تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

الخالية عن اللام والتنوين وهي حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء (١) ولا يزيد الهيئة على المادّة إلاّ الطلب الحتميّ التحريمي أو الإيجابي ، والأصل عدم شيء آخر فمن يدّعيه فعليه بالبيان (٢).

وجوابه : يظهر ممّا مرّ ، وحاصله : أنّه عند التحقيق أدلّ على خلاف ما ادّعاه ، فإنّ الماهيّة في إيجادها قد تلاحظ بشرط الدوام ، وقد تلاحظ بشرط الدفعة كما لو اعتبرت مقيّدة بوقت خاصّ ، وقد تلاحظ لا بشرط شيء منهما ، وفي تركها أيضا قد تلاحظ بشرط الدوام وقد تلاحظ بشرط الدفعة وقد تلاحظ لا بشرط شيء منهما ، وما ذكر إنّما يصلح حجّة على من يدّعي وضع النهي لطلب ترك الماهيّة مقيّدا بالدوام على وجه رجع القيد إلى الترك لا إلى الماهيّة ، والمنع عن ذلك مسلّم ولكن لا يلزم من مجرّد ذلك عدم افادته الدوام ، إلاّ إذا ثبت وضعه لطلب ترك الماهيّة مقيّدة بالدوام (٣) أو الدفعة أو لطلبه مقيّدا بالدفعة ، وكل ذلك منفيّ بما قرّره المستدلّ ، ووضعه لطلب ترك الماهيّة المطلقة لا بشرط الإطلاق والتقييد ـ على ما اعترف به ـ يستلزم الدوام بالوجه الّذي قرّرناه بلا شبهة ، غايته عدم كون الدلالة وضعيّة وهي ليست بلازمة بعد اتّحاد المفاد.

ومنها : ما أشار إليه بعض الأعلام أيضا واعتمد وحكى في المفاتيح عن التهذيب والمعارج من أنّ النهي ورد تارة للتكرار كقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى )(٤) وقد ادّعى الإجماع على استعماله فيه في النهاية والمنية ، واخرى لغيره كقول الطبيب : « لا تشرب اللبن » و « لا تأكل اللحم » فيلزم أن يكون حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز.

وجوابه : أنّا لا نمنع استعماله في غير التكرار ولا عن حمله عليه حيثما ثبت قرينة عليه من العرف أو غيره ، ونهي الطبيب مقرون بقرينة عرفيّة على إرادة الترك حال المرض ، ولا يلزم منه كون النهي المجرّد غير مفيد للتكرار.

مع أنّه إنّما يتّجه لو رجع القول بالتكرار إلى دعوى التجوّز في الدفعة حيثما ورد لها ، وهو في حيّز المنع بعد ملاحظة رجوع الدفعة إلى اعتبار التقييد في الماهيّة الغير الملازم للتجوّز.

مع أنّ مرجع الاستعمال فيهما بملاحظة ما قرّرناه إلى استعماله في الكلّي والفرد ومن

__________________

(١) أي لا بشرط شيء من قيدي المرّة والتكرار بمعنى الدفعة والدوام ، أو بمعنى زمان مّا وكلّ زمان من أزمنة العمر. ( منه عفي عنه ).

(٢) ومن يدّعي المطلوب ترك الماهيّة مقيّدة بالدوام مدّع لخلاف الأصل فعليه بإثبات ذلك بالدليل.

(٣) كذا في الأصل.

(٤) الإسراء : ٣٢.

٥٢١

المقرّر في محلّه أولويّة الوضع للكلّي.

ومنها : ما عن المعارج وتمسّك به في التهذيب من : « أنّ النهي يصحّ تقييده بالدوام ونقيضه من غير تكرار ونقض ، فيكون للقدر المشترك ».

وفيه : أنّ الدوام حسبما قرّرناه إنّما يستفاد بملاحظة ورود النهي على الماهيّة مجرّدة ، والتقييد بنقيضه يوجب فوات وصف التجرّد ومعه لا يحصل الدلالة عليه حتّى يلزم النقض ، ومن هنا يعلم الوجه في عدم لزوم التكرار عند التقييد بالدوام ، فإنّ قيد « الدوام » في تلك الصورة ممّا يغني عن استفادته بملاحظة مقدّمة خارجيّة مبنيّة على تجرّد الماهيّة فلم يحصل من اللفظ دلالة عليه أوّلا ليكون استفادته من القيد ثانيا تكرارا.

وأمّا ما أجاب به المصنّف من : « أنّ التجوّز جائز ، والتأكيد واقع في الكلام مستعمل ، فحيث يقيّد بخلاف الدوام يكون ذلك قرينة المجاز ، وحيث يؤتى بما يوافقه يكون تأكيدا ».

ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ المستدلّ لا ينكر جواز التجوّز ووقوع التأكيد في الكلام حتّى يقال في ردّه بجواز الأوّل ووقوع الثاني ، بل إنّما ينفي انفهام التأكيد والنقض عند التقييد بالدوام ونقيضه الّذي هو مناسب لمذهبه من الوضع للقدر المشترك ، فدفع كلامه بما ذكر من الجواز والوقوع ثمّ إثبات القرينة على لزومهما في المقام ليس على ما ينبغي.

ومن هنا تبيّن فساد ما ذكره في الزبدة عند دفع الحجّة المذكورة من : « أنّ التصريح بما علم ضمنا شائع ».

ومنها : ما نقله المصنّف وغيره من أنّه : « لو كان للدوام لما انفكّ عنه وقد انفكّ عنه فإنّ الحائض نهيت عن الصلاة والصوم ولا دوام ».

وفيه : أنّ التخلّف عن الدلالات اللفظيّة جائز ولا سيّما إذا كانت الدلالة من « مقتضيات الإطلاق والتجرّد عن القيود الخارجة كما في المقام ، وحالة الحيض قرينة مقام تكشف عن عدم ورود مدلول الصيغة على الماهيّة المطلقة ، ولا محذور فيه وإلاّ انسدّ باب التقييد في المطلقات ، مع أنّه على فرض كون الدلالة على الدوام وضعيّة يتّجه المنع إلى الملازمة أيضا ، فإنّ التخلّف عن مقتضى الوضع بعد قيام القرينة الصارفة ممّا لا ضير فيه وإلاّ انسدّ باب المجازات كما لا يخفى.

ومنها : ما حكاه في المفاتيح من : « أنّ النهي لو كان موضوعا للدوام للزم صحّة السلب لو اريد منه أو من الصيغ الموضوعة له نحو : « لا تفعل » غير الدوام ، والتالي باطل والمقدّم

٥٢٢

مثله ، والملازمة واضحة ».

وفيه : أنّا لا نقول بوضعه له وعلى القول به نمنع بطلان التالي ، بل هو لازم للقول بالمجازيّة في غير الدوام ، مع توجّه المنع إلى الملازمة أيضا حيث لا يعقل فرض السلب في الأفعال عند تشخيص أوضاعها على ما هو المقرّر في محلّه ، خصوصا لو كان الكلام في وضع الصيغة المجرّدة.

ومنها : ما حكاه فيه أيضا من : « أنّه لو كان موضوعا للدوام لكان قوله : « لا تضرب زيدا غدا » مجازا ، والتالي باطل والمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة ».

وأمّا بطلان التالي فلانتفاء العلاقة حينئذ [ بينه و ] بين المعنى الحقيقي.

وفيه أيضا : أنّا لا نقول بالوضع وعليه نلتزم المجازيّة في المثال المذكور ، ودعوى بطلانها لانتفاء العلاقة ، يدفعها : أنّ العلاقة في المجازات ما يكشف عنها الصحّة العرفيّة ولا خلاف في صحّة الاستعمال في ذلك المثال.

غاية الأمر كونها عند أهل القول بالوضع للدوام مستندة إلى العلاقة وإن لم تكن معلومة ، مع المنع عن انتفائها أيضا على فرض إنحصارها في الأنواع المعهودة لجواز اعتبارها كالعلاقة بين الكلّي والفرد ، نظرا إلى أنّ ترك الضرب في الغد فرد من أفراد ترك الضرب دائما كما لا يخفى.

ومنها : ما حكاه فيه أيضا من : أنّه لو كان موضوعا ودالاّ على طلب الترك في جميع الجزئيّات كما لو قال : « لا تفعل في شيء من الأوقات » لما صحّ قوله : « لا تفعل في هذه الساعة » والتالي باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّ المثال المذكور يكون على التقدير المفروض من قبيل تخصيص العامّ إلى أقلّ من النصف وهو غير جائز.

وأمّا بطلان التالي فواضح.

وفيه : أنّا لا نقول بالوضع له ، وحينئذ فغاية ما يلزم في الفرض المذكور إنّما تقييد المطلق بأقلّ أفراده وهو جائز ، مع توجّه المنع إلى الملازمة حتّى على القول بالوضع لما هو المقرّر في محلّه المتّفق عليه من أنّ المطلق والمقيّد إذا كانا منفيّين يجب العمل بهما من دون تصرّف في أحدهما ، فلا داعي في المثال المفروض إلى حمل قوله : لا تفعل ، على معنى قوله : « لا تفعل في هذه الساعة » ليلزم التخصيص إلى الأقلّ أو التقييد به.

٥٢٣

فائدة :

لمّا أثبتنا كون النهي للدوام والتكرار ، وجب القول بأنّه للفور* (١) ؛ لأنّ الدوام يستلزمه.

___________________________________

ومنها : ما حكاه فيه أيضا من : أنّ نحو « لا تفعل » مركّب من حرف وفعل ولا شكّ أنّ شيئا منهما منفردا ليس ممّا يفيد العموم وضعا ، فالأصل ذلك بعد التركيب ، والأصل عدم إفادة التركيب الزيادة على ما هو من مقتضياته ولوازمه عقلا ومن الظاهر أنّ الدوام ليس منها.

وفيه : منع واضح ، فإنّ الدوام على ما قرّرناه من مقتضيات التركيب ولوازمه عقلا وإنكاره مكابرة واضحة.

(١) * وحيث إنّ التكليف إيجابيّا كان أو سلبيّا يختصّ بوقت إمكان الفعل وما عداه خارج عن مورد التكليف ـ فعلا كان أو تركا ـ فالفوريّة الملازمة للدوام يراد بها ترك الفعل عن أوّل أزمنة إمكانه ، وذلك يختلف باختلاف الأفعال عند تقضّي زمان النطق في الافتقار إلى المقدّمات وعدمه ، فما أمكن وقوعه في ثاني زمان النطق باجتماع مقدّمات وقوعه يجب الانتهاء عنه في ذلك الآن إلى آخر ما يقتضيه الدوام ، وما توقّف إمكان وقوعه على مضيّ مدّة يجتمع فيها شرائط الوقوع يجب الانتهاء عنه عند تقضّي تلك المدّة من غير فرق بين طولها أو قصرها ، وما حصل من الانتهاء في أثنائها عن حال النطق فهو انتهاء قهريّ لا يترتّب عليه حكم من المدح والثواب ولا يعدّ من امتثال النهي في شيء لخروجه عن مورده ، ولا فرق في كون الفور من لوازم الدوام ـ على القول به ـ بين كون الدوام من مقتضيات النهي التزاما عقليّا كما رجّحناه أو من مقتضياته وضعا كما هو ظاهر الجماعة ، والوجه في لزومه له أنّه لو أتى بالفعل المنهيّ عنه عند أوّل أزمنة إمكانه كان مناقضا لدوام تركه ، كما أنّ الإتيان به في سائر أزمنة إمكانه مناقض له ، فيكون عصيانا ومخالفة للنهي.

ومن الأفاضل من أورد على إطلاق العبارة الحاكمة بلزوم الفور للدوام : « بأنّ ذلك لا يتمّ لو قلنا بدلالة صيغة النهي على جواز التراخي أو وجوبه على ما قيل به في الأمر في قول شاذّ ، إذ لا منافاة بينه وبين دلالتها على الدوام ، فإنّها إنّما تفيد الدوام على حسب الطلب الحاصل في المقام ، فإذا كان الطلب على سبيل التراخي جوازا أو وجوبا كان الدوام الملحوظ فيه أيضا كذلك » (١).

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٤٠.

٥٢٤

ومن نفى كونه للتكرار ، نفى الفور أيضا* (١). والوجه في ذلك واضح.

___________________________________

وهذا جيّد لو ثبت القول بالتراخي على أحد الوجهين هنا ، ولكنّه لم نقف على قائل به ولا حكاه أحد ، وكان إطلاق المصنّف وغيره في الحكم بلزوم الفور للدوام مبنيّ على انتفاء القول به فيكون الإيراد المذكور في غير محلّه.

(١) * ويشكل ذلك : بأنّا نرى أنّ قوله للمتشاغل بضرب زيد : « لا تضرب زيدا » لا يفيد التكرار مع إفادته الفور جزما.

إلاّ أن يوجّه : بأنّ المراد من نفي الفوريّة على القول بعدم التكرار نفي لزومها لا نفي إمكانها ، ولكن يشكل ذلك أيضا بعدم ثبوت تلك الدعوى على سبيل الكلّيّة كما يقتضيه ظاهر العبارة ، بل الّذي يظهر منهم وقوع الخلاف في ذلك عند أهل القول بعدم التكرار.

ألا ترى أنّ العلاّمة في التهذيب مع قوله بعدم التكرار صرّح بعدم دلالته على الفور ، ومثله ما في شرح المنهاج حيث قال : « وإذا لم يكن مفيدا للتكرار لم يكن مفيدا للفور كما عرفت في الأمر ، لجواز أن يقال : لا تفعل في الحال أو بعد غد ».

خلافا لما حكي عن الشيخ والسيّد في العدّة والذريعة من التصريح بالفور مع ذهابهما إلى عدم الدلالة على التكرار.

فعن الشيخ أنّه قال : « إنّما قلنا إنّه يقتضي الفور دون التراخي لما دلّلنا عليه من أنّ الأمر يقتضي الفور والأدلّة سواء ، وأيضا فلو لم يقتض ذلك في الثاني لوجب أن يقترن به البيان فمتى لم يقترن به البيان دلّ على أنّه قبيح في الثاني ».

وعن السيّد نفي إمكان التراخي في النهي حيث قال : « القول بالفور ممكن فيه كما بيّنّاه في الأمر ، غير أنّ التخيير في الأوقات المستقبلة غير ممكن فيه كما أمكن في الأمر ، لأنّ الأمر إنّما يتناول على سبيل التخيير كلّ فعل مستقبل على البدل ، للتساوي في الصفة الزائدة على الحسن ، والنهي يقتضي القبح فلو تساوت الأفعال في القبح لوجب العدول عن الجميع لا على جهة التخيير » انتهى (١).

فظهر أنّ دعوى الملازمة بين القول بعدم التكرار ونفي لزوم الفور ممّا لا وجه له.

بقي في المقام امور ينبغي التنبيه عليها :

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٧٦.

٥٢٥

الأوّل : هل التكرار على القول به مطلوب واحد حصل عن اعتبار التروك بعضها مقيّدا ببعض بحيث لو أخلّ ببعضها لم يكن ممتثلا أصلا وترتّب عليه العقاب كما كان يترتّب على الإخلال بالجميع ، أو مطلوبات متعدّدة على حسب تعدّد الأمكنة والأوقات بحيث لو حصل الإخلال ببعضها أحيانا لم يكن قادحا في الامتثال ببعض آخر سابق عليه أو لاحق به؟وجهان ، من أنّ الناهي لاحظ التروك بأجمعها ونزّل المجموع منها منزلة الواحد فطلبه ، ومن أنّه لا حظ كلّ ترك على حدة واعتبره منفردا مع قطع النظر عن صاحبه فطلب الجميع بهذا الاعتبار.

فقضيّة ما ذكر من الوجهين أن لا يكون في اللفظ دلالة على أحد المعنيين ما لم ينضمّ إليه خارج ، هذا على القول بدخول التكرار في مدلول النهي باعتبار الوضع ، وأمّا على المختار فالمتّجه هو الوجه الثاني ، لأنّ المطلوب حينئذ إنّما هو ترك الماهيّة المطلقة لا بشرط شيء من الامور الوجوديّة والعدميّة ، وهو كلّي أفراده التروك المتميّزة بخصوصيّات الأمكنة والأوقات ، كما أنّ الماهيّة كلّي أفراده الإيقاعات المتميّزة بخصوصيّاتهما ، وكما أنّ كلّ إيقاع ما يصدق عليه إيجاد الماهية وإدخالها في الوجود فيترتّب عليه العقاب بهذا الاعتبار ، فكذلك كلّ امتناع فإنّه يصدق عليه الترك المطلق بالامتناع عمّا يتحقّق في ضمنه الماهيّة المطلقة المطلوب تركها ، فيترتّب عليه الثواب وإن تعقبه نقيض الترك في الأزمنة المتأخّرة.

وممّا يرشد إلى ذلك صدق الامتثال عرفا وفي نظر العقلاء بما يتحقّق من الترك في المحرمات كائنا ما كان من دون أن يكون مراعى على وصول آخر أزمنة العمر مع انتهاء الترك إليه.

الثاني : إذا دار الأمر في النهي بين حمله على التحريم مع عدم الدوام أو على الكراهة مع الدوام فالمتعيّن على المختار هو الأوّل ، لأولويّة التقييد بالقياس إلى المجاز ، وأمّا على غيره وهو الوضع للتكرار فقد يقال : بلزوم الوقف لدوران الأمر حينئذ بين مجازين لا ترجيح بينهما ، إلاّ أن يقال : بكون الكراهة في النهي أشيع من غير الدوام فيكون الثاني أولى بالترجيح.

الثالث : إذا علم بعدم إرادة الدوام من نهي مخصوص ودار الأمر في حمله بين ما هو أقرب إلى الدوام وغيره فالمرجع فيه على المختار ـ بناء على التحقيق ـ هو الاصول العمليّة من براءة أو اشتغال ، والأوّل أقرب لرجوع الشبهة إلى الشكّ في التكليف كما لا يخفى ، إلاّ على احتمال ارتباط التروك بعضها ببعض في تعلّق الطلب بها ، وأمّا على القول بالوضع للدوام فقد يقال : بلزوم حمله على الأقرب تعليلا بما تقرّر عندهم من وجوب

٥٢٦

أصل

الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شيء واحد* (١).

___________________________________

الحمل على أقرب المجازات عند تعذّر الحقيقة ، وهو واضح الضعف ، بل لا مناص من الاصول حتّى على هذا القول لمكان الإجمال المحقّق لموضوع الأصل.

(١) * ربّما يستشمّ عن سياق المصنّف ومن تبعه في إيراد المسألة في باب النواهي عقيب الأوامر ـ مضافا إلى استناد غير واحد من المانعين عن الاجتماع إلى فهم العرف المقرّر : بأنّ أهل العرف يحكمون بعدم جواز الاجتماع وإن كان العقل لا يأباه كما عن سلطان العلماء وصاحب الرياض ـ كون المسألة لغويّة راجعا البحث فيها إلى دلالة اللفظ.

وربّما يوهمه احتجاج المجوّزين بما يأتي من أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة الثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه في ذلك المكان ، فأنّا نقطع بأنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.

ولكنّه خطأ صرف ينشأ عن عدم التفرقة بين جهات البحث في المسائل المختلف فيها ، فإنّ البحث هنا راجع إلى بعض أحكام الوجوب والحرمة اللذين هما من قبيل المدلول من غير مدخليّة لخصوصيّة دليل فيهما ولا استفادتهما من اللفظ ، فيكون المسألة من المبادئ الأحكاميّة المندرجة في المسائل العقليّة الصرفة ، الّتي يراد بالجواز وعدمه فيها الإمكان والامتناع العقليّين دون الجواز وعدمه اللغويّين اللذين يراد بهما الغلطيّة وخلافها ، ولا ينافيه التعبير في أكثر العناوين ـ كما في العبارة ـ بالأمر والنهي ، بناء على أنّ المراد بهما ما هو من مقولة المعاني كما هو الأصل فيهما لا الألفاظ الّتي هي المراد منهما في أكثر مباحث الأوامر والنواهي.

أمّا على المختار فواضح ، وأمّا على غيره من تفسيرهما في مقام التحديد بما هو من مقولة الألفاظ فلأنّه مسامحة في التعبير أو تجوّز من باب التغليب ، أو اتّباع لأهل العربيّة ، كيف ولا أظنّ أحدا ينكر دلالة اللفظ في قوله : « صلّ ولا تغصب » بالنسبة إلى مورد الاجتماع ولو التزاما ، فإنّ الدلالة حاصلة باعتبار الظهور العرفي ، وإنّما الكلام في إمكان اجتماع المدلولين فيه ليجب إبقاء اللفظ على دلالته وامتناعه ليوجب تطرّق التأويل إليه وصرفه عمّا هو ظاهر فيه ، أو غيره من الوجوه المختلف فيها في مسألة التعادل والترجيح.

ولا شهادة في إيراد المسألة في سياق النواهي كما عرفت عن المصنّف وغيره ، ولا في

٥٢٧

تمسّك من عرفت بالفهم العرفي ، ولا في الاحتجاج بالمثال المشار إليه بما يخالف ذلك.

أمّا الأوّل : فلا بتنائه على عدم وضع ما يبحث فيه عن المبادئ الأحكاميّة كما في أكثر الكتب الاصوليّة مع مراعاة المناسبة فيما بين المسائل في الجملة ، كما يرشد إليه أيضا إيراد مسألة نسخ الوجوب وغيره في مباحث الأمر.

وأمّا الثاني : فلأنّه استكشاف عن بناء العقلاء الكاشف عن حكم القوّة العاقلة من غير ابتناء له على قيام الدلالة من اللفظ وضعا أو عرفا.

وأمّا الثالث : فلعين ما ذكر ، فإنّ عدم التنافي بين المدلولين شيء لا يدركه إلاّ العقل كالتنافي بينهما ، وإذا أراد أحد المتخاصمين إلزام صاحبه على خلاف ما ادّعاه فإنّما يلزمه بما يكشف عن ذلك ممّا يرتّبه العرف والعقلاء من الآثار على ما يفهمون في مخاطباتهم ومعاملاتهم.

ومن الأعلام (١) من صرّح بكونها من المسائل الكلاميّة ووافقه على ذلك غيره أيضا.

وأورد عليه : بأنّه ناش عن توهّم أنّ كلّ مسألة عقليّة يجب أن يبحث عنها في علم الكلام وليس الأمر كذلك ، فإنّه غفلة عن تعريف علم الكلام بأنّه العلم الباحث عن أحوال المبدأ والمعاد ، والباحث عن الصانع وما يصحّ عليه وما لا يصحّ عليه ، وجواز الاجتماع وعدمه ليس ممّا يتعلّق بالمبدأ والمعاد ، وليس ممّا يصحّ على الصانع وما لا يصحّ.

نعم لو رجع النزاع في المسألة إلى جواز الأمر والنهي معا وقبحه كما في مسألة جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه لكان في عدّها من المسائل الكلاميّة وجه.

وفيه : أنّ من جملة ما يرجع إلى أحوال المبدأ صحّة التكليف عليه تعالى بل وجوبه ، [ ومرجع جواز الاجتماع وعدمه إلى صحّة التكليف بالإيجاب والتحريم في شيء واحد ذي جهتين وعدمه بشبهة كونه تكليفا بما لا يطاق أو جمعا بين المتضادّين أو غير ذلك ممّا لا يصحّ عليه تعالى ](٢) ولا ريب أنّ الوجوب والحرمة من جزئيّات التكليف الّذي هو من جزئيّات موضوع العلم ، فيكون البحث عن إمكان اجتماعهما وامتناعه بحثا عن حال الموضوع بالواسطة فيصحّ عدّه من المسائل الكلاميّة ، فلا ينحصر مباحث الكلام فيما يرجع إلى مسألة القبح وضدّه ، وعلى ما ذكرناه يبتني توهّم ما ذكر فله وجه.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٠.

(٢) أخذناه عن حاشيته على القوانين ( ص : ٩٩ ) وأدرجناه في المتن تتميما للمرام وإيضاحا للكلام.

٥٢٨

على أنّه لو سلّم الانحصار أمكن دعوى كون ما نحن فيه من هذا القبيل ، كما ربّما يكشف ما قد يوجد في كلام بعض القائلين بعدم جواز الاجتماع من الاحتجاج بلزوم تكليف ما لا يطاق وإن كان فيه مناقشة ستعرفها.

ويمكن عدّها من المسائل الاصوليّة بدعوى رجوع البحث فيها إلى حكم العقل بإمكان الاجتماع وامتناعه الّذي هو أحد أنواع موضوع هذا العلم نظير سائر الاستلزامات العقليّة.

ولا ينافي ذلك ما قرّرناه من جواز عدّها من المسائل العقليّة من باب المبادئ الأحكاميّة ، ولا عدّها من المسائل الكلاميّة الواردة في الفنّ من الباب المذكور ، لأنّ هذه اعتبارات يلحقها من جهة ما في موضوعها من اجتماع جهات عديدة.

ومن الجائز أن يجتمع في شيء جهات يصحّ عدّ البحث عنه في كلّ جهة عن مسألة ، ولا ريب أنّ الوجوب والحرمة من جهة أنّهما من الأحكام يصحّ عدّها من المبادئ الأحكاميّة ، ومن جهة أنّهما من جزئيّات التكليف الّذي هو من موضوعات الكلام يصحّ عدّ البحث فيهما من المسائل الكلاميّة ، ومن جهة أنّ البحث فيهما راجع إلى حكم العقل يصحّ عدّها مسألة اصوليّة.

نعم يرد على الأخير : أنّه إن سلّمنا هذا الاعتبار فهو لا يوجب كونها مسألة اصوليّة ، لأنّه بحث عن حال ذات العقل من حيث إنّه يحكم بالإمكان أو يحكم بالامتناع ، لا أنّه بحث عن حال الحكم العقلي وهذا بحث في المسألة الاصوليّة ، لأنّ الدليل هو الحكم العقلي لا ذات العقل.

نعم على القول بكفاية عدّ المسألة من مسائل الفنّ صدق تعريفه عليها وإن لم يكن البحث فيها راجعا إلى موضوعه تمّ عدّها من المسائل ، لصدق تعريفه : « بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » عليها كما ستعرفه.

فإن قلت : لا يصحّ عدّها عن شيء ممّا ذكر لعدم إندراجها في ضابط المبادئ الأحكاميّة من كونها ممّا يتفرّع عليه شيء من مسائل الفنّ ، ولا في ضابط المسائل الاصوليّة من كونها ممّا يتفرّع عليه مسألة من المسائل الفرعيّة بكونها ممّا يؤخذ جزءا في استدلالات الفقه.

قلنا : بمنع ذلك بدعوى اندراجها في كلّ من الضابطين.

أمّا الأوّل : فلرجوع البحث فيها إلى إحراز صغرى التعارض المبحوث عنه في مسألة التعادل والترجيح ونفيه ، فعلى القول بجواز الاجتماع يتّجه وجوب إعمالهما والأخذ

٥٢٩

بموجبهما من غير تصرّف في أحد الخطابين.

وعلى القول بامتناعه يرجع البحث إلى النظر في أولويّة الجمع وعدمها ، وعلى تقدير العدم يجري فيه ما يجري فيما لا يمكن الجمع بينهما من المتعارضين من أقوالهم الثلاث المعروفة من البناء على التخيير أو التوقّف أو الرجوع إلى الأصل بعد التساقط ، فكلّ يرجع إلى مذهبه.

وهذا نظير بحثهم في المسألة الآتية من اقتضاء النهي فساد المنهيّ عنه أو عدمه مع اتّفاقهم في بحث المطلق والمقيّد على وجوب حمل المطلق على المقيّد إذا كانا مثبتين أو مختلفين ، نظرا إلى ابتناء قاعدة الحمل المتّفق عليها على التنافي بين مقتضى المطلق ومدلول المقيّد فلا تجري إلاّ في موضع التنافي ، والبحث المذكور واقع لإحراز التنافي بين مفاد النهي ومفاد خطاب متعلّقه من عبادة أو معاملة.

فمن قال بالفساد الناشئ عن التنافي أوجب تقييد المطلق عملا بالقاعدة المتّفق عليها ، ومن قال بعدمه أوجب إعمالهما معا ، فلا منافاة بين هذا الخلاف وذاك الوفاق كما توهّم.

وممّا ذكرنا ينقدح بطلان الاعتراض الّذي أورده بعض من لا تدبّر له من أهل العصر على بعض الأعلام في ذهابه هنا إلى جواز اجتماع الأمر والنهي مع مصيره في بحث التعادل والترجيح إلى منع أولويّة الجمع من الطرح فيما يمكن فيه ذلك ، ردّا على ما اشتهر بينهم من أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح على الإطلاق ، كما صرّح به في غير ذلك الموضع أيضا ، فإنّ مبنى كلامه هنا على إنكار التنافي بين الأمر والنهي المجتمعين في محلّ واحد ذي جهتين ، وثمّة على فرض التعارض الّذي هو عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين ، بل لا يرد هذا الاعتراض على من يستحيل الاجتماع هنا وينكر أولويّة الجمع ثمّة ، لأنّه لا يقول حينئذ بوجوب إعمالهما معا لينافي استحالة اجتماعهما ، بل يبني على واحد من الأقوال الثلاث المشار إليها لوقوعها في فرض التعارض بالمعنى المذكور أيضا.

ويندفع به أيضا ما قد يتوهّم من أنّ القول بجواز الاجتماع هنا وعدم دلالة النهي على الفساد في المسألة الآتية منافيان ، لما ذهبوا إليه في بحث التعادل من التوقّف في العامّين من وجه كما عليه جمع ، أو التخيير كما عليه آخرون ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل كما عليه ثالث ، ولما ذهبوا إليه في العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر من وجوب بناء العامّ على الخاصّ ، ولم يذهب أحد في الأوّل بالعمل بهما معا كما هو لازم قولهم بجواز الاجتماع ، ولا في الثاني بإعمال كلّ من العامّ والخاصّ كما هو لازم القول بعدم دلالة النهي على

٥٣٠

ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا. ووافقنا عليه كثير ممّن خالفنا* (١).

_______________________________

الفساد ، وأيضا ذكروا في باب التراجيح وجوب المراجعة في العامّين من وجه إلى المرجّحات الداخليّة أو الخارجيّة أوّلا ثمّ التوقّف أو التخيير أو التساقط بعد العجز عن الترجيح ، وفي مسألة العامّ والخاصّ إذا كان الخاصّ موهونا ببعض الموهنات أنّه يقدّم العامّ عليه ولم يصرّحوا بما يوافق هذا الكلام أو يناسبه هنا.

وجه الاندفاع : أنّ هذه المقالة كلّها من المسألتين المشار إليهما في كلّ من الوجهين مبنيّة على فرض التنافي وعدم البناء عليها هنا ، وفي بحث النهي مبنيّ على إنكار التنافي ، فالسالبة حينئذ بانتفاء الموضوع على القول بالجواز وعدم الدلالة على الفساد ، فلذا ترى أنّ القائل بامتناع الاجتماع هنا يراجع المرجّحات الداخليّة أو الخارجيّة فيقدّم النهي على الأمر أخذا بموجب المرجّحات الّتي يأتي الإشارة إليها في ذيل المسألة.

وأمّا الثاني : فلأنّ تصحيح المأمور به على القول بالجواز مع التزام المعصية المترتّبة على جهة النهي وإفساده مع المعصية ، أو تصحيحه مع نفي المعصية على القول بالامتناع القاضي بارتكاب التخصيص في الأمر أو النهي تمسّكا بالقاعدة الاصوليّة ـ حسبما هو المختار في تلك المسألة ـ ممّا يصلح مسألة فرعيّة ، بناء على كون الصحّة والفساد المبحوث عنهما في الفقه من المسائل الفرعيّة المقصودة بالأصالة من وضع فنّ الفقه ، كما يفصح عن ذلك ما يكثر عن الفقهاء من أخذ المسألة على كلّ من قوليها وسطا في استدلالات المسائل الفقهيّة كما لا يخفى على الخبير البصير.

(١) * كما عليه ابن الحاجب في المختصر وشارحه في البيان ، حكاه في المنية عن أصحابنا والجبائي وأحمد بن حنبل ، ومرويّ مالك والقاضي أبي بكر من الأشاعرة وفخر الدين ، وعليه الفاضل التوني من أصحابنا وغير واحد من متأخّريهم.

بل حكي القول به عن أكثر أصحابنا ، وعن العلاّمة في المنتهى ، والسيّد في الذريعة ، وصاحب المدارك ، وإحقاق الحقّ وتجريد الاصول ، مع دعوى الإجماع عليه كنفي الخلاف فيه من المصنّف ، بل عن بعضهم دعوى الضرورة فيه.

ثمّ عن العامّة من أهل هذا القول بعد الاتّفاق على عدم صحّة العبادة المنهيّ عنها كالصلاة في الدار المغصوبة الخلاف في سقوط الفرض به.

وعن القاضي وفخر الدين « نعم » وعن الباقين « لا ».

٥٣١

وأجازه قوم* (١). وينبغي تحرير محلّ النزاع أوّلا فنقول :

الوحدة تكون بالجنس وبالشخص. فالأوّل يجوز ذلك فيه ، بأن يؤمر بفرد وينهى عن فرد ، كالسجود لله تعالى ، وللشمس ، والقمر. وربّما منعه مانع ، لكنه شديد الضعف ، شاذّ. والثاني إمّا أن يتّحد فيه الجهة ، أو تعدّد. فان اتّحدت ، بأن يكون الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيّا عنه ؛ فذلك مستحيل قطعا. وقد يجيزه بعض من جوّز تكليف المحال ـ قبّحهم الله ـ ومنعه بعض المجيزين لذلك ؛ نظرا إلى هذا ليس تكليفا بالمحال ، بل هو محال في نفسه ؛ لأنّ معناه الحكم بأنّ الفعل يجوز تركه ، ولا يجوز. وإن تعدّدت الجهة ، بأن كان للفعل جهتان ، يتوجّه إليه الأمر من إحداهما ، والنهي من الأخرى ، فهو محلّ البحث ؛ وذلك كالصّلاة في الدار المغصوبة ، يؤمر بها من جهة كونها صلاة ، وينهى عنها من حيث كونها غصبا ؛ فمن أحال اجتماعهما أبطلها ، ومن أجازه صحّحها.

_______________________________

(١) * تنكير القوم إشعار بندرة القائل به ، غير أنّ بعض الأعلام عزاه إلى أكثر الأشاعرة ، واستظهره عن الكليني هنا في كتاب الطلاق (١) حيث نقل فيه كلام الفضل بن شاذان ولم يطعن عليه ، وإلى جماعة من متأخّرينا كالمحقّق الأردبيلي وسلطان العلماء والمحقّق الخوانساري وولده المحقّق والمدقّق الشيرواني والفاضل الكاشاني والفضل بن شاذان.

واستظهره عن السيّد في الذريعة ، وعليه السيّد صدر الدين في شرحه لوافية التوني على خلاف ما ذهب إليه ما تنها ، وقد يحكى في المسألة قول بالتفصيل فيما بين العقل فلا يمتنع والعرف فيمتنع ، وقوله الآخر بالتفصيل عن جماعة من متأخّري المتأخرين فيما بين النفسيّين فأحالوه والغيريّين والملفّقين فأجازوه ؛ وتحقيق القول في المسألة يستدعي رسم مقدّمات :

المقدّمة الاولى

مورد الأمر والنّهي ـ وهو العنوان الّذي يرد به الخطاب أصالة ـ إمّا أن يكون متّحدا على معنى تعلّقهما بعنوان واحد ، أو متعدّدا على معنى تعلّقهما بعنوانين.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٩٤.

٥٣٢

أمّا الأوّل : فالوحدة فيه قد تكون شخصيّة ، وقد تكون نوعيّة بالمعنى الأعمّ من الجنسيّة ، وعلى الوحدة الشخصيّة فإمّا أن يكون الجهة في تعلّق الحكمين متّحدة أو متعدّدة مع كون الجهتين وصفين لازمين ، كالأمر بإكرام زيد لنطقه والنهي عن إكرامه لضحكه بالقوّة ، أو عرضين مفارقين كالأمر بإكرام زيد من جهة أنّه صائم والنهي عن إكرامه من جهة أنّه فاسق ، أو إحداهما وصفا لازما والاخرى عرضا مفارقا كالأمر بإكرام زيد لشجاعته والنهي عن إكرامه لفسقه ، أو الأمر بإكرامه لعدالته والنهي عن إكرامه لشجاعته.

وعلى الوحدة النوعيّة فالجهة في تعلّقهما أيضا إمّا متّحدة أو متعدّدة من باب الوصف اللازم ، أو العرض المفارق فيهما ، أو في إحداهما ، وهذه ثمانية صور جارية ، أربع منها في الواحد بالشخص واخرى في الواحد بالنوع.

وأمّا الثاني : فالنسبة بين العنوانين إمّا التساوي ـ على معنى صدق كلّ منهما على ما صدق عليه الآخر لكونهما متغايرين ذهنا متّحدين خارجا كالأمر بالجهر في الصلاة والنهي عن إسماع الصوت فيها ولو تقديرا ، أو صدق كلّ منهما عند صدق الآخر لكونهما متغايرين ذهنا وخارجا كما في العلّة والمعلول ومعلولي العلّة المشتركة ـ أو التباين مع كونهما متعاندين كالصلاة والزنا ، أو متخالفين كالصلاة والنظر إلى الأجنبيّة ، أو عموم وخصوص مطلق مع تعلّق الأمر بالعامّ والنهي بالخاصّ كالأمر بالصلاة والنهي عنها في الدار المغصوبة ، أو بالعكس كالنهي عن الصلاة والأمر بها في الدار ، أو عموم من وجه كالصلاة والغصب ، وهذه أيضا أربعة إذا انضمّت إلى الثمانية المذكورة يرتقي الصور إلى اثني عشر ، ليس من محلّ الخلاف هنا على ما اتّفقت عليه كلمتهم تصريحا وظهورا عنوانا ومثالا ودليلا إلاّ بعض منها ، وتفصيل القول في ذلك تمييزا لموضع الخلاف عن غيره يستدعي التعرّض لذكر كلّ صورة ببيان ما هو الحال فيها.

فالصورة الاولى : ما كان متعلّق الأمر والنهي شيئا واحدا شخصيّا لجهة واحدة كما لو قال : « أكرم زيدا العالم » و « لا تكرم زيدا العالم » وفي حكمه ما لو تعلّقا به لذاته كقوله : « أكرم زيدا » و « لا تكرم زيدا » ولك أن تعتبر الجهة الواحدة ما يعمّ الذاتي والعرضي ، وكيف كان فلا إشكال في امتناع اجتماعهما فيه كما صرّح به غير واحد ، لاستحالة اتّصاف الواحد بالشخص بالحسن والقبح من جهة واحدة ، مع امتناع تعلّق الإرادة والكراهة به فيكون تكليفا محالا ، مع كونه تكليفا بالمحال أيضا لتعدّد الجمع بينهما في الامتثال ، فإنّ مبناه

٥٣٣

على استحالة الخروج عن العهدة ، فلا يفرق فيها بين كونها ناشئة عن امتناع المتعلّق أو اجتماع تكليفين متضادّين في محلّ واحد إذا ناقض جنس كلّ لفصل الآخر كالمقام ، فلا يتأتّى امتثالهما إلاّ بالجمع بين الفعل والترك وهو مستحيل ، بل لم نقف على من جوّزه إلاّ في قول شاذّ عن بعض الأشاعرة لتجوّزه التكليف بالمحال عقلا وشرعا.

وأمّا القائلون منهم بجوازه عقلا لا شرعا فلا يجوّزونه أيضا تمسّكا بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(١) كما في بيان المختصر.

وقد يقال : بأنّهم أيضا مطبقون على عدم الجواز هنا وإن كان يجوّزون التكليف بالمحال ، لكونهم إنّما يجوّزونه في كلّ موضع يقول العدليّة بجواز التكليف فيه بدعوى رجوع نزاعهم إلى الصغرى بعد اتّفاق الفريقين على التكليف فيه ، كالأمر بالصلاة ونحوها ، فإنّهما بعد اتّفاقهما عليه اختلفوا في كونه تكليفا بالمحال وعدمه ، فالأشاعرة على الأوّل لزعمهم كون العباد مجبورين في الأفعال ، والعدليّة على الثاني لقولهم بكون العبد فاعلا مختارا ، وهو كما ترى ليس على ما ينبغي وكأنّه ناش عن عدم الخبرة بطريقة الأشاعرة ، فإنّهم يجوّزون أصل التكليف بالمحال وإن كانت الاستحالة ناشئة عن غير جهة الجبر ، وقد سبق في بحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ما يرشد إلى ذلك.

والصورة الثانية : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد شخصيّ لجهتين مندرجتين في الأوصاف اللازمة ، كما لو قال : « أكرم زيد الناطق » و « لا تكرم زيدا الضاحك » أو قال : « أكرم زيدا لسرور أبيه » و « لا تكرمه لإهانة عدوّه » ولم نقف على من أحاله إلاّ الفاضل النراقي في إلحاقه له بالواحد الشخصي من جهة واحدة ، وكأنّه لزعم تعذّر الامتثال من جهة عدم اتّفاق فعله امتثالا للأمر إلاّ ويصدق فعله للجهة المحرّمة ، ولا اتّفاق تركه امتثالا للنهي إلاّ ويصدق عليه الترك للجهة الواجبة ، فيستحيل الجمع بينهما في الامتثال.

وفيه : أنّه لا يستقيم إلاّ إذا أخذت كلّ من الجهتين علّة للحكم المناسب لها خارجة عن موضوعه كما لا يخفى على المتدبّر ، لأنّ الأحكام تدور على عناوينها المقرّرة وتتعدّد بتعدّدها ، والعنوان ما لا حظه المولى مصلحة أو مفسدة فيه فعلّق الحكم عليه ، ولا يستحيل عند العقل كون « إكرام زيد » من جهة إضافته إلى إحدى الجهتين عنوانا راجحا في نظره لما فيه من المصلحة ومن حيث إضافته إلى الجهة الاخرى عنوانا آخر مرجوحا في نظره لما

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

٥٣٤

فيه من المفسدة ، غايته كونهما فردين متشاركين في النوع وهو لا يوجب محذورا ، ولا استحالة الخروج عن عهدة التكليف بهما بالفعل والترك ، لكون فعله بقصد الحيثيّة الاولى ما يصدق عليه العنوان المأمور به خاصّة ، كما أنّ تركه بقصد التجنّب عن الحيثيّة الثانية ما يصدق عليه ترك العنوان المنهيّ عنه خاصّة.

فدعوى عدم اتّفاق الفعل إلاّ ويصدق عليه العنوان المنهيّ عنه ولا اتّفاق الترك إلاّ ويصدق عليه ترك العنوان المأمور به ، باطلة مخالفة للذوق والوجدان.

وإلى ذلك ينظر ما في التهذيب والمنية في الخروج عن الدار المغصوبة من أنّه قبيح إن قصد به التصرّف في المغصوب وحسن إن قصد به التخلّص عن الغصب. وحكي مثله عن عدّة الشيخ وعن ذريعة السيّد.

فمن دخل دار غيره على سبيل الغصب فله الخروج بنيّة التخلّص وليس له التصرّف بنيّة الفساد.

نعم لو فعله بقصد الحيثيّتين كان مصداقا للعنوانين ويجري فيه حينئذ مقالتهم في المتنازع فيه حرفا بحرف وقذّا بقذّ ، وإن كان ممّا لا يساعد عليه ظواهر عباراتهم عنوانا وتمثيلا غير أنّ الخطب في ذلك بعد ملاحظة وحدة المناط سهل ، ولا يقاس ذلك على ما تقدّم في الصورة الاولى لكون العنوان فيه واحدا.

الصورة الثالثة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد شخصي لجهتين مندرجتين في الأعراض المفارقة كما لو قال : « أكرم زيدا القائم » و « لا تكرم زيدا الفاسق » ومثّل له في الوافية بلطم اليتيم تأديبا وظلما والسجود لله ولغيره مصرّحا بجواز تعلّق الأمر باعتبار أحد الوصفين والنهي باعتبار الوصف الآخر ، فحينئذ يجب إيقاعه على الوصف الأوّل ويحرم إيقاعه موصوفا بالوصف الثاني ، وظاهره خروج ذلك عن المتنازع ، ويشكل بما لو أوقعه موصوفا بالوصفين على ما نبّهنا عليه سابقا من جريان المقالة في أصل المسألة في الفرض ، فإطلاق إخراج تلك الصورة عن المتنازع ليس على ما ينبغي.

والتحقيق أن يقال : إنّ الوصفين قد يؤخذ كلّ منهما علّة للحكم المناسب لها ولازمه تعلّق الحكمين بالذات البحت على حدّ ما هو مفاد قوله : « إن صام زيد فأكرمه » و « إن فسق زيد فلا تكرمه » فاتّفق أنّه فسق صائما فيلزم توارد الحكمين على إكرام زيد لذاته وهو مستحيل كالصورة الاولى.

٥٣٥

غاية الفرق بينهما أنّهما يثبتان ثمّة بالقياس إلى جميع الأحوال حتّى حالة الصيام والفسق وهنا بالقياس إلى الحالتين فقط فلا يمكن العمل بهما معا.

وقد يؤخذ كلّ منهما قيدا لموضوعه فيصير الإكرام باعتبار لحوق القيدين به معنونا بعنوانين متغايرين ، فحينئذ إن افترقا فلا إشكال كما أنّه لو اجتمعا مع حصول الإتيان به على أنّه العنوان المأمور به وتركه على أنّه العنوان المنهيّ عنه فلا إشكال ، وأمّا لو حصل الإتيان على العنوانين معا كان الكلام فيه نظير ما سبق.

والصورة الرابعة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد شخصي لجهتين مختلفتين كما لو قال : « أكرم زيدا لشجاعته » و « لا تكرمه لفسقه » فاتّفق في بعض حالات شجاعته أنّه فسق ، والكلام فيه على حذو ما سبق نعلا بنعل.

والصورة الخامسة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد بالنوع لجهة واحدة من ذاتيّ أو عرضي ، ولا خفاء في استحالته لرجوعه بالاخرة إلى الصورة الاولى ، نظرا إلى أنّ الأمر بالماهيّة لا بشرط شيء يعمّ جميع الأفراد على البدل ولو بحكم العقل ، والنهي عنها يستلزم المنع عنها عينا حتّى الفرد الّذي توجّه إليه الأمر تخييرا عقليّا ، فيرجع مفادهما إلى المنع عن فعل كلّ فرد والإذن في فعل أحدها وهو مستحيل.

والصورة السادسة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد بالنوع لجهتين لازمتين للماهيّة ، فلا إشكال في استحالته لو اخذت الجهتان علّتين للحكمين ، لاستحالة كون الشيء الواحد ولو بالنوع مصلحة ومفسدة ، كما لا إشكال في جوازه لو اخذتا قيدين حتّى يتعدّد بتعدّدهما العنوان فيمكن الامتثال والخروج عن العهدة بالقصد والنيّة في فعل أو ترك.

والصورة السابعة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بواحد نوعي لجهتين غير لازمتين للماهيّة كالسجود الّذي يعرضه كونه لله وللصنم ، فقد نصّ غير واحد من الفريقين بجواز اجتماعهما فيه ، فالأمر من جهة أحد الوصفين والنهي من جهة الوصف الآخر من غير لزوم محذور من اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، ولا تعدّد الخروج عن العهدة لمكان تعدّد الموضوع في الحقيقة ، واستفاض عليه نقل الاتّفاق في كلمة الأصحاب بل لم نقف على ما يخالفه إلاّ ما عن بعض المعتزلة من مصيره إلى المنع في ذلك أيضا ، كما أشار إليه المصنّف وربّما يعلّل بجعله الحسن والقبح من مقتضيات الماهيّة الجنسيّة فالتجأ حينئذ في مثل الأمر بالسجود لله والنهي عنه للصنم إلى صرف الأوّل إلى قصد تعظيمه تعالى والثاني إلى قصد تعظيم

٥٣٦

الصنم ، وحكم عليه المصنّف وغيره بالضعف والشذوذ.

والصورة الثامنة : ما لو تعلّقا بواحد نوعي لجهتين : إحداهما من لوازم الماهيّة ، والاخرى من العوارض المفارقة ، ويظهر حكمه بالتأمّل فيما سبق.

والصورة التاسعة : ما لو تعلّقا بعنوانين متساويين على أحد الوجوه المتقدّمة ، ولا ريب في استحالته من جهة تعدّد الامتثال والخروج عن عهدة التكليفين بفعل أحد العنوانين وترك الآخر والمفروض عدم انفكاك فعل أحدهما عن فعل الآخر بحسب الوجود الخارجي ، وقد تقدّم في بحث الضدّ عند تحقيق القول في اختلاف المتلازمين في الحكم ، ولم نقف على ما يقضي بإنكار ذلك إلاّ ما تقدّم في البحث المذكور من القول بجواز اختلافهما مطلقا.

والصورة العاشرة : ما لو تعلّقا بعنوانين بينهما تبائن كلّي وهي في الطرف المقابل لسابقتها في عدم الإشكال في الجواز سواء كانا متعاندين أو متخالفين ، والوجه واضح كمال الوضوح لعدم اقتضائه محذورا ولو في مورد الاجتماع في المتخالفين ، بل هو المصرّح بخروجه عن المتنازع في كلام غير واحد.

والصورة الحادية عشر : ما لو تعلّقا بعنوانين أحدهما خاصّ والآخر عامّ وقضيّة القول بامتناع الاجتماع في أصل المسألة امتناعه هنا أيضا ، كما صرّح به غير واحد لجريان دليله حرفا بحرف ، وأمّا دخولها في عنوان المسألة وعدمه فسيظهر القول فيه إن شاء الله.

والصورة الثانية عشر : ما لو تعلّقا بعنوانين كان كلّ أعمّ من الآخر من وجه كالأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، فاتّفق المكلّف مصلّيا في الدار المغصوبة ، وهذا هو المتنازع فيه على ما اتّفقت عليه كلمتهم بالتصريح والظهور عنوانا ودليلا ومثالا لا مطلقا ، بل بالقياس إلى مادّة الاجتماع الّتي هي جزئيّ حقيقي يصدق عليه كلّ من العنوانين صدق الماهيّة الكلّيّة على أحد أفرادها ، فهل يمكن كونه مأمورا به ومنهيّا عنه لجهتي الماهيّة المأمور بها والماهيّة المنهيّ عنها المتصادقتين عليه حتّى لا يتطرّق إلى شيء منهما تصرّف ولا إخراج عن الظاهر بالتقييد ونحوه ، أو يمتنع ذلك في نظر العقل؟ فلا بدّ من تصرّف في إحدى الماهيّتين بالتقييد ، فيجب الرجوع إلى وجوه التراجيح فإن فقدت فإلى التخيير أو التساقط أو الوقف حسبما هو المختار في الأمارتين المتعادلتين.

ثمّ إنّ قضيّة احتجاج المجوّزين في التفصّي عن محذور تكليف المحال بكون الجمع

٥٣٧

بينهما حاصلا من سوء اختيار المكلّف اختصاص النزاع بما لو كان له مندوحة في امتثال التكليفين ، كما تنبّه عليه غير واحد منهم بعض الفضلاء (١) بأن لم يكن أفراد المأمور به منحصرة في المنهيّ عنه ، كما لو لم يتمكّن عن الصلاة إلاّ في المكان المغصوب كالمحبوس ونحوه ، بل ذلك عند التحقيق خارج عن معقد البحث ، فإنّ كلامهم هذا مفروض فيما لو ثبت على المكلّف تكليفان فعليّان أحدهما الإيجابي وثانيهما السلبي والفرض المذكور إخراج له عن أحد التكليفين وهو السلبي ، إذ لا يعقل في حقّه النهي مع عدم تمكّنه عن غير المكان المغصوب لئلاّ يلزم المنع عن غير المقدور ، فلا جرم يكون مأمورا بالصلاة وتقع عنه صحيحة على تقدير إتيانه بها في ذلك المكان لخلوّها عن المعارض وما يزاحمها في وصف الصحّة وإفادة الامتثال.

وممّا ذكر يتبيّن عدم جريان مقالتهم في العامّ والخاصّ إذا كان العامّ هو المنهيّ عنه والخاصّ هو المأمور به ، إذ ليس للمكلّف مندوحة في امتثال الأمر على تقدير العموم في النهي بل لا يتمكّن عن ذلك على هذا التقدير ، نظرا إلى أنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي ، فيرجع المسألة إلى بحث التراجيح بتقديم الخاصّ على العامّ لظاهر العرف أو تقديم العامّ عليه إذا أصابه بعض الموهنات المخرجة له عن الاعتبار أو صلاحيّة المعارضة بعد اتّفاق الفريقين على امتناع الاجتماع حينئذ.

وأمّا عكس هذه الصورة فهل يدخل في المتنازع فيه وجهان ، من جريان الأدلّة من الطرفين فيلزم القائل بالجواز تجويزه هنا أيضا ، فيكون الخاصّ من حيث تضمّنه الماهيّة المأمور بها مأمورا به ومحصّلا للامتثال ومن حيث الخصوصيّة منهيّا عنه ، وسيأتي عن بعضهم كالفاضل الباغنوي ما يقضي بالجواز فيه أيضا مع التصريح بجريان دليل الجواز الّذي أقاموه في أصل المسألة ، ومن عدم وفاء أكثر كلماتهم المصرّحة بكون الخلاف في العامّين من وجه ، ولا تمثيلاتهم الواردة في الباب ولا سيّما المثال المعروف المتداول في ألسنتهم المتقدّم إليه الإشارة ، بل بملاحظة تعدّد العنوانين في هذه المسألة والمسألة الآتية ينبغي القطع بخروجه عن هذا العنوان ، وسيلحقك زيادة بيان في ذلك عند التكلّم في الفرق بين المسألتين.

ثمّ إنّ نسبة العموم من وجه بين المأمور به والمنهيّ عنه قد تكون حقيقيّة ثابتة فيما

__________________

(١) الفصول : ١٢٤.

٥٣٨

بينهما مع قطع النظر عن تعلّق الأمر والنهي بهما ، كما لو كانا في حدّ ذاتهما طبيعتين متغايرتين كالمثال المعروف ، وقد تكون اعتباريّة ناشئة عن تقييد الماهيّة تارة بشيء فيؤمر بها واخرى بشيء آخر أعمّ منه من وجه فينهى عنها ، كما لو قال : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق » ولا شبهة في كون القسم الأوّل من محلّ النزاع.

وأمّا القسم الثاني ففي كونه من محلّه إشكال ، من تناول العامّين من وجه في إطلاق عبائرهم عند بيان محلّه له ، ومن خلوّ كلماتهم عن التمثيل به.

لكن قد يقال : إنّ أهل القول بجواز الاجتماع في القسم الأوّل ـ على ما يتراءى منهم في بحث التعادل والتراجيح وفي كتب الفروع ـ على عدم جوازه في القسم الثاني ، بل ظاهرهم الإطباق عليه ، فلا يجوز وجوب إكرام العالم الفاسق وحرمته بالاعتبارين ، فيحكمون فيه بالرجوع إلى وجوه التراجيح وعلى تقدير فقدها فإلى أقوالهم في التعادل ، فيشكل الفرق حينئذ بينهما مع أنّهما في ظاهر النظر من باب واحد.

ويمكن دفعه إمّا بحمل قضيّة عدم جواز الاجتماع في كلامهم ثمّة على كونها فرضيّة نظرا إلى أنّ أغلب الموضوعات المأخوذة في المسائل المختلف فيها مبنيّة على الفرض ، أو بإناطة كلامهم ثمّة على استفادة العلّيّة عن الوصفين اللذين علّق عليهما الحكمان ، فيكون الموضوع على تقدير خروج القيدين عنه هو الماهيّة النوعيّة بما هي هي ، فيلزم في مورد الاجتماع على تقدير الجواز توارد الحكمين المتضادّين على شيء واحد وكونه حسنا وقبيحا وأنّه مستحيل ، وإلاّ فعلى تقدير رجوع الوصفين إلى الموضوع الموجب لتعدّد العنوان فلا يعقل استحالة في وجوب إكرام العالم الفاسق على أنّه إكرام للعالم وحرمته على أنّه إكرام للفاسق ، ولا يتعذّر الامتثال إذا أتى به بنيّة العنوان الأوّل وتركه بنيّة العنوان الثاني.

نعم لو أتى به بنيّة العنوانين معا كان من محلّ كلامهم في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، فيكون امتثالا وعصيانا بالاعتبارين على القول بالجواز بخلافه على القول بالمنع.

وقد يذكر في الفرق بين المقامين دفعا للإشكال المتقدّم وجوه اخر لا تكاد تنضبط :

منها : أنّ مورد الاجتماع في المقام الأوّل متعلّق الأمر والنهي وفي المقام الثاني متعلّق متعلّقهما.

ومنها : أنّ متعلّق التكليف في الأوّل فعلان متغايران من حيث كونهما طبيعتين مختلفتين اتّحدتا في الوجود الخارجي ، وظاهر أنّ الاتّحاد في الوجود لا يرفع الاثنينيّة الحقيقيّة ،

٥٣٩

بخلافه في المقام الثاني فإنّ متعلّق التكليفين ليس إلاّ فعلا واحدا وهو الإكرام ، إذ لا تغاير بين الإكرام المأمور به والإكرام المنهيّ عنه ، ولذا يصدق فيمن صلّى في الدار المغصوبة أنّه أتى بصلاة وغصب ، ولا يقال على من أكرم العالم الفاسق أنّه أتى بإكرامين أو بإكرام وإكرام.

ومنها : أنّ الإكرام في نحو المثال المذكور من قبيل السواد والبياض اللذين يعرضان الأفراد أوّلا وبالذات ولا تعلّق لهما بالطبائع إلاّ ثانيا وبالعرض ، فكما أنّ السواد الموجود في الأعيان لا يتكثّر بتكثّر ما فيها من الإضافات ولا يتعدّد بتعدّد اعتباراتها ، فلا يقال على سواد العباء المتّخذ من الصوف وهو منسوج وملبوس مثلا ، سواد عباء وسواد صوف وسواد منسوج وسواد ملبوس وهكذا بالقياس إلى سائر الاعتبارات اللاحقة به ، فكذلك الإكرام المتعلّق بالعالم الفاسق فلا يقال عليه : إكرام عالم وإكرام فاسق ، فيكون الحيثيّة في العالميّة والفاسقيّة تعليليّة صرفة ، كما أنّ الحيثيّة في العبائيّة والصوفيّة والمنسوجيّة والملبوسيّة كانت تعليليّة صرفة ، ومن لوازم الحيثيّة التعليليّة اتّحاد المحيّث بها في حدّ ذاته وإن تعدّدت الحيثيّة ، بخلاف الحيثيّة الصلاتيّة والحيثيّة الغصبيّة فإنّها تقييديّة ومن خواصّها تعدّد المحيّث عند تعدّدها.

ولا ريب أنّ وحدة المحيّث ممّا يوجب استحالة توارد المتضادّين عليه كما أنّ تعدّده ممّا يصحّح تواردهما عليه ، نظرا إلى أنّ المستحيل اجتماع المتضادّين في محلّ واحد لا في محلّين متّحدين في الوجود.

ومنها : أنّ أهل العرف في مثل « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق » لا يفهمون إلاّ تعلّق الحكم بالأفراد.

أمّا في الأوّل : فلحملهم « اللام » على العهد الذهني كما صرّح به أهل المعاني والاصول.

وأمّا الثاني : فلظهوره في الاستغراق ، وإذا كان الأمر في متعلّق الإكرام بهذه المثابة فيسري إلى نفس الإكرام من باب التبعيّة ، بخلاف مثل « صلّ » و « لا تغصب » فلفظ « أكرم » و « صلّ » و « لا تغصب » وإن كان بحسب الوضع الأوّلي لا يفيد إلاّ إيجاب الطبيعة أو تحريمها إلاّ أنّ قيام القرينة العرفيّة الكاشفة عن إرادة الفرد في الأوّل دون الأخيرين أوجب هذا الفرق.

وحاصل الوجوه : أنّ متعلّق الأمر والنهي في « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق » أمر واحد والكلّ متّفقون على عدم جواز الاجتماع فيه فهو خارج عن محلّ الكلام.

ولئن سلّمنا تعدّد المتعلّق فيهما أيضا واختلافهما بحسب اختلاف المضاف إليه

٥٤٠