تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

فقال : « وفي الفقهاء والمتكلّمين من يجوّز أن يأمر الله تعالى بشرط أن لا يمنع المكلّف من الفعل ، أو بشرط أن يقدره. ويزعمون : أنّه يكون مأمورا بذلك مع المنع* (١). وهذا غلط ؛ لأنّ الشرط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها ،

___________________________________

كيف وأنّ هذا التعبير إنّما يتأتّى النزاع فيه بعد الفراغ عن النزاع في التعبير المعروف والبناء فيه على كون شرائط الوقوع ما أخذت عقلا أو شرعا شروطا للوجوب أيضا ، ولولا ما يأتي من عبارة السيّد لجزمنا بعدم كون مراده في هذه التأدية التعبير عن العنوان المعروف ، بل هي ايراد لمسألة كلاميّة اخرى مستقلّة برأسها.

(١) * يعني زعموا أنّه يكون مأمورا بذلك الفعل مع انتفاء شرطه وهو عدم المنع من الفعل.

وهذا من السيّد قدس‌سره هو الّذي ربّما يدخل في الوهم ما دعى المصنّف إلى التصديق فيما ادّعاه سابقا من كون ذلك تعبيرا عن العنوان المعروف ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك.

ثمّ لا يخفى ما في هذا التعبير من المناقضة الواضحة ، فإنّ الأمر إذا فرض وروده منه تعالى مشروطا فكيف يقال معه بكون المكلّف مأمورا بالفعل مع انتفاء الشرط أيضا؟ ولو صحّ مع ذلك كونه مأمورا عند العقل فكيف يقال بكون الأمر مشروطا؟ فإنّ إثبات كلّ يستلزم نفي الآخر والجمع بينهما جمع بين المتناقضين ، إلاّ أن يراد بالاشتراط ما كان بصورة التعليق لا التعليق الحقيقي ، وحينئذ يبطل جميع ما ذكره السيّد في ابطال هذا القول ، إذ لا مانع عقلي ولا شرعي عن التعليق الصوري إذا ساعد عليه حكمة راجحة في نظر الحكيم.

وكيف كان فالعمدة صرف النظر في تحقيق أصل المطلب ، وهو أنّه هل يصحّ التعليق من العالم بالعواقب أو لا؟ ففيه خلاف على قولين أو أقوال :

أوّلها : عدم الصحّة مطلقا ، صرّح به السيّد فيما حكاه عنه المصنّف قائلا : « بأنّ الشرط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها ، فأمّا العالم بالعواقب وبأحوال المكلّف فلا يجوز أن يأمره بشرط » ويستفاد من أطراف كلامه كون سند المنع عنده القبح العقلي من جهة اللغويّة ونحوها.

ووافقه الشيخ رحمه‌الله أيضا ـ على ما حكاه بعض الأعاظم ـ وتبعهما المصنّف حيث استحسن ما ذكره السيّد وارتضاه بعد ما فرغ من نقل كلامه ، وعليه بعض الأعلام في قوله :

٤٤١

« إنّ التعليق على ما يفهم منه هنا ممّا لا يصحّ على العالم بالعواقب ولا يحسن الشرط منه على ظاهره » (١) غير أنّه خالفه في السند حيث علّله بظهور التعليق في الجهل وهو ينافي العلم ، حتّى أنّه التزم بتأويل الاشتراط الّذي يكثر وقوعه في خطابات الشرع ، فقال : ينحلّ الاشتراط حينئذ إلى حكمين مطلقين ثبوتيّ بالنسبة إلى الواجد وسلبيّ بالنسبة إلى الفاقد » (٢) وتبعه مختارا ودليلا بعض الأعاظم حتّى أنّه صرّح بعدم الفرق في ذلك بين كون الشرط حاصلا أو لا ، إذ على تقدير وجوده يلغو الشرط كما أنّه على تقدير العلم بعدم وجوده يلغو الأمر ، غير أنّه استثنى صورة فقال : « نعم يمكن وروده لحكمة ومصلحة اخرى وهي غير عزيزة ولا كلام فيه ، ولكنّه خلاف الظاهر » (٣) وفي الجميع نظر يظهر وجهه فيما بعد.

ثانيها : الصحّة مطلقا ، محكيّ عن المدقّق الشيرواني ووافقه بعض الفضلاء فقال : « إن أرادوا أنّه في نفسه غير جائز فممنوع ، إذ لا ريب في أنّ الفعل قد يكون بحيث لو وجد الشرط لكان مطلوبا ، وظاهر أنّ مفاد الأمر على وجه الاشتراط لا يزيد على ذلك ، فلا بأس بالكشف عن هذا المعنى بطريق الأمر مع التعليق ، ولا فرق في ذلك بين التصريح بالاشتراط حال [ الأمر ] أو بعدها أو التعويل على دلالة العقل ، وإن أرادوا أنّ الأمر حال العلم بعدم الشرط ممّا لا فائدة فيه فيكون سفها فهو على إطلاقه ممنوع اذ قد يترتّب عليه فوائد وتسرية المنع إلى الجاهل المتمكّن من تحصيل العلم بالشرط على الإطلاق أوضح فسادا ، إذ قد يكون الأمر بالشرط أسهل من الاستعلام فيرجّح عليه.

وأمّا ما تمسّك به السيّد من أنّ الشرط إنّما يحسن ممّن لا يعلم العواقب فلا نرى منه ذلك إلاّ مجرّد دعوى ، إذ لا شاهد عليها لا عقلا ولا نقلا ، وقد ورد التعليق على الشرط في الكتاب في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى : ( إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(٤) و ( إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ )(٥) و ( إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ )(٦) و ( إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ )(٧) إلى غير ذلك » (٨).

وفي ضوابط ابن عمّنا قدس‌سره بعد ترجيح الجواز في موضع وجود الثمرة استظهار عدم كون ذلك النزاع نزاعا في الكبرى ، بل هو نزاع في الصغرى راجع إلى وجود الفائدة وعدمه مع التعليق ، فمع وجودها اتّفق الكلّ على الجواز والمنكر إنّما ينكر وجود الفائدة ، مع التصريح بأنّ الحقّ وجودها وهي أنّ التعليق أربط بالابتلاء وأتمّ لإتمام الحجّة والامتحان.

__________________

(١ و ٢) القوانين ١ : ١٢٤.

(٣) إشارات الاصول : ٨٨.

(٤) المائدة : ٦.

(٥) البقرة : ٢٢٩. (٦) النساء : ٢٠.

(٧) البقرة : ٢٨٠. (٨) الفصول : ١١٠.

٤٤٢

فتبيّن بجميع ما ذكر أنّ عدم الجواز في الجملة اتّفاقيّ ، أو يقال : انّ إناطة الحكم بحصول الفائدة وعدمه تفصيل في المسألة واقع بين الإطلاقين ـ على ما عرفتهما ـ إطلاق السيّد ومن تبعه في المنع وإطلاق محكيّ الشيرواني في الجواز ، فيكون ذلك ثالث الأقوال.

وإذا تمهّد ذلك فاعلم : أنّ التعليق في مقابلة التنجيز من « النجز » بمعنى الحضور ، فالمنجّز هو الأمر المحقّق في الخارج فعلا باعتبار عدم كونه مربوطا بأمر غير حاصل ، وفي الأمر عبارة عن الطلب الصادر من المتكلّم فعلا ، فالتعليق مأخوذ عن « العلقة » بمعنى الربط الّذي يرد في مثل : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن استطعت فحجّ » أو « أكرم زيدا إن جاءك » و « حجّ إن استطعت » وغيرهما من الجمل الشرطيّة الإنشائيّة الدائرة في استعمالات العرف والشرع.

ولا يذهب عليك أنّ محلّ التعليق بالمعنى المتنازع فيه ليس هو الطلب الإنشائي القائم بذهن المتكلّم المدلول عليه بصيغة الأمر ، فإنّه يقع من المتكلّم فعلا حال الخطاب ويستكمل جميع جهاته من الصدور والتعلّق بالمطلوب والمطلوب منه ، ولا يعقل فيه التعليق بالمعنى المتنازع ، بل محلّ هذا التعليق إنّما هو متعلّق هذا الطلب الصادر من المتكلّم فعلا الّذي هو موضوع الحكم ، وهو وقوع الإكرام ووقوع الحجّ في الخارج في المثالين ، فإنّه معلّق ومربوط فيهما بالمجيء والاستطاعة فيبقى مراعى بحصولهما وموقوفا على وجودهما ، ويتعلّق الطلب الفعلي المنجّز لهذا الموضوع المعلّق ، وذلك أنّ المتكلّم بطلبه الإكرام أو الحجّ على تقدير مجيء زيد أو الاستطاعة يربط وقوع الإكرام بمجيء زيد ووقوع الحجّ بالاستطاعة فيقع الطلب منجّزا والمطلوب معلّقا وموقوفا في وجوده الخارجي على حصول المجيء والاستطاعة.

وبالجملة نحن لا نعقل فرقا بين قول القائل : « أكرم زيدا » وقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » في تنجّز الطلب فيهما معا ، على معنى صدوره من المتكلّم فعلا حال الخطاب ، وإنّما يحصل الفرق بينهما في أنّ متعلّق ذلك الطلب في الأوّل هو الإكرام الغير المقدّر بمجيء زيد ، ولذا يكون وقوعه مطلوبا على كلا تقديري حصول المجيء وعدم حصوله ، وفي الثاني هو الإكرام المقدّر بمجيئه فيكون مطلوبا على تقدير حصوله ولا يكون مطلوبا على تقدير عدم حصوله ، فالتعليق وصف في موضوع الطلب لا في نفسه ، ولو وصف به الطلب أو الوجوب في بعض الأحيان فإنّما هو على وجه المجاز من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف ، أو يراد بالوجوب الأثر المترتّب على الطلب الإنشائي وهو كون الفعل بحيث

٤٤٣

يستحقّ تاركه العقاب ، أو الوجوب العقلي الناشئ منه الطلب الإنشائي وهو كون الفعل بحيث يستحقّ تاركه الذمّ ، أو يراد من التعليق جعل الطلب الإنشائي متعلّقا بالموضوع المقيّد وقوعه بوجود الشرط ، كما ورد لهذا المعنى ما في قولهم في مباحث المفاهيم : « تعليق الحكم بالشرط أو بالوصف أو بالغاية » أو بغيرها ممّا هو معنون في المباحث المذكورة.

والأصل فيما ذكرناه ـ كما قرّرناه في مبحث الواجب المشروط والواجب المعلّق ونفي الفرق بينهما من بعض رسائلنا ـ أنّ الشرطيّة ترد لإفادة التعليق خبريّة كانت أو إنشائيّة ، والتعليق لا يقع قطّ على حكم القضيّة خبريّا كان أو إنشائيّا ، فكما أنّ المخبر في نحو : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » بإسناده الوجود إلى النهار على تقدير طلوع الشمس [ يربط ] نسبة الوجود إلى النهار بنسبة الطلوع إلى الشمس فيقع الإسناد منه منجّزا ، ويبقى النسبة الخارجيّة المأخوذة في التالي معلّقة في تحقّقها الخارجي على طلوع الشمس ، ومعناه : كون وجود النهار في وقوعه مراعى بطلوع الشمس وموقوفا عليه ، فكذلك المنشئ في نحو : « إن جاءك زيد فأكرمه » بطلبه إكرام زيد على تقدير مجيئه يربط وقوع الإكرام في الخارج بوجود المجيء فيقع الطلب منجّزا والمطلوب معلّقا ، فإنّ الطلب في الإنشاء بمنزلة الإسناد في الخبر ، وكما أنّ الإسناد في الخبر نسبة في المتكلّم فيه ولا تعليق فيها فكذلك الطلب في الإنشاء نسبة في المتكلّم فلا تعليق فيها ، فالتعليق دائما يقع على موضوع الحكم لا على نفسه خبريّا كان أو إنشائيّا.

وحينئذ فالمكلّف الّذي هو السامع في الخطاب بالشرطيّة المفيدة للتعليق إمّا فاقد للشرط المعلّق عليه حال الخطاب أو واجد له ، والأوّل إمّا أن يكون بحيث يلحقه الشرط ويوجد له في الأزمنة المتأخّرة أو يكون بحيث لا يلحقه الشرط أصلا فالصور ثلاث :

أمّا الصورة الاولى : وهي فقدان المكلّف للشرط مع كونه بحيث يلحقه في الزمان المتأخّر ، فلا ينبغي التأمّل في صحّة التعليق فيها من الآمر الحكيم سواء كان عالما بفقدان الشرط ولحوقه في الزمان المتأخّر أو جاهلا بهما أو بالثاني منهما ، ولا مانع منه من سفه أو لغويّة أو غير ذلك ، وفائدته تنبيه المخاطب على كون وقوع الفعل المعلّق على وجود الشرط مطلوبا بعد وجود الشرط ، ويقال له : « المنطوق » وعدم كونه مطلوبا بدون وجوده ويقال له : « المفهوم » وهذا هو التعليق الحقيقي وحقيقة الجملة الشرطيّة ، حتّى أنّ المحقّقين من أهل القول بحجّيّة مفهوم الشرط ـ ومنهم بعض الأعلام ـ علّلوا الحجّيّة بظهور الشرطيّة

٤٤٤

في سببيّة المقدّم للتالي وكونها حقيقة فيها للتبادر ، وفسّروها بالوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء.

فما ذكره بعض الأعلام (١) من أنّ الشرطيّة في خطابات الشارع تنحلّ إلى إفادة حكمين مطلقين بالنسبة إلى الواجد والفاقد وسمّاه « تأويلا » إن أراد به هذا المعنى نظرا إلى أنّ المحصّل من مطلوبيّة الفعل على تقدير وجود الشرط وعدم مطلوبيّته على تقدير عدم وجوده في مثل : « حجّوا إن استطعتم » إثبات الوجوب على الواجد ونفي الوجوب عن الفاقد فهو ليس من التأويل في شيء ، بل هو أخذ بظاهر الشرطيّة ، وإن أراد به غير هذا المعنى فمع أنّه غير متصوّر لا حاجة إلى التأويل إليه بعد إمكان الأخذ بالظاهر ، وما تقدّم منه أيضا من تعليل عدم صحّة التعليق من العالم بالعواقب بظهور التعليق في الجهل وهو ينافي العلم غير سديد ، لمنع ظهوره في الجهل لما عرفت من صحّته من العالم والجاهل معا ، ولو سلّم فيكفي فيه جهل السامع وليس بلازم فيه كونه من المتكلّم الحكيم.

وأمّا الصورة الثانية : وهي الفاقد الّذي لا يلحقه الشرط أصلا فيصحّ التعليق فيها من الجاهل بالعواقب لمجرّد كونه محتملا لحصول الشرط وإن تبيّن فيما بعد عدم حصوله ، وخروج الطلب والتعليق منه حينئذ لغوا غير قادح في الصحّة المبتنية على الاحتمال لكونه رافعا للقبح اللازم من اللغويّة ، والظاهر أنّه ممّا لا كلام لهم فيه ولذا فرضوا النزاع في تعليق العالم بالعواقب ، وهذا منه في هذه الصورة غير صحيح للزوم اللغو والسفه ، فإنّ غاية ما يذكر في وجه صحّته كونه يقصد به العزم وتوطين النفس على الامتثال ليثاب به في الآخرة كما تقدّم في عبارة العميدي عند بيان أنّ الأمر في مسألة « الأمر بما علم انتفاء شرطه » هل اريد به الأمر المنجّز أو الأمر المعلّق؟

ويدفعه : أنّ هذا الغرض في مثل : « صم غدا إن عشت فيه » ممّن يعلم أنّه سيموت في الغد يحصل بالأمر المطلق وهو قوله : « صم غدا » فيبقى التعليق والإتيان بالشرطيّة لغوا.

وأمّا الصورة الثالثة : أعني الواجد للشرط فقد يصحّ التعليق لإفادة المطلوبيّة مع وجود الشرط وعدم المطلوبيّة بدونه فيما جهل السامع وجدانه الشرط ، فيستعلم حينئذ كونه واجدا بالفحص والاجتهاد ، كما لو قال لمن لا يعلم أنّه مستطيع : « إن استطعت فحجّ » والآمر عالم باستطاعته ، وفيما لو علم السامع كالآمر وجدانه الشرط ولكن لا يعلم سببيّته

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٤.

٤٤٥

فأمّا العالم بالعواقب وبأحوال المكلّف ؛ فلا يجوز أن يأمره بشرط » * (١).

قال : « والّذي يبيّن ذلك أنّ الرّسول صلى الله عليه وآله لو أعلمنا أنّ زيدا لا يتمكّن من الفعل في وقت مخصوص ، قبح منّا أن نأمره بذلك لا محالة. وإنّما حسّن دخول الشرط فيمن نأمره فقد علمنا بصفته في المستقبل. ألا ترى أنّه لا يجوز الشرط فيما يصحّ فيه العلم ولنا إليه طريق نحو حسن الفعل** (٢) ، لأنّه ممّا يصحّ أن نعلمه ، وكون المأمور متمكنا لا يصحّ أن نعلمه عقلا ؛ فاذا فقد الخبر ، فلا بدّ من الشرط ، ولا بدّ من أن يكون أحدنا في أمره يحصل في حكم الظانّ لتمكّن من يأمره بالفعل مستقبلا ، ويكون الظنّ في ذلك قائما مقام العلم. وقد ثبت أنّ الظنّ يقوم مقام العلم إذا تعذّر العلم. فأمّا مع حصوله ، فلا يقوم مقامه. وإذا كان القديم تعالى عالما بتمكّن من يتمكّن ، وجب أن يوجّه الأمر نحوه ، دون من

___________________________________

للجزاء فيقصد الآمر بالتعليق إفادة للسببيّة ، وذلك كما لو قال أحد للمعصوم عليه‌السلام : « أفطرت في نهار رمضان » فقال عليه‌السلام : « إن أفطرت في نهار رمضان فكفّر » يقصد بذلك تنبيهه على أنّ علّة توجّه الكفّارة إفطاره ليندم عن فعله ويلوم نفسه.

فتبيّن ممّا ذكرنا أنّ إطلاق المنع والجواز في تعليق العالم بالعواقب غير سديد ، بل الحقّ هو التفصيل حسبما بيّنّاه ، والظاهر أنّ مرجعه إلى ما تقدّم من القول الثالث وهو التفصيل بين وجود الفائدة وعدم وجودها.

(١) * قد عرفت أنّ إطلاق هذا المنع غير مسلّم ، والمسلّم منه صورة وجود الشرط في الجملة حين الخطاب وصورة انتفائه مع عدم لحوقه فيما بعد أصلا ، وأمّا صورة الانتفاء مع العلم باللحوق فلا مانع من الأمر بشرط تنبيها على اختصاص الوجوب بما بعد وجود الشرط وانتفائه بدونه ، وإن كان ذلك في موضع علم المأمور بالاشتراط بحكم العقل كالحياة والقدرة وعدم منع مانع ، فإن غاية ما هنالك ورود الشرط في كلامه من باب التأكيد ولا ضير فيه.

(٢) ** فيه منع واضح ، فإنّا لا نرى قبحا في تعليق الجاهل وإن تمكّن من العلم وكان له طريق إليه.

وقد سبق عن بعض الفضلاء عند تحرير العنوان اعتراض عليه وهو في محلّه.

٤٤٦

يعلم أنّه لا يتمكّن. فالرسول صلى الله عليه وآله حاله كحالنا إذا أعلمنا الله تعالى حال من نأمره ، فعند ذلك نأمر بلا شرط ».

قلت : هذه الجملة الّتي أفادها السيّد ـ قدس الله نفسه ـ كافية في تحرير المقام ، وافية بإثبات المذهب المختار* (١) ، فلا غرو إن نقلناها بطولها ، واكتفينا بها عن إعادة الاحتجاج على ما صرنا إليه.

___________________________________

(١) * هذا مصير من المصنّف إلى ما حقّقه السيّد في مسألة التعليق بزعم أنّ ما عنون به من المسألة المعروفة راجع إليها. وقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه.

وكيف كان فينبغي العود إلى تحقيق الحال في المسألة المعبّر عنها بـ « أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط وقوعه » بناء على ما استظهرناه من كون « الأمر » مرادا به المطلق المنجّز ، ورجوع النزاع إلى نفي شرطيّة شروط الوقوع لصحّة التكليف وإثباتها.

فنقول : إن أراد المجوّزون للأمر مع العلم بانتفاء الشرط أنّه لا دليل من عقل ولا شرع على كون شروط الوقوع العقليّة أو الشرعيّة شروطا لصحّة التكليف موجبة لتقييد الوجوب بحالة وجودها ، بل يجوز تعلّق التكليف والوجوب بمن فقدها حتّى أنّه يكون مأمورا بإيقاع الفعل كما أنّ الواجد لها مأمور به ، ومرجعه إلى كون الفعل مطلوبا على كلا تقديري وجود الشروط وانتفائها كما يساعد عليه الثمرات المذكورة في الباب.

ففيه : أنّ الدليل على الشرطيّة من جهة العقل أو الشرع موجود ، لاستقلال [ العقل ] بقبح التكليف بغير المقدور ، بل هو من ضروريّات العقول وعليه إجماع العدليّة ، وهو المستفاد من قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(١) و ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع عن امّتي تسعة » (٣) إلى آخره وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي بعثت على الملّة الحنيفيّة السمحة السهلة » (٤) وفحوى الأدلّة النافية للعسر والحرج وغير ذلك من الآيات والروايات.

وإن أرادوا أنّ الأمر بما انتفى عنه شروط الوقوع لمّا كان صحيحا لمجرّد الابتلاء فيكشف ذلك عن عدم كونها من شروط التكليف ، وإلاّ لزم أن لا يصحّ التكليف الابتلائي ،

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) الأنفال : ٤٢.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ح ١.

(٤) الكافي ٥ : ٤٩٤ ، ح ١.

٤٤٧

لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه وهو خلاف ما علم بالضرورة والوجدان.

ففيه : ما تقدّم من أنّ الأمر الابتلائي ليس من باب الطلب الحقيقي بل هو إنشاء لصورة الطلب إدراكا لمصلحة الابتلاء ، فهو ملحوظ من باب غاية الخطاب من دون أن يتحقّق معه طلب يتعلّق بالفعل ، ولو سلّم فهو طلب يرجع إلى ما يحصل به الابتلاء من العزم والتوطين وفعل المقدّمات لا إلى نفس الفعل المنتفي عنه شروط الوقوع.

ولا ريب أنّه حينئذ أمر بما جامع الشروط لكون الانتفاء مفروضا في الفعل الّذي لو لا انتفاؤها فيه لكان هو المأمور به لا في مقدّماته ولا في العزم عليه ولا توطين النفس لأجله ، فالأمر الابتلائي له اعتباران ، والفرق بينهما أنّ الأوّل تصرّف في صيغة الأمر الموضوعة لإنشاء الطلب الحقيقي بإرادة الطلب الصوري ، والثاني تصرّف في مادّته بإرادة أحد الامور المذكورة من المادّة الموضوعة لأصل الفعل.

فالحقّ في المسألة : أنّ الشرط المنتفي إن كان كالإرادة ممّا هو مقدور للمكلّف فلا مانع من الأمر بالمشروط مع العلم بانتفائه حتّى مع العلم بعدم لحوقها لوجود الصارف ، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ، والمأمور بالمشروط مكلّف بإيجاد الشرط أيضا مقدّمة ، وإن كان ممّا عداها من الشروط الغير المقدورة له كالطهارة عن الحيض والحياة والقدرة والعقل وعدم المانع فهي شروط في التكليف أيضا ولا يصحّ لمن علم انتفاء شيء منها أن يأمر بالمشروط على وجه رجع مفاده إلى الأمر الحقيقي لقبح التكليف بغير المقدور ، إلاّ إذا كان الشرط المنتفي بحيث يلحقه ويوجد له فيما بعد فيصحّ الأمر به حينئذ مطلقا أو مشروطا مع كون المطلوب إيقاعه بعد حصول الشرط ، فيصحّ مع تقييد المأمور به أيضا بما بعد حصوله كأن يقول : « صم غدا بعد ما عشت فيه » و « أكرم زيدا بعد ما جاءك » و « افعل كذا بعد ما قدرت عليه » لكون المعنى في الجميع بحسب اللبّ واحدا على ما يقضي به القوّة العاقلة والوجدان الضروري.

وأمّا الأمر الابتلائي فيما لا يلحقه الشرط فقد عرفت أنّه ليس من التكليف الحقيقي ، ولو سلّم فهو تكليف بما هو خارج من موضوع المسألة مع صحّته على التقديرين بلا خلاف وإن تضمّن تجوّزا في الصيغة أو المادّة ، إلاّ إذا أدّى إلى الجمع بين معنى الحقيقي والمجازي في الخطاب فيما لو توجّه إلى متعدّدين مع اختلاف حالاتهم في استكمال الشرائط وعدمه ، فحينئذ لا يصحّ تناوله للفاقدين منهم على وجه الحقيقة ولا على نحو

٤٤٨

المجاز ، وليس بين المعنيين مفهوم عامّ يراد من اللفظ من باب عموم المجاز ، وعلى فرضه ـ كما قيل من أن يراد منه التوجّه إلى الامتثال بمضمونه حسب الاستطاعة ، بمعنى عدم التغافل ممّا له مدخليّة في ذلك سواء كان هو نفس المقدّمات أو الشروع أو هذه مع بعض أجزاء المأمور به ـ فهو مجاز مرجوح لغاية شذوذه وكمال ندرته ، ومع هذا فلا يصار إليه إلاّ حيث ساعد عليه قرينة واضحة وليست موجودة في المقام ، مع كون الأصل في الاستعمال الحقيقة ، ومجرّد انتفاء الشرط لا يصلح قرينة عليه على جهة التعيين ، لارتفاع ما يلزم من جهته من محذور التكليف بغير المقدور بالتخصيص أيضا ، فيقدّم عليه لأنّه أرجح.

وعن المعتزلة المانعين من الأمر بما علم انتفاء شرطه ، الاحتجاج بوجوه :

منها : ما أشار إليه الحاجبي وغيره من أنّ الفعل الّذي علم الآمر بانتفاء شرط وقوعه ليس بممكن ، فلو صحّ الأمر به لم يكن إمكان المكلّف به شرطا في التكليف ، والتالي باطل بالاتّفاق فكذا المقدّم.

وأجابوا عنه : بما تقدّم الإشارة إليه في المقدّمة الثانية ، ويدفعه : عدم الفرق في استحالة التكليف بالممتنع بين الممتنع بالذات والممتنع بالعرض لوحدة المناط وهو تعذّر الامتثال ، والاعتذار له بأنّ التكليف بالشيء لا يقتضي وقوع المكلّف به لأنّه قد يكون لأجل الابتلاء كما تقدّم ثمّة ، يدفعه : ما حقّقناه من خروج الأمر الابتلائي بكلا اعتباريه عن موضوع المسألة لأنّه ليس تكليفا في الحقيقة ، ولو سلّم فهو تكليف بما عدا الفعل المنتفي عنه الشرط.

ومنها : أنّه لو صحّ التكليف بما علم الآمر انتفاء شرطه لصحّ بما علم المأمور أيضا قياسا عليه ، والجامع كون كلّ واحد معلوما عدم حصوله ، والتالي باطل بالإجماع فكذا المقدّم ، وقد أشار إليه الحاجبي أيضا.

وأجابوا عنه : بما تقدّم الإشارة إليه عند تحرير الأقوال.

ويدفعه : أنّ محصّل الجواب جعل فائدة التكليف فيما علم الآمر العزم على الامتثال وهذه الفائدة لا تتمشّى فيما علم المأمور ، لعلمه بالامتناع. فلا يعزم على الامتثال فيلغو التكليف.

وقد عرفت حال التكليف الابتدائي المقصود به العزم على الامتثال من خروجه من موضوع المسألة.

ومنها : ما قرّره في المنية من « أنّ الفعل مع عدم شرطه ممتنع ، ولا شيء من الممتنع

٤٤٩

بمأمور به ، أمّا الصغرى : فظاهر ، وأمّا الكبرى : فلئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق » وهذا حسن لولا الذبّ عنه بكون التكليف للابتلاء ، فلا بدّ لتتميم الاستدلال من دفعه بما ذكرناه مرارا من خروج التكليف الابتلائي من موضوع المسألة.

ومنها : ما احتجّ به بعض الأعاظم (١) ـ مضافا إلى بعض ما ذكر ـ من أنّ تعلّق الأمر بالفعل من العالم بالعواقب مع عدم شرط وجوبه وعدم مطلوبيّته بعد ظهور عدم الشرط ـ كما هو متّفق عليه بين الفريقين ـ مستلزم لكون الشيء مطلوبا وغير مطلوب ، مرادا وغير مراد [ فصدوره محال من العاقل فكيف بالحكيم ].

وأيضا لو أوجبنا الفعل لاوجبناه إمّا مطلقا أو مع عدم المانع وكلاهما خلاف الفرض ، فإنّ المفروض كونه واجبا مشروطا كما أنّ المفروض وجود المانع فلا طلب في وجه.

وأيضا لو أراد الفعل بشرط زوال المانع لزم عدم إرادته للعلم بعدم وجود الشرط أو التكليف بما لا يطاق ، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة.

ولزم عدم الجزم بعدم الشرط فإنّه المتعقّل من الشرط وهو خلاف الفرض وإلاّ لم يصحّ الشرط.

وأيضا لو صحّ لصحّ طلب الفعل من الميّت ، فإنّ الحياة شرط فيلزم جواز الطلب مع عدمها.

وأنت خبير بما في الكلّ من فساد الوضع ، لابتناء الأوّل بل الثاني أيضا على كون الشرط في محلّ النزاع هو شرط الوجوب بعد الفراغ عن شرطيّته له عند الفريقين.

وقد عرفت منع ذلك وأنّه عند المجوّزين ليس شرطا للوجوب ، وحينئذ ففي الوجه الأوّل يمنع الملازمة لكون الفعل بمقتضى الفرض من تعلّق الأمر به مطلوبا ومرادا ، ولا مقتضى لكونه مع ذلك غير مطلوب وغير مراد لانتفاء شرطيّته لوجوبه ، وفي الوجه الثاني يختار الشقّ الأوّل عند الخصم لما عرفت من أنّ النزاع في الأمر المطلق المنجّز لا الأمر المشروط فإنّه لا يسلم الاشتراط.

ويدفع الثالث باختيار أنّه أراد الفعل مطلقا لا بشرط زوال المانع ، ويمنع لزوم التكليف بما لا يطاق حينئذ بما مرّ مرارا من التزام الخصم بكونه من التكليف لأجل الابتلاء لا بقصد الامتثال.

نعم يرد عليه حينئذ ما ذكرناه مرارا من الخروج من موضوع المسألة.

والرابع بعدم كون النزاع في صورة التعليق ، والأمر بشرط ليلزم عدم الجزم بعدم الشرط

__________________

(١) إشارات الاصول : ٨٨.

٤٥٠

احتجّ المجوّزون بوجوه : الأوّل لو لم يصحّ التكليف بما علم عدم شرطه ، لم يعص أحد* (١) واللازم باطل بالضرورة من الدين. وبيان الملازمة : أنّ كلّ ما لم يقع ، فقد انتفى شرط من شروطه ، وأقلّها إرادة المكلّف له ؛ فلا تكليف به ؛ فلا معصية.

الثاني لو لم يصحّ ، لم يعلم أحد أنّه مكلّف. واللازم باطل** (٢). أمّا الملازمة ، فلأنّه مع الفعل ، وبعده ينقطع التكليف ، وقبله لا يعلم لجواز أن لا يوجد شرط من شروطه فلا يكون مكلّفا.

لا يقال : قد يحصل له العلم قبل الفعل إذا كان الوقت متّسعا ، واجتمعت الشرائط عند دخول الوقت. وذلك كاف في تحقّق التكليف.

لأنّا نقول : نحن نفرض الوقت المتّسع زمنا زمنا ، ونردّد في كلّ جزء جزء ، فإنّه مع الفعل فيه ، وبعده ينقطع ، وقبل الفعل يجوز أن لا يبقى بصفة التكليف في الجزء الآخر ؛ فلا يعلم حصول الشرط الّذي هو بقاؤه بالصفة فيه ، فلا يعلم التكليف. وأمّا بطلان اللازم فبالضرورة.

___________________________________

من جهة ظهور التعليق في الجهل ، ولو سلّم فيتطرّق المنع إلى دعوى الظهور كما تقدّم ولو سلّم لكفى فيه جهل المأمور وعدم جزمه بعدم الشرط ، ولزوم اللغو والسفه حينئذ في التعليق كما تقدّم أمر آخر لا مدخل له في الدليل.

والخامس بخروج الطلب من الميّت عن المتنازع فيه ، لاتّفاق الفريقين على عدم صحّته لكون الخطاب لغوا وسفها من جهة عراه عن فائدتي الامتثال والعزم عليه ، لامتناعهما من الميّت ، فهذا نقض للمجوّزين بما اتّفق الفريقان على بطلانه ، مع عدم الملازمة كما هو محكيّ السيّد في المنية عنهم ، وقد تقدّم نقل عبارته عند شرح عبارة المصنّف المشتملة على قوله : « لكن لا تعجبني الترجمة » إلى آخره فلاحظ وتدبّر.

(١) * وأخصر ما ذكر في تقرير هذا الوجه وأتمّه ما في عبارة المختصر من : « أنّه لو لم يصحّ لم يعص أحد أبدا ، لأنّه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة ».

(٢) ** وأخصر عباراته ما في المختصر أيضا من : « أنّه لو لم يصحّ لم يعلم تكليف ، لأنّه

٤٥١

الثالث لو لم يصحّ ، لم يعلم إبراهيم عليه السلام وجوب ذبح ولده ؛ لانتفاء شرطه عند وقته ـ وهو عدم النسخ ـ وقد علمه وإلاّ لم يقدم على ذبح ولده ولم يحتج إلى فداء* (١).

الرابع كما أنّ الأمر يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به ، كذلك يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر. وموضع النزاع من هذا القبيل ، فانّ المكلّف من حيث عدم علمه بامتناع فعل المأمور به ، ربّما يوطّن نفسه على الامتثال ، فيحصل له بذلك لطف في الآخرة وفي الدنيا ، لانزجاره عن القبيح. ألا ترى : أنّ السيّد قد يستصلح بعض عبيده بأوامر ينجّزها عليه ، مع عزمه على نسخها ، امتحانا له. والانسان قد يقول لغيره : « وكّلتك في بيع عبدي » مثلا ، مع علمه بأنّه سيعزله ، إذا كان غرضه استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر العبد.

___________________________________

بعد الفعل ومعه منقطع وقبله لا يعلم فإن فرضته متّسعا ، فرضنا زمنا زمنا فلا يعلم أبدا ، وذلك باطل ».

(١) * كون الشرط هنا عدم النسخ ما وقع في كلام جماعة من أصحابنا منهم (١) ولكن عبارة المختصر وغيرها من عبارات أهل هذا القول خالية عن التمثيل به ، ويحتمل الموافقة لما ذكر كما يحتمل المخالفة ، فأمّا على ما ذكر فتوجيه انتفاء الشرط حينئذ هو أنّ شرط الوقوع عندهم أعمّ من عدم منع مانع والمانع أعمّ من الشرعي ، ومن المعلوم أنّ ذبح [ الولد ] في أصله قبيح وحكمه التحريم ، فلمّا أمر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده كان رفعا لهذا المنع ، وحيث نسخه في وقت الذبح عاد إلى قبحه وتحريمه الأصلي ، أو أنّ نسخ الوجوب هنا كان متعقّبا للتحريم وهو منع شرعيّ ، والمنع الشرعي كالمنع [ العقلي ] فيكون رافعا للقدرة والتمكّن ، فكان الذبح في وقته ما انتفى عنه شرط وقوعه في علم الآمر ، وقد علم إبراهيم عليه‌السلام وجوبه فيه ولذا أقدم عليه وجاء له الفداء ، فلو لم يصحّ الأمر لما علم وجوبه لقيام احتمال انتفاء الشرط عنده بورود النسخ في وقته.

وأمّا على ما في عبارة المختصر على احتمال المخالفة فيمكن توجيه انتفاء شرط الوقوع بأنّ من شرائط وقوع الذبح كون المحلّ قابلا للتأثير وأن لا يكون هناك مانع عن

__________________

(١) كذا في الأصل.

٤٥٢

والجواب عن الأوّل : ظاهر ممّا حقّقه السيّد رحمه‌الله ، إذ ليس نزاعنا في مطلق شرط الوقوع ، وإنّما هو في الشرط الّذي يتوقّف عليه تمكّن المكلّف شرعا وقدرته على امتثال الأمر. وليست الإرادة منه قطعا* (١) ، والملازمة إنّما تتمّ بتقدير كونها منه. وحينئذ فتوجّه المنع عليها جليّ.

وعن الثاني المنع من بطلان اللازم** (٢). وادّعاء الضرورة فيه مكابرة وبهتان وقد ذكر السيّد رضى الله عنه في تتمّة تنقيح المقام ما يتّضح به سند هذا المنع ؛ فقال :

___________________________________

حصول الأثر.

وقد روي أنّه عليه‌السلام (١) أمرّ السكّين بقوّته على حلقه مرارا ولمّا وجده لا يقطع فغضب عليه وألقاه على وجه الأرض.

وفي رواية أنّه قد ذبح لكن كلّما قطع التحم فإنّ الأوّل ينبئ عن انتفاء القابليّة كما أنّ الثاني يشعر بوجود المانع عن حصول الأثر وهو الالتحام ، ويمكن كون الأوّل أيضا من هذا الباب لمكان حجزه تعالى عن تأثير السكّين وإلاّ كان المحلّ في نفسه قابلا له ، وعلى كلّ تقدير فالمأمور به كان فاقدا لما هو من شرائط الوقوع.

(١) * وحاصله : أنّ الإرادة وإن كانت من شروط الوقوع ولكنّها مقدورة للمكلّف ، فانتفاؤها لا يوجب خروج المأمور به عن المقدوريّة ، لبقاء القدرة على إيجادها في وقت الامتثال ، فلا نزاع لنا في صحّة الأمر به مع انتفائها ، وإنّما النزاع فيما أوجب انتفاء الشرط خروج عن المقدوريّة ، وهو في الشروط الغير المقدورة للمكلّف كعدم الحيض والحياة والعقل والقدرة وعدم المانع العقلي والشرعي ، ففي مثل هذه الشروط نقول باشتراط الوجوب أيضا بوجودها ويلزم منه عدم صحّة الأمر مع انتفائها ، وإن فرض البحث في إرادة الله سبحانه وهي كالشروط المذكورة غير مقدورة للمكلّف كما يقتضيه عبارة الحاجبي ، فيدفعه : منع كونها من شروط وقوع الفعل من العبد ، لابتنائه على الأصل الفاسد وهو الجبر فيبطل الفرض بكلّ ما أبطل هذا الأصل من البراهين العقليّة والنقليّة.

(٢) ** والأولى أن يردّد الجواب ويقال : بأنّه إن اريد بالعلم ما يكون عقليّا فبطلان اللازم

__________________

(١) المبسوط للسرخسي ٨ : ١٤٠ ، كنز الدقائق ١١ : ١٥٩ وأنوار التنزيل ٢ : ٢٩٧.

٤٥٣

« وهذا نذهب إلى أنّه لا يعلم بأنّه مأمور إلاّ بعد تقضّي الوقت وخروجه ، فيعلم أنّه لا يعلم بأنّه مأمور بالفعل إلاّ بعد تقضّي الوقت وخروجه ، فيعلم أنّه كان مأمورا به. وليس يجب ، إذا لم يعلم قطعا أنّه مأمور ، أن يسقط عنه وجوب التحرّز. لأنّه إذا جاء وقت الفعل ، وهو صحيح سليم ، وهذه أمارة يغلب معها الظنّ ببقائه ، فوجب أن يتحرّز من ترك الفعل والتقصير فيه. ولا يتحرّز من ذلك إلاّ بالشروع في الفعل والابتداء به. ولذلك مثال في العقل ، وهو أنّ المشاهد للسّبع من بعد ، مع تجويزه أن يخترم السّبع قبل أن يصل إليه ، يلزمه التحرّز منه ، لما ذكرناه ، ولا يجب إذا لزمه التحرّز أن يكون عالما ببقاء السّبع وتمكّنه من الإضرار به ».

وهذا الكلام جيّد ، ما عليه في توجيه المنع من مزيد. وبه يظهر الجواب عن استدلال بعضهم على حصول العلم بالتكليف قبل الفعل ، بانعقاد الإجماع على وجوب الشروع فيه بنيّة الفرض ، إذا يكفي في وجوب نيّة الفرض غلبة الظنّ بالبقاء والتمكّن ، حيث لا سبيل إلى القطع ، فلا دلالة له على حصول العلم.

___________________________________

ممنوع ، إذ لا دليل من عقل ولا نقل على لزوم العلم في تنجّز التكليف ، وإن اريد به العلم الشرعي من ظنّ أو استصحاب فالملازمة ممنوعة ، لوضوح أنّ ظنّ سلامة العاقبة وبقاء التمكّن والاختيار من جهة الغلبة والعادة مضافا إلى استصحاب الحالة المتيقّنة دائم الحصول لكلّ أحد ، وهو كاف في تنجّز التكليف إلى أن ينكشف [ الخلاف ] بإجماع العلماء بل ضرورة الدين ، بل مدار جميع العقلاء في امور معاشهم ومعادهم على ظنّ السلامة واستصحاب البقاء وأصالة عدم طروّ العذر والمانع.

ولقد أجاد السيّد في تقرير ما ذكرناه فيما حكاه المصنّف وقال : « إنّه ليس يجب إذا لم يعلم قطعا أنّه مأمور أن يسقط عنه وجوب التحرّز ، لأنّه إذا جاء وقت الفعل وهو صحيح سليم فهذه أمارة يغلب معها الظنّ ببقائه ، فوجب أن يتحرّز من ترك الفعل والتقصير فيه ، ولا يتحرّز من ذلك إلاّ بالشروع في الفعل والابتداء به » إلى آخر ما ذكره.

٤٥٤

وعن الثالث : بالمنع من تكليف إبراهيم عليه السلام بالذبح الّذي هو فري الأوداج بل كلّف بمقدّماته كالإضجاع ، وتناول المدية ، وما يجري مجرى ذلك* (١). والدليل على هذا قوله تعالى : ( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ). فأمّا جزعه عليه السلام فإشفاقه من أن يؤمر ـ بعد مقدّمات الذبح ـ به نفسه ، لجريان العادة بذلك. وأمّا الفداء ، فيجوز أن يكون عمّا ظنّ أنّه سيأمر به من الذبح ، أو عن مقدّمات الذبح زيادة على ما فعله ، لم يكن قد أمر بها ، إذ لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفديّ.

وعن الرابع : أنّه لو سلّم ، لم يكن الطلب هناك للفعل ؛ لما قد علم من امتناعه ، بل للعزم على الفعل والانقياد إليه والامتثال. وليس النزاع فيه ، بل في نفس الفعل. وأمّا ما ذكره من المثال ، فإنّما يحسن لمكان التوصّل إلى تحصيل العلم بحال العبد والوكيل ، وذلك ممتنع في حقّه تعالى.

___________________________________

وقد يجاب عن الملازمة أيضا على تقدير إرادة العلم الحقيقي بأنّه قد يحصل العلم لآحاد الناس إذا كان زمن الفعل يسيرا وكانت شرائطه مبتذلة ، وكذا إذا أخبر بالبقاء من يحصل العلم بإخباره أو نحو ذلك.

وردّ : بأنّ هذه فروض نادرة وكأنّ مبنى الاستدلال ليس عليها.

(١) * والأولى هنا أيضا أن يردّد الجواب ويقال : إنّه إن كان مبنى الاستدلال على جعل الأمر بالذبح الّذي علم معه إبراهيم عليه‌السلام وجوبه لأجل الابتلاء ، يرد عليه : ما ذكرناه مرارا من أنّ الأمر الابتلائي ليس من التكليف الحقيقي ، ولو سلّم فليس تكليفا بأصل الفعل المنتفي شرط وقوعه ، مع أنّه خلاف ما تقدّم في تقرير الاستدلال عند بيان بطلان التالي ممّا يقتضي كونه مأمورا بنفس الذبح.

وإن كان مبناه على جعله من الأمر الحقيقي بنفس الذبح كما هو الظاهر ، ففيه : منع واضح ، لا لقوله تعالى : ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا )(١) حتّى يقال عليه : بأنّه معارض بـ ( إِنِّي )

__________________

(١) الصافّات : ١٠٥.

٤٥٥

أَذْبَحُكَ ) مع كون المجاز في الأوّل بحمله على إرادة [ إسناد ] تصديق الرؤيا إليه في غير زمان وقوع الذبح وهو زمان إيجاد مقدّماته لقرب هذا الزمان من زمان وقوعه من باب المجاز بالمشارفة أولى من المجاز في الثاني بحمل الذبح على مقدّماته ، أو على ما يؤول إليه من باب المجاز بذكر المسبّب وإرادة السبب ونحوه ، أو يورد عليه : بأنّ تصديق الرؤيا لا ينافي كون المأمور به نفس الذبح لو اريد منه ترتيب آثار الصدق أو الإذعان به على معنى اعتقاده عليه‌السلام بكونه مأمورا بالذبح ، أو نسبة الصدق إلى الرؤيا لأنّ فعل المقدّمات أيضا من آثار كون المأمور به هو الذبح والداعي إليه الإذعان به ، وبذلك يتحقّق أيضا نسبة الصدق إلى الرؤيا الّتي هو الأمر بالذبح.

وبالجملة كون المأمور به نفس الذبح يجامع كلاّ من المعاني الثلاث ، وإنّما ينافيه لو اريد منه إيجاد الرؤيا في الخارج ، أو وجدانه صادقا لمجرّد فعله المقدّمات ، أو جعله مطابقا لما في الخارج بأدائها ، ولكنّ الحمل على أحد هذه الثلاث غير لازم حيث لا قرينة عليه من حال أو مقال ، وكونه كلاما صدر في مقام المدح لا يصلح قرينة على ذلك لحصول المدح بأحد المعاني الثلاث الاول ، مع إمكان دعوى كونه أبلغ في إرادة المدح كما لا يخفى.

بل (١) لقوله تعالى : ( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ )(٢) حيث قال : ( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ )(٣) فإنّ ظاهر السياق يشهد بأنّ ذلك من تتمّة ما قبله فيكون تصريحا منه تعالى بأنّ ما رآه في المنام من الأمر بالذبح اريد منه خلاف ظاهره من باب الابتلاء والتوطين ، نظرا إلى أنّ البلاء على ما هو المصرّح به في كلام أهل اللغة هو الاختبار والامتحان ، فيكون وروده مع ما قبله من باب القرينة الكاشفة عن عدم إرادة الحقيقة ، وإنّما نصبها تعالى حينما أخذ هو بفعل المقدّمات لئلاّ يقع منه الذبح ويلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فيكون كاشفا أيضا عن كون المراد بالتصديق أحد المعاني الثلاث الأخيرة الّذي لا ينطبق إلاّ على فعل المقدّمات ، ولو فرض كون المراد به الإذعان أيضا كان عبارة عن إذعان وجوب المقدّمات ، لثبوته على كلا تقديري كون المأمور به هو الذبح أو مقدماته ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يكون مقدّميّا وعلى الثاني أصليّا.

__________________

(١) عطف على قوله : « ففيه : منع واضح ، لا لقوله ... ».

(٢) الصافّات : ١٠٦.

(٣) الصّافات : ١٠٤ ـ ١٠٦.

٤٥٦

ولا ينافي ما استظهرناه من كون الأمر للتوطين والامتحان مع ظهوره في الحقيقي قوله تعالى : ( وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )(١) لأنّ الفداء على ما في كلام بعض أهل اللغة (٢) وفي تفسير (٣) الآية هو جعل شيء مكان شيء آخر لدفع الضرر عنه ، وهو في المقام لدفع الضرر المتوهّم لفهمه من ظاهر الأمر كونه أمرا حقيقيّا ، أو لدفع ضرر ما لم يحصل من المقدّمات من أذيّة إمرار المدية أو قطع الجلد أو بعض الأوداج أيضا.

كما لا ينافي ظهوره قول ولده : ( يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ )(٤) نظرا إلى أنّه تعبير بلفظ المضارع المشعر بأنّ الأمر كأن لم يتحقّق بعد لا بلفظ الماضي الدالّ على تحقّقه ، لوضوح اندفاعه : بأنّ المضارع حقيقة في الحال ، وإنّما أتي به لمراعاة المطابقة بينه وبين قوله : ( يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ )(٥) المؤدّي بلفظ المضارع تنبيها على تكرار الرؤيا ، نظرا إلى ما قيل : إنّه رأى ليلة التروية أنّ قائلا يقول : « فإنّ الله يأمرك بذبح إبنك » فلمّا أصبح روّى أنّه من الله أو من الشيطان ، فلمّا أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنّه من الله ، ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سمّيت الأيّام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر.

هذا مع إمكان أن يقال : « إنّ افعل ما تؤمر » قضيّة يؤتى بها في العرف غالبا لإظهار الرضا والتسليم والتمكين بالواقعة على تقدير وقوعها ، كما يقال : « افعل ما تشاء » أي أنت مرخّص في فعل كلّ ما تشاء على تقدير حصول المشيّة فعلا أو استقبالا ، فيكون مفاد الآية : « إن تنجّز لك الأمر بذبحي واتّفق تعلّقه به منجّزا فافعله فإنّي راض به وصابر عليه » وإنّما أتي بتلك العبارة لما فهم من قوله ( إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) أنّ هذه رؤيا صادقة أو تنتهي إلى الصدق وهو وقوع الأمر في الخارج لما تحقّق عنده من كون رؤيا الأنبياء صادقة.

وممّا قرّرناه تبيّن أنّه لا معارضة بين قوله : ( صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) وقوله : ( أَنِّي أَذْبَحُكَ ) إذ لا تجوّز في التصديق على شيء من المعاني المذكورة ، مع أنّ التجوّز في « أذبحك » لازم لا محالة وإن حملنا الأمر به على الأمر الحقيقي ، لأنّ الذبح الحقيقي كالقتل يعدّ من الأفعال التوليديّة ، ومن خواصّها إنّها حيثما اسندت إلى الفاعل المختار يراد منها فعل المقدّمات ، وهذا مجاز شائع في العرف بل يمكن دعوى الحقيقة العرفيّة في ذلك ، فلا يلزم بحمله على فعل المقدّمات مجاز ليكون معارضا للمجاز في التصديق ، وعلى تقديره فهو أولى لشيوعه ، فتأمّل.

__________________

(١) الصّافات : ١٠٧.

(٢) مجمع البحرين ٢ : ٨٣.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٢٢٤ وعيون أخبار الرضا ٢ : ١٣٨.

(٤ و ٥) الصافّات : ١٠٢.

٤٥٧

وأمّا ما يقال في الاعتراض عليه : من أنّ ذلك لا يناسب امتحان مثل إبراهيم عليه‌السلام واشتهاره بالفضل بذلك ، وكذا ولده إسماعيل عليه‌السلام ولاشتهاره بذبيح الله ، ولا ما ورد من أنّ المراد بذبح عظيم هو الحسين عليه‌السلام ، فلا ينبغي الالتفات إليه ، لأنّ الأوّل يتوجّه إلى مثل المصنّف وغيره ممّن يجعله أمرا بمقدّمات الذبح إصالة مع علم إبراهيم عليه‌السلام ، لا على ما قرّرناه من جعله للابتلاء والتوطين لمكان اشتراط جهل المأمور بذلك ، والاشتهار بذبيح الله يكفي فيه أدنى الملابسة الحاصلة من توطين أنفسهما للذبح وإقدامهما على مقدّماته ، والرواية مع تسليم سلامة سندها غير واضحة الدلالة بل هي من المتشابهات ، مع أنّها على تقدير الدلالة مطروحة لقضائها على انحطاط رتبة الحسين عليه‌السلام وهو خلاف المذهب.

واجيب عن الاحتجاج أيضا : بأنّ ذلك من باب البداء الّذي يقول به الشيعة.

وتوضيحه : أنّ البداء إذا اضيف إليه تعالى ـ كما في أخبار كثيرة ـ فهو عند الشيعة ليس على معناه الحقيقي ، وهو ظهور استصواب شيء بعد خفائه وحصول العلم به بعد أن لم يكن حاصلا ، لتضمّنه الجهل المستحيل عليه تعالى ، بل يراد به حينئذ أنّه أظهر للمكلّفين ما لم يكن ظاهرا لهم ، ويحصل لهم العلم به من قبله بعد أن لم يكن حاصلا ، فالبداء على معناه الحقيقي وصف لهم وإطلاقه عليه تعالى لنوع من التوسّع من حيث إنّه سبب له في المكلّفين ، ومناسبته في المقام من جهة أنّه ظهر لإبراهيم عليه‌السلام من قبله تعالى في أمر ذبح ولده ما لم يكن ظاهرا قبله ، حيث علم بعدم وقوعه بعد ما لم يكن عالما به بل كان عالما بوقوعه من جهة رؤياه.

وأورد عليه بعض الأعلام : « بأنّ البداء إنّما هو في الأفعال التكوينيّة الالهيّة لا الأحكام الّتي لا يجري فيها إلاّ النسخ » (١) ومحصّله : أنّ الّذي ظهر له عليه‌السلام في المقام إنّما هو [ عدم ] وجوب الذبح في الواقع بعد ما لم يكن ظاهرا ، وهذا لا يسمّى بداء في الاصطلاح ، لكونه ظهور شيء في الأحكام بعد خفائه لا أنّه ظهور شيء من التكوينيّات بعد ما لم يكن ظاهرا ، وإنّما هو نسخ.

وفيه : أن ليس غرض المجيب فرض الظهور والخفاء في الأمر بالذبح وعدمه ليتوجّه إليه المناقشة اللفظيّة والنزاع في أمر اصطلاحيّ ، كيف ولو صحّ ذلك لرجع إلى الجواب الأوّل ، لكون مفاده على ما تقدّم أنّه ظهر له كون الأمر بالذبح أمرا ابتلائيّا أو أمرا بمقدّماته بعد ما

__________________

(١) القوانين ١ : ١٢٧.

٤٥٨

لم يكن ظاهرا بل بعد ظهور خلافه ، فلا يكون جوابا آخر ، مع أنّ ظاهره المغائرة وكونه جوابا آخر في مقابلة الأوّل ، بل غرضه إنّما هو منع بطلان التالي بمنع كون ما علم به إبراهيم عليه‌السلام وجوب الذبح ، بل نفس الذبح بتقريب : أنّه رأى ذلك في المنام أو رأى ما هو تعبيره.

وعلى كلّ تقدير علم بتلك الرؤيا أنّ هذه الواقعة تتحقّق منه في الخارج لا محالة.

وقد ظهر له خلاف معلومه ، ولمّا كان الخطأ في علم الأنبياء غير جائز فلا جرم يكون ذلك من باب البداء الّذي يقول به الشيعة لئلاّ يلزم الخطأ في علمه.

والوجه في ذلك ما ذكره بعض الأفاضل ـ على ما حكي ـ أنّ الّذي يظهر من الأخبار الكثيرة المتظافرة من معنى البداء هو أنّ الله تعالى خلق لوحين أثبت فيهما الامور :

أحدهما : اللوح المحفوظ الّذي لا تغيّر فيه وهو مطابق لعلمه.

والآخر : لوح المحو والإثبات الّذي يثبت فيه شيئا ثمّ يمحوه لحكم كثيرة ، مثل أنّه يثبت فيه أنّ عمر زيد مثلا خمسون سنة ومعناه أنّ مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إن لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلا يمحي الخمسون ويكتب مكانه ستّون سنة ، وإذا قطعه يمحوه ويكتب مكانه أربعون ، ومن جملة الحكم في ذلك حثّ الناس على فعل الخيرات وترك الشرور.

وحاصل الفرق على ما ذكره : أنّ اللوح المحفوظ ما يكتب فيه الامور المنجّزة الّتي تتحقّق في الخارج لا محالة ، فلا يعتريه التغيّر بالمحو والإثبات لاستحالة انقلاب علمه تعالى المطابق لما هو فيه جهلا ، ولوح المحو والإثبات ما يكتب فيه الامور الشأنيّة الّتي من شأنها التحقّق الخارجي ، لما فيها من الحكم الّتي هي منها بمنزلة المقتضيات المعلّقة على عدم مصادفة ما يقتضي خلاف تلك المقتضيات ، على ما هو شأن المقتضي من جواز أن يصادفه مانع يمنعه من الاقتضاء ، فلو اعتراه حينئذ تغيّر بالمحو والإثبات لم يكن منافيا لعلمه تعالى ، لأنّ القضيّة الشأنيّة التعليقيّة باقية على حالها في كلّ حال على حدّ ما حقّق في محلّه من أنّ صدق الشرطيّة لا ينافيه كذب الشرط ، على معنى عدم تحقّقه في الخارج.

وعلى ذلك ينزّل علم إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده ، فإنّه كان موافقا لما هو في لوح المحو والاثبات ممّا هو من مقتضى الحكمة ، وظهور خلاف معلومه في الخارج إنّما هو من باب المحو بلحوق مانع للمقتضي الأوّل من اقتضائه ، ولعلّه الفداء أو شيء آخر ممّا صدر منه حين الإقدام على أداء المقدّمات ، فلا يلزم بذلك خطأ في علمه الأوّل ، ولعلّه على هذا

٤٥٩

المعنى تنبّه المورد فقال بعد الإيراد المذكور : « ويمكن توجيهه : بأنّ المراد خصوص البداء فيما ظهر له من الله تعالى وعلم من قبله أنّه يذبحه ويصدر عنه بقرينة قوله : ( أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) لا « أمرني الله بذبحك » فيكون في المعنى إخبارا عن حصول هذا الفعل في الخارج بدون منع من الله تعالى ، ثمّ بدا له فلم يقع في الخارج ، مثل إخبار عيسى بموت العروس ثمّ ظهور خلافه » (١) ولكن يشكل ذلك : بأنّه لا يلائم إقدامه على فعل المقدّمات وعزمه على الذبح كما تنبّه عليه المورد قائلا : « ويرد عليه : أنّ رؤيته عليه‌السلام ذبحه في المنام كانت مسبّبة عن أمره تعالى به » (٢) لا لما استشهد به من قوله حكاية عن ولده ( يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) فإنّه لا شهادة فيه صريحا على وقوع الأمر فعلا ، خصوصا مع احتمال كونه مرادا به إظهار الرضاء بالقضيّة على تقدير وقوعها وإن لم يقع بعد ، بل لأنّه لولا ذلك لكان الإقدام على المقدّمات مع العزم على الذبح منافيا للعصمة الواجبة في الأنبياء ، لكون الذبح من أظهر أفراد الظلم الّذي استقلّ العقل بقبحه ، فإنّ مرجعه إلى اهلاك النفس المحترمة ، وقبحه من المستقلاّت العقليّة فكيف يقدم عليه مثل إبراهيم عليه‌السلام بدون إذن من الله تعالى؟ فلم يكن هذا منه إلاّ من جهة أنّه علم بأمره تعالى إيّاه بالذبح ولو على نحو الأمر التوطيني.

ولا يعارض القبح المذكور بقبح آخر يلزم بالنسبة إليه تعالى من خطاب النائم وأمره بالفعل فإنّه قبيح عقلا ، والمفروض أنّ هذا الأمر على فرض صحته قد ثبت حال النوم فيكون محالا كاستحالة الإقدام على القبيح من المعصوم ، لأنّ ذلك لا يقتضي كونه على سبيل المخاطبة ، ولا توجّه الأمر إليه حال النوم حتّى يقال باستحالته مع عدم العلم بالصدور ، بل الرؤيا في حقّه ضرب علامة منه تعالى على صدور الطلب في اليقظة وتنجّزه عليه فيها ، فقد علم من جهة تلك العلامة المضروبة له بصدور الطلب وتوجّهه إليه لما عهده عليه‌السلام من أنّ أمثال هذه الرؤيا منه ـ كما في سائر الأنبياء ـ علامات على طلباته ، والمفروض أنّه عليه‌السلام بعد تيقّظه التفت إلى منامه فعلم بأمره تعالى ولذا أخبر عنه بقوله : ( إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ )(٣) مع أنّ نوم الأنبياء لا يقاس على نوم غيرهم كما ورد في خواصّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا ما يقال : من أنّ الأولى أن يكون قد أوحى إليه في حال اليقظة وتعبّد بأن يمضي ما يؤمر به في حال النوم ، بظاهره غير مستقيم لتوجّه المحذور بالنسبة إلى تعبّده بالإمضاء

__________________

(١ و ٢) القوانين ١ : ١٢٧.

(٣) الصّافات : ١٠٢.

٤٦٠