تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

فيه ، فلا يصحّ التوكيل في عتق العبد الغير المموك كما لا يصحّ التوكيل في بيع الخمر ونحوه ، ولك أن تقول : بأنّها من حيث إنّها قبول للبيع على القول بجواز تقديمه على الإيجاب ووقوعه بالأمر ، يتوقّف صحّته على قصد التملّك.

وأمّا ما يفتقر إلى المقدّمة العرفيّة فكدلالة الإيماء ، نظرا إلى أنّ الدلالة على قصد العليّة والتعليل إنّما تثبت بواسطة الاستبعاد العرفي.

فدلالة التضمّن ودلالة الإشارة وإن كانتا متشاركان في التبعيّة وعدم أصالة القصد إلاّ أنّهما متمايزان في استقلال الخطاب بالإفادة وعدمه.

وهذا هو الباعث على كون الاولى من الصريح والثانية من غير الصريح ، وبينهما فرق آخر وهو : أنّ التبعيّة في الاولى لأصل الدلالة وفي الثانية للمدلول ، لوضوح أنّ المدلول الالتزامي منفصل عن المدلول المطابقي ، وقد يكون مقصودا من الخطاب لكن لا أصالة بل تبعا ، لئلاّ يلزم الكذب أو بيان خلاف الواقع أو نحوه ممّا لا يجوز على الحكيم في الخطاب بالقياس إلى ما هو المقصود بالأصالة.

ومن الأفاضل من أورد على حصر دلالة الاقتضاء في الأنواع الثلاث المذكورة بخروج ما يتوقّف عليه صحّة الكلام لغة أو عرفا ، حيث قال : « وأنت خبير بأنّ ما ذكروه غير حاصر لوجوه دلالة الالتزام ممّا لا يندرج في المقام.

والأولى في التقسيم أن يقال : إنّ الدلالة الالتزاميّة ممّا لا يعدّ من المفهوم إمّا أن تكون مقصودة للمتكلّم بحسب العرف ولو بملاحظة المقام أو لا ، وعلى الأوّل فإمّا أن يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عقلا أو شرعا أو لغة أو عادة عليه أو لا.

فالأوّل هو دلالة الاقتضاء كما في الأمثلة المتقدّمة وقوله : « نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض » فإنّ صحّته لغة يتوقّف على تقدير « راضون » وقولك : « رأيت أسدا في الحمّام » فإنّه يتوقّف على صدور كون الأسد في الحمّام بحسب العادة على إرادة الرجل الشجاع منه » ـ إلى أن قال ـ : « والظاهر أنّ معظم القرائن العقليّة واللفظيّة القائمة على إرادة المعاني المجازيّة من قبيل دلالة الاقتضاء كما في قوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )(١) وقولك : « رأيت أسدا في الحمّام » و « جرى النهر » وإن كان دلالة نفس المجاز على معناه من قبيل دلالة المطابقة » انتهى.

__________________

(١) الفتح : ١٠.

٢٤١

ويدفعه : وروده بالنسبة إلى كلّ من القسمين على خلاف التحقيق.

أمّا بالنسبة إلى ما يتوقّف عليه صحّة الكلام لغة ، فلمّا قرّرناه سابقا من أنّ المنطوق والمفهوم وصفان للمداليل المركّبة أعني معاني المركّبات التامّة ، وظاهر أنّ الكلام بمعنى المركّب التامّ لا يتمّ إلاّ بتحقّق الإسناد والمسند والمسند إليه ، فكما لا يتمّ بالمسند فقط فكذلك لا يتمّ بالمسند إليه فقط ، فتوقّف صحّة الكلام لغة في المثال المتقدّم على تقدير « راضون » إنّما هو لأنّ الكلام لغة لا يتمّ بذكر المسند إليه وحده ، لأنّ الإسناد لا ينعقد به بانفراده ، بل لا بدّ معه من اعتبار ما يكون مسندا ملفوظا أو مقدّرا ، فالإسناد المستفاد من الكلام بعد تقدير المسند نفس ما وضع له هذا المركّب فيكون منطوقا صريحا ، لا أنّه ما يلزم منه ليكون غير صريح ، إذ ليس فيه وراء هذا الإسناد اسناد آخر ليكون هذا لازما منه.

وأمّا الثاني فلإمكان القول بدخول ما يتوقّف عليه صحّته بحسب العرف والعادة كقوله : « رأيت أسدا في الحمّام » في عنوان ما يتوقّف عليه صدقه إن كان خبرا ، أو صحّته عقلا إن كان إنشاء ، فإنّ قوله : « رأيت أسدا » مريدا به المفترس كما أنّه قد يكون كذبا حيث لم يصدر منه رؤية أصلا فكذلك يكون كذبا حيث كان مرئيّه الرجل الشجاع لا المفترس ، فيتوقّف صدق هذا الكلام على إرادة الرجل وقوله : « في الحمّام » في المثال الّذي ذكره الفاضل ، وعلى هذا القياس قوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )(١) وغيره ممّا يكون قرينته عقليّة ، وقوله : « جرى النهر » ونحوه ممّا يكون قرينته لفظيّة ، فإنّ الجميع ممّا يتوقّف صدق الكلام على إرادة المعنى المجازيّ من اللفظ المفرد الّذي هو من أجزاء المركّب ، حتّى أنّ المثال المعروف المذكور في كلامهم لذلك العنوان من هذا الباب ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن امّتي تسعة » إنّما يكون صدقا إذا اريد منه رفع مؤاخذة التسعة مثلا على طريقة المجاز في الإعراب بإضمار المؤاخذة أو المجاز في الكلمة.

ومن هذا الباب أيضا قوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ )(٢) وغيره من الأخبار المؤوّلة بالإنشاء ، لأنّه لولاه لزم الكذب في كلام الحكيم وهو قبيح عقلا ، ويمكن اندراجه فيما يتوقّف عليه صحّته عقلا ، هذا.

ولكنّ الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف هو أن يقال : بعدم بناء المنطوق الغير الصريح في شيء من أنواعه عندهم على التجوّز في المفرد الّذي يقال له : المجاز في

__________________

(١) الفتح : ١٠.

(٢) الواقعة : ٧٩.

٢٤٢

الكلمة ، بل على اعتبار لازم للمعنى المركّب مع كونه وحده مقصودا من الخطاب ، أو كونه مع ملزومه مقصودين كما في قوله عليه‌السلام : « كفّر » مقترنا بقول السائل : « واقعت أهلي في نهار رمضان » لأنّه اريد منه إفادة حكمين أحدهما وجوب الكفّارة وثانيهما كون علّته الوقاع ، والأوّل ما وضع له هذا اللفظ المركّب والثاني ما يلزم منه بلزوم ثبت باستبعاد الاقتران عرفا لولا كونه مرادا ، أو كونه لازما للمقصود غير مقصود منه أصالة بل المقصود بالأصالة هو الملزوم ، فدلالة الاقتضاء حينئذ مبنيّة على التقدير والإضمار ومختصّة بالمجاز في الإعراب كما فهمه بعض الأعلام.

وقد يكون معنى مجازيّا للمركّب كما في قوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ )(١) ونظائره ، فالمجاز في الكلمة بجميع أفراده خارج عن عنوان المنطوق صريحا وغير صريح ، لكونهما مع المفهوم من المداليل المركّبة.

وظاهر أنّ التجوّز في بعض مفردات المركّب لا يوجب التجوّز في نفس المركّب في معناه التركيبي الموضوع له بالوضع النوعي الهيئي ، فإنّ : « رأيت أسدا » بنوعه موضوع للإخبار برؤية الأسد ، سواء اريد منه المفترس أو الرجل الشجاع ، وإن توقّف صدق الكلام في نحو أسد يرمي » على الثاني ، إذ ليس كلّما يتوقّف عليه صدق الكلام موجبا لكون المعنى التركيبي المراد منه من المنطوق الغير الصريح مع عدم كون ذلك المعنى خلاف ما [ وضع له ] المركّب بنوعه ، فإنّ الّذي يتوقّف عليه الصدق هنا إنّما هو التجوّز في المفرد.

والّذي يوجب كون المدلول من المنطوق الغير الصريح في موضع توقّف الصدق أو الصحّة العقليّة أو الصحّة الشرعيّة هو التجوّز في المركّب كما في الآية المشار إليها ، أو المجاز في الإعراب المستتبع للتقدير والإضمار الّذي يرجع أيضا بنحو من الاعتبار إلى التجوّز ، فإنّ المعنى التركيبي الّذي وضع له لفظ « اسئل القرية » بنوعه من حيث إنّه هذا النوع الخالي عن لفظ « الأهل » وغيره ممّا يضاف إلى « القرية » إنّما هو استدعاء سؤال القرية.

ولا ريب أنّ استدعاء سؤال أهل القرية بزيادة « الأهل » غير هذا المعنى وليس ممّا وضع له نوع هذا اللفظ ، بل وضع له نوع قولنا : « اسئل أهل القرية » بذكر « الأهل » ونحوه الكلام في مثل : « رفع عن امّتي تسعة » بناء على إضمار « المؤاخذة » فليتأمّل جيّدا ، فإنّه دقيق يرتفع به جملة كثيرة من الاشتباهات ، فلا حاجة إلى ذكر قسم آخر يشمل المجازات

__________________

(١) الواقعة : ٧٩.

٢٤٣

في المفرد سواء كانت قرائنها عقليّة أو لفظيّة أو غيرها ، لعدم اندراج معاني المفردات في اصطلاح صريحا أو غير صريح حسبما حقّقناه سابقا.

فائدتان

الاولى

قد ظهر بالإشارات الواقعة في تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء ـ مضافا إلى ما تقدّم من ضابط الفرق بينهما في التقسيم ـ أنّ المراد في الاولى هو اللازم فقط وفي الثانية هو الملزوم واللازم معا ، غير أنّ الأوّل يراد من اللفظ على وجه الحقيقة والثاني ممّا اريد منه على وجه الكناية ، وأنّ الفرق بينهما وبين دلالة الإشارة كون المراد من اللفظ فيها الملزوم وفيهما اللازم أو هو مع الملزوم.

فبالتأمّل في جميع ذلك مع ما تقدّم ينقدح أنّ الخطاب المفيد للمنطوق قد يكون ذا منطوق واحد صريح ، وهو ما قصد منه ما وضع له فقط كما في مواضع انتفاء الدلالات الثلاث المذكورة لغير الصريح.

وقد يكون ذا منطوق واحد غير صريح كما في دلالة الاقتضاء.

وقد يكون ذا منطوقين صريح وغير صريح مع كونهما معا مقصودين بالأصالة كما في دلالة الإيماء ، أو كون الصريح مقصودا وغيره لازما منه كما في دلالة الإشارة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه بالنسبة إلى دلالة الاقتضاء من كون المراد فيها اللازم فقط إنّما هو في مثل قوله : « رفع عن امّتي تسعة » وقوله : « واسئل القرية ».

وأمّا في قوله : « أعتق عبدك عنّي بألف » فهو ذو وجهين ، كون المقصود منه اللازم فقط ، أو الملزوم واللازم معا.

ومبنى الوجهين على كون طريق التأويل فيه على إضمار « مملّكا » فيكون المراد منه استدعاء عتق عبد المخاطب حال كونه مملّكا له منه بالألف ، وهو اللازم ، أو كون طريقه على إرادة استدعاء عتقه واستدعاء تمليكه منه بألف قبله ، والأوّل هو الملزوم فيراد من اللفظ على وجه الحقيقة والثاني لازم منه فيقصد على وجه الكناية ، فيكون اللفظ حينئذ ذا منطوقين صريح وغير صريح مع كونهما مقصودين بالأصالة.

الثانية

إنّ المناطيق الغير الصريحة ظهورات ثانويّة مستندة إلى ألفاظها يصار إليها لقرائن خارجة

٢٤٤

عنها من مقدّمة عقليّة أو شرعيّة أو عرفيّة ، فلا ينبغي الاسترابة في حجّيّتها ووجوب الأخذ بها في استنباط الحكم الشرعي ، ودليله ما دلّ على حجّية ظواهر الألفاظ بقول مطلق.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ من القرائن ما تكون صارفة للّفظ عن ظهوره الأوّلي من غير تعرّض لتعيين شخص اللازم المراد للمتكلّم ، فلا بدّ حينئذ من تحرّي قرينة اخرى للتعيين ولو نحو الأقربيّة العرفيّة ، ومن ذلك ما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن امّتي تسعة » إلى آخره ، فإنّ قصارى ما يلزم فيه من صون هذا الكلام عن الكذب هو القطع بعدم إرادة رفع هذه الامور بأعيانها.

وأمّا كون المرفوع خصوص المؤاخذة أو الحكم الشرعي مطلقا وإن كان وضعيّا فلم يتبيّن من هذه القرينة ، بل لا بدّ معها من اعتبار قرينة اخرى من أقربيّة عرفيّة ونحوها وهي ممّا يختلف باختلاف الأنظار ، ولذا وقع الاختلاف فيما بينهم على قولين.

فالمشهور على الأوّل ، وجماعة منهم الشهيد الثاني على الثاني فحكموا بارتفاع الأحكام الوضعيّة أيضا عن التسعة ، وليس ببعيد بالنظر إلى مقام الامتنان ، ولكنّ الأقرب هو الأوّل.

ولعلّنا نورد فيه بعض (١) في مباحث أصل البراءة عند الكلام في فقه الحديث إن شاء الله تعالى.

المقام السادس

في أنّهم قسّموا المفهوم إلى مفهوم موافقة وهو : الحكم الموافق لمنطوق الكلام في الإيجاب والسلب ، كتحريم شتم الوالدين وضربهما المستفاد من قوله تعالى ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ )(٢) الدالّ على تحريم التأفيف منطوقا ، ومفهوم مخالفة وهو : الحكم المخالف للمنطوق في الإيجاب والسلب ، كنفي وجوب الزكاة عن المعلوفة المستفاد عمّا دلّ على وجوبها في السائمة وقد جرت العادة بتسمية الأوّل بفحوى الخطاب ولحن الخطاب أيضا.

وعن العلاّمة الشيرازي أنّه قال : « إنّما سمّي فحوى الخطاب لأنّ الفحوى ما يفهم منه على سبيل القطع وهذا كذلك ، ولحن الخطاب لأنّه معناه واللحن هو المعنى ، ولمّا كان هذا النوع من المفهوم ممّا سبق فهمه إلى الذهن سمّي بهذا الإسم إشعارا بأنّه كان معناه ». انتهى.

وعن أبي زيد اللغوي أنّه قال : « لحنه أي فهمه ، وألحنه أي أفهمه ».

وفي كلام بعض الأفاضل : والمحكيّ عن البعض أنّه إن كان ثبوت الحكم في المفهوم

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الإسراء : ٢٣.

٢٤٥

أولى من ثبوته في المنطوق سمّي بالأوّل وإن [ كان ] مساويا لثبوته له سمّي بالثاني ».

أقول : ولعلّه لذا قد يقال : والظاهر أن يعتبر في الملحون أن لا يكون في كمال الظهور بل يكون محتاجا إلى إعمال الفطنة ولو قليلا.

ويسمّى الثاني بدليل الخطاب ، وينقسم إلى مفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم الحصر ، ومفهوم العدد ، ومفهوم اللقب ، وغيرها ، وقيل : الحصر في مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة عقليّ وفي أقسام مفهوم المخالفة استقرائي ، ولا كلام لأحد في حجّية مفهوم الموافقة.

وفي كلام بعض الأفاضل : « والظاهر أنّه لا خلاف في حجّيّته والاعتماد ».

نعم ربّما وقع الخلاف فيه من جهتين اخريين لا من جهة الحجّيّة :

إحداهما : في أنّه هل يشترط في مفهوم الموافقة أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به كآية التأفيف وقولك : « إن ضربك أبوك فلا تؤذه » الدالّ على حرمة الأذيّة مع عدم الضرب بطريق أولى ، وقولك : « لا تؤذي الفاسق » الدالّ على منع أذيّة العادل بطريق أولى ، أو لا؟ بل يكفي المساواة كقولنا : « لا تأكلوا مال اليتامى » الدالّ على حرمة التصرّف المتلف المساوي للأكل في الإتلاف.

والاوّل محكيّ عن المعظم وعن ثاني الشهيدين وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، لقضاء الوجدان السليم بأنّ الانتقال إلى حكم المسكوت عنه يحصل في العرف والعادة بدلالة الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ ، على معنى أنّه في نحو آية التأفيف يلزم من تصوّر الملزوم وهو : « تحريم التأفيف » وتصوّر اللازم وهو : « تحريم الضرب » وتصوّر النسبة بينهما وهو كون « الضرب » أولى بالتحريم من « التأفيف » في نظر العقل والعرف ـ لضابطة أنّ من يبغض الأدنى يبغض الأعلى ومن يحبّ الأدنى يحبّ الأعلى ـ الجزم باللزوم ، على معنى القطع بأنّ المتكلّم القاصد للملزوم قاصد للاّزم أيضا وليس كذلك الحال في المتساوي ، إذ لا يلزم من تصوّر الطرفين والنسبة بينهما وهو التساوي الجزم باللزوم كما هو واضح.

ثانيتهما : في أنّ تعدية الحكم من المنطوق به إلى المسكوت هل هو بطريق القياس ـ أي إلحاق فرع كالضرب بأصل كالتأفيف ـ في الحكم كالحرمة لجامع بينهما وكونه علّة للحكم في الأصل وأقوى وآكد في الفرع ـ أم هو بدلالة اللفظ؟ وبالتأمّل في الجهة الاولى تعرف أنّ الأصحّ هنا هو القول الثاني ، لأنّ الالتزام البيّن ـ ولو بالمعنى الأعمّ ـ من دلالة

٢٤٦

أصل

الحقّ أنّ تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط ، يدلّ على انتفائه عند انتفاء الشرط* (١).

________________________________

اللفظ ، فإنّا نجد أنّ الانتقال إلى حكم الفرع ليس للحركة الذهنيّة إلى الجامع وكونه في الأصل علّة للحكم وفي الفرع أقوى وآكد في الاقتضاء ، بل بواسطة الانتقال من ملزوم إلى لازم لملازمة كشف عنها أولويّة المسكوت عنه بالحكم في نظر العرف والعقل ، لضابطة ما ارتكز في الأذهان السليمة من أنّ من يبغض الأدنى يبغض الأعلى ومن يحبّ الأدنى يحبّ الأعلى ، فهذا هو معنى دلالة اللفظ ، لا كما قيل في بيانها من كون هذا الكلام منقولا عن معناه اللغوي وهو الحكم على الأدنى إلى الحكم عليه وعلى الأعلى ، فقوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ )(١) معناه المنقول إليه المنع من جميع أنواع الأذى ، فإنّ النقل المدّعى سواء اريد به النقل الوضعي المستتبع لتجدّد وضع عرفي في لفظ : « التأفيف » لمطلق الأذى ، أو النقل المجازي وهو التجوّز في اللفظ بإرادة الأذى مطلقا ، مع وضوح فساده ـ حيث لم يقل به أحد ـ ينافي كون الخطاب في محلّ المفهوم ذا دلالتين منطوقيّة ومفهوميّة مع كون الاولى مطابقيّة والثانية التزاميّة ، إذ هذا الّذي وصف صار [ ذا ] دلالة واحدة مجازيّة.

(١) * وتفصيل القول في المبحث ليتضح به ما هو الحقّ في محلّ البحث يستدعي تمهيد مقدمات :

المقدّمة الاولى

في أنّ الشرط بالسكون بحسب العرف الكاشف عن اللغة ، إلزام الشيء والتزامه حسبما ينساق منه عند إطلاق مشتقّاته ، كقولك : « شرط زيد أن يفعل كذا » و « شرط عليه عمرو أن يفعل كذا » و « شرط زيد أن لا يخرج زوجته من البلد » و « شرطت زوجته عليه أن لا يخرجها من الوطن » وهكذا ، فإنّ المتبادر منه هو ما ذكر ، وهو المصرّح به في كلام جمّ غفير من أساطين العلماء وغير واحد من أئمّة اللغة.

فعن الصحاح : « الشرط معروف وكذلك الشريطة ، والجمع شروط وشرائط ، وقد شرط

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

٢٤٧

عليه كذا ويشرط واشترط عليه ».

فإنّ قوله : « معروف » إحالة لمعرفته إلى العرف ، فيكون تنصيصا بالمعنى العرفي كما هو ديدنهم في بيان المعاني المعروفة عند العامّة.

ويوافقه ما في القاموس من أنّ : « الشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه » بناء على كون لفظ « ونحوه » لتعميم المعنى بالقياس إلى مشاركات البيع في الجنس القريب والبعيد معا ، فيشمل الإيقاعات أيضا كالنذر وأخويه كما فهمه بعضهم ونفى عنه البعد بعض الأفاضل.

ويحتمل اختصاصه بالمشاركات في الجنس القريب كالعقود ، فيكون مؤدّاه أخصّ ممّا في الصحاح لاختصاصه بالشروط الضمنيّة المأخوذة في ضمن العقود اللازمة ، هذا بحسب العرف العامّ ثمّ يتمّ بالنسبة إلى الصدر الأوّل من اللغة إلى زمن الشارع وما بعده بأصالة عدم النقل.

وعليه يحمل ما في رواية : « المؤمنون عند شروطهم » (١) بناء على أنّ الإلزام عبارة عن إيجاد سبب اللزوم لا إيجاد نفسه ، لوضوح أنّ جعل اللزوم الشرعي عند إيجاب سببه لا يكون إلاّ من فعل الله سبحانه.

وممّا يؤيّده عدم صدقه على « الأمر » الّذي هو أيضا إلزام بمعنى جعل اللزوم.

ويوافقه مفاد الرواية ـ بناء على كونها في موضع الإنشاء صونا لها عن الكذب ومخالفة الإجماع ـ لوضوح أنّ الواجب على المؤمنين الوفاء بما يوجدونه من الأسباب الملزمة ، على معنى القيام بمقتضاها.

ومن هنا صحّ الاستدلال بها على صحّة جميع الأسباب الشرعيّة وإفادتها اللزوم ، حتّى العقود والشروط المأخوذة في ضمنها فضلا عن النذر وأخويه.

ثمّ إنّ عطف الالتزام على الإلزام في عبارة القاموس يحتمل التفسير ، فيكون الإلزام مرادفا للإلتزام وعلى الإلزام على النفس ويحتمل المبائنة من ذكر الخاصّ بعد العامّ ، فيعمّ الإلزام كلاّ ممّا هو على الغير وما هو على النفس ، أو من ذكر المبائن بعد المبائن فيكون الإلزام عبارة عمّا هو على الغير ، وعليه فالظاهر أنّ لفظ « الشرط » بينهما على التواطؤ والاشتراك المعنوي لا الاشتراك اللفظي ولا الحقيقة والمجاز ، وقد يرجّح الأخير لتبادر الإلزام وصحّة السلب عن الالتزام ، مع ما في الاشتراك لفظا من مخالفة الأصل والقاعدة ، وما في الاشتراك معنى من فقد الجهة الجامعة ، ويزيّفه : أنّ المعنى العرفي المتقدّم المأخوذ

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٠ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.

٢٤٨

لا بقيد كونه على النفس أو على الغير جامع قريب ، ودعوى صحّة السلب كذب ، والتبادر ممنوع ولو سلّم فإطلاقيّ.

ويطلق « الشرط » في العرف العامّ أيضا على وجه الحقيقة على ما يتوقّف عليه وجود الشيء مطلقا ، بالمعنى الشامل للمقدّمات الداخليّة والخارجيّة السببيّة أو الشرطيّة ، كما تنبّه عليه بعض الأفاضل وعزاه إلى استاذه العلاّمة إطلاقا شائعا حقيقيّا ، لعدم صحّة سلب « الشرط » عن العلل والأسباب والشرائط والأجزاء كما يظهر بأدنى تأمّل.

ويكشف عن عدم صحّته الاستنكار العرفي فيقال : « شرط حركة المفتاح حركة اليد » ولو قيل « ليس شرطا له » كان مستهجنا.

ويقال : « النظر المنطقي شرط لحصول العلم » و « الصعود من السلّم شرط للكون على السطح » و « كل من المادّة والصورة شرط للسرير » ولا يصحّ في شيء منها القول بأنّه ليس شرطا.

وعليه ينطبق ما ورد في صحيحة فضيل من قوله : « ما الشرط في الحيوان؟ قال عليه‌السلام : ثلاثة أيّام للمشتري ، قلت : وما الشرط في غير الحيوان؟ قال عليه‌السلام : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (١). أي شرط الخيار ومعناه ما يتوقّف عليه ثبوته.

ومنه ما ورد من أنّه : « من قال : لا إله إلاّ الله وجبت له الجنّة بشرطها وشروطها » (٢) فإنّ الشرط بمعنى التصديق بالولاية إمّا جزء ، إن جعل قول « لا إله إلاّ الله » كناية عن الإيمان ، أو شرط اصولي إن جعل كناية عن كلمة التوحيد.

ويؤيّد ثبوت هذا المعنى عرفا كونه في الاصطلاح ـ على ما ستعرفه ـ لمعنى لا يلائم الإلزام والالتزام ، نظرا إلى أنّه لا يكون إلاّ بالنقل الّذي يعتبر فيه ملاحظة المناسبة ، فلا بدّ وأن يكون المعنى المنقول منه هو مطلق ما يتوقّف عليه وجود الشيء ، فيكون نقله إلى المتوقّف عليه الّذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود من نقل العامّ إلى الخاصّ ، لا الإلزام والالتزام لكمال البينونة بين المعنى المصدري الحدثي والمعنى الإسمي الجامدي.

وإذا ثبت كون ذلك المعنى أيضا معنى عرفيّا فلا محيص من الالتزام بالاشتراك لفظا بينه وبين المعنى الأوّل ، لعدم صحّة السلب ، وفقد الجامع القريب ، لما عرفت من البينونة في الحدثيّة والإسميّة.

ومن الأعاظم من فصّل فيهما بين اللغة والعرف ، فجعله في اللغة حقيقة في مطلق

__________________

(١) الخصال : ١٢٧.

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٩٤.

٢٤٩

الإلزام والالتزام. وفي العرف حقيقة في الانتفاء عند الانتفاء.

ثمّ إنّ « الشرط » في لسان أهل الصناعات يطلق على معان اخر فعند الاصوليّين على ما عرفت : « ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ».

وعند النحويّين على ما يلي : إحدى أدوات الشرط وإن لم يقصد بها التعليق كـ « إن » و « لو » الوصليّتين.

وفي كلام غير واحد : أنّه قد يطلق على العلّة وقد يعبّر عنها بالسبب.

وفي كلام جماعة : أنّه قد يطلق على الجملة الشرطيّة ، وهي المصدّرة بإحدى أدوات الشرط.

ولا ينبغي التأمّل في تحقّق الاصطلاح بالقياس إلى الأوّلين وتحقّقه بالقياس إلى الثالث محلّ شكّ ، لجواز كون الإطلاق عليه باعتبار المعنى العرفي العامّ.

والظاهر تحقّقه في المعنى الثالث (١) عند الاصوليّين في هذه المسألة ، كما في قولهم : « مفهوم الشرط حجّة ، أو ليس بحجّة ».

ولذا قد يقال : إنّ موضع النزاع في الحجّيّة وعدمها هو هذا المعنى لا المعنى العرفي العامّ ولا مصطلح الاصولي ولا النحوي ، وهو كما ترى معارض بقولهم الآخر : « تقييد الحكم بالشرط أو تعليقه على الشرط يقتضي الانتفاء عند الانتفاء أو لا يقتضي » إذ لا يعقل كون الجملة الشرطيّة قيدا لحكمها ولا معلّقا عليها ذلك الحكم ، ولو صحّحنا إرادة الجملة في العبارة الاولى بتكلّف تأويل « الباء » سببيّة ليكون المعنى : تقييد الحكم بسبب الجملة الشرطيّة ، لما صحّ ذلك في العبارة الثانية لعدم صحّة السببيّة في كلمة الاستعلاء.

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ مصطلح النحوي مع هذا المعنى الاصولي متلازمان ، إذ الجملة الشرطيّة لا يراد إلاّ ما اشتمل على جزء يسمّيه النحاة شرطا ، والّذي يسمّونه شرطا لا يكون إلاّ جزء ممّا يعبّر عنه الاصوليّون بالشرط ، فلا يوجب إرادة شيء من المعنيين إخلالا بمحلّ النزاع ، وأيّ منهما دخل في الإرادة فهو محلّ للنزاع.

نعم يختلف ذلك على حسب اختلاف العبارات الصادرة منهم في عنوان المسألة وتقرير النزاع حسبما تقدّم ، فإن قالوا : « مفهوم الشرط حجّة » لا مناص من حمله على

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « الرابع » بدل « الثالث » والمراد به هو ما في كلام الجماعة من أنّه يطلق على الجملة الشرطيّة.

٢٥٠

الجملة الشرطيّة ، وإن قالوا : « تعليق الحكم على الشرط » لا مناص من حمله على مصطلح النحوي ، وإن قالوا : « تقييد الحكم بالشرط » فهو جائز الأمرين ، نظرا إلى احتمالي السببيّة وغيرها في كلمة « باء » وإن كان ظاهرا في مصطلح النحوي أيضا.

وأمّا الشرط بالتحريك فهو لمعان لا دخل لها بمحلّ البحث أصلا ومنها العلامة فالأولى عدم الإطناب بالتعرّض لذكرها.

المقدّمة الثانية

في بيان إطلاقات الجملة الشرطيّة ، فإنّها في العرف بالمعنى الدائر بين العامّ والخاصّ تطلق على معان كثيرة :

فقد تطلق ويراد منها علقة السببيّة التامّة المنحصرة ، على معنى إفادة كون الشرط سببا تامّا للجزاء مع الانحصار أي انحصار السبب فيه ، كقولنا : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ».

وقد تطلق ويراد منها علقة السببيّة التامّة الغير المنحصرة ، كقولنا : « إذا بلت فتوضّأ ».

ومنه قوله : « لولا عليّ لهلك عمر » ومنه قول الحماسي : « لو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنّه لم يطر » (١) وعلى هذا جرى قاعدة أهل الميزان في القياس الاستثنائي من أنّ استثناء نقيض التالي ينتج رفع المقدّم دون العكس ، ممثّلين له بقولهم : « إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ».

وقد يطلق ويراد منها علقة السببيّة الغير التامّة كقولك : « إن بعت دارك مثلا تملّكت الثمن ».

وقد يطلق ويراد منها غير علقة السببيّة وهو على وجوه :

منها : أن يراد منها علقة الشرطيّة كقولك : « إن قبضت في المجلس صحّ الصرف ».

ومنها : أن يراد منها علقة التلازم في معلولي علّة ثالثة كقولك : « إن كان النهار موجودا فالعالم مضيء ».

ومنها : أن يراد علقة التلازم في لازمي ملزوم واحد كقولك : « إن كان هذا كاتبا فهو ضاحك ، وإن كان هذا قابلا للعلم فهو قابل للصنعة والكتابة ».

ومنها : أن يراد كون الأوّل كاشفا عن وجود الثاني ، ويقال له : علّة الحكم بوجود [ الثاني ] كقولنا : « إن نزل الثلج فالزمان شتاء » و « إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة ».

ومنها : أن يراد اجتماع الثاني مع الأوّل لمجرّد المقارنة الإتّفاقيّة من دون علاقة بينهما

__________________

(١) القوانين : ٧٢ ومختصر المعاني : ٩٥.

٢٥١

كقولنا : « إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا ».

وقد تطلق ويراد منها : التسوية بين وجود الشرط وعدمه في وجود الجزاء.

وبعبارة اخرى : تعميم الجزاء بالقياس إلى تقديري وجود الشرط وعدمه ، كقولك : « إن أكرمتني أو لم تكرمني اكرمك » و « إن جاءك أو لم يجئك زيد فأكرمه » ومنه « أكرم الضيف ولو كان كافرا » و « أعط الفقير وإن كان درهما ».

وقد تطلق ويراد منها : رفع التوهّم عن مخاطب توهّم علقة بين الشرط ونقيض الجزاء ، بعد ما كانت العلقة بين الجزاء ونقيض الشرط مفروغ عنهما عنده ، كقولك : « إن ضربك أبوك فلا تؤذه » و « إن أهانك أبوك فلا تضربه » و « إن خذلك فلا تقتله » ويمكن إرجاعه إلى سابقه بنحو من الاعتبار ، وأمّا كونه عينه كما سبق إلى بعض الأوهام فلا خفاء في بطلانه كما يظهر بأدنى تأمّل.

والعمدة في هذه المقدّمة النظر في أنّ القضيّة الشرطيّة لو خلّيت وطبعها وجرّدت عمّا سواها من الداخلة والخارجة ظاهرة في أيّ من هذه المعاني ظهورا وضعيّا أو إطلاقيّا أو انصرافيّا؟

فنقول : المعروف المشهور فيما بين الاصوليّين بل مطلق أهل اللغة من أهل العربيّة وغيرهم كونها ظاهرة في علقة السببيّة التامّة المنحصرة ، وهذا ينحلّ إلى دعوى ظهورات أربع : ظهور الجملة الشرطيّة في العلقة والربط بين الشرط والجزاء ، وظهورها في كون هذه العلقة علقة سببيّة الشرط للجزاء ، وظهورها في تماميّة السبب ، وظهورها في انحصاره في الشرط. فالكلام في تحقيق المعنى المذكور بالنظر إلى الظهورات المذكورة يقع في جهات :

الجهة الاولى

في أنّه لا ينبغي التأمّل في ظهورها في العلقة والربط فيما بين الشرط والجزاء ـ على معنى اتّصال مضمون الجملة الجزائيّة بمضمون الجملة الشرطيّة وكونه مربوطا به ـ بل هو ممّا لا خلاف فيه ، كما هو المصرّح به في كلام غير واحد ، بل الظاهر أنّه محلّ وفاق كما يفصح عنه تقريرهم النزاع في الحجّيّة وعدم الحجّيّة في الجهة الرابعة.

لنا على ذلك : تبادر العلاقة والربط ، وعدم تبادر غيره من مجرّد المقارنة الإتّفاقيّة بينهما بلا علاقة أصلا ، والتسوية ، ورفع التوهّم ، والأوّل علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.

مضافا إلى قضاء الوجدان بأنّ المصير إلى غيره من المعاني الثلاث المذكورة لا يتأتّى

٢٥٢

إلاّ بمعونة خارج من قرينة حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة وهذا أيضا آية المجاز.

وإلى أنّه لولاه لساوت الشرطيّة والحمليّة في إفادة المطلب وهو ممّا يكذبه طريقة العرف وضرورة الوجدان ، بل من ضروريّات العرف واللغة ثبوت الفرق بين الشرطيّة والحمليّتين المنحلّ إليهما الشرطيّة بعد تجريدها عن أداة الشرط وما لزمها غالبا من الفاء الجزائيّة ، كقولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » فإنّها بعد التجريد المذكور تنحلّ إلى قولنا : « جاءك زيد » وقولنا : « أكرم زيدا » والفرق الثابت بينهما بضرورة العرف واللغة لا يكون إلاّ في أنّ الشرطيّة بنفسها تقتضي علاقة وربطا بين جزئيها وهو اتّصال الجزاء بالشرط وارتباطه به ، بخلاف الحمليّتين فإنّ قولنا : « جاءك أو يجيئك زيد » لا يقتضي لذاته اتّصال مضمون جملة « أكرم زيدا » بضمونها وكونه مربوطا به ، كما أنّ قولنا : « أكرم زيدا » لا يقتضي لذاته ارتباط مضمونها بمضمون جملة : « جاءك أو يجيئك زيد » وهذا آية المغايرة بينهما بحسب المعنى فيكون استعمال الشرطيّة في غير ما قصد به إفادة العلقة والربط استعمالا في غير ما وضع له كالمعاني الثلاث المذكورة فيكون مجازا.

وبالتأمّل فيما قرّرناه ينقدح أنّ الظهور المدّعى في هذه الجهة ظهور وضعي.

لا يقال : عدم قصد العلقة والربط منها فيما يقصد بها التسوية خصوصا نحو : « أكرم الضيف ولو كان كافرا » وما يقصد بها رفع التوهّم محلّ منع ، بل الظاهر أنّ المتكلّم في مثل : « أكرم الضيف ولو كان كافرا » قصد إفادة كون الحكم مترتّبا على وصف « الضيافة » بلا مدخليّة للإيمان وعدم الكفر فيه ، بكون « الإيمان » شرطا أو « الكفر » مانعا ، وفي مثل : « إن ضربك أبوك فلا تؤذه » و « إن أهانك أبوك فلا تضربه » قصد إفادة ترتّب الحكم على وصف الابوّة في الأب بلا مدخليّة للضرب وعدمه أو الإهانة وعدمها فيه ، وكذا الحال في سائر الأمثلة ممّا اخذ فيه وصف عنواني مع موضوع الحكم ، ولا ريب أنّ الترتّب المقصود من القضيّة يتضمّن العلقة والربط في أخصّ صورها وهو السببيّة التامّة.

لأنّا نقول : هذا خارج عن معقد البحث وهو قصد العلقة والربط في الجملة الشرطيّة بين الجزاء والشرط ، والمفروض ليس منه بل هو من قصد العلقة والربط بين الحكم والوصف العنواني المأخوذ مع موضوعه ، فالأمثلة المذكورة في الحقيقة من تعليق الحكم على الوصف ، ورد في الكلام بصورة القضيّة الشرطيّة لكنتة التنبيه على علّيّة الوصف وكونه سببا تامّا لعدم مدخليّة الشرط فيه وجودا وعدما.

٢٥٣

نعم ربّما يتوهّم فيما اريد منه المقارنة الاتّفاقيّة كونه مستعملا في العلقة والربط الادّعائي ، فأصل الاستعمال حقيقة والتصرّف في أمر عقلي وهو جعل المقارنة بين الشرط والجزاء فردا من العلقة والربط الحقيقي ، فوجه استعمال الشرطيّة في المقارنة الاتّفاقيّة هو وجه استعمالها في العلقة والربط وهو كونه استعمالا فيما وضع له وهو مشكل ، ولو تمّ فلا يقدح فيما ادّعيناه من الظهور بل يؤكّده.

الجهة الثانية

في أنّه لا ينبغي الاسترابة في ظهورها في سببيّة العلقة والربط ، على معنى كون الشرط سببا للجزاء مؤثّرا في وجوده فيكون الجزاء مسبّبا عنه ، كما هو المصرّح به في كلامهم من غير خلاف يظهر عدا ما ستعرفه من العلاّمة مع ما يزيّفه ، لتبادر الربط السببي وعدم تبادر غيره ممّا نذكره ، فقولنا : « إن أكرمتني أكرمتك » و « إن شتمتني شتمتك » و « إن جئتني جئتك » و « إن ضربتني ضربتك » و « إن جاءك زيد فأكرمه » و « من يأتيني فله درهم » و « من دخل الدار فأعطه درهما » إلى غير ذلك من الأمثلة يتبادر في الجميع ترتّب الجزاء على الشرط باعتبار كون الشرط سببا مؤثّرا في وجوده ، تبادرا مستندا إلى حاقّ اللفظ الغير الملحوظ معه غيره من الامور الخارجة عنه ، حتّى أنّه لو خلّي وطبعه في مثل : « إن قبضت صحّ الصرف » و « إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة » و « إن كان النهار موجودا فالعالم مضيء » و « إن كان هذا كاتبا كان ضاحكا » و « إن كان قابلا للعلم كان قابلا للصنعة والكتابة » و « إن كان هذا إنسانا كان حيوانا » يتبادر منه أيضا كون الجزاء مترتّبا على الشرط ، باعتبار سببيّة الشرط وإنّما لم نحمله عليه لمنع خارج يصرفه عن الربط السببي من قرينة شرعيّة أو عقليّة أو غيرهما ، لوضوح أنّه لو لا علمنا من أمر شرعي أو أمر عقلي أو غيرهما بأنّ الشرط في هذه الأمثلة ليس سببا للجزاء لم يستبق إلى أذهاننا إلاّ الربط السببي في الشرط وترتّب الجزاء عليه في الوجود.

ويتأكّد هذا التبادر بالتأمّل في مفاد « اگر » الّذي هو ترجمة « إن » و « لو » في الفارسيّة ، ويؤيّده ما هو المصرّح به في كلام أهل العربيّة من أنّ « إن » لسببيّة الأوّل للثاني ، وتفسيرهم أيضا الشرطيّة بسببيّة الأوّل للثاني أو للحكم به ، وجعلهم أيضا كلم المجازاة للشرطيّة المفسّرة بالسببيّة والمسبّبيّة بين الجملتين ، وتعبيرهم عن الجملة الثانية بالجزاء الّذي هو عبارة عمّا يترتّب على غيره في الوجود ، ونحوه تعبيرهم عن الأسماء المتضمّنة لمعنى

٢٥٤

الشرط أو مطلق أدوات الشرط بـ « كلم المجازاة » من الجزاء بالمعنى المذكور.

وأقوى ما يشهد بما ذكرنا نزاعهم في مفاد كلمة « لو » من أنّها هل هي لامتناع الثاني لامتناع الأوّل كما هو المشهور بين الجمهور وجعلوا منه قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(١) أو لامتناع الأوّل لامتناع الثاني كما عليه الحاجبي ـ مستندا إلى أنّ الأوّل سبب والثاني مسبّب وانتفاء السبب لا يدلّ على انتفاء المسبّب ، لجواز تعدّد الأسباب وقيام سبب آخر ، ولكن انتفاء المسبّب يدلّ على انتفاء السبب ، لأنّ عدمه لا يكون إلاّ بعدم جميع أسبابه ـ فإنّ أصل سببيّة الأوّل للثاني مسلّمة عند الفريقين والنزاع إنّما هو في استلزام عدمه لعدم الثاني وعدمه.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يظهر أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في سببيّة العلقة والربط أيضا وضعي ، وهاهنا كلامان :

أحدهما : للعلاّمة في التهذيب عند الاحتجاج على حجّيّة مفهوم الشرط : « بأنّ الشرط ليس علّة لوجوده ولا مستلزما له ، فلو لم يستلزم العدم العدم خرج عن كونه شرطا ». انتهى.

فإن أراد من عدم استلزام وجوده الوجود أنّ الجملة الشرطيّة وإن أفادت السببيّة ولكنّها لا تفيد تماميّة السبب ، بل يحتاج في تأثيره واقتضائه إلى انضمام أمر آخر إليه وجوديّ يقال له : « الشرط » أو عدميّ يقال له : « المانع » فهو لا ينافي ما حقّقناه ، لأنّه لا ينكر أصل السببيّة بل ينكر تماميّته ، وهذا كلام آخر يتعلّق بالجهة الآتية.

وإن أراد منه أنّها تفيد الربط الشرطي على معنى كون الأوّل شرطا اصوليّا للثاني ، فهو خلط بين الاصطلاحين كما تنبّه عليه بعض الأعلام ، نشأ غفلة عن كون مرادهم بالشرط في تضاعيف هذه المسألة هو الشرط النحوي لا الشرط الاصولي ليكون معناه : ما لا يلزم من وجوده الوجود.

ولقد عرفت أنّ المتبادر من الجملة عند إطلاقها كون الشرط النحوي سببا اصوليّا ، ولذا فسّرت الشرطيّة عندهم بسببيّة الأوّل للثاني.

وثانيهما : ما سبق إلى بعض الفضلاء من كون ظهور الربط السببي من الجملة أو من الأداة باعتبار الإطلاق ، على معنى أنّه من انصراف المطلق إلى هذا الربط الخاصّ كما هو الظاهر من عبارته ، حيث إنّه جعل أدوات الشرط موضوعة لعلقة اللزوم وهو كون الثاني

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

٢٥٥

لازم الحصول لحصول الأوّل ، ثمّ حصرها في علقة العليّة بأنواعها الثلاث وهو : كون الأوّل سببا للثاني ، أو مسبّبا عنه ، أو مشاركا له في العلّة.

فقال : « إنّ أدوات الشرط في هذه الموارد ونظائرها إنّما تستعمل لإفادة كون الجزاء لازم الحصول للشرط.

وأمّا أنّ الشرط سبب للجزاء أو مسبّب عنه أو مشارك له في العلّة فمستفاد من امور خارجة ولا اختصاص لها بأحدها ».

إلى أن قال : « لكن حيث إنّ الظاهر من اللزوم عند الإطلاق هو اللزوم بدون الواسطة يتبادر منه عند الإطلاق كون الشرط شرطا والجزاء مشروطا ، بل نقول الظاهر من اعتبار المقدّم ملزوما والتالي لازما أن يكون الملزوم شرطا بالمعنى المتقدّم واللازم مشروطا له مطلقا ، يعني كون الأوّل سببا والثاني مسببا وهو المعنى المتقدّم ».

ثمّ قال : « منشؤه أنّ صفة اللازميّة لازمة للمشروط دون الشرط ، فإنّه قد لا يكون لازما ، فلها مزيد اختصاص به ولهذا ينصرف مطلقها إليه ، فهذا هو السرّ في تبادر شرطيّة الشرط للجزاء عند الإطلاق مطلقا ، لا كون أداته موضوعة لذلك إذ المفهوم منها في الموارد ليس إلاّ معنى واحدا وهو كون الجزاء لازما للشرط ». انتهى.

وملخّصه : أنّ الجملة الشرطيّة بوضع الأداة تفيد الملازمة بين المقدّم والتالي مطلقا ، وهذا ينصرف إلى كون المقدّم ملزوما والتالي لازما مطلقا ، وإطلاق لازميّة التالي ينصرف إلى كونه مشروطا وملزومه شرطا (١).

ويرد عليه : أنّ الانصراف لا بدّ له من موجب ، فإن كان لكمال الفرد بدعوى : أنّ لازميّة التالي للمقدّم له فردان ، أحدهما : كون المقدّم شرطا أي سببا له ، والآخر : كونه مشاركا له في العلّة ، والأوّل أكمل الفردين فينصرف إليه إطلاق اللازميّة.

فيرد عليه : أنّ كمال الفرد لا يصلح موجبا للانصراف عند المحقّقين كما هو المحقّق وإن كان بالغلبة والشيوع على معنى أنّ الغالب في لازميّة التالي للمقدّم كون المقدّم شرطا وسببا له فينصرف إليه مطلقها.

ففيه : أنّ ظهور الجملة أو الأداة في السببيّة إنّما هو لحاقّ اللفظ من دون غلبة ولا شيوع كما هو واضح.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأنسب أن يقال : « وإطلاق لازميّة التالي ينصرف إلى كونه مسبّبا وملزومه سببا ».

٢٥٦

فإنّ التحقيق أنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن من اللفظ هو الربط الخاصّ أعني الربط السببي ، لا أنّه ينتقل أوّلا إلى الربط اللزومي مطلقا ثمّ ينتقل ثانيا إلى الربط السببي.

الجهة الثالثة

في أنّه لا ينبغي التشكيك في ظهورها في تماميّة السبب واستقلاله ، على معنى عدم افتقار الشرط في ترتّب الجزاء عليه واقتضائه لوجوده إلى انضمام وجود أمر وجوديّ يقال له : « الشرط » إليه ، ولا إلى اعتبار عدم أمر عدمي يقال له : « المانع » معه ، بحيث لولا وجود الأوّل أو عدم الثاني لم يكن وجوده كافيا في ترتّب الجزاء عليه.

ومرجع هذا الظهور إلى التلازم بينهما في الوجود ، على معنى كون الشرط كالمجيء في قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » بمقتضى ظهور التعليق بحيث كلّما وجد كان وجوده كافيا في ترتّب الجزاء عليه ، سواء وجد معه غيره ممّا احتمل كونه شرطا من أجزاء العالم أو لم يوجد ، وسواء عدم معه غيره ممّا احتمل كونه مانعا من أجزاء العالم أو لم يعدم ، فلو احتمل في المثال المذكور كون عدالة زيد أو ركوبه معتبرا مع مجيئه في وجوب إكرامه أو احتمل كون فسقه مانعا من وجوب إكرامه لم يلتفت إليه ، بل يبني على عدم الشرطيّة وعدم المانعيّة عملا بالظهور المذكور ، وهذا الظهور يفارق الظهور المتقدّم في الجهتين الاوليين في كون ما تقدّم ظهورا وضعيّا وهذا إطلاقي ، لاستناده إلى إطلاق ورود الشرط في القضيّة ، بمعنى عدم ذكر قيد وجوديّ ولا عدمي معه.

فالشكّ في شرطيّة شيء في تأثيره واقتضائه في وجود الجزاء أو في مانعيّة شيء آخر من تأثيره واقتضائه ، يرجع إلى الشكّ في تقييده بالقيد الوجودي أو العدمي ليكون المؤثّر التامّ هو المقيّد ، فينفى بالإطلاق وأصالة عدم التقييد.

مضافا إلى أنّه لولا المؤثّر والسبب التامّ في نظر المتكلّم هو الشرط المذكور في القضيّة مطلقا ولا بشرط شيء من القيود الوجوديّة والقيود العدميّة لزم السكوت عن بيان القيد في محلّ الحاجة إلى البيان وأنّه قبيح ، لكونه من الإغراء بالجهل القبيح على المتكلّم الحكيم ، وتوهّم سبق ذكر القيد أو عدم الحاجة إلى ذكره مدفوع بفرض خلافه.

لا يقال : كيف يمكن نفي المدخليّة في التأثير عن كلّ ما عدا الشرط تمسّكا بالإطلاق ، مع أنّه قد يكون الشيء سببا للشرط ، أو شرطا من شروطه ، أو سببا لسببه ، أو شرطا من شروط سببه ، إلى غير ذلك من مقدّمات وجود الشرط الّتي لها مدخليّة في تأثيره ولو

٢٥٧

بالواسطة ، بل نفي المدخليّة من نحو هذه المقدمات غير معقول ، إذ لا تحقّق للشرط بدونها حتّى يترتّب عليه الجزاء بالاستقلال ، لعدم كون محلّ التمسّك بالإطلاق نحو هذه الامور.

أمّا أوّلا : فلعدم كون مدخليّة هذه الامور من محلّ الاحتمال والشكّ ليصحّ نفيه بالإطلاق أو الأصل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الغرض نفي مدخليّة ما احتمل مدخليّته من الامور الملحوظة في جانب العرض من الشرط ، لا نفيها فيما احتمل مدخليّته من الامور الواقعة في جانب طوله ، والامور المذكورة من هذا القبيل لكونها من مقدّمات وجود الشرط لا ممّا احتمل كونه كالشرط مقدّمة لوجود الجزاء.

والأصل فيما ذكرناه من الفرق : أنّ الكلام في تماميّة الشرط واستقلاله بعد الفراغ عن إحراز وجوده ولا يمكن له الوجود إلاّ بعد تحقّق جميع ما له مدخليّة في وجوده.

فإذا وجد أو فرض إمكان وجود [ ه ] بتحقّق جميع مقدمات وجوده ثمّ شكّ في مدخليّة شيء آخر في تأثيره ممّا ليس من قبيل مقدّمات وجوده ـ كعدالة زيد ، أو ركوبه ، أو عدم فسقه ، أو نحو ذلك ممّا يحتمل مدخليّته مع مجيئه في تأثيره في وجود [ ه ] ممّا هو على تقدير ثبوت المدخليّة من مقدّمات وجود الجزاء لا من مقدّمات وجود الشرط حتّى أنّه لو كان الجزاء من قبيل الوجوب كوجوب إكرام زيد كان ذلك على تقدير المدخليّة من شروط الوجوب لا من مقدّمات وجود شرطه وسببه ـ ينفى احتمالها بالإطلاق والأصل.

الجهة الرابعة

في أنّ الشرط بعد ما ثبت كونه سببا تامّا ـ على معنى ثبوت التلازم بينه وبين الجزاء في الوجود ـ هل هو سبب على التعيين باعتبار انحصار سبب وجود الجزاء فيه ، أو على البدل باعتبار كونه أحد أسباب وجود الجزاء؟

فعلى الأوّل يثبت بينهما التلازم في العدم أيضا ، فمرجع البحث في ظهور الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط في انحصار السبب في الشرط المذكور فيها وعدم ظهورها فيه إلى ظهورها في التلازم بينهما في العدم أيضا ، على معنى كون الشرط بمقتضى ظاهر التعليق بحيث يلزم من عدمه مطلقا عدم الجزاء ، أي سواء قام مقامه ما احتمل كونه سببا أو لم يقم.

فملخّص عنوان البحث في الجهة الرابعة : أنّ الجملة الشرطيّة بمقتضى ظاهر التعليق هل تفيد كون الشرط سببا على التعيين ، أو تفيد كونه سببا مع السكوت عن كونه كذلك

٢٥٨

على التعيين أو على البدل.

فنقول : الظاهر المتبادر من الجملة الشرطيّة في متفاهم العرف كقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » كون وجود الجزاء بحيث يترتّب على وجود الشرط ، فيكون بحيث يترتّب عدمه على عدمه.

وهذا هو معنى التلازم بينهما في العدم ، حصل انفهامه بعد انفهام التلازم في الوجود.

فالظهور وضعيّ من باب دلالة الالتزام باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ وبذلك يفارق عن الظهورات الاخر.

وتوضيح المقام : أنّ التعليق المستفاد من الجملة الشرطيّة المفيد للسببيّة من مقتضى أداة الشرط بوضعها الإفرادي لا من مقتضى أصل الجملة الشرطيّة وذلك أنّ الجملة الشرطيّة بحسب الأصل جملتان حمليّتان : كـ « جاءك زيد » و « أكرمه » في المثال المذكور ، وظاهر أنّ هاتين الجملتين لا يقتضي إحداهما لذاتها ربطا ولا ارتباطا بالاخرى ، وقد تكون بحسب الواقع أو في لحاظ المتكلّم ، وجعله إحداهما مرتبطة بالاخرى باعتبار ترتّب مضمونها في الوجود على مضمون الاخرى ، فمسّت الحاجة إلى رابط يربطهما ويدلّ على ارتباط إحداهما بالاخرى بالاعتبار المذكور ، فوضعت له الأداة وما بمعناها ، فهي في الحقيقة موضوعة للنسبة بين مضموني الجملتين من حيث ترتّب أحدهما في الوجود على الآخر ويلزمه أن يترتّب عدمه أيضا على عدمه ، فالانتفاء عند الانتفاء الّذي هو عبارة عن التلازم بينهما خارج عن الوضع ولازم للموضوع له.

وممّا يرشد إلى ذلك أنّ وجود مضمون الجملة الثانية معلّقا على وجود مضمون الجملة الاولى هو الّذي صرّح به في الكلام واريد من الجملة الثانية ، ضرورة أنّ الّذي يراد من قوله : « فأكرمه » إنّما هو وجوب الإكرام على تقدير وجود المجيء ، وأمّا عدم وجوبه على تقدير عدم المجيء فلا يتحمّله هذا اللفظ ، بأن يكون مستعملا فيه لذلك اللفظ ، كما أنّ الوجوب كذلك لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، فالانتفاء عند الانتفاء حينئذ خارج عن الموضوع له المستعمل فيه اللفظ ولازم له ، فقولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » يدلّ على وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه مطابقة وهو المنطوق ، وعلى نفي وجوب إكرامه التزاما وهو المفهوم ، ولزوم الثاني للأوّل إنّما نشأ من وضع الأداة للربط السببي بين الشرط والجزاء والدلالة على النسبة بين مضمونيهما من حيث ترتّب وجود مضمون الثاني على

٢٥٩

وجود مضمون الأوّل ، فيكون الالتزام لفظيّا وضعيّا باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ لا غير ، لوضوح لزوم تصوّر الثاني من تصوّر الأوّل.

ولما كان مرجع الكلام في إثبات التلازم المذكور إلى البحث عن حجّيّة مفهوم الشرط ففي تحقيقه مزيد بحث وزيادة كلام يأتي في أصل المسألة إن شاء الله ، فليكن ما قرّرناه هنا على ذكر منك حتّى يلحقك تمام الكلام في محلّه.

المقدمة الثالثة

ذكر جماعة منهم السيّدان السندان بحر العلوم في فوائده وصهره في مفاتيحه إنّ ثمرة النزاع تظهر في المفهوم المخالف للأصل لا الموافق له.

قال في الفوائد : « إنّ ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا كان حكم المفهوم مخالفا للأصل ، وأمّا مع موافقته له فأصل الحكم ثابت وإن تعدّد المدرك على القول بالحجّيّة ، واتّحد على القول بعدمها ».

وقال في المفاتيح : « ويظهر ثمرة الخلاف في مواضع :

منها : ما لو كان الحكم المذكور في المنطوق موافقا للأصل ، نحو « إن لم تكن مستطيعا فلا يجب عليك الحجّ » و « إن لم تسرق فلست بضامن » و « إن بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » فإنّ القائل بالحجّيّة يثبت بها حكما مخالفا للأصل وهو « وجوب الحجّ » و « تحقّق الضمان » و « النجاسة » عند الاستطاعة والسرقة وعدم بلوغ الماء قدر كرّ ، والقائل بالعدم لا يثبت ذلك بل يتمسّك بالأصل في غير المنطوق ويسوّى بينه وبين غيره.

ومنها : ما لو ذكر حكما مخالفا للأصل على سبيل العموم نحو : « أكرم العلماء » ثمّ علّقه على أمر بكلمة « إن » نحو : « أكرم العلماء إن كانوا طوّالا » وعلمنا باتّحاد التكليف ، فإنّ المانع من الدلالة لا يخصّص العامّ والمثبت لها يخصّصه نظرا إليها ، وأمّا لو أطلق حكما مخالفا للأصل ثمّ علّقه كذلك نحو : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة إن كانت مؤمنة » فلا يظهر فيه ثمرة للمسألة ، لأنّ اللازم حينئذ حمل المطلق على المقيّد اتّفاقا.

اللهمّ إلاّ أن يكون الحكم وضعيّا نحو : « الماء طاهر » و « إن كان الماء قدر كرّ فهو طاهر » فتفرّع على المسألة.

وكذا لا يظهر الثمرة فيما إذا علّق ابتداء بكلمة « إن » نحو : « إن جاءك فأكرمه » فإنّ اللازم الحكم في غير المنطوق بما يقتضيه الأصل وهو الّذي يقول به القائل بالدلالة.

٢٦٠