تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

ثمّ قال الفاضل المذكور : وقد أشار إلى هذا الوجه في الذريعة وغيره.

وثانيها : أنّه لا شكّ في ورود الأمر في الشريعة بعدّة واجبات على وجه التخيير بينها ، وقضيّة الأدلّة الدالّة على وجوب تلك الأفعال وجوب كلّ منها لذاته على وجه التخيير ، ولا مانع عقلا من إيجاب تلك الأفعال على الوجه المذكور ، فهناك أفعال عديدة متّصفة بالوجوب متعلّقة للطلب حسبما هو ظاهر تلك الأدلّة ، فلا داعي إلى صرفها عن ظواهرها ولا إلى ارتكاب خلاف ظاهر فيها.

وثالثها : اتّفاق الأصحاب على القولين الأوّلين ، بل اتّفاق الاصوليّين عدا شذوذ لا عبرة بأقوالهم.

وقد عرفت رجوع أحدهما إلى الآخر وكون النزاع بينهما لفظيّا ، فتعيّن البناء على القول المذكور وبه يبطل سائر الأقوال.

ولا يخفى ما فيه من الوهن إذ الاتّفاق لو اريد به ما يكشف عن رأي المعصوم فهو بهذا المعنى ممّا لا مجال له في الاجتهاديّات ، وذهاب الأصحاب وغيرهم إلى ما فهموه مبنيّ على اجتهاداتهم المبنيّة على الظنّ والمرجّحات لا على دليل تعبّدي دعاهم إلى ذلك.

ولا ريب أنّ الوفاق الحاصل بالاجتهاد لا يصلح كاشفا عن رأي المعصوم ، ولو اريد به ما يكشف عن حقيّة المورد من جهة قضاء العادة بامتناع تواطؤهم على الخطأ مع كثرتهم فهو فرع ثبوت الصغرى بالوجدان ، وإرجاع أحد الفريقين إلى الآخر مبنيّ على الاجتهاد وهو لا يفيد الموافقة فيما بينهما بحسب الواقع إلاّ أن يكون الاجتهاد قطعيّا.

ورابعها : أنّه لا سبيل إلى القول بوجوب الجميع لعدم تعلّق الأمر بها كذلك ، ولا للقول بوجوب واحد منها لورود التخيير بينه وبين غيره ، ومن الواضح عدم جواز التخيير من الحكيم بين ما له صفة الوجوب وما ليس كذلك ، كيف ولو اشتمل الآخر على المصلحة المترتّبة على الواجب لم يعقل ترجيح أحدهما بالوجوب دون الآخر ، وإن لم يشتمل عليها لم يجز التخيير المذكور لما فيه من تفويت مصلحة الواجب ، وعلمه تعالى بأنّه لا يختار إلاّ الواجب لا يحسّن التخيير المذكور كما لا يحسن التخيير بين الواجب والمباح إذا علم أنّه يختار الواجب ، وإذا بطل الوجهان تعيّن القول بوجوب كلّ واحد على سبيل التخيير ، أو وجوب أحدهما على سبيل البدليّة ، وقد ثبت أنّ مفاد « أحدهما » عين الآخر فيثبت المدّعى.

ولا يخفى ما فيه بالنسبة إلى مقدّمته الاولى من المصادرة ، إذ لم يثبت بعد عدم تعلّق

٤١

الأمر بالجميع.

وخامسها : أنّ جميع الأقوال منحصرة فيما ذكرناه ، وقد تبيّن رجوع القولين الأوّلين إلى أمر واحد وانتفاء الخلاف بينهما في المعنى ، والمفروض أنّ سائر الأقوال بيّن الوهن لما فيها من ارتكاب امور يقطع بفسادها ، فتعيّن الأخذ بما اخترناه.

وهذا الوجه كما ترى لا يجدي في إلزام الخصم وكأنّه دليل إقناعي.

حجّة القول بوجوب أحدها لا بعينه وجوه :

أوّلها : ما أشار إليه الحاجبي وفصّله في بيان المختصر : بأنّا نقطع بجواز تعلّق الأمر بواحد غير معيّن من جملة الامور المتعدّدة عقلا ، والنصّ دلّ على جوازه سمعا.

أمّا الأوّل : فلأنّ السيّد إذا قال لعبده : « أمرتك أن تخيط هذا الثوب أو تبني هذا الحائط في هذا اليوم ، أيّهما فعلته إكتفيت ، وإن تركت الجميع عاقبتك ، ولست آمرا أن تجمع بينهما ، بل أمرتك أن تفعل واحدا منهما لا بعينه » الكلام معقول ، ولا يمكن أن يقال : لم يكن مأمورا بشيء ، لأنّه عرّضه للعقاب بترك الجميع ، ولا يمكن أن يقال : بأنّ الجميع مأمور به فإنّه صرّح بنقيضه ، ولا واحد بعينه لأنّه صرّح بالتخيير ، فلا يبقى إلاّ أن يقال : المأمور به واحد لا بعينه.

وأمّا الثاني : فقوله تعالى ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )(١) فإنّ التخيير فيه دلّ على جواز كون المأمور به واحدا منها لا بعينه.

وهذا الوجه كما ترى في كمال المتانة إن اريد بالواحد لا بعينه مصداقه كما هو الأظهر ، نظرا إلى أنّ الدليل قائم لدفع كلام من أوجب الجميع وكلام من أوجب واحدا معيّنا ، فالتعبير بالواحد وقع قبالا للأوّل وب « عينه » وقع قبالا للثاني ، وذكر الخصوصيّتين تنبيه على أنّ المتعلّق هو الخصوصيّة دون المفهوم المنتزع.

وثانيها : ما أشار إليه أيضا في المختصر وبيّنه في الشرح بأنّ : تزويج البكر المطالبة للنكاح من أحد الكفوين الخاطبين ، ووجوب إعتاق واحد من جنس ارقابه في كفّارة الظهار ، يدلّ على جواز تعلّق الأمر بواحد لا بعينه من جملتها ، وذلك لأنّه لو كان التخيير يوجب تعلّق الوجوب بالجميع لوجب تزويج الخاطبين وإعتاق جميع الرقاب والتالي ظاهر الفساد فالمقدّم مثله.

ولو كان التخيير يوجب تزويج واحد بخصوصه ـ أي على التعيين ـ وكذا إعتاق واحد

__________________

(١) المائدة : ٨٩.

٤٢

بعينه لامتنع التخيير والتالي باطل ، ضرورة تحقّق التخيير فيلزم بطلان المقدّم.

فأمّا (١) الملازمة : أنّ التخيير لو كان موجبا لوجوب واحد بعينه لكان موجبا لنقيضه ، فإنّ التخيير ينافي التعيين لأنّ التخيير يجوّز ترك المعيّن والتعيين لا يجوّزه ، وكلّ ما كان موجبا لنقيضه كان ممتنعا والكلام فيه كسابقه.

فإن اريد بالواحد مصداقه الملحوظ فيه الخصوصيّة مع إلغاء جهة التعيين عنه الّذي هو مفاد التخيير فهو في كمال المتانة ، وإلاّ كان متّضح المنع.

وثالثها : ما نقله بعض الأفاضل من أنّ الإنسان لو عقد على قفيز من صبرة لم يكن المبيع قفيزا معيّنا وكان الخيار للبائع في التعيين ، فالواجب هناك غير معيّن والتعيين فيه باختيار المكلّف ، وكذا الحال في غيره من الواجبات التخييريّة من غير تفاوت أصلا.

وهذا الوجه لو تمّ لقضى بتعلّق الوجوب بالمفهوم المنتزع الّذي هو كلّي بدلي ، ضرورة أنّ الخصوصيّة في بيع الصبرة غير ملحوظة على جهة التفصيل ، بل الّذي يتعلّق به ملك المشتري هو الكلّي بما هو كلّي ، فهو الّذي يجب على البائع أداؤه عملا بمقتضى وجوب الوفاء.

ولكن يدفعه ـ مع أنّه قياس ـ وضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ الخصوصيّات ثمّة لا امتياز بينها أصلا ، ولذا لا يعقل ملاحظة كلّ بالخصوص عند الإنشاء بخلاف المقام ، لامتياز كلّ خصوصيّة بذاتها عن خصوصيّة اخرى ، ولذا ترى أنّ الآمر عند الإنشاء لا يزال يلاحظها على جهة التفصيل ، وإن كان يأتي في العبارة بلفظة « الواحد » و « الأحد ».

فإن اريد بالاحتجاج أنّ الحكم وضعا وتكليفا كما يتعلّق في بيع القفيز من الصبرة بالكلّي المعرّى عن ملاحظة الخصوصيّات فكذلك يتعلّق في محلّ البحث بالكلّي المعرّى فهو واضح الفساد ، لقيام الفرق بين المقيس والمقيس عليه.

وإن اريد به أنّه إذا صحّ تعلّق الحكم بواحد لم يلاحظ معه خصوصيّة أصلا فتعلّقه بواحد لوحظ معه الخصوصيّة واعتبرت في تعلّقه به بطريق أولى ، فله وجه كما لا يخفى.

ورابعها : لو فعل الكلّ جميعا كان الواجب واحدا منها بالإجماع ، فكذا يجب أن يكون الواجب أحدها قبل الفعل ، إذ لا يختلف الحال في ذلك قبل إيجاد الفعل وبعده.

وفيه : إن اريد بالواحد المصداق الّذي لوحظ معه الخصوصيّة ولها مدخل فيه فهو جيّد وإلاّ كان الإجماع ممنوعا ، فإنّ المعتزلة لا يقولون به بل يعتبرون الخصوصيّة في متعلّق

__________________

(١) وفي الأصل : « فإنّ الملازمة ... الخ » والصواب ما أثبتناه في المتن.

٤٣

الوجوب حدوثا وبقاءا أو ارتفاعا.

وخامسها : أنّه لو ترك الجميع لاستحقّ العقاب على واحد منها ، فعلم أنّ الواجب هو أحدها.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين العقاب على واحد وتعلّق الوجوب بواحد ، كما هو لازم من يقول بوجوب الجميع ، فلم لا يجوز أن يكون الوجه في ذلك كون العقاب تابعا للمصلحة ، فترتّب العقاب على أحدها من جهة الاكتفاء بمصلحة واحد منها ، وإنّما تعلّق الوجوب بالجميع لوجود تلك المصلحة في الجميع حذرا عن الترجيح من غير مرجّح ، وعدم كون واحد لا بعينه إلاّ أمرا اعتباريّا ، وسقوطه عن غير ما حصل لامتناع تحصيل الحاصل فلا منافاة.

سادسها : أنّه لو كان في كلّ واحد منها جهة موجبة لفعله ليصحّ اتّصافه بالوجوب من جهتها لزم وجوب الجمع بينها مع امكان إحراز المصلحة الموجبة ، فيخرج بذلك عن حدّ الوجوب التخييري ، وإن كانت تلك في أحدها كان الواجب واحدا منها كما هو المدّعى.

وفيه : أنّه قد يكون المصلحة القائمة بكلّ واحد بحيث لا يكتفى إلاّ بحصولها في كلّ واحد بانفراده فيجب كلّ واحد بانفراده ، ولا يجوز في حكمة الحكيم إهمالها في شيء منها بعدم إيجابه ، وقد يكون بحيث يكتفى بحصولها في ضمن أيّ منها حصل ، ولمّا كان قيام تلك المصلحة في الجميع على نهج سواء ولا مزيد لبعض فيها بالقياس إلى الآخر ، فالحكمة إقتضت إيجاب كلّ واحد على جهة التخيير ، وهو جعل الاختيار في أداء ما يحصل به الامتثال منها للمكلّف ولا داعي إلى العدول عن ذلك إلى إيجاب أحدها إن اريد به المفهوم ، وإلاّ كان راجعا إلى إيجاب كلّ واحد على جهة التخيير.

حجّة القول بوجوب الجميع وسقوطه بالبعض وعدم وجوب واحد لا بعينه : فعلى الجزء الأوّل : قياس المخيّر على الكفائي في عمومه للجميع وسقوطه بفعل البعض ، والجامع اشتراكهما في وصف الوجوب مع سقوط الوجوب بفعل البعض ، وورود النصّ بلفظ « التخيير » لا ينافي عموم الوجوب للجميع وسقوطه بفعل البعض (١).

وعلى الجزء الثاني : بأنّ غير المعيّن مجهول ويستحيل وقوعه فلا يكلّف به ، وأيضا لو كان الواجب واحدا من حيث هو أحدها لا بعينه مبهما يكون المخيّر فيه واحدا لا بعينه من حيث هو أحدها ، فإن تعدّدا لزم التخيير بين واجب وغير واجب ، وإن اتّحدا لزم اجتماع التخيير والوجوب.

__________________

(١) وكان عدم المنافاة من جهة إرجاع التخيير إلى ما يسقط به الوجوب لا أنّه راجع إلى ما تعلّق به الوجوب. ( منه عفي عنه ).

٤٤

والجواب عن الأوّل : وجود الفارق وهو الإجماع على تأثيم الكلّ في الكفائي وعلى البعض المبهم في المخيّر ، مضافا إلى شمول الخطاب للكلّ في الكفائي لوروده بصيغة الجميع وعدم شموله [ في المخيّر ](١) إلاّ واحدا على جهة البدليّة لتضمّنه لفظا يفيد ذلك وهو كلمة « أو » ، فيكون الوجه المذكور اجتهادا في مقابلة النصّ.

واجيب أيضا : بأنّ تأثيم مكلّف لا بعينه غير معقول ، لأنّه لا يمكن عقاب أحد الشخصين لا على التعيين ، فلم يكن الوجوب في الكفاية متعلّقا بواحد غير معيّن بخلاف تأثيم المكلّف على ترك واحد لا بعينه فإنّه معقول ، لأنّه يجوز أن يعاقب المكلّف على أحد الفعلين لا بعينه ، فيكون الوجوب متعلّقا بواحد لا بعينه.

واعترض عليه : بأنّ التأثيم بترك واحد لا بعينه من ثلاثة أيضا غير معقول ، لأنّه يلزم الترجيح من غير مرجّح.

وفيه : أنّ التأثيم بترك واحد إنّما هو من جهة تعلّق الغرض بمصلحة واحد لا بمصالح الجميع ، ولذا تقولون أنتم بسقوط الوجوب عند حصول البعض ، ولا ريب أنّه حينئذ لا يعدّ من الترجيح بلا مرجّح ، ولأجل ذلك لا يعتبر التعيين فيما خصّ التأثيم بتركه.

وعن الثاني : بأنّ المستحيل وقوعه هو الواحد بشرط عدم التعيين لا الواحد لا بشرط من جميع الجهات ، ولا الواحد بشرط الخصوصيّة مع عدم اعتبار التعيين ، وفرق واضح بين عدم اعتبار التعيين واعتبار عدم التعيين ، والمحذور وارد على الثاني دون الأوّل ، وأنّ الواجب هو الواحد في حال عدم حصول الواحد الآخر والمخيّر في تركه هو الواحد في حال حصول الواحد الآخر ، فالوجوب والتخيير لا يجتمعان في محلّ واحد.

وقد يستدلّ على هذا القول أيضا : بأنّ الوجوب لا بدّ له من محلّ يقوم به ، فإمّا أن يقوم بواحد معيّن من تلك الأفعال ، أو بواحد مبهم منها ، أو بالمجموع ، أو بكلّ واحد ، ولا سبيل إلى الأوّل إذ لا ترجيح له على غيره مع الاشتراك في المصلحة الموجبة ، ولا إلى الثاني إذ لا بدّ من قيام الوجوب بمحلّ معيّن ، ضرورة عدم إمكان قيام الصفة المتعيّنة بالموصوف المبهم ، ولا إلى الثالث وإلاّ كان المجموع واجبا ، فتعيّن الرابع وهو المدّعى ، وإنّما يسقط الوجوب بفعل البعض لقيام الإجماع على عدم بقاء التكليف مع الإتيان بالبعض.

وفيه : أنّ هاهنا احتمالا خامسا وهو تعلّق الوجوب بكلّ واحد على سبيل التخيير

__________________

(١) أضفناه لاستقامة العبارة.

٤٥

بالمعنى الّذي قرّرناه ، فلا محذور ولا سقوط ولا وجوب للجميع.

حجّة القول بوجوب واحد معيّن وجوه :

الأوّل : أنّه لا شكّ في أنّ المكلّف إذا أتى بمجموع الخصال الثلاث كان ممتثلا للفعل الواجب ، وحينئذ فهذا الامتثال لا يخلو من أن يكون بالكلّ من حيث هو كلّ ، أو بكلّ واحد واحد ، أو بواحد غير معيّن أو بواحد معيّن ، لا سبيل إلى الأوّل وإلاّ كان الكلّ واجبا إذ لا معنى للواجب إلاّ ما حصل الامتثال به وهو باطل اتّفاقا ، ولا إلى الثاني وإلاّ اجتمع المؤثّرات وهي الإعتاق والاطعام والصيام على أثر واحد وهو الامتثال وهو محال ، وإلاّ لزم احتياج الامتثال إلى كلّ واحد من هذه الثلاث مع استغنائه عن كلّ واحد منها ، ولا إلى الثالث إذ غير المعيّن غير موجود إذ لو كان موجودا كان معيّنا ، وغير الموجود لا يحصل به الامتثال فتعيّن الرابع وهو المطلوب.

الثاني : أنّ الوجوب أمر معيّن فلا بدّ وأن يكون متعلّقه أيضا معيّنا ، لأنّ المعيّن يستدعي المعيّن ، وذلك المعيّن لا يجوز أن يكون هو الكلّ من حيث هو كلّ وإلاّ كان الكلّ واجبا ، ولا كلّ واحد واحد وإلاّ اجتمع المؤثّرات على أثر واحد ، ولا واحد غير معيّن لأنّه غير موجود ، فتعيّن كونه واحدا معيّنا وهو المطلوب.

الثالث : أنّ الثواب على الواجب المخيّر إمّا أن يكون بفعل المجموع أو بفعل كلّ واحد أو بفعل واحد غير معيّن أو بفعل واحد معيّن والكلّ باطل إلاّ الأخير لما عرفت ، فثبت المطلوب.

وأيضا العقاب الحاصل عن ترك الواجب المخيّر إمّا أن يكون بترك الكلّ أو بترك كلّ واحد أو بترك واحد غير معيّن أو بترك واحد معيّن ، وكلّ من الثلاث الاول باطل لما ذكر ، فتعيّن الرابع وهو المطلوب.

والجواب عن الأوّل : بأنّ الامتثال يحصل بفعل واحد ملحوظ معه الخصوصيّة تلغى عنه جهة التعيين وهو موجود ، والّذي لا يوجد هو الواحد مع اعتبار عدم التعيين ، ولا ملازمة بينه وبين عدم اعتبار التعيين.

وقد يجاب أيضا : باختيار الشقّ الثاني ، ودفع المحذور بكون الامور الشرعيّة معرّفات للآثار ولا علل حقيقيّة حتّى يمتنع اجتماع عدّة منها على معلول واحد.

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا سيأتي في ذكر ملحقات المسألة إن شاء الله.

٤٦

وإجماله : أنّ حصول الامتثال بكلّ واحد فرع وجوب كلّ واحد على التعيين وأنتم لا تقولون به ، وما تذهبون إليه من وجوب كلّ واحد على البدل والتخيير لا يستدعي إلاّ الامتثال بواحد من حيث استلزامه تعلّق الوجوب بواحد كما مرّ شرحه بما لا مزيد عليه.

وعن الثاني : بأنّ الوجوب وإن كان أمرا معيّنا ويقتضي محلاّ معيّنا ولكن يكفي فيه كونه معيّنا بوجه مّا وهو في كلّ شيء بحسبه ، والواحديّة ممّا يوجب تعيّنا فيه كما أنّ الاثنينيّة ممّا يوجبه وهكذا إلى آخر المعيّنات العدديّة ، والممتنع تعلّق المعيّن بما يكون غير معيّن من جميع الجهات ، والتعيّن في بعض الجهات يرفع الامتناع الملحوظ في المقام ، ولذا ترى أنّ الفقهاء يعتبرون في صحّة العقد معلوميّة المبيع ويجعلونه من أركان البيع لئلاّ يلزم الغرر المجمع على نفيه ، ومع ذلك يكتفون فيها بالنسبة إلى كلّ شيء بما يرجع إلى بعض الجهات ممّا هو متعارف في تعيينه في العرف والعادة من عدد أو وزن أو كيل أو ذرع أو نحوه من المقادير ، والمفروض أنّ الملك أيضا أمر معيّن من جهة كونه أمرا وجوديّا يقتضي محلاّ معيّنا.

هذا على مذهب من يرى الواجب واحدا لا بعينه.

وأمّا على المختار فنقول : إنّ تعيين متعلّق الوجوب لو اريد به ما يرجع إلى حقيقته المتعيّنة في نفس الأمر الممتازة به عن كلّ ما سواها الملحوظة عنوانا في تعليق الوجوب ، فهو حاصل بإيجاب كلّ واحد بالخصوص على وجه التخيير الموجب لتحقّق عنوانين مقيّدين في كلّ بقيدين متقابلين ، وذلك لا يقتضي كون الواجب معيّنا على الإطلاق وعلى كلا التقديرين كما لا يخفى.

ولو اريد به ما يكون مناطا لحصول الامتثال كما في الواجب المعيّن ، فلا نسلّم كون كلّ وجوب مقتضيا لذلك ، وإلاّ لما كان بين الوجوب التعييني والتخييري فرق بالذات ، والاتّفاق واقع على أنّهما متفارقان لذاتهما.

وبذلك يظهر الجواب عن الثالث : فإنّ الثواب والعقاب يتبعان الشيء على حسب ما اعتبره الشارع عند تعليق الوجوب ، ولمّا كان ما أوجبه الشارع في المخيّر هو كلّ واحد بالخصوص حال عدم حصول الآخر فالثواب يترتّب على فعل واحد حال ترك الآخر ، والعقاب يترتّب على ترك ذلك الواحد حال ترك الآخر ، فلو أتى بالجميع دفعة فإن قصد الامتثال بواحد يثاب بذلك الواحد ، ولا يقتضي ذلك تعيينا في نفس الأمر ، لأنّ تعيينه يقتضي تعيين الممتثل لا تعيين ما يمتثل به كما يشهد به الذوق السليم والوجدان المستقيم ،

٤٧

وهو متعيّن ، وإن قصد الامتثال بالجميع فلا ثواب له لعدم قصده الامتثال بما أوجبه عليه الشارع فيكون مبدعا مشرّعا فيستحقّ العقاب لذلك ، وسيأتي زيادة تحقيق في ذلك إن شاء الله تعالى.

حجّة القول بأنّ الواجب واحد معيّن عند الله تعالى غير معيّن عندنا وهو ما يفعله المكلّف :أنّ الله تعالى علم ما يفعله المكلّف من الخصال الثلاث فيكون متعيّنا في علم الله تعالى والوجوب تعلّق به ، فيكون الواجب معيّنا وهو ما يفعل المكلّف.

والجواب : أنّ إيجابه تعالى لا يتبع فعل المكلّف ولا علمه بفعله ، وإلاّ لما كان التارك عاصيا لكون السالبة بانتفاء الموضوع من جهة انتفاء الفعل منه ، إذ لا يصدر منه فعل حتّى علمه الله تعالى فيوجبه عليه وهو ضروريّ البطلان ، بل هو يتبع المصلحة الكامنة في الشيء ، فمقتضى حكمته البالغة أن يوجبه على المكلّف ويعلّمه به سواء فعله المكلّف أو لم يفعله ، ولمّا كانت المصلحة قائمة في محلّ البحث بعدّة امور على نحو السويّة فالحكمة تقتضي إيجاب الجميع عليه على سبيل التخيير لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، فلذا لا يحصل حينئذ اختلاف بين المكلّفين في المكلّف به ، بخلاف ما لو أوجب واحدا معيّنا فإنّه مع أنّه ترجيح بلا مرجّح يوجب الاختلاف بينهم وهو باطل بالإجماع كما ادّعي في المقام على حدّ الاستفاضة ، ولنختم المسألة بإيراد امور تتضمّن فوائد مهمّة وقواعد لطيفة :

الأمر الأوّل : في أنّه لا إشكال كما لا خلاف في أنّ الأمر ورد في الشريعة على نوعين تعييني وتخييري ، فهل هو حقيقة في الأوّل ومجاز في الثاني ، أو للقدر المشترك بينهما ، أو مشترك بينهما لفظا ، أو هما من مقتضيات ما يلحقه باعتبار المأمور به من الإطلاق والتقييد ، أوجه أوجهها الأخير خلافا لظاهر جماعة منهم السيوري في كنز العرفان ، والمحقّق الأردبيلي والمصنّف والمحقّق الخوانساري على ما حكاه بعض الأفاضل في مصيرهم إلى الأوّل ، وحكاه بعض الأعاظم عن السبزواري أيضا استنادا إلى التبادر ، ولبعض الأعاظم في جعله احتمال كونه للقدر المشترك قويّا (١) حيث قال : « مدلول الصيغة هل هو مطلق الوجوب أو العيني التعييني يحتمل الأوّل قويّا ».

لنا : القطع بأنّ الصيغة لغة وعرفا موضوعة للوجوب ـ بمعنى الطلب الحتمي ـ أو الطلب المقرون بالمنع حسبما تقدّم تحقيقه ، وهو يتحقّق في التخييري تحقّقه في التعييني من غير

__________________

(١) كذا في الأصل.

٤٨

حصول فرق بينهما بزيادة فيه ولا نقيصة ولا تطرّق تصرّف إليها في أحدهما دون الآخر ، بل هو فيهما على منوال واحد ، ولا يكونان بالقياس إليه فردين لأمر مشترك بينهما لعدم كونهما من مقولة الطلب ومبائنته لهما جنسا وفصلا ، بل التعيين والتخيير مفهومان متقابلان يعرضان المأمور به المدلول عليه بالمادّة باعتبار ملاحظته مطلقا بالقياس إلى حالتي حصول الغير معه وعدم حصوله ، أو مقيّدا بالقياس إلى حالة عدم حصول الغير الّذي اعتبر معادلا له حسبما تقدّم تفصيل القول فيه بما لا مزيد عليه.

ولا ريب أنّ هذا التقيّد ممّا يجيء من خارج لفظي كأداة الترديد المتخلّلة بين المأمور به ومعادله المفروض له شرعا كما لو قال : « صم أو أعتق رقبة » أو بين متعلّق المأمور به ومعادله كما لو قال : « أكرم زيدا أو عمرا » أو لبّي عقلي كما لو حكم العقل بالتخيير فيما لو ورد أمران بمفهومين متضادّين لا يمكن الجمع بينهما أصلا لا على سبيل الاجتماع ولا على سبيل الافتراق ، أو لبّي غير عقلي كما لو ورد أمر بالجمعة وأمر بالظهر وقام الإجماع على أنّ المطلوب أحدهما ، فكون الأمر تعيينيّا إنّما هو من مقتضيات إطلاق المأمور به كما أنّ كونه تخييريّا من مقتضيات تقييده بما ذكر من القيد العدمي ، وظاهر أنّه لا يحصل بهذا الإطلاق ولا ذاك التقييد اختلاف في مدلول الصيغة كما هو الحال في « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » من حيث إنّ الطلب الحتمي في كلّ منهما على منوال واحد ، وإنّما يحصل الفرق بينهما في المطلوب من حيث الإطلاق والتقييد ، وهذا التقييد حيثما حصل لا يستلزم تجوّزا في مدلول المادّة فضلا عن مدلول الصيغة ـ على ما هو التحقيق ـ بالنظر إلى تعدّد الدالّ والمدلول ، ولو سلّم التجوّز فيه فهو لا يستلزم تجوّزا في مدلول الصيغة لمفارقتها لها وضعا والكلام فيه دون غيره.

فما عن السبزواري من دعوى التبادر في التعييني إن أراد به ما يقتضي بدخول التعيين في مدلول الصيغة باعتبار الوضع الراجع إليها فهو في حيّز المنع وإن أراد به غير ذلك فلا محصّل له إلاّ ما قرّرناه من قضاء إطلاق المأمور به المقرون بالسكوت في معرض البيان بذلك ، وهو ممّا لا قضاء له بالمجازيّة في التخييري كما عرفت ، إلاّ أن يراد بها ما يلزم في مدلول المادّة وهو مع أنّه خارج عن موضع البحث موضع منع.

واحتجّ بعض الأعاظم على ما اختاره بوجوه :

٤٩

منها : أنّ امتياز العيني والتعييني يتحقّق بالامور الخارجة عن نفس الطلب المدلول عليه بالصيغة كالعطف وتركه في الصيغة أو المأمور به ، كما في التعييني والتخييري وهما خارجان عن نفس مدلول الصيغة.

وفيه : أنّ حصول الامتياز بالامور الخارجة مسلّم ، كما أنّ كون العطف وتركه من الامور الخارجة مسلّم ، غير أنّهما يوجبان فرقا في متعلّق الطلب من حيث الإطلاق والتقييد لا أنّه يحصل بهما فردان للطلب ليكون الطلب بالنسبة إليهما قدرا مشتركا كما هو المطلوب وذلك واضح ، مع أنّه على فرض الصحّة في مقابلة القول بالحقيقة والمجاز قريب من كونه مصادرة بالمطلوب وإثباتا للمدّعى بتقرير أصل الدعوى ، فإنّ الخصم لا يسلّم خروج التعييني عن مدلول الصيغة وضعا ولم تنهض في الدليل حجّة تلزمه بذلك كما لا يخفى.

ومنها : أنّ حروف العطف من طوارئ المفاهيم ولا يحدث بها اختلاف في أنفسها ، فإذا قيل : « أعتق أو صم » مثلا أو « أكرم زيدا أو عمرا » فمدلول الصيغة ما يعرض له العطف ، ولا يتحقّق اختلاف في نفس المدلول بترك العطف أو فعله كما في سائر المفاهيم.

وبالجملة هذا الاختلاف نشأ من العطف وممّا هو خارج عن المدلول ، ويؤيّده عدم عدّ أحد من العلماء من باب التعارض هذا العطف بأحد الوجهين.

ومحصّل هذا الوجه يرجع إلى التمسّك بما هو ضابط في باب حروف العطف من أنّها إذا لحقت مفاهيم سائر الألفاظ لا توجب فيها اختلافا بحسب المعنى ، بل هي بعد لحوقها باقية على ما كانت عليه قبل لحوقها ، وهو كما ترى على إطلاقه غير مرضيّ.

كيف وقد عرفت أنّ العطف إذا كان بكلمة « أو » وما يجري مجراها يوجب تقييدا في الملحوق به.

ولا ريب أنّه مغاير لما هو عليه بدونها من الإطلاق.

ومن هنا ظهر ما في قوله : « فمدلول الصيغة ما يعرض له العطف » من الاشتباه الفاحش ، فإنّ العطف إنّما يعرض المأمور به أو متعلّقه لا الطلب حتّى ينظر في حصول اختلاف فيه باعتبار ترك العطف وفعله.

ومنها : أنّ الأمر في الجميع مردّد بين الاشتراك المعنوي واللفظي والمجاز ، والأوّل مقدّم في مثله.

٥٠

وفيه أوّلا (١) : منع كون التعييني والتخييري فردين لمشترك بينهما ليصحّ فرض الصيغة بالنسبة إليه مشتركا معنويّا ، بل هما من لوازم إطلاق المأمور به وتقييده حسبما قرّرناه.

وثانيا : أنّ هذه القاعدة على إطلاقها غير مرضيّة ، وكون المقام من مجاريها على فرض تسليم كونهما فردين لجامع بينهما غير مسلّم ، كيف واستعمال الصيغة في ذلك القدر الجامع محلّ منع فضلا عن غلبة ذلك الاستعمال ، مع أنّ العطف بكلمة « أو » قرينة قامت على إرادة التخييري لا محالة حتّى على القول بالمجازيّة فيه ، فالأمر بالنسبة إليها مردّد بين كونها للتجوّز أو للإفهام ولا مزيّة لأحدهما على الآخر إلاّ أن يدّعى غلبة الثاني على الأوّل بحسب النوع والوقوع الخارجي وهو في حيّز المنع ، كما يشهد به ملاحظة القول بأنّ أغلب اللغات المجازات ، بناء على أنّ المراد بها الاستعمالات المجازيّة لا مفاهيمها الكليّة كما يقتضيه ما بطل من دليل هذا القول.

فتحصّل من جميع ما تقرّر : أنّ مقالتنا في مواضع التخيير ترجع إلى التزام التقييد في مدلول المادّة ، كما أنّ مقالة من يجعله مجازا ترجع إلى التزام التجوّز في مدلول الصيغة ، ومقالة من يجعله فردا للقدر المشترك بينه وبين التعييني ترجع إلى التقييد في مدلولها ، فلا مخالفة بين المقالات الثلاث في الالتزام بمخالفة الظاهر لكون الجميع في الافتقار إلى خارج يوجب الانصراف عن الظاهر على نهج سواء ، فلذا حصل الاتّفاق على كون التخييري خلاف الظاهر.

ويظهر فائدة الفرق بين الوجوه الثلاث فيما لو ورد أمر عامّ متناول بظاهره لجميع المكلّفين ثمّ قام دليل آخر منفصل قضى بنفي كونه عينيّا بالنسبة إلى صنف منهم ، كما في الجمعة الّتي دلّ قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ )(٢) على وجوبها على عامّة المكلّفين

__________________

(١) والجواب التحقيقي عن ذلك أوّلا منع الكبرى ، وثانيا منع الصغرى.

أمّا الأوّل : فلما تقدّم في المبادئ اللغويّة من أنّ الاشتراك المعنوي حيثما قابله المجاز لم يثبت دليل من العرف على اولويّته وكونه الأصل في مقابلة الحقيقة والمجاز.

وأمّا الثاني : فلمنع دوران الأمر في المقام بين الوجوه الثلاث ، لأنّ التعيين والتخيير على ما تقدّم ويشهد به الوجدان ليسا جهتين راجعتين إلى الصيغة الموضوعة للطلب بكون الأوّل مأخوذا في وضعها أو هو مع الثاني مأخوذا في وضعيها أو كونهما فردين لمشترك بينهما هو المأخوذ في وضعها بل هما راجعين إلى المأمور به الّذي هو مدلول المادّة ينتزعان عنه باعتبار ما يطرءه من الإطلاق والتقييد ، وبالتأمّل في ذلك يظهر الجواب التحقيقي عن الوجهين الآخرين. ( منه عفي عنه ).

(٢) الجمعة : ٩.

٥١

ووقع الإجماع مثلا على عدم كونها عينيّة بالنسبة إلى من لم يتمكّن عن حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو نائبه الخاصّ المأذون في أدائها ، فعلى المختار يثبت الوجوب التخييري في حال الغيبة بينها وبين الظهر ، وعلى القول بكونها حقيقة في التعييني فقط يسقط الوجوب عنها في تلك الحال بالمرّة ، وعلى الاشتراك المعنوي محتمل للوجهين معا.

وتوضيح ذلك : أمّا على الأوّل فلأنّ نفي اللازم بالدليل المنفصل يستدعي نفي الملزوم أعني الإطلاق في المأمور به ، وهو ملزوم لثبوت ملزوم التخيير وهو التقييد لئلاّ يلزم ارتفاع المتقابلين بالعدم والملكة بعد فرض تناول الخطاب.

ومن البيّن أنّ ثبوت الملزوم يستلزم ثبوت لازمه ، فقضيّة ذلك كون المكلّف في حال الغيبة مخيّرا بين الجمعة والظهر.

وإن شئت تصوير ذلك على وجه يوجب الاطمينان فلا حظ قوله : « أعتقوا رقبة » مع قوله لبعض من اندرج في ذلك الخطاب : « لا أجتزي منك بعتق الكافرة » فإنّه نفي لما هو لازم لإطلاق الرقبة وهو التخيير العقلي بين الكافرة والمؤمنة ، وظاهر أنّ نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم وهو الإطلاق.

وقضيّة ذلك ثبوت التقييد بالمؤمنة بالنسبة إلى ذلك البعض ، وإلاّ لزم ارتفاع الإطلاق والتقييد وهو محال. إلاّ على تقدير خروج ذلك البعض عن الخطاب الأوّل بالمرّة من باب التخصيص ، وهو ليس ممّا يفيده الخطاب الثاني لعدم قضائه بعدم وجوب عتق الرقبة على إطلاقها وإلاّ لما كان لتخصيص الكافرة بالذكر فائدة ، والمفروض أنّه لا دليل سواه يقضي بالخروج عن ظاهر الخطاب الأوّل ، والضرورة تتقدّر بقدرها وليس قدرها هنا إلاّ التقييد.

وأمّا على الثاني : فلأنّ العينيّة المنفيّة بالدليل المنفصل داخلة على هذا القول في الحقيقة ، ونفي الحقيقة باعتبار نفي بعض أجزائها بالنسبة إلى بعض أفراد موضوعها لا يقضي بقيام المعنى المجازي مقامها ، كيف ولو قضى بذلك لزم كون الخطاب الأوّل مستعملا في معناه الحقيقي والمجازي معا ، لأنّ المفروض دخول المعنى الحقيقي في الإرادة بالنسبة إلى الفرد الغير المخرج ، بل لازمه التخصيص حينئذ ، فلا يثبت في حال الغيبة وجوب للجمعة أصلا ولو تخييرا ، بل يصير محرّمة حينئذ لاندراجها في عموم أدلّة التشريع والبدعة المحرّمة.

ونظير ذلك ما لو قال : « أكرم العلماء » ثمّ قال : « لا يجب عليك إكرام الاشتقاقيّين منهم » فليس لأحد حينئذ أن يقول بثبوت الاستحباب بالنسبة إلى الاشتقاقيّين بعد نفي الحقيقة

٥٢

بالخطاب الثاني ، فيحرم إكرامهم حينئذ لو فعله بقصد التشريع.

لا يقال : إنّ رفع العامّ لا يستلزم رفع الخاصّ ، وغاية ما أفاده الدليل المنفصل إنّما هو نفي القيد الّذي هو العينيّة في محلّ الكلام والحتميّة في نظيره وهو لا يقضي بنفي أصل الوجوب في الأوّل ولا بنفي الطلب في الثاني ، فيتعيّن الأوّل بما يقابل العينيّة فيثبت الوجوب التخييري أيضا والثاني بما يقابل الحتميّة فيثبت الاستحباب.

لأنّا نقول : إنّما نسلّم ذلك فيما إذا لوحظ العامّ في تعلّق الخطاب به لا بشرط شيء ، كما لو قال : « أكرم الإنسان » فتعذّر على المكلّف من أفراده العالم فإنّه لا يوجب تعذّر أصل الإنسان ليقضي بارتفاع الطلب ، بل يتعيّن عليه الامتثال في سائر أفراده ، لأنّ انتفاء الخاصّ لا يستلزم انتفاء العامّ.

وأمّا إذا لوحظ بشرط شيء وهو انضمامه إلى بعض خصوصيّاته فلا ، إذ لا عموم له حينئذ حتّى لا يلزم انتفاؤه من انتفاء الخصوصيّة ، كما لو قال : « أعتق رقبة مؤمنة » واتّفق تعذّر المؤمنة فلا يمكن القول حينئذ بوجوب عتق الكافرة ، لأنّها فرد من الرقبة وانتفاء الخاصّ لا يقتضي انتفاء العامّ.

والفرق بين المقامين : أنّ الحكم في الأوّل تعلّق بالطبيعة المطلقة المعرّاة عن ملاحظة الخصوصيّات فبتعذّر بعض الخصوصيّات ينصرف الحكم إلى خصوصيّاتها الاخر لوجود الطبيعة المطلقة في ضمنها ، والحكم تابع لها لا للخصوصيّات ، بخلاف الثاني لتعلّق الحكم حينئذ بالطبيعة المقيّدة فيكون تابعا لوجود القيد ولا يتسرّى منه إلى القيود الاخر ، لخروجها عن الطبيعة المقيّدة فإثبات الحكم لها أيضا بعد انتفاء القيد المفروض يحتاج إلى دليل مستأنف ، ولا ريب أنّ الوجوب على القول بحقيقيّة الصيغة في التعييني إنّما أخذ في مدلول الصيغة مقيّدا بالعينيّة ، كما أنّ الطلب في مدلولها على القول بكونها حقيقة في الوجوب اخذ مقيّدا بالحتميّة ، فلا عموم فيهما من حيث كونهما مدلولين لها حتّى لا يلزم من نفي الخصوصيتيّن نفيهما ، فالوجوب والطلب اللذين يتعيّنان بما يقابل العينيّة والحتميّة في فرض المعترض إن اريد بهما ما يكون مدلولا للخطاب فهو فرع كون المراد من الصيغة المعنى العامّ الملحوظ لا بشرط شيء وهو خلاف الفرض ، وإن اريد بهما ما يكون خارجا عن المدلول فهو محتاج إلى دليل منفصل ولم يثبت ، ولو ثبت فهو خارج عمّا نحن بصدده.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالأمر دائر حينئذ بين المجاز والتخصيص ، ومن المقرّر في

٥٣

محلّه أنّ الثاني مقدّم على الأوّل ، ولا سيّما المقام المستلزم للاستعمال في المعنيين.

وأمّا على الثالث : فلأنّ الأمر مردّد حينئذ بين كون الوجوب التعييني بالنسبة إلى المتمكّنين في خطاب « فاسعوا » مرادا منه لا بقيد الخصوصيّة ، بدعوى : كون المراد الوجوب المطلق والخصوصيّة إنّما استفيدت من دليل منفصل ، أو مرادا منه بقيد الخصوصيّة ، بدعوى : أنّ المراد منه الوجوب المقيّد من حيث كونه مقيّدا.

فعلى الأوّل يثبت الوجوب التخييري في حال الغيبة أيضا ، إذ لا يلزم من نفي الخاصّ نفي العامّ ، كما في « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » فيكون كلّ من إثبات العينيّة ونفيها بالدليل بالنسبة إلى الصنفين من الأحكام الواردة على ماهيّة واحدة ملحوظة لا بشرط شيء من تلك الأحكام في الخطاب الأوّل ، كالصلاة الّتي هي ماهيّة واحدة فرضا وتختلف أحكامها في الخطاب الشامل لجميع أنحاء المكلّفين بالنسبة إلى الحاضر والمسافر والصحيح والمريض الّتي تثبت بالأدلّة المنفصلة ، لا أنّها مرادة من الخطاب بأصل الصلاة.

وعلى الثاني ينتفي الوجوب من رأسه ، لكونه بحسب المعنى حينئذ كاحتمال كونها حقيقة في الوجوب التعييني. وقد عرفت الوجه في انتفاء الوجوب بالنسبة إلى هذا الاحتمال ، وإن شئت توضيحه فلاحظ قوله : « أعتق رقبة » مع قرينة دلّت على أنّ المراد خصوص الرقبة المؤمنة ، مع قوله ـ لبعض المخاطبين ـ : « لا يجب عليك عتق المؤمنة » حيث إنّ الخطاب الثاني يقضي بأنّه لا تكليف لهذا البعض رأسا ، لا أنّ له تكليفا في ضمن غير المؤمنة كما لا يخفى.

فما ذكره بعض الأعاظم تفريعا على ما اختاره من الاشتراك المعنوي في قوله : « ومن فروع الأوّل صلاة الجمعة ، فإنّ أمر « فاسعوا » دلّ على وجوب صلاة الجمعة والإجماع وقع على عدم كونها عينيّة بالنسبة إلى من لم يتمكّن من حضور صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو صلاة من أذنه بها ، فيبقى الوجوب التخييري بالنسبة إليهم على المختار ، ويرفع الوجوب مطلقا على القول الآخر فتصير حراما لعموم حرمة التشريع والبدعة والتوقيفيّة ، فيلزم في حال الغيبة على الأوّل أحد الأمرين ، وعلى الثاني يمكن بناء المسألة على أنّ رفع الخاصّ لا يقتضي رفع العامّ فيثبت التخيير أيضا » ليس على ما ينبغي لما عرفته مفصّلا ، إلاّ إذا كان الأصل المحرز عنده في الكلّي المقرون استعماله بإرادة الفرد كونه من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، المستلزم لتعدّد الدالّ والمدلول لا من باب الاستعمال في الخصوصيّة كما هو الأظهر ،

٥٤

إذ به يحصل الجمع بين ما يقتضي إفادة الطبيعة وهو الوضع وما يقتضي إفادة الخصوصيّة وهو الأمارة الخارجيّة القائمة بذلك ، نظرا إلى أنّها لازمة على كلّ تقدير.

وظاهر أنّ إعمال المقتضيين مع إمكانه أوفق بحكمة المتكلّم من إهمال أحدهما وإعمال الآخر من غير أن يترتّب عليه مزيّة معنويّة قاضية برجحان الإهمال ، مضافا إلى أنّ قرينة إفادة الخصوصيّة توجب على الأوّل صرف المعنى وهو الطبيعة إلى بعض أفرادها.

وعلى الثاني توجب صرف اللفظ إلى ذلك الفرد كما هو شأن القرائن الصارفة في سائر المجازات.

ولا ريب أنّ الأوّل أهون من الثاني ، إذ لا يزاحمها في صرف المعنى شيء بخلاف صرفها اللفظ الّذي يزاحمها فيه الوضع الثابت لذلك اللفظ.

الأمر الثاني : قضيّة ما قرّرناه من الفرق بين التعييني والتخييري كون الأمر حيثما ورد بملاحظة إطلاق متعلّقه ظاهرا في التعييني ظهورا سكوتيّا حاصلا عن ملاحظة ترك بيان ما يقتضي تقييده ، لا ظهورا وضعيّا ولا انصرافيّا كما هو الحال في سائر المطلقات بالقياس إلى ما يلحقها من التقييدات.

فمن هنا تبيّن أنّ الأصل في الوجوب إذا ثبت بالدليل اللفظي هو الوجوب التعييني ، فلو دار الأمر بينه وبين التخييري في موضع الاشتباه كما لو ورد أمران متعاقبان بشيئين يمكن الجمع بينهما في الامتثال ولو على التفريق مع إسقاط العاطف المحتمل كونه « واو » الجمع أو كلمة الترديد كما لو قال : « قم صلّ » أو قال : « صلّ الجمعة صلّ الظهر » يحمل عليه خاصّة من غير توقّف ، ولا يلتفت إلى احتمال التخيير لما قرّرناه من قضيّة الظهور ، فإنّ الظاهر هو الحجّة ولا يعارضه مجرّد الاحتمال ، مضافا إلى قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ويؤيّده قاعدة الشغل واستصحاب الأمر ، ولا يعارضهما أصل البراءة هنا.

ولقد نصّ بذلك جماعة منهم بعض الأفاضل في قوله : « كما ينصرف الأمر حين الإطلاق إلى الوجوب كذا ينصرف إلى الوجوب النفسي المطلق العيني التعييني ».

ثمّ أخذ بالاستدلال على ما ادّعاه من الانصراف بالنسبة إلى كلّ من الامور المذكورة حتّى قال : « وأمّا بالنسبة إلى العيني التعييني فظاهر ، لوضوح توقّف قيام فعل الغير مقام فعل المكلّف ، وكذا قيام فعل آخر مقام ذلك الفعل على ورود الدليل ».

ومن الأعاظم من نصّ بذلك أيضا حيث قال ـ بعد الفراغ عن الاستدلال بالوجوه

٥٥

المتقدّمة على ما اختاره من الاشتراك المعنوي ـ :

« نعم الظاهر من الأمر إذا اطلق مجرّدا عمّا يدلّ على التخييري أو الكفائي ما يقابلهما » ثمّ استشهد لذلك بفهم العرف في قوله : « ولذا ترى أنّ أهل العرف يقبّحون احتمال أحدها من العبد مع الإطلاق ، بل يعدّون مثله مفيدا للإيجاب عينيّا معيّنا نفسيّا ولا يشكّون فيه ».

وأنت خبير بأنّ دعوى الظهور على طريقته لا تستقيم إلاّ من جهة الانصراف الناشئ عن غلبة الإطلاق على العيني التعييني ، كما هو الحال في المطلقات المنصرفة إلى أفرادها الشائعة.

والعجب عنه أنّه لم يلتفت إلى هذا المعنى الّذي هو لازم مذهبه ، واستدلّ على ما ادّعاه من الظهور بوجوه لا تكاد تنضبط وتوجب ثبوت مدّعاه ، لأنّه قال ـ بعد كلامه المذكور ـ : « إلاّ أنّ ذلك ليس من نفس المدلول بل باعتبار الخارج ، وهو تعيّن المأمور به أو الفاعل ، فضلا عن لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة في الأدلّة لولاه ، وأنّ سقوط التكليف بفعل الغير أو بشيء آخر خلاف مقتضى قاعدة الاشتغال واستصحابه ، كما أنّ الأخير مناف للتوقيفيّة ومستلزم للترجيح من غير مرجّح لو قيل بتخصيص شيء بالبدليّة أو جواز بدليّة كلّ شيء من كلّ شيء وكلاهما قطعيّ الفساد ، وممّا مرّ بان الحكم فيما لو ثبت الوجوب بالإجماع واختلف في كونه عينيّا أو كفائيّا تعيينيّا أو تخييريّا ، فإنّ بالاستصحاب يحكم بالعينيّة والتعيين ».

وأنت خبير بأنّ التمسّك بقاعدة لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما يلائم ما اخترناه ، من جهة أنّ التخييري يستلزم تقييدا في المأمور به وهو مع عدم البيان في موضع الحاجة إغراء بالجهل ، بخلاف التعييني فإنّه حينئذ من لوازم الإطلاق وهو لا يحتاج إلى بيان ، لأنّه من مقتضيات الوضع الثابت مع اللفظ في جميع الأحوال.

وأمّا على ما اختاره فالتعييني أيضا كالتخييري في الاحتياج إلى البيان من جهة قضاء اعتبار كلّ واحد منهما مع الخطاب بلحوق تقييد بالطلب المطلق المدلول عليه بالصيغة على زعمه ، فقبح التأخير كما أنّه ينفي احتمال التخييري فكذلك ينفي احتمال التعييني أيضا.

وقضيّة ذلك قضاء الأمر المجرّد بالطلب المطلق المعرّى من ملاحظة القيدين فمن أين يجيء الظهور المدّعى ، إلاّ أن يكون المجموع من القاعدة وتعيّن المأمور به دليلا على ذلك ، بكون القاعدة لنفي احتمال التخييري وتعيّن المأمور به لإحراز الظهور في التعييني ، ولكن

٥٦

القواعد الاخر لا ربط لها بما رامه أصلا ، لأنّها امور لا تجدي إلاّ حكما في مقام العمل والظهور اللفظي راجع إلى مقام الاجتهاد وبينهما بون بعيد ، إلاّ أن يكون غرضه بذلك ترجيح أحد الاحتمالين بها على فرض التكافؤ ، أو تأييد الظهور اللفظي بها كما صنعناه ، غير أنّ الأوّل لا يوافق مطلوبه كما أنّه مع الثاني خلاف ما يظهر من عبارته.

وأمّا إذا ثبت وجوب شيء بالدليل اللبّي ودار بين كونه تعيينيّا أو تخييريّا من جهة الخلاف الواقع فيه بين الفقهاء ، فهل هنا أصل يقتضي رجحان أحدهما على الآخر أو لا؟وظاهر أنّه لا مجال هنا للقواعد اللفظيّة ولا الظواهر العرفيّة إذ لا مدخل للّفظ والعرف في اللبّ.

نعم يمكن أن يقال : بأنّ المظنون بملاحظة تعيّن ما تعلّق به الوجوب المردّد باللبّ بحسب ذاته وحقيقته المتعيّنة في نفس الأمر اعتبار التعيين فيما يحصل به الامتثال أيضا ، غير أنّه ظنّ عقلي والعقل لا مدخل له في التوقيفيّات فلا مناص حينئذ من النظر فيما تقتضيه الاصول العمليّة.

ولا يذهب عليك أنّ الشبهة في المقام حكميّة لا موضوعيّة ناشئة عن الشكّ في المكلّف به لا في التكليف ، إذ لا يدري أنّ المأمور به هو الشيء المعيّن بشرط التعيين أو المردّد بينه وبين غيره ممّا يفرض معادلا له.

فحينئذ يمكن أن يقال : بترجيح الثاني عملا بأصل البراءة ، فإنّ الأمر بالمعيّن بشرط التعيين يوجب ضيقا على المكلّف من حيث إنّه ليس له الانصراف في الامتثال عن هذا المعيّن إلى غيره بخلاف المخيّر ، فإنّ للمكلّف توسعة من حيث إنّ الاختيار له ، فإذا شكّ في اشتغال ذمّته بالمضيّق المذكور وعدمه ينفيه بالأصل المستفاد من قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » و « رفع عن امّتي تسعة ، منها ما لا يعلمون » ونحو ذلك ممّا هو مقرّر في محلّه ولكن يدفعه : أنّ العمل بالأصل إنّما يتّجه إذا لم يكن في المقام أصل موضوعي وارد عليه رافع لموضوعه.

وقد عرفت مرارا أنّ مرجع التخيير إلى إسقاط جهة التعيين عمّا تعلّق به الأمر وهو في المقام محلّ للشكّ والأصل عدمه (١).

مضافا إلى أنّ ما يشكّ في كونه معادلا له مشكوك في تعلّق الطلب به أيضا بعد القطع

__________________

(١) على معنى أصالة عدم تعرّض الآمر لإسقاط جهة التعيين عمّا تعلّق به الطلب المعنوي من الماهيّة المتعيّنة بحسب نفسها. ( منه عفي عنه ).

٥٧

بتعلّقه في الجملة بماثبت وجوبه باللبّ والأصل ينفيه ، فارتفع بذلك موضوع الأصل المذكور.

مضافا إلى الشكّ في اندراج ما ذكر من الضيق في عموم أدلّة ذلك الأصل فيبقى قاعدة الشغل المقتضية للقطع بالبراءة مع استصحاب الأمر وأصالة عدم الإجزاء سليمة عن المعارض.

مضافا إلى قاعدة التوقيف في العبادات الموجبة لاندراج ما لم يثبت توقيفه من الشرع بالخصوص في عموم أدلّة البدعة المحرّمة ، ولو سلّم جريان أصل البراءة واستقامته في المقام فهو لا يصلح للمعارضة للأصلين المذكورين ، لما قرّر في محلّه من ورودهما عليه ، إلاّ أن يوجّه المقام بادراج التعيين المشكوك في اعتباره مع المأمور به في سنخ الشروط الّتي ينفيها الأصل في موضع الشكّ ، ولا يعارضه الأصلان لوروده عليهما في هذا المقام من جهة كون شكّه سببيّا.

وفيه : أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ في الشروط الحقيقيّة ، وهي الامور المستقلّة الخارجة عن ذات المأمور به الّتي يحتاج شرطيّتها له إلى ورود نصّ خاصّ فينفي احتمال شرطيّتها في موضع الشكّ بالأصل المستفاد من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » بخلاف المقام ، فإنّ التعيين ليس بأمر خارج عن ذات المأمور به بل هو من مقتضيات حقيقته المتعيّنة ، فلا يحتاج اعتباره مع المأمور به إلى ورود نصّ بالخصوص ، بل يكفي في ثبوته عدم ورود دليل على إسقاطه ، والمفروض فقد ما يوجب سقوطه من الأدلّة الشرعيّة ، وعدم الدليل في مثله يكفي في ثبوت العدم ، فلا أصل في البين يكون واردا على الأصلين.

ولأجل ذلك صرّح بعض الأعاظم فيما تقدّم من كلامه بكون الأصل في موضع التردّد في جانب التعييني تمسّكا بالأصلين المذكورين ، وقد نصّ بذلك أيضا بعض الأفاضل في قوله : « وأمّا إذا ثبت وجوب شيء بالعقل أو الإجماع ودار بين وجهين أو وجوه من المذكورات فالظاهر البناء على الوقف ، إذ لا ترجيح لأحد الوجوه في حدّ ذاته ، ولا إطلاق حينئذ ليؤخذ بمقتضاه ، ويرجع حينئذ في العمل إلى الاصول الفقهيّة فمع الدوران بين الوجوب التعييني والتخييري يؤخذ بالأصل لحصول اليقين بالبراءة بأداء ذلك الفعل دون غيره ، وكذا مع الدوران بين العيني والكفائي ». انتهى.

فتقرّر بما ذكرنا : أنّ الأصل عند دوران الأمر بين التعييني والتخييري هو التعييني إلاّ أن يثبت دليل على خلافه ، سواء ثبت الوجوب بالأدلّة اللفظيّة أو الأدلّة اللبّية ، ولا يتفاوت الحال فيما ثبت الوجوب باللفظ بين كون ما يفيد الوجوب صيغة الأمر أو مادّة الأمر أو

٥٨

لفظة « يجب » ونحوه ، فإنّ الكلّ ظاهر في التعييني إلى أن يثبت خلافه كما صرّح به الفاضل المذكور ، حيث قال : « وما ذكرناه من الانصراف كما يجري في صيغة الأمر وما بمعناه كذا يجري في لفظ « الوجوب » وما يؤدّي مؤدّاه إذا تعلّق بفعل من الأفعال ».

ثمّ اعلم أنّ الدليل إذا كان لفظيّا قد يكون نصّا في التعييني كما لو قال : « افعل هذا ولا يجزيك غيره » وقد يكون نصّا في التخييري بالضرورة كما لو قال : « افعل أحدا من هذين » أو بالنظر والاجتهاد كما لو قال : « افعل هذا وذاك » وهما ليسا بما يمكن الجمع بينهما ، وقد يكون ظاهرا في التعييني بالضرورة كما لو قال : « افعل هذا » أو بالنظر والاجتهاد كما لو قال : « افعل هذا افعل ذاك » بإسقاط العاطف المردّد بين الحرفين ، وقد يكون ظاهرا في التخييري بالضرورة كما لو قال : « افعل هذا أو ذاك » أو بالنظر والاجتهاد كما لو قال : « افعل هذا » ثمّ قال : « افعل أحد الأمرين من هذا وذاك » فإنّ الأوّل بملاحظة قاعدة حمل المطلق على المقيّد يصير ظاهرا في التخييري ، وإن كان في بادئ النظر ظاهرا في التعييني لأنّه ظهور ابتدائيّ لا يعبأ به.

الأمر الثالث : قد عرفت بملاحظة ما تقدّم أنّ التخيير عقليّا كان أو شرعيّا مفهوم لا يتحصّل إلاّ في متعدّد وأقلّه إثنان وظاهر أنّ التعدّد لا بدّ في حصوله بين شيئين من تغاير هذين الشيئين تغايرا ذاتيّا كما في التخيير بين زيد وعمرو عقلا من أفراد الكلّي المأمور به ، والتخيير بين الإطعام والصيام شرعا من أفراد الواجب المخيّر.

أو اعتباريّا وهو قد يكون في كونه موجبا للتغاير محتاجا إلى جعل من الشارع بالخصوص ، كالقصر والإتمام في التخيير فيما بين الركعتين والأربع في المواطن الأربع من أقسام التخيير الشرعي ، وقد لا يكون محتاجا إلى جعل مستقلّ بل يكون تابعا لفرض الموضوع متشخّصا بمشخّصاته المعيّنة الملحوظة بالإجمال تارة بذلك المشخّص واخرى بما يقابله ، والمشخّص يكون بالنسبة إلى الموضوع من عوارضه لا محالة ، فهو قد يكون من مقولة المكان كما في التخيير بين أفراد الكلّي المتميّزة بحسب الأمكنة وهو تخيير عقلي لا محالة ، وقد يكون من مقولة الزمان كما في التخيير بين أجزاء الزمان في الواجب الموسّع وهو أيضا تخيير عقلي.

وقد يقال بكونه تخييرا شرعيّا نظرا إلى أنّ التوسيع في الوقت ممّا يثبت بنصّ الشارع ، وهو في معنى التخيير بين أجزاء الوقت المضروب ، كما يستفاد ذلك من المصنّف أيضا فيما

٥٩

يأتي من بحث الواجب الموسّع.

ويمكن التفصيل فيما بين الموقّت فيكون التخيير فيه شرعيّا ، لأنّ وقته محدود بداية ونهاية بأصل الشرع وغير الموقّت فيكون التخيير بالنسبة إليه عقليّا ، نظرا إلى عدم اعتبار الشارع حدّا في وقته بالخصوص.

وقد يكون من مقولة العدد كما في التخيير بين درهم ودرهمين بالقياس إلى الصدقة المأمور بها ، أو بين فرد وفردين من أفراد الكلّي المأمور به الّذي يثبت بحكم العقل ، والتخيير في النزح بين ثلاثين وأربعين ، وفي المسح بين إصبع وإصبعين وثلاث أصابع الّذي ثبت بحكم الشرع ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه عندهم بالتخيير بين الأقلّ والأكثر ، ولمّا كان التخيير ممّا يستلزم اتّصاف كلّ من الفردين بالوجوب على سبيل البدليّة حسبما تقدّم فقد يقع الإشكال في تصويره هنا على وجه لا يكون منافيا لاتّصاف الزائد في جانب الأكثر الّذي هو أحد فردي الواجب التخييري بالوجوب ، نظرا إلى أنّ الواجب ما يعرضه الوجوب في جميع أجزائه ، وإلاّ فلو خصّ الوجوب به في بعض الأجزاء لا يكون الباقي جزءا له ، وهو من وجوه :

أحدها : أنّ التخيير هنا إنّما يقع على القدر الزائد ، لأنّ الأقلّ ممّا لا يجوز الإخلال به على كلّ تقدير ، سواء فرضناه فردا برأسه للواجب المخيّر أو جزء من الفرد الآخر وهو الأكثر ، فلا تخيير بالنسبة إليه ، فلا يبقى له محلّ إلاّ القدر الزائد ، والتخيير فيه على تقدير كونه واجبا تخيير بين فعل الواجب وتركه ، وهو كما ترى ممّا لا يتعقّل.

وثانيها : أنّ الأقلّ لكونه فردا من الواجب التخييري يحصل به امتثال الأمر لا محالة ، فلو وجب القدر الزائد مع حصول الامتثال به لزم بقاء الوجوب مع حصول الامتثال ، أو لزوم الامتثال عقيب الامتثال وهو أيضا ممّا لا يتعقّل.

وثالثها : أنّ الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل ، والقدر الزائد على الأقلّ يجوز تركه ولا بدل له فكيف يكون واجبا ، ولأجل ذلك وقع الخلاف فيما بينهم بالنسبة إلى اتّصاف القدر الزائد بالوجوب وعدمه ، وحصل منهم أقوال متشنتّنة :

منها : وجوب القدر الزائد مطلقا ، لكون المجموع منه ومن الناقص فردا للواجب أخذا بظاهر اللفظ.

ومنها : استحباب القدر الزائد مطلقا ، لجواز تركه لا إلى بدل.

٦٠