تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

ذكره ممّا لا يتعلّق بالمقام.

ووجه اندفاع الأوّل : أنّ المنقصة الناشئة عن الخصوصيّة أوجبت المرجوحيّة الإضافيّة وأقلّيّة الثواب الغير المنافيتين لرجحان الفعل باعتبار ذات العبادة ككونه صلاة أو صوما فيكون فعله مطلوبا دون تركه ، وإن كان تركه إذا دار الأمر بينه وبين ترك ما هو كامل الثواب الخالي عن المنقصة في العبادات عند المزاحمة أولى وأحقّ ، فاستحقاق ذلك الفرد للترك توصّلا إلى إدراك ما هو الأصلح بحال العبد في العاجل والآجل غير مطلوبيّة تركه ، والتنافي إنّما يحصل على الثاني ، والقائل بالمرجوحيّة الإضافيّة أو أقلّيّة الثواب لا يلتزم بالطلب ، ودعوى أنّه لا كراهة حينئذ ، يدفعها : أنّ المنتفي حينئذ هو الكراهة بمعناها المعروف لا المعنى الآخر المقصود بالتوجيه المصروف إليه النهي ، الّذي مرجعه إلى ما ذكرناه مرارا من الإرشاد المعرّى عن الطلب إلى أحد الأمرين من المرجوحيّة الإضافيّة أو أقلّيّة الثواب.

واندفاع الثاني : وضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة تحريمي وهو باعتبار فصله يناقض كلاّ من الوجوب والندب فيلزم اجتماع المتنافيين في محلّ واحد ، ولا صارف له عن معناه الحقيقي لتعيّن التخصيص في نحوه على ما ستعرفه في البحث الآتي.

ولو سلّم كونه أيضا إرشاديّا فهو إرشاد إلى ما يكون مفاده مانعيّة الكون في المكان المغصوب الّتي يمتنع معها صحّة الصلاة بالنظر إلى ما يأتي تحقيقه في البحث الآتي من أنّ الأوامر والنواهي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات كلّها إرشاديّة مسوقة لبيان الشرطيّة والمانعيّة ، بخلافه النهي فيما نحن فيه فإنّه ارشاد إلى ما كان مفاده عدم المانعيّة اللازم للمرجوحيّة الإضافيّة أو أقلّيّة الثواب بالنظر إلى دليل الصحّة من إجماع ونحوه.

ثمّ قد عرفت عن الشهيد الثاني في المسالك تفسير مكروه العبادة بخلاف الأولى ، ثمّ فرّع عليه نقصان ثوابها من فعلها في غير هذه الأوقات ، وظاهره كونهما متلازمين وهو كذلك ، لأنّه كلّما اشتمل على منقصة موجبة لأقليّة الثواب والمرجوحيّة الإضافيّة فتركه إلى فعل ما لا منقصة فيه أولى ، ولكن لو عبّر عن فعلها في غير هذه الأوقات بفعل غيرها كان أولى لئلاّ يتوجّه إلى ما ذكره من أنّ خلاف الأولى يقتضي مقابلا يكون هو الأولى وهو فيما لا بدل له ممّا لا مقابل له ، إذ لا يعتبر في الأولى ، وخلاف الأولى كونهما متجانسين ، فيجوز كون مكروه العبادة خلاف الأولى بالإضافة إلى طاعة اخرى ممّا يقع في الوقت

٦٠١

المكروه من تلاوة أو زيارة أو قراءة دعاء أو غير ذلك من الأعمال الصالحة الّتي لا تجامع العبادة المكروهة في وقت واحد ، فالإرشاد إلى أقلّيّة الثواب في الحقيقة تنبيه للمكلّف على ذلك ليكون على بصيرة من أمره ولا يفوت عنه ما هو الأصلح بحاله في العاجل أو الآجل ممّا لا منقصة في ثوابه أو كان أكثر ثوابا وأعظم أجرا ، كما يكشف عن ذلك ورود النهي عن صوم يوم عرفة إذا كان موجبا للضعف عن قراءة الدعاء.

نعم ربّما يتوجّه إلى جعل المدار في الكراهة على أقلّيّة الثواب أنّ المنقصة اللازمة من الخصوصيّة ليست مقصورة على ذلك ، لأنّها قد تكون مضرّة دنيويّة وقد تكون مضرّة أخرويّة ممّا عدا تقليل الثواب المعدّ للعبادة من حيث هي ، وقد تكون تقليلا للثواب ، بل أكثر مناهي الشرع تنزيها إنّما نهيت عنها لمضارّ دنيويّة من عروض نسيان أو حدوث فقر ، أو إصابة مرض كالبرص أو الجذام أو نحو ذلك ، ومنه الطهارة بالماء المشمّس وقد علّل كراهته بأنّه يوجب البرص ، فلا بدّ وأن يكون النواهي الواردة في العبادات المكروهة إرشاديّة مقصودا بها إرشاد المكلّف إلى التخلّص عن المفسدة اللازمة للفعل الناشئة عن الخصوصيّة بقول مطلق لا خصوص أقلّيّة الثواب ، ولعلّ [ هذا مراد ] من فسّر مكروه العبادة بخلاف الاولى كما حكاه الشهيد الثاني في تمهيده عن بعض المتأخّرين واستحسنه ، حيث إنّه بعد العبارة المتقدّمة عنه في بيان نقصان الثواب ، قال : « وزاد بعض المتأخّرين أمرا سادسا سمّاه خلاف الأولى هربا من الأوّل » يعني النقض بمكروه العبادة ، فقال : « وهو حسن نظرا إلى ذلك ».

ويمكن إرجاع ما ذكره في المسالك إلى ذلك أيضا بناء على أن يكون تفريع نقصان الثواب عليه مثالا.

وعليه فيمكن حمل كلام من ذكر أقلّيّة الثواب فقط على إرادة المثال ، فكراهة العبادة يعني بها كونها خلاف الأولى لاشتمالها على المنقصة اللازمة للخصوصيّة الغير المنافية لمصلحة ذات العبادة فيستحقّ المكلّف بإتيانها كلاّ من مصلحة الذات ومفسدة الخصوصيّة ما لم تكن المنقصة مجرّد تقليل الثواب كما في الطهارة بالماء المشمّس حيث إنّه يستحقّ الثواب ، المعدّ للطهارة في دار الآخرة ويستحقّ مع ذلك إصابة البرص في دار الدنيا.

وقد يكون المنقصة اللازمة من الخصوصيّة عنوانا آخر يكرهه الشارع لما فيها من منقصة العبادة مقترنا بها أو غير مقترن وقد تعلّق غرض الشارع بالتخلّص عنه فكونه خلاف الاولى لأجل هذا الاعتبار ، ومن ذلك التخلّص عن التشبّه ببني أميّة في صوم

٦٠٢

عاشوراء مثلا ، والتخلّص عن صوم يوم العيد إذا اشتبه هلال ذي الحجّة في صوم يوم عرفة مثلا وغير ذلك ممّا يناسب المقام ، كما ورد النهي عن صوم الضيف إلاّ بإذن صاحبه ، وعن صوم صاحبه إلاّ بإذنه تعليلا بملازمته لمفسدة خارجة عن نفس الصوم كما في رواية فضيل بن يسار قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « إذا وصل الرجل بلده فهو ضيف ، ولا ينبغي للضيف أن يصوم إلاّ بإذنهم لئلاّ يعملوا شيئا فيفسد عليهم ، ولا ينبغي لهم أن يصوموا إلاّ بإذن الضيف لئلاّ يحتشمهم (٢) فيشتهي الطعام فيتركه لأجلهم » فلا استبعاد في تعلّق النهي بالعبادة ويكون المقصود به الإرشاد إلى التخلّص عن المفسدة الخارجة عن حقيقة العبادة مع الاقتران بها أو الانفكاك عنها.

ومنها : ما تقدّم الإشارة إليه في كلام الفاضل التوني وقرّره بعض الأعلام من « أنّ النواهي التنزيهيّة راجعة إلى أمر خارج عن العبادة بخلاف التحريميّة بحكم الاستقراء ، فالنهي عن الصلاة في الحمّام إنّما هو عن التعرّض للرشاش ، وفي معاطن الإبل عن إنفار البعير ، وفي البطائح عن التعرّض للسيل ونحو ذلك ، فلم يلزم اجتماع الكراهة والوجوب أو الندب ».

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه هو : أنّ النهي المتعلّق في ظاهر الخطاب بالعبادة وإن كان ظاهرا في منع نفس العبادة غير أنّ محذور اجتماع المتضادّين أوجب صرفه عنها إلى ما هي ملزومة له من الامور الخارجة عنها المقارنة لها ، فيكون ذكرها في الخطاب ـ مع أنّ مورد النهي في الحقيقة ما هو لازم لها ـ من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم ، وإنّما لم يصرّح بذكر اللازم نفسه في الخطاب تنبيها على الملازمة بينهما ولو بحسب العادة الغير القاضية باستحالة التخلّف.

وهذا عند التحقيق وفي النظر الدقيق غير صحيح.

فأوّل : ما يرد عليه : أنّ تعميم هذا الاعتبار بالقياس إلى ما له بدل غير سديد ، لما بيّنّاه من صحّة العبادة مع الكراهة بمعناها المعروف في نحوه وعدم الحاجة فيه إلى دليل خاصّ يدلّ على الصحّة ، ولا إلى صرف النهي وتوجيه في الكراهة ، فراجع وتأمّل.

وثاني : ما يرد عليه : أنّ إرجاع النهي إلى الأمر الخارج اللازم للعبادة إن كان متصوّرا

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٥١ ، ح ٣ ، الفقيه ٢ : ٥٤ وعلل الشرائع ٢ : ٣٨٤.

(٢) أي : « لا يستحيي منهم » افتعال من الحشمة بالكسر وهو الانقباض والحياء. ( منه )

٦٠٣

فيما لا بدل له أيضا فهو لا يجدي نفعا في دفع محذور تكليف ما لا يطاق الّذي مناطه تعذّر الامتثال ، فإنّ الجمع بين فعل الملزوم وترك اللازم امتثالا للتكليفين محال.

وثالث ما يرد عليه : أنّ المحذور كما يندفع بإرجاع النهي إلى الأمر الخارج كذلك يندفع بحمله على الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب أو المرجوحيّة الإضافيّة ، بل الثاني هو المتعيّن ، لأنّ الإرشاد من المعاني الشائعة للنهي ولا يبعد كونه أقرب إلى حقيقته بعد تعذّرها ، أو هو مع تعذّر مجازه القريب وهو الكراهة المصطلحة.

ومن الأعلام (١) من أورد عليه بعد منع الاستقراء وحجّيّته بوجوه اخر :

أحدها : أنّ معنى كراهة تعرّض الرشاش أنّ الكون في معرض الرشاش مكروه ، وهذا الكون بعينه هو الكون الحاصل في الصلاة ، فلا مناص عن اجتماع الكونين في كون واحد.

وفيه : أنّ الكون من الصلاة المجتمع مع هذا الكون غير ما تعلّق به الأمر من الأكوان الّتي هي حركات وسكنات مخصوصة ، والوجه ما تقدّم في دفع احتجاجهم بالمثال العرفي ، فالكون المجتمع مع هذا الكون وإن كان من لوازم الجسم بل من لوازم حركات الصلاة وسكناتها غير أنّها أمر خارج عنها لا أنّه جزء لها ولا شرط شرعي لها فلم يتعلّق النهي بعين ما تعلّق به الأمر.

وثانيها : أنّ الفرق بين قولنا : « لا تصلّ في الحمّام » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » تحكّم بحت ، لإمكان أن يقال : إنّ حرمة الصلاة في الدار المغصوبة إنّما هي لأجل التعرّض للغصب وهو خارج عن حقيقة الصلاة ، واتّحاد كون الغصب مع كون الصلاة ليس بأوضح من اتّحاد التعرّض للرشاش مع كون الصلاة.

وفيه : وضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ كون الصلاة المتّحد مع كون الغصب جزء للصلاة ، وهو أمر زائد على كونها الخارج عنها المتّحد مع كون الغصب من جهة اخرى ، بخلاف كونها المتّحد مع كون التعرّض للرشاش فإنّه ليس إلاّ ما هو خارج عنها لازم لها من جهة كونه من لوازم الجسم (٢).

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٣.

(٢) وقد أردفه في حاشيته على القوانين بقوله : « ووجه الفرق : أنّ الغصب من فعل المصلّي في الدار المغصوبة فيتّحد مع كونها الّذي هو جزؤها وهو الحركات والسكنات المخصوصة ، والرشاش ليس من فعل المصلّي في الحمّام فلا يتّحد مع كونها الّذي هو جزؤها ، نعم كون التعرّض له يتحد مع كون المصلّي في الحمّام الّذي هو من لوازم الجسم ـ

٦٠٤

وثالثها : أنّ هذا لا يتمّ في كثير من الحمّامات وكثير من الأوقات ، وتخصيص ما دلّ على كراهة الصلاة بما لو كان في معرض الرشاش والحكم بعدم الكراهة في غيرها أيضا في غاية البعد.

وفيه : أنّ معرض الرشاش إذا اريد به ما من شأنه أن يكون معرضا للرشاش وإن لم يتحقّق فيه رشاش فعلا في بعض الأحيان اندفع هذه الحزازة واطّرد الحكم.

ورابعها : أنّ هذا الكلام لا يجري في مثل الصلاة في مواضع التهمة ممّا يكون المنهيّ عنه تنزيها أعمّ من المأمور به من وجه ، فلا بدّ للخصم القول ببطلانها جزما ولم يعهد ذلك منه.

وفيه : أنّ مناط هذا الكلام صرف النهي إلى أمر خارج من الصلاة وهو هنا حاصل بالفرض من غير حاجة إلى التأويل ، لكون المفروض تعلّق النهي في صريح اللفظ بالكون في موضع التهمة وهو أمر خارج عن حقيقة الصلاة كما عرفت وإن كان مجامعا لها ، فيكون كالنظر إلى الأجنبيّة إذا جامع الصلاة.

غاية الفرق بينهما أنّه ليس من لوازمها بخلاف المقام ، ولكنّه غير قادح في التوجيه المبنيّ على إبداء تعلّق النهي بغير ما تعلّق به الأمر.

ومنها : ما قيل ـ كما حكي ـ من منع تساوي الإلزاميّين لغير هما فيما ذكر بل بينهما فرق لا محالة ، وذلك لبداهة عدم جواز اجتماع الوجوب التخييري الشرعي والحرمة العينيّة مع جواز اجتماع الوجوب المذكور مع الاستحباب كما ذكروا من أفضليّة الإتمام في المواطن الأربع ، وأمثال ذلك ممّا ثبت في الشريعة من رجحان أحد فردي الواجب المخيّر على الآخر ، فمن هنا يستكشف وجود الفارق في الواقع وإن لم نعلمه ، ولعلّ مورد نقض المستدلّ بالعبادات المكروهة أيضا من هذا الباب ، فلا يثبت من نقضه ما ادّعاه من جواز اجتماع الإلزاميّين.

وهذا كما ترى نشأ عن العجز عن دفع الشبهة ولقد عرفت طريق الدفع.

__________________

باعتبار كونه في المكان وهو أمر خارج من الصلاة لازم لها باعتبار لزومه الجسم ، ولو فرض مثله فيما بين كون المصلّي في الدار المغصوبة بالمعنى اللازم للجسم وبين كون التعرّض للغصب الّذي على تقدير مغائرته الغصب كان اتّحادا للكون الخارج من الصلاة مع كون التعرّض للغصب الّذي هو غير الغصب ، فالصلاة في الحمّام مع الصلاة في الدار المغصوبة يتشاركان في جهة ويتفارقان في اخرى ، ومبنى الفرق بينهما إنّما هو على الجهة الثانية فبطل المعارضة » إلى آخر ما ذكره. [ حاشية القوانين : ١٠٠ ].

٦٠٥

ومنها : ما حكي أيضا من أنّ العبادات المكروهة بأسرها مكروهة لاشتمالها على المنقصة ، إلاّ أنّها صحيحة بالصحّة الوضعيّة لا التكليفيّة على معنى مطابقتها للحكم الوضعي المستفاد من الأدلّة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الصلاة قربان كلّ تقي » (١) و « الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر » (٢) و « الصوم جنّة من النار » (٣) وأمثال ذلك.

وبطلان ذلك غنيّ عن البيان فإنّ انفكاك الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي في العبادات غير معقول سواء اريد بالصحّة ما هو مصطلح المتكلّمين أو ما هو مصطلح الفقهاء ، وأيّا مّا كان فهي فرع على الأمر ، إلاّ أن يراد بما ذكر ما قدّمناه من أنّ صحّة العبادة إذا كانت فردا يكفي فيها انطباق الفرد المأتيّ به على المأمور به الكلّي ، ولكنّه لا يلائمه البيان المذكور والاستدلال بالعمومات المذكورة ، مضافا إلى أنّه لا يتمّ إلاّ فيما له بدل من العبادات المكروهة.

ثمّ إنّ لبعض الأفاضل (٤) وبعض الفضلاء (٥) في دفع إشكال النقض بالعبادات المكروهة بيانات اخر لا جدوى لنقلها وذكر ما فيها.

المطلب الثاني

في تحقيق حال العبادات المندوبة المعدودة من موارد النقض بتوهّم اجتماع الوجوب والندب فيها ويتمّ الكلام فيها برسم مسائل :

المسألة الأولى

في الفرد المستحبّ من المأمور به الكلّي قبالا لفرده المكروه كالصلاة في المسجد والصلاة جماعة والصلاة أوّل الوقت وغيرها ، فإنّ كلّ واحد من هذه المذكورات واجب باعتبار الماهيّة ومستحبّ باعتبار الخصوصيّة ، فلو لا تعدّد الجهة مجديا في اجتماع المتضادّين امتنع اتّصاف هذه الأفراد بالاستحباب ، لوضوح مضادّة الوجوب والاستحباب في فصليهما.

والتحقيق في دفعه : منع الاجتماع هنا في محلّ واحد ليمسّ الحاجة إلى الالتزام بكون مجوّزه تعدّد الجهة حتّى يستدلّ به على كونه مجديا في أصل المسألة لتعدّد متعلّق الوجوب والندب ، فإنّ أمر الإيجاب متعلّق بالكلّي وهو الصلاة والأمر الاستحبابي متعلّق

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٦٥ ، ح ٦ ونهج البلاغة ، الحكمة ١٣٦.

(٢) الخصال : ٥٢٣ ، ح ١٣ ومعاني الأخبار : ٣٣٣ ، ح ١.

(٣) الكافي ٢ : ١٩.

(٤) هداية المسترشدين ٣ : ٩٣ ـ ١٠٢.

(٥) الفصول : ١٣١.

٦٠٦

بالفرد وهو الصلاة في المسجد مثلا ، والأوّل يتضمّن المنع من ترك الصلاة لا من ترك الصلاة في المسجد والثاني يقتضي الإذن في ترك الصلاة في المسجد لا في ترك الصلاة ، فلم يجتمع المنع من الترك مع الإذن فيه في محلّ واحد.

فالمنع من ترك الصلاة مع الإذن في ترك الصلاة في المسجد لا يتنافيان.

وقد يوجّه الاجتماع ـ بعد تسليمه ـ بأنّه لا مانع من أن يتعلّق ببعض أفراد الكلّي المأمور به باعتبار ما فيه من الخصوصيّة طلب استحبابي وإن تضمّن الإذن في الترك لمصادفة هذا الإذن تركا مأذونا فيه في الجملة ، على ما هو قضيّة التخيير العقلي المستفاد من الأمر بالكلّي تبعا الواقع بين أفراد ذلك الكلّي الّتي منها الفرد المستحبّ ، فإنّه كان جائز الترك من أصله في الجملة فلا ينافيه جواز الترك المستفاد من الاستحباب لو تعلّق به كما هو المفروض ، والأولى هو ما ذكرناه.

لا يقال : إنّ أمر الإيجاب ـ على ما تقدّم تحقيقه ـ إنّما يتعلّق بإيجاد الصلاة ، فإيجاد الصلاة في المسجد مع اتّصافه بالوجوب المتضمّن لمنع الترك لا يقبل الاتّصاف بالاستحباب المتضمّن للإذن في الترك لكونه إيجادا واحدا غير قابل للتعدّد والتفاضل.

لأنّا نقول : إنّ أمر الإيجاب إنّما تعلّق بالإيجاد الكلّي لماهيّة الصلاة لا بهذا الإيجاد الخاصّ الّذي تعلّق به الاستحباب ، والأوّل يقتضي جواز ترك هذا الإيجاد الخاصّ إلى بدل وهو إيجاد فرد آخر ، فلا ينافيه الإذن في تركه الّذي اقتضاه الثاني.

غاية الأمر وجوب تقيّد إطلاقه بكونه إلى بدل أخذا بمقتضى دليل الوجوب أو جمعا بينه وبين دليل الاستحباب ، فتدبّر.

المسألة الثانية

في أفضل فردي الواجب التخييري الّذي يحكم عليه بالاستحباب مع وصفه بالوجوب كالاستنجاء بالماء ، والإتمام في المواطن الأربع ، ونحو ذلك.

وقد عدّه غير واحد من موارد النقض ، والكلام هنا تارة في ورود أصل النقض واخرى في علاجه ، ومرجع الأوّل إلى النظر في أنّ الوجوب التخييري والاستحباب التعييني هل يتنافيان أم لا؟ وقد اختلفوا فيه على قولين تقدّم نقلهما مع سائر الكلمات المتعلّقة بهما في مباحث الواجب التخييري ومن ذلك ما أشار إليه في المدارك في باب الاستنجاء حيث نقل فيه القول بعدم التنافي تعليلا بأنّ متعلّق الوجوب التخييري ليس أمرا معيّنا بل الأمر الكلّي

٦٠٧

فتعلّق الاستحباب بواحد منهما لا محذور فيه ، وتنظّر فيه صاحب المدارك بقوله : « فيه نظر ، فإنّه إن اريد بالاستحباب هنا المعنى العرفي وهو الراجح الّذي يجوز تركه لا إلى بدل لم يمكن تعلّقه بشيء من أفراد الواجب التخييري ، وإن اريد به كون أحد الفردين الواجبين أكثر ثوابا من الآخر فلا امتناع فيه » انتهى (١).

وتحقيق المقام : أنّ التنافي بينهما ممّا لا يمكن الاسترابة فيه ، فإنّ الأمر التخييري في الاستنجاء بالماء مثلا وإن اقتضى جواز تركه على تقدير حصول معادله ، ولكنّه مع ذلك يقتضي المنع من تركه على تقدير عدم حصول المعادل ، والأمر الاستحبابي الوارد فيه يقتضي الاذن في تركه على كلا تقديري حصول المعادل وعدم حصوله.

ولا ريب أنّ المنع من الترك والإذن فيه على تقدير عدم حصول المعادل متناقضان يستحيل تواردهما على محلّ واحد ، فلا محيص حينئذ من التأويل في الاستحباب بحمله على إرادة الأفضليّة أو أكثريّة الثواب ، على معنى كون الفرد المفروض لتأكّد الرجحان الوجوبي فيه بالرجحان الندبي أو لاشتماله على المزيّة الكاملة والصفة الزائدة أفضل فردي الواجب التخييري أو أكثر ثوابا من الفرد الآخر.

وإن احتمل تأويل آخر وهو اعتبار تقيّد إطلاق الإذن في الترك المأخوذة في معنى الاستحباب بكونه إلى بدل جمعا بين الدليلين ، ولا يرد انقلاب المستحبّ حينئذ واجبا نظرا إلى أنّ المستحبّ ما جاز تركه لا إلى بدل وقد صار الآن ما لا يجوز تركه لا إلى بدل ، وهذا هو حدّ الواجب.

لإمكان دفعه ، بأنّ المستحبّ ما يجوز تركه لا إلى بدل لذاته ، وما طرأ المورد من عدم الجواز فإنّما هو لعارض التقيّد من جهة الجمع بين الدليلين لا لذاته ، فالمفهومان صادقان على المورد مع عدم اجتماع المتناقضين فيه غير أنّ الأولى هو الأوّل ، لابتناء الثاني على تكلّف واضح ولذا لم يلتفت إليه الأصحاب ، واشتهر بينهم التعبير عن الفرد المستحبّ بأفضل فردي الواجب التخييري فليتدبّر ، وقد سبق زيادة تحقيق للمقام في مباحث الواجب المخيّر.

المسألة الثالثة

في تداخل الأغسال الواجبة والمندوبة كغسلي الجنابة والجمعة ونحو هما وهذا أيضا ممّا ذكره بعض الأعلام (٢) من موارد النقض ، وبيانه مع تحرير منّا : أنّ غسل الجنابة مع

__________________

(١) المدارك ١ : ١٦٧.

(٢) القوانين ١ : ١٤٨.

٦٠٨

غسل الجمعة ماهيّتان مختلفتان تعلّق بإحداهما أمر إيجاب وبالاخرى أمر ندب ، وهما كماهيّتي الصلاة والغصب كلّيان بينهما عموم من وجه فيجتمعان في مادّة ويفترقان في اخريين ، والدليل على اختلافهما بحسب الماهيّة اختلاف أحكامهما ولوازمهما ، نظرا إلى أنّ اختلاف الأحكام ممّا يكشف عن اختلاف الموضوعات واختلاف اللوازم ممّا يكشف عن اختلاف الملزومات ، والنقض إنّما يرد في صورة اجتماعهما الّذي يعبّر عنه بالتداخل ، بتقريب : أنّ ما يصدر من المكلّف حينئذ فعل واحد شخصي يتّصف بالوجوب من حيث إنّه مصداق لغسل الجنابة. وبالندب من حيث إنّه مصداق لغسل الجمعة ، وكما أنّ الوجوب والحرمة متضادّان فلا يجتمعان فكذلك الوجوب والندب ، فوجب أن لا يجتمعا والمفروض خلافه وليس ذلك إلاّ من جهة كفاية تعدّد الجهة واختلاف الحيثيّة.

وبهذا البيان يندفع ما قيل في دفعه من : أنّ هاهنا مسألتين :

إحداهما : مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي ذي جهتين.

والاخرى : مسألة جواز التداخل وعدمه.

ومورد الاولى ما إذا ورد الأمر والنهي وكان متعلّقهما طبيعتين بينهما عموم من وجه ، ومورد الثانية ما إذا ورد أمران وكان متعلّقهما طبيعة واحدة بحسب المفهوم ، ومحصّل كلامهم فيها أنّ المكلّف لو أتى بفرد من تلك الطبيعة هل يكون كافيا في امتثال الأمرين معا أو لا بدّ من الإتيان بفردين منها؟

وبعبارة اخرى : أنّ تعدّد التكليف بماهيّة واحدة هل يقتضي تعدّد الامتثال والإتيان بأفراد متعدّدة أم يكفي الفرد الواحد؟ وقد اختلفوا في هذه المسألة فصار جمع منهم إلى أنّ الأصل التداخل وأنكره الآخرون.

وعلى هذا فمسألة تداخل الأغسال متفرّعة على مسألة التداخل لا على مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلهذا تراهم متّفقين على جواز التداخل في الأغسال الواجبة في الجملة ، فلو كان مبنى ذلك على مسألة اجتماع الأمر والنهي لوجب القول بعدم جواز التداخل في الأغسال الواجبة لاستلزامه اجتماع الأمثال.

ووجه الاندفاع : عدم ابتناء النقض على تفريع مورده على مسألة اجتماع الأمر والنهي بل على مضادّة الوجوب والندب مع اجتماعهما في محلّ واحد شخصي هو مصداق لماهيّنين مختلفتين بينهما عموم من وجه حسبما بيّنّاه.

٦٠٩

فالتحقيق في دفعه هو منع أصل الاجتماع ـ بعد الإغماض عن أنّ مسألة التداخل من قبيل ما كان جهتي الأمرين فيه تعليليّتين ولذا يعبّر عنها بتداخل الأسباب.

وقضيّة ذلك عدم جواز التداخل بين الواجب والمندوب بالمعنى المذكور على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي أيضا ، لاتّفاق الفريقين على عدم جواز الاجتماع فيما كان جهتا الأمر والنهي فيه تعليليّتين ـ وسند المنع المذكور : أنّ التداخل الّذي صار قوم إلى جعله أصلا ـ على ما قرّرناه في رسالتنا المنفردة في مسألة تداخل الأسباب (١) ـ يرجع إلى معان ثلاث :

أحدها : منع اقتضاء تعدّد السبب تعدّد المسبّب كالوجوب مثلا.

وثانيها : منع اقتضاء تعدّد الوجوب على فرض تسليمه تعدّد الواجب.

وثالثها : منع اقتضاء تعدّد الواجب بعد تسليمه تعدّد الامتثال ، ومن الجائز كون التداخل الثابت في الأغسال الواجبة والمندوبة من قبيل المعنى الأوّل ، فالفعل لا يقع إلاّ بوصف الوجوب ، مضافا إلى إمكان القول بأنّ معنى تداخلهما جواز الجمع بينهما في القصد والنيّة ، بناء على أنّ قصد الاستحباب يكفي فيه وجود المقتضي للاستحباب ولا يحتاج إلى ثبوته فعلا ، مع أنّه لا قضاء في دليل التداخل هنا بكون ذلك من جهة اجتماع الحكمين كما هو المقصود بالنقض ، بل غايته الدلالة على جواز الاكتفاء بغسل واحد ولعلّه من باب الإسقاط ، ولو فرض فيه ظهور في الاجتماع وجب تأويله صونا للقاعدة العقليّة القطعيّة في اجتماع المتضادّين في محلّ واحد شخصي نظرا إلى أنّها لا تنتقض بالظاهر.

المسألة الرابعة

ما اجتمع فيه الوجوب النفسي مع الاستحباب الغيري كغسل الجنابة للنافلة على القول بوجوبه لنفسه ، فإنّه أيضا ممّا قد يذكر من موارد النقض.

وأشار إليه بعض الأعلام (٢) بل صرّح به بعض الأعاظم (٣) ووجهه ما تقدّم من مضادّة الوجوب الندب ولو للغير في فصليهما.

والتحقيق في دفعه : أنّ الاستحباب المتوهّم اجتماعه مع الوجوب هنا إن اريد به الاستحباب الشأني نظرا إلى وجود الجهة المقتضية للاستحباب المصادفة لوجود مانع من الاقتضاء فلا حجر فيه ، إذ لا مضادّة بين الاستحباب بالقوّة والوجوب بالفعل كما لا مناقضة

__________________

(١) ونسأل الله التوفيق لطبعها ونشرها إن شاء الله تعالى ، وهي موجودة في مكتبتنا بخطّ يده قدس‌سره.

(٢) القوانين ١ : ١٤٦.

(٣) إشارات الأصول : ١١١.

٦١٠

بين الكاتب بالقوّة واللاكاتب بالفعل ، ولا فرق في ذلك بين سبق جهة الوجوب على جهة الاستحباب أو سبق جهة الاستحباب على جهة الوجوب ، غير أنّ الوجوب على الأوّل دافع لفعليّة الاستحباب وعلى الثاني رافع لها.

وإن اريد به الاستحباب الفعلي ، ففيه : المنع من أصل الاجتماع لمكان المضادّة المذكورة ، ولا يجدي فيه جهتا الغيريّة والنفسيّة لأنّهما جهتان تعليليّتان فلا يتعدّد بتعدّدهما الموضوع ، وكون غسل الجنابة ونحوه واحدا بالنوع لا يصحّح إجتماعهما فيه ، لأنّ الواحد بالنوع إنّما يجوز توارد المتضادّين أو المتناقضين عليه في صورتين :

إحداهما : ما تحقّق فيه جهتان تقييديّتان ليتعدّد بهما المتعلّق كما في السجود لله وللصنم ، فإنّ كونه لله وكونه للصنم جهتان تقييديّتان لكونهما من الموضوع وبهذا الاعتبار يجب الأوّل ويحرم الثاني من غير محذور.

والاخرى : ما كان توارد الحكمين عليه على وجه التكرار ، بأن يجب في المرّة الاولى ويستحبّ في المرّة الثانية كما في تثنية غسلات الوضوء ، فإنّها مستحبّة مع وجوب الغسلة الاولى ، وغسل الوجه مثلا واحد بالنوع وقد توارد عليه الوجوب والندب على وجه التكرار ، ومعناه أنّه في المرّة الاولى واجب وفي الثانية مستحبّ ، وما نحن فيه لا يندرج في شيء من الصورتين ، إذ لا تكرار في غسل الجنابة مع عدم تحقّق جهتين تقييديّتين فيه.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر الحال في عكس المسألة وهو مسألة اجتماع الوجوب الغيري مع الاستحباب النفسي كما توهّم ، مثل غسل الجنابة للفريضة على القول بعدم وجوبه لنفسه ، ونحوه الوضوء لها ولغيرها من مشروط به.

فالحقّ فيه أيضا امتناع الاجتماع ، بل هو إمّا واجب لا استحباب معه فعلا كما لو كان في وقت الفريضة وغيرها من مشروط به ، أو مستحبّ لا وجوب معه كما لو كان قبل الوقت.

نعم يجوز وقوعه لغايات كثيرة كلّها مقتضية للاستحباب ، ولا يبعد القول بالصحّة لو وقع حال الوجوب لغير الغاية المقتضية للوجوب بقصد تلك الغاية وإن لم تكن مقتضية بالفعل بل بقصد الاستحباب وإن لم يكن ثابتا بالفعل ، بناء على ما تقدّم من أنّ قصد الاستحباب يكفي فيه وجود المقتضي للاستحباب ولا يفتقر إلى ثبوته فعلا لوجود مانع من الاقتضاء ، كما أنّ الوجوب أيضا كذلك بناء على وجوب قصد الوجه في صحّة العبادة.

ويتّضح هذه المقالة بملاحظة ما حقّقناه في بحث المقدّمة من كفاية وجود القضيّة

٦١١

الشأنيّة في انعقاد الحكم الشرعي وترتّب آثاره عليه.

ومن الفضلاء من صرّح في المقام بجواز الاجتماع بعد ما صرّح بامتناعه في النفسيّين والغيريّين معا ، تعليلا بمنافاة المنع من الترك لعدم المنع منه.

واحتجّ عليه بأنّه : « لو امتنع لكان إمّا باعتبار الرجحان ولا حجر من هذه الجهة ، إذ انضمام الرجحان إلى الرجحان لا يوجب إلاّ تأكّد الرجحان ، أو باعتبار ما تقوّما به من المنع من النقيض وعدمه ولا حجر من هذه الجهة أيضا ، لأنّ الوجوب والندب حيث كانا باعتبار جهتين كان المنع من الترك وعدمه أيضا باعتبارهما ، ولا منافاة بين المنع من ترك الفعل لنفسه أو لغيره وبين عدم المنع منه لغيره أو لأمر آخر ، فإنّ عدم المنع من النقيض بأحد الاعتبارين راجع إلى عدم اقتضاء ذلك الاعتبار للمنع وهو لا ينافي اقتضاء اعتبار آخر له.

وبالجملة فاللازم له عدم منع خاصّ فلا يقتضي عدم العامّ أعني المنع مطلقا فجاز أن يتحقّق المنع من النقيض بالاعتبار الآخر ».

إلى أن قال : « ثمّ ما ذكرناه من جواز الاجتماع في بعض الصور إنّما يتمّ إذا فسّر الاستحباب برجحان الفعل مع عدم المنع من الترك كما هو المعروف ، وأمّا إذا فسّر برجحان الفعل أو مطلوبيّته مع الإذن في الترك ـ أي مع كونه مأذون الترك أو جائز الترك ـ امتنع الاجتماع ، ضرورة أنّ الإذن في الترك مطلقا كما هو المعتبر في الاستحباب ينافي عدمه المعتبر في الوجوب » (١)

وأنت خبير بما فيه من الوهن بل في غاية الوهن ، فإنّ ترك الفعل باعتبار نوعه المتحقّق في ضمن جميع مصاديقه إذا كان لنفسه أو لغيره مبغوضا وممنوعا منه ، فكيف يصدق عليه أنّه غير مبغوض ولا ممنوع منه لغيره أو لنفسه؟ ومرجعه إلى أنّ المنع من الترك مع عدم المنع منه لا يجتمعان ولو كان عدم المنع باعتبار فقد الجهة المقتضية للمنع.

على أنّ الطلب المقرون بعدم المنع من النقيض أمر وجوديّ مقيّد بأمر عدمي وهو يستدعي محلاّ يتقوّم به ، والمفروض أنّ المحلّ مشغول بالطلب المقرون بالمنع من النقيض ، فهذا الطلب بقيده إمّا أن يكون مانعا من لحوق الطلب المقرون بعدم المنع أو لا. وعلى الثاني إمّا أن يكون الطلب اللاحق بقيده رافعا للمنع الثابت في ضمن الطلب الملحوق به أولا.

فإن قيل بالأوّل أو الثاني كان اعترافا بعدم الاجتماع ، وإن قيل بالثالث كان التزاما

__________________

(١) الفصول : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٦١٢

بالجمع بين المتناقضين ، ضرورة مناقضة المنع من النقيض لعدم المنع منه ، فيلزم أن يصدق على ما يتحقّق في الخارج من الإيجاد والإيقاع أنّه ممنوع من نقيضه وغير ممنوع منه ، واختلاف الجهة بالنفسيّة والغيريّة غير مجد في اجتماعهما لما ذكرناه مرارا من كونهما من الجهات التعليليّة.

والأصل فيما ذكرناه من المناقضة : أنّ المنع من الترك المعتبر في ماهيّة الوجوب أمر وجودي وعدم المنع منه قبالا له أمر عدمي ، وهذه الأمر العدمي بالقياس إليه إمّا خلافه ليصحّ اجتماعه معه أو نقيضه ، والأوّل باطل لأنّ عدم الشيء إنّما يكون خلافا لأمر وجودي إذا كان الشيء المضاف إليه أمرا وجوديّا آخر هو خلاف الأمر الوجودي الأوّل كعدم الشجاعة مع العلم لا عينه ، وهو هنا عينه فيكونان كالقيام واللاقيام ، ونقيض الشيء يستحيل اجتماعه معه ، فكيف يقال : بأنّ عدم المنع من ترك الفعل لغيره أو لنفسه لا ينافي المنع من تركه لنفسه أو لغيره.

هذا مع أنّ الطلب الاستحبابي كائنا ما كان ينشأ من الرضا النفساني بالترك مع رجحان الفعل ، ولا ريب أنّ الرضا النفساني بالترك أيضا يستحيل وروده على محلّ لا يرضى فيه بالترك ولو من جهة اخرى ، سواء قلنا : بأنّ المأخوذ في فصل الاستحباب هو مجرّد عدم المنع من النقيض أو قلنا : إنّه الإذن في النقيض ، مع أنّ التحقيق الموافق للنظر الدقيق بل الوجدان الصريح كون المأخوذ فيه الاذن في النقيض ، فإنّ الفعل اذا كان راجحا في نظر الآمر فهو إمّا أن يرضى بتركه لعدم تأكّد في رجحانه أو لا يرضى بتركه لتأكّد رجحانه ، فعلى الأوّل ينبعث منه الطلب المقرون بإظهار الرضا بالترك وهو الإذن فيه ، وعلى الثاني ينبعث منه الطلب المقرون بإظهار عدم الرضا بالترك وهو المنع منه ، وإنّما اعتبرنا الإظهار لأنّ الكلام في الوجوب والاستحباب الإنشائبيّن والمقصود من الإنشاء بيان ما في الضمير ولا يتأتّى إلاّ بأن يشتمل المعنى الإنشائي على إظهار ما في الضمير من الرضا بالترك وهو الإذن فيه أو عدم الرضا به وهو المنع ، منه فالوجوب هو الطلب المقرون بالمنع من الترك والاستحباب هو الطلب المقرون بالإذن في الترك وهما متضادّان.

ودعوى أنّ تفسير الاستحباب بمجرّد عدم المنع أولى وأسدّ من تفسيره بالإذن في الترك كما في كلام الفاضل المتقدّم (١) واردة على خلاف التحقيق ، حيث لا حجّة له عليها إلاّ

__________________

(١) الفصول : ١٣٥.

٦١٣

ما ذكره في تحقيق المقام من أنّ الرجحان لمّا كان من الصفات المشتملة على المراتب المختلفة بالشدّة والضعف فالنوع الكامل منه رجحان يشتمل على المنع من النقيض وهو الرجحان الوجوبي ، والناقص منه رجحان لا يشتمل على المنع وهو الرجحان الندبي ، وأمّا كون تركه مأذونا فيه فخارج عن حقيقة الرجحان ومقوّماته وإنّما هو من المقارنات الاتّفاقية حيث لا يوجد جهة تقتضي المنع من تركه.

وهذا كما ترى خلط وغفلة عمّا يلزمه الإنشاء في المعنى الإنشائي من إظهار الرضا بالترك الّذي يقال له : الإذن فيه وإظهار عدم الرضاء به الّذي يقال له : المنع منه.

المطلب الثالث

في اجتماع الوجوبين

الّذي أخذه بعضهم من موارد النقض كما في الفرائض المنذورة ، وما لو أمر الأب ولده بفعل خاصّ مع أمر الامّ به بعينه.

وبيان النقض : أنّ احتجاج المانعين من اجتماع الأمر والنهي باستلزامه اجتماع المتضادّين إن تمّ لاقتضى القول بعدم جواز اجتماع الوجوبين أيضا ، إذ كما أنّ اجتماع الضدّين محال فكذلك اجتماع المثلين أيضا محال وقد ثبت في الشريعة خلافه ، فإنّ نذر الفرائض صحيح كنذر المندوبات وقد اجتمع فيها وجوبان وجوب أصلي من جهة قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) ووجوب نذري من جهة قوله تعالى : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ )(٢) ومثلها ما لو أمر به كلّ من الأب والامّ فإنّ ما دلّ على وجوب إطاعة الوالدين يقتضي تعلّق وجوبين بالفعل المذكور وعلى هذا القياس سائر الأمثلة.

واجيب : بأنّ اجتماع المثلين كاجتماع الضدّين محال ، إذ كلّ منهما يحتاج إلى محلّ خاصّ فارغ عن وجود الآخر والموجود فعلا في الأمثلة المذكورة ليس إلاّ أحدهما كما في الضدّين ، على معنى أنّ الموجود وجوب واحد لا وجوبان.

نعم جهتاهما موجودتان فيه وبهما يتأكّد الوجوب الموجود.

وبعبارة اخرى : المنقدح في نفس الآمر عند اجتماع جهتي الوجوب ككون الفعل إطاعة للوالد والوالدة ليس إلاّ طلب واحد حتمي متأكّد ومتشدّد لأجل الجهتين لا طلبان حتميّان متكرّران ، وهاتان الجهتان بحيث لو استقلّ كلّ واحدة منهما وانفردت كفت بانفرادها علّة

__________________

(١) الروم : ٣١.

(٢) الحجّ : ٢٩.

٦١٤

تامّة للوجوب ، ولكنّهما بعد اجتماعهما صار تامعا علّة تامّة فكلّ منهما حينئذ جزء للعلّة التامّة كالحرارة الوحدانيّة العارضة للماء بواسطة الشمس والنار إذا اجتمعتا واشتركتا في تسخينه.

وبالجملة الثواب متكثّر والحسن متكرّر والطلب متأكّد لا أنّه متكرّر كالحسن ، والنقض إنّما يتوجّه على تقدير تكرّر الطلب لا مجرّد تكرّر الحسن والمصلحة.

أقول : العمدة في المقام النظر في تصحيح هذا النقض ودفعه إنّما هو إحراز الصغرى وإلاّ فالكبرى ممّا لا إشكال فيه ، فإنّ استحالة اجتماع المثلين كاستحالة اجتماع الضدّين ممّا لا يستريب فيه جاهل فضلا عن العالم الفاضل.

والدليل على ذلك [ تارة ] : قاعدة عدم قابليّة المحلّ.

واخرى : منافاة الاجتماع للاثنينيّة اللازمة للمثلين كما هو قضيّة وضع التثنية.

وثالثة : أداء اجتماعهما إلى اجتماع الضدّين.

أمّا الأوّل : فلقضاء الضرورة بأنّ كلاّ من المثلين كما في الضدّين يستدعي محلاّ قابلا فارغا عن قيام صاحبه به ليقوم به ، وكما أنّ المحلّ في الضدّين بقيام أحدهما به يخرج عن قابليّة قيام الضدّ الآخر به فيستحيل اجتماعهما من جهة عدم قابليّة المحلّ ، فكذلك المحلّ في المثلين فإنّه بقيام أحدهما به وحصوله فيه يخرج عن كونه قابلا للمثل الآخر فيستحيل اجتماعهما لعدم قابليّته.

وأمّا الثاني : فلأنّ المثلين يلزمهما الاثنينيّة والاثنينيّة يلزمها الامتياز الخارجي والاجتماع رافع للامتياز الخارجي وإلاّ يتعدّد المحلّ فلا اجتماع فيكون رافعا للاثنينيّة.

وخلاصة هذا الوجه : أنّ معنى استحالة اجتماع المثلين في محلّ واحد أنّه لا يعقل فرض كونهما في المحلّ الواحد على وجه يصدق عليه عنوان الاجتماع مع بقاء كونهما مثلين حال صدق هذا العنوان ، لأنّ الواقعة في اجتماعهما غير خالية عن فرض الامتياز بينهما أو فرض عدمه ، والأوّل ينافي الاجتماع والثاني ينافي الاثنينيّة ، ومرجعه إلى أنّ الاجتماع رافع للاثنينيّة والاثنينيّة مانع من الاجتماع فهما متنافيان.

وأمّا الثالث : فلأنّ أفراد ماهيّة واحدة امور متبائنة ، ولذا لا يصدق بعضها على بعض ولا يصحّ الحمل فيما بينها ، والتبائن لا يتأتّى إلاّ باعتبار مشخّصاتها والمشخّصات لا تكون إلاّ امورا متضادّة كالطول والقصر والسواد والبياض وغيرها في أفراد الإنسان ، والشدّة والضعف وغيرهما في أفراد السواد والبياض ، إلى غير ذلك من خصوصيّات الزمان

٦١٥

والمكان وغيرهما في مشخّصات الأفعال وما يجري مجراها.

فالمثلان حينئذ فردان من ماهيّة واحدة فاجتماعهما مع بقاء عنوان الفرديّة فيهما يوجب اجتماع مشخّصيهما وهو من اجتماع الضدّين ، فيستحيل اجتماع المثلين لاستحالة اجتماع الضدّين ، فاستحالة اجتماعهما ممّا لا يمكن القدح فيه.

فالعمدة في المقام النظر في أنّ اجتماع الوجوبين أو الندبين ـ على معنى لحوقهما لفعل واحد وتواردهما عليه ـ هل هو من باب اجتماع المثلين ليكون محالا أو لا؟

ومعلوم أنّ معقد هذا البحث ما إذا لم يتعدّد المتعلّق لا بحسب الكلّية والفرديّة كنذر إيقاع الفريضة في المسجد أو أوّل الوقت ، فإنّ الوجوب الأصلي متعلّق بإيجاد الصلاة وهو مع إيقاعها في المسجد موضوعا [ للنذر ] ولا إشكال في جواز اجتماعهما على هذا الوجه ـ ولا على وجه يؤول إلى التكرار بأن يتعلّق أحدهما بإيجاد الماهيّة والآخر بإيجاد الآخر وهذا أيضا ممّا لا إشكال فيه ، فإنّ الواحد بالنوع إذا فرض له إيجادات متعدّده جاز أن يتعلّق بكلّ إيجاد له وجوب كما هو الحال في موارد التكرار ، فمحلّ [ الكلام ] ما تعلّق الوجوبان بالإيجاد الواحد للماهيّة أو بإيجادها لا بشرط الوحدة والكثرة من غير أن يؤول إلى التكرار.

[ فنقول : ] أنّ الوجوب إن اريد به طلب الفعل المقرون بالمنع من الترك مع أخذ الطلب والمنع بالبناء للفاعل الّذي هو الفعل الصادر من الشارع في مقام الإنشاء ويقال له : الإيجاب فلا ينبغي التأمّل في جواز تعدّده وتكرّره عند تعدّد جهتي الوجوب واجتماعهما ، على معنى أن يطلب الفعل ويمنع من تركه مرّتين بملاحظة الجهتين ، فتارة بملاحظة المصلحة الأصليّة القائمة بالصلاة واخرى بملاحظة النذر ، وهذا كوقوع ضربتين على موضع واحد من المضروب.

وإن اريد به كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ المعبّر عنه بالوجوب العقلي وهو المرادف للحسن ، فهو أيضا على ما يرشد إليه النظر الصحيح وصف يلحق الفعل عند العقل مرّتين باعتبار الجهتين ، ومرجعه إلى تكرّر لحوق الوصف في نظر العقل.

وقد اعترف المجيب في كلامه المتقدّم بأنّ الحسن متكرّر ، ومعناه تكرّر الوجوب بهذا المعنى.

وإن اريد به مطلوبيّة الفعل وممنوعيّته ، وبعبارة اخرى : كون الشيء مطلوب الفعل وممنوع الترك الّذي هو الأثر الحاصل من الوجوب بالمعنى الأوّل ، فالظاهر أنّه أيضا عند

٦١٦

العقل أو في نظر العرف وصف يتعدّد ويتكرّر على حسب تكرّر الوجوب بالمعنى الأوّل على معنى لحوقه الفعل مرّتين باعتبار الجهتين ، فالوجوب بجميع معانيه متكرّر ، غير أنّ تكرّره بالمعنى الأوّل تكرّر خارجي وبأحد المعنيين الأخيرين تكرّر ذهني لأنّه حاصل عند العقل وفي نظره لا في الخارج هذا.

ولكنّ الإنصاف ومجانبة الاعتساف يقتضي خلاف ذلك ، فإنّ تعدّد الإنشاء في المعنى الأوّل لا يوجب تعدّد المنشأ ، والمعيار هو ما في النفس من الطلب الحتمي المنقدح في ضمير الآمر أعني الطلب المقرون بعدم الرضا بالترك ، وهو مع اتّحاد المحلّ واحد لا يتعدّد بتعدّد الجهة لعدم قابليّة المحلّ ، ومنافاة الاجتماع للاثنينيّة ، واعتبار لحوق الوصف مرّتين غير اجتماع الوصفين ، والأوّل مجرّد اعتبار والثاني محال ، فليس في المقام إلاّ وجود الجهتين كما ذكره المجيب.

وكذا الكلام في اجتماع الندبين واجتماع الحرمتين واجتماع الكراهتين.

ومن أمثلة الأوّل : ما يتداخل فيه الأغسال المندوبة والوضوءات المستحبّة ، وإيقاع النافلة في المسجد ، وغسل الجمعة ترتيبا.

ومن أمثلة الثاني : الزنا مع الحائض الأجنبيّة ، والإفطار بالمحرّم كالزنا وشرب الخمر.

ومن أمثلة الثالث : البول في الجاري قائما ، وخضاب الحائض الجنب ، وقراءة ما زاد على سبع آيات لها.

وأمّا ما تقدّم في كلام المجيب من أنّ الجهتين عند اجتماعهما صارتا معا علّة تامّة على أن يكون كلّ منهما جزءا للعلّة ، تنظيرا لهما بالنار والشمس إذا اجتمعتا واشتركتا في تسخين الماء ، فيرد عليه :

أوّلا : على تقدير تسليمه أنّ إطلاقه غير سديد ، لأنّه إنّما يتمّ فيما لو اجتمعتا على سبيل الدفعة لا على وجه التعاقب فتكون الجهة اللاحقة بلا تأثير لمصادفتها محلاّ مشغولا بوجود المثل.

وثانيا : أنّه في أصله فاسد لابتنائه على الخلط بين العلل العقليّة والأسباب الشرعيّة ، والفارق : أنّ العلل العقليّة مؤثّرات حقيقيّة ويكون وجود المعلول أثرا من وجود العلّة وهي في عليّتها وتأثيرها من قبيل الفاعل الموجب لكون التأثير من ضروريّات ذاتها ولا اختيار لها في عدم التأثير ، فإذا اجتمعت مع مثلها لا يجوز استناد المعلول إلى كلّ منهما لاستحالة توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، ولا إلى إحداهما فقط لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ،

٦١٧

فتعيّن استناده إليهما معا ، بخلاف الأسباب الشرعيّة فإنّها بواعث على جعل الحكم كالوجوب مثلا ، والجعل من فعل الشارع وهو في فعل الجعل فاعل مختار لاختياره في تركه ، فالحكم المجعول أثر له لا للسبب.

نعم يصحّ إسناده إليه إسنادا مجازيّا ، وحيث إنّ المجاز باب واسع فإذا اجتمع سببان [ كان ] إسناده إلى كلّ منهما مجازا ، وهذا هو معنى جواز توارد العلل الشرعيّة على معلول واحد لكونها من قبيل المعرّفات ، ولأجل ذا يصحّ قصدهما معا إن اعتبرنا قصد السبب في النيّة كما في تداخل الأغسال الواجبة.

ومن فروعه انعقاد النذر في الفريضة مع سبق وجوبها الأصلي ، ويجوز فيها قصد الوجوب النذري وإن لم يثبت لكفاية الوجوب الشأني أو اكتفاء في قصده بوجود الجهة المقتضية له ، ومن ثمرات انعقاده وجوب الكفّارة على تقدير المخالفة له ، لا لأنّ جعله معلّق على أصل النذر بل على مخالفته ، فلا يلزم التبعيض في الآثار المترتّبة على النذر بحصول بعضها وهو وجوب الكفّارة وعدم البعض الآخر وهو وجوب الفعل المنذور ، فالنذر نفسه سبب لوجوب الفعل ولو شأنا ومخالفته سبب لوجوب الكفّارة ، ويكفي في كون مخالفته إثما وموجبا للكفّارة ثبوت الوجوب الشأني نظرا إلى تحقّق مقتضي الوجوب الفعلي المصادف لوجود المانع وهو المثل.

تذنيب

قد عرفت في مقدّمات المسألة أنّ فيها قولا بالتفصيل بين العقل فيجوّز اجتماع الأمر والنهي والعرف فلا يجوّز ، كما عن جماعة من متأخّري أصحابنا كالأردبيلي وسلطان العلماء في حاشية المختصر والسيّد صاحب الرياض ، والمحكّي من احتجاجهم على الأوّل ما مرّ في حجّة المجوّزين ، وعلى الثاني : أنّ أهل العرف يفهمون التعارض بين قولنا : « صلّ » وقولنا : « لا تغصب » ونظائره ، ولم نقف من هؤلاء على عبارة إلاّ ما عن السيّد في رسالته المنفردة (١) في هذه المسألة من قوله : « المراد بعدم جواز الاجتماع أو جوازه جواز الحكم بحصول المعصية والامتثال فيما اجتمع فيه الجهتان وكلّ منهما عبارة عن إتيان العباد بما كلّفوا في الأمر من جهته فامتثلوا وبما نهوا عنه فعصوا ، وكلّ من الأمر والنهي موقوف على معلوميّة إرادة السيّد ذلك ولا يمكن العلم به ومعرفته الآن إلاّ بواسطة الألفاظ ودلالتها ،

__________________

(١) لم نعثر عليها.

٦١٨

وهي ليست ذاتيّة بل بتوسّط الأوضاع اللغويّة والعرفيّة ، ومعرفتها الآن غالبا بواسطة العرف العامّ وحكمهم ، ولا شكّ ولا ريب في أنّ المفهوم المتبادر من قوله : « أكرم العالم أو عالما » بعد قوله : « لا تكرم الفاسق أو فاسقا » أو بالعكس من عدا محلّ الاجتماع وهو العالم الفاسق أو الفاسق العالم ، حتّى لو اجتمعا تحيّروا وتوقّفوا فيما كلّفوا أهو الإكرام أو عدمه؟ » انتهى.

وهذا التفصيل كما ترى ممّا لا يعقل له معنى ولا يمكن الجمع بين طرفيه ، حيث إنّ ما عرفت من حجّتهم لا يفي بإثباته ، أمّا بالنسبة إلى العقل فلما عرفت من بطلان أدلّة المجوّزين بما لا مزيد عليه ، وأمّا بالنسبة إلى العرف فلأنّ أهل العرف إنّما يفهمون التعارض من جهة عقولهم الحاكمة بالتنافي بين مقتضى الأمر ومقتضى النهي فيستحيل اجتماعهما في محلّ واحد من غير مدخليّة لحيث العرفيّة في ذلك ، فبطل توهّم حكم العقل بجواز الاجتماع.

وممّا يفصح عن بطلان هذا التفصيل ما عرفت في مقدّمات المسألة من رجوع نزاعهم إلى الصغرى ، وهو كون متعلّق الحكمين في محلّ الاجتماع متّحدا ليمتنع اجتماعهما أو متعدّدا لئلاّ يمتنع الاجتماع ، فمع فرض اتّحاد المتعلّق كيف يحكم العقل بجواز الاجتماع؟وعلى تقدير تعدّده كيف يفهم العرف التعارض؟ هذا مع أنّ فيما قرّرناه من الحجّة على القول المختار كفاية في إبطال كلّ ما عدا هذا القول من تجويز مطلقا أو تفصيل أو غيره حتّى ما سبق نقله من الفرق بين النفسيّين وغيرهما كالغيرين أو الملفّقين ، هذا مضافا إلى ما قدّمناه في مقدّمات المسألة ممّا يقضي به بطلان هذا القول بالخصوص مع إبطال ما أمكن الاحتجاج به عليه.

وينبغي ختم المسألة بإيراد مطالب شريفة :

المطلب الأوّل

في أنّ الأمر المختلف في جواز اجتماعه مع النهي وعدمه له وجودا وعدما لوازم وأحكام كالصحّة والبطلان والسقوط ، والنسبة بين الأوّلين تبائن وبين الطرفين عموم مطلق إذ الصحّة تستلزم السقوط دون العكس ، وبين الأخيرين عموم من وجه فيجتمعان في الفرد المحرّم من التوصّلي ، ويفترق الأوّل في الفرد المخالف من التعبّدي والثاني في الفرد الموافق منه ، وظاهر أنّ القول بجواز الاجتماع يستلزم القول بالصحّة مع المعصية كما هو المصرّح به في كلامهم ، حيث يقولون : إنّ الآتي بمورد الاجتماع مطيع عاص لجهتي الأمر والنهي.

والمناقشة فيه بمنع الملازمة لأنّ جواز الاجتماع بمعنى عدم امتناعه لا يلازم وقوعه ،

٦١٩

ولعلّ بناء المجوّزين بالنظر إلى العقل على عدم وقوعه شرعا كما في كلام ابن عمّنا السيّد أعلى الله مقامه.

تندفع : بأنّ ذلك وإن كان يساعد عليه الاعتبار في بادئ النظر ، التفاتا إلى أنّ الصحّة من لوازم الاجتماع الفعلي ومجرّد الجواز بمعنى الإمكان لا يلازم الفعليّة ، غير أنّ المسألة مفروضة فيما ثبت له المقتضي للصحّة ولم يكن معه جهة لخلافها إلاّ مانعيّة [ النهي ] ومرجع القول بجواز اجتماع الأمر والنهي إلى نفي المانعيّة فوجب الصحّة لوجود المقتضي لها وفقد المانع.

وأمّا على القول المختار فاختلفت كلمتهم ، فمنهم من قال بالبطلان ترجيحا للنهي على الأمر بإخراج مورد الاجتماع عن تحته ، ولعلّه المشهور وإن اختلف معه في السقوط كما عن القاضي وفخر الدين من العامّة ، وعدمه وعليه الأكثر ، ومنهم من حكم أيضا بالبطلان ولكن عملا مع ظهور التوقّف بالنسبة إلى الترجيح كبعض الأعاظم (١).

ومن الأعلام (٢) من يظهر منه التوقّف عملا وترجيحا.

وأمّا القول بالصحّة ترجيحا للأمر فلم نقف على قائل به ولا على نقله.

والحقّ هو القول الأوّل لفهم العرف حكومة دليل الحظر في كافّة الموارد على دليل الإباحة ، فإنّا نرى أهل العرف أنّهم لا يزالون يحكّمون أدلّة المنع على أدلّة الإذن وإن كان بينهما عموم من وجه ، فيخرجون مورد الاجتماع عن عموم الإذن من دون نكير ولا توقّف على وصول البيان الخارجي.

ألا ترى أنّه لو قال السيّد لعبيده : « كلوا ما في البيت » وفيها مال اليتيم وغيره ، ثمّ قال :« لا تأكلوا مال اليتيم » فإنّهم لا يزالون يتحرّزون عن مال اليتيم مطلقا ، وكذا لو قال لعبده :« خط هذا الثوب » ثمّ قال : « لا تستعمل الخيط الفلاني » فإنّه لا يتأمّل في البناء على الاجتناب عن استعمال هذا الخيط ولو في خياطة هذا الثوب ، وكذا لو قال : « لا تستعمل الماء الفلاني أو القدح الفلاني » ثمّ قال : « إسقني » فإنّه لا يزال يسقيه بغير هذا الماء وبغير هذا القدح ، ولا يستعمل هذا الماء ولا هذا القدح لا في السقي ولا في غيره ، وكذا لو قال له : « لا تكتب » ثمّ قال له : « اتّجر » فإنّه يرى الاتّجار بالكتابة محظورا في حقّه ، إلى غير ذلك من الأمثلة العرفيّة البالغة فوق حدّ الإحصاء ، فعامّ الحظر عند أهل العرف كالخاصّ ينزّل منزلته ويعامل معه معاملة النصّ.

__________________

(١) إشارات الاصول : ١١٢.

(٢) القوانين ١ : ١٥٣.

٦٢٠