦٩٦

ومنها : ما عرّفه به الشيخ البهائي بقوله : « ولا يبعد أن يقال هو اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئيّاته » قال في الحاشية : « ولا يرد المثنّى ولا الجمع المنكر ولا المعهود ولا عشرة ولا الجملة لأنّ وضع كلّ منها ليس للدلالة على الاستغراق بل للدلالة على معانيها ، ولو كان كلّ منها موضوعا للدلالة على الاستغراق لكان إدخال أداة الاستغراق للتأكيد لا للتأسيس ، وأمّا « رجال » بدون اللام فإنّما وضع ليدلّ على جماعة الرجال فهو موضوع لجماعتهم لا لاستغراق تلك الجماعة ، ولا يرد : « مهما تأكل » لأنّ جزئيّاته تظهر من مدخوله فإذا ظهرت استغرقها » انتهى.

والتعليل عليل وإن كان إخراج ما ذكر عن التعريف في محلّه لعدم دخول استغراق الحكم لآحاد معاني الألفاظ المذكورة الّتي هي أجزاؤها في أوضاعها بل الدلالة عليه تحصل من التركيب الكلامي بالالتزام.

ويظهر من بعض الأعلام ارتضاؤه بالتعريف المذكور إلاّ أنّه ـ بعيد كلام له ـ قال : « بأنّ هذا اصطلاح وإلاّ فلا مانع من جعل العشرة المثبتة أيضا عامّا كما يشهد به صحّة الاستثناء » انتهى (١).

وحاصل ما ذكره : أنّ أخذ الوضع في تعريف العامّ إنّما هو بحسب اصطلاح الاصولي وإلاّ فلا مانع من جعل العشرة أيضا عامّا ، بدعوى : أنّ العامّ ما دلّ على استغراق الجزئيّات أو الأجزاء سواء كان دلالته بالوضع أو لا ، وإنّما خصّه بالمثبتة لأنّ النفي في العشرة المنفيّة كقولنا : « ليس له عليّ عشرة » مثلا يدلّ على نفي ثبوت العشرة في الذمّة وهذا يمكن أن يكون باعتبار انتفاء جميع آحاد عشرة ، ويمكن أن يكون باعتبار انتفاء بعض آحادها ، فلا يدلّ على استغراق الحكم السلبي لجميع أجزاء العشرة لا صراحة ولا ظهورا.

وفي جعله المثبتة عامّا نظر بل منع ، لأنّ مصداق العامّ الاصولي بالمعنى المأخوذ فيه الوضع لا بدّ وأن يكون عامّا لغويّا ولا يكون إلاّ موضوعا للدلالة على الاستغراق ، فالعشرة ليست بعامّ وإن كانت مثبتة لعدم دخول الاستغراق بالمعنى الآتي في وضعها بل هي موضوعة لمرتبة خاصّة من العدد ، وصحّة الاستثناء لا تنهض دليلا على العموم وإن كانت تكشف عن دخول التعدّد في المعنى الموضوع له ، والاستثناء يتبع التعدّد وهو أعمّ من العموم المصطلح عليه.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٩٢.

٦٩٧

وكيف كان فأجود التعاريف وأسدّها وأظهرها انطباقا على المصاديق اللغويّة هو هذا التعريف الأخير مع توجيه وإصلاح منّا يندفع به ما هو العمدة ممّا يرد عليه وهو : فساد المعنى بمقتضى ظهور عود الضميرين إلى اللفظ ، ضرورة عدم كون الأجزاء والجزئيّات المستغرق لها أجزاء اللفظ وجزئيّاته.

ولا يمكن إصلاحه بإضمار المعنى لوضوح عدم كونهما أجزاء معناه وجزئيّاته أيضا ، وهو الأمر الذهني المضاف إليهما على وجه دخول الإضافة وخروج المضاف إليه ولذا يكون دلالة العامّ على نفس الأجزاء والجزئيّات عندنا التزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، للزوم تصوّر المضاف إليه الخارج عن الموضوع له من تصوّره.

وحاصل التوجيه : أنّ اللام في قوله : « للدلالة » للغاية نظير اللام الداخلة على الدلالة المأخوذة في تعريف الوضع : « بأنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه » فتفيد كون الدلالة فائدة مقصودة من وضع اللفظ.

وقضيّة ذلك أن يكون المعنى الموضوع له هو استغراق الأجزاء والجزئيّات فلو قيل : « الأسد موضوع للدلالة على المفترس » كان معناه : أنّه موضوع للمفترس ليدلّ عليه ، و « الاستغراق » مصدر وإضافته إلى الأجزاء والشرائط من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول ، ومن الظاهر أنّه لا بدّ له من فاعل وهو الحكم لأنّه الّذي يستغرق الأجزاء والجزئيّات ويستوعبهما ، ومن الظاهر أيضا أنّ الحكم لا بدّ له من موضوع فالضميران يعودان إلى الموضوع من باب العود إلى المرجع المعنوي المنساق من سياق الكلام على حدّ قوله تعالى : ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ )(١) فيكون معنى التعريف : « أنّ العامّ هو اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق الحكم أجزاء موضوعه أو جزئيّاته ».

والمراد بموضوع الحكم في لفظ « الكلّ » مضافا إلى النكرة في استغراق الجزئيّات ، والمعرفة في استغراق الأجزاء هو مدلول مدخوله وهو المضاف إليه ، وفي الجمع المحلّى باللام هو مدلول المادّة المتقوّم بها الهيئة الحاصلة من « اللام » ومدخولها ، نظرا إلى أنّها موضوعة للدلالة على استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه وهو مدلول المادّة أعني جنس المفرد المراد من صيغة الجمع حيث تكون الهيئة للعموم الأفرادي المستلزم لانسلاخ معنى الجمعيّة عن الجمع ، أو لأجزاء موضوعه وهو مدلول المادّة أيضا أعني جنس الجمع المعبّر

__________________

(١) النساء : ١١.

٦٩٨

عنه بمفهوم جماعة الّذي يراد من الصيغة أيضا حيث تكون الهيئة للعموم المجموعي ، فإنّ آحاد الجماعة على هذا التقدير أجزاء لمدلول المادّة وهو مفهوم الجماعة.

والفرق بين الاعتبارين أنّ جنس المفرد على الأوّل يراد من صيغة الجمع مجازا ، وجنس الجمع على الثاني يراد منها حقيقة ولو باعتبار تحقّقه في ضمن مصداق واحد بعينه على وجه إطلاق الكلّي على الفرد.

ولأجل كون « الكلّ » مضافا إلى نكرة موضوعا لاستغراق الحكم لجزئيّات موضوعه جعله علماء المنطق سورا للقضيّة في الموجبة الكليّة ، فإنّ سور الموجبة الكليّة عندهم عبارة عمّا يكون آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسرّيه إلى جميع أفراد موضوع القضيّة وهو مدخول « الكلّ » ولذا يجعلون السور من جملة الحكم باعتبار كونه بحسب المعنى من القيود المعتبرة في جانب المحمول وإن كان بحسب اللفظ مأخوذا مع الموضوع ، فإنّ قولنا : « كلّ إنسان كاتب » في معنى قولنا : « الإنسان كلّه كاتب » ومثله « لا شيء » في سور السالبة الكليّة عندهم كقولنا : « لا شيء من الإنسان بحجر » فإنّه بحسب اصطلاحهم آلة لإدراك حال الحكم السلبي من حيث تسرّيه إلى جميع أفراد موضوعه ، وبحسب الاصطلاح الاصولي موضوع للدلالة على استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه ، ووضعه لذلك هو الباعث على صيرورته آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسرّيه إلى جميع الأفراد ، فإنّ تسرّيه إلى الجميع عبارة اخرى لاستغراقه للجميع ، فلفظ « لا شيء » أيضا من ألفاظ العموم على معنى أنّ كلمة « لا » لكونها النافية للجنس تنفي المحمول عن مفهوم شيء ، والهيئة الحاصلة منها ومن مدخولها موضوعة ولو عرفا للدلالة على استغراق ذلك النفي لجميع جزئيّات موضوع القضيّة الّتي هي من مصاديق مفهوم « شيء » وفي معناه النكرة المنفيّة كقولنا : « لا رجل في الدار » فإنّ كلمة « لا » تنفي الوجود في « الدار » عن جنس الرجل ، والهيئة الحاصلة منها ومن مدخولها موضوعة ـ ولو عرفا ـ للدلالة على استغراق ذلك لجميع جزئيّات الجنس.

وبالتأمّل فيما شرحناه في توجيه التعريف يظهر وجه اندفاع الإشكال المتقدّم من جهة الضميرين ، كما يظهر وجه انطباق التعريف على جميع مصاديق العامّ عكسا وطردا.

وأمّا ما أورد على طرده تارة : بلفظ وضع للدلالة على الاستغراق فنقل إلى معنى آخر بحيث هجر وضعه الأوّل ، فإنّه يصدق عليه التعريف مع عدم كونه من المعرّف.

٦٩٩

واخرى : بالعامّ المخصوص والمستعمل في غير العموم للمبالغة وغيرها لصدق الحدّ عليه مع عدم اندراجه في العامّ ، كما في كلام بعض الأفاضل (١).

وثالثة : باللفظ الموضوع للاستغراق قبل الاستعمال فيه فإنّه ليس بعامّ ، لأنّ العموم من صفات الحقيقة والمجاز وهذا ليس بحقيقة ولا مجاز مع صدق الحدّ عليه كما في كلام بعض الأعاظم (٢).

فيندفع الأوّل : بمنع صدق الحدّ على اللفظ المفروض بعد هجر وضعه لاشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ وكونه حقيقة في حال التلبّس وهذا ليس منه ، وإرادة ما انقضى عنه المبدأ ولو بعلاقة ما كان مع دخول حال التلبّس أيضا في الإرادة استعمال للّفظ في معناه الحقيقي والمجازي وهو ليس بسائغ.

ويندفع الثاني : بمنع عدم اندراج العامّ المخصوص والمستعمل فيما عدا العموم في العامّ اصطلاحا ، فإنّه من حيث وضع للاستغراق عامّ ولكنّه لم يستعمل في الاستغراق ولذا يقال له : العامّ المخصوص والعامّ المستعمل في غير العموم ، فرجع الكلام إلى أنّه يكفى في صدق العامّ على شيء اصطلاحا مجرّد كونه موضوعا للدلالة على الاستغراق ولا يعتبر مع وضعه له استعماله فيه ، فهو لأجل وضعه للاستغراق عامّ اصطلاحا سواء اريد منه الاستغراق في الاستعمال أو لا.

ويندفع الثالث : بمنع كون العموم تابعا للاستعمال إن اريد به ما هو مبدأ اشتقاق العامّ المعرّف باللفظ الموضوع للدلالة على الاستغراق ، فإنّ مبدأ اشتقاقه العموم بمعنى كون اللفظ موضوعا للدلالة على الاستغراق ولا نسلّم كونه تابعا للاستعمال.

وإن اريد به العموم اللغوي وهو الشمول الفعلي فهو وإن كان من صفات الحقيقة والمجاز تابعا للاستعمال ولكنّه ليس من مبدأ اشتقاق العامّ المعرّف بحسب المعنى في شيء.

كما أنّ ما اورد على عكسه تارة : باللفظ المستعمل في الاستغراق مجازا كالمفرد المحلّى باللام ، بل مطلق ألفاظ العموم ـ على القول بكونها موضوعة للخصوص ـ فإنّه عامّ ولا يشمله الحدّ.

واخرى بالجمع المعرّف باللام إذا اعتبر عمومه مجموعيّا فإنّه من أفراد المحدود ولا يصدق عليه الموضوع للدلالة على أجزائه لأنّه موضوع للجماعة وهو كلّي لا أنّه كلّ

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ١٥١.

(٢) إشارات الاصول : ١١٤.

٧٠٠