تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

تذنيب

إذا ورد الأمر بمركّب وتعذّر بعض أجزائه بمصادفة مانع ونحوه فالّذي يساعد عليه النظر ويرشد إليه القوّة العاقلة عدم وجوب الأجزاء الباقية بمجرّد ذلك الأمر ، بل عدم دلالته عليه [ على ] ما صرّح به بعض الأعاظم مستظهرا اتّفاقهم عليه أيضا.

والوجه في ذلك : أنّ التكاليف بأسرها مشروطة في حكم العقل بالقدرة على الأفعال ومقدّماتها الداخليّة والخارجيّة ، من غير فرق بين كونها شرعيّة أو عرفيّة ، صرّح المولى بالاشتراط حين الإنشاء أو لم يصرّح بل لم يلتفت إليه أيضا ، فإنّ الأمر إذا صدر ممّن لا يعلم بالعواقب يقع مشروطا بحسب الواقع وإن كان بحسب العبارة مطلقا ، فيكون الطلب معلّقا ـ بالمعنى الّذي استظهرناه في بحث أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه ـ في حقّ غير العالم من وقوعه مستكملا لجهاته الثلاث معلّقا استقراره على اجتماع الشروط الّتي منها القدرة ، فإن تبيّن مصادفته للقدرة على نفس المأمور به وكلّ من أجزائه وشروطه انكشف استقراره ، وإلاّ انكشف زواله ، فمع طروّ العذر عن بعض الأجزاء سابقا أو لاحقا لا أمر بالكلّ جزما ، ضرورة استحالة التكليف بغير المقدور ، ولا بالأجزاء الباقية من جهة هذا الأمر لا أصالة ولا مقدّمة.

أمّا الأوّل : فلظهور الأمر من حيث وروده بالكلّ في كون المصلحة الداعية إلى حسنه ورجحانه قائمة بالهيئة الاجتماعيّة والأجزاء الباقية ليس منها جزما.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأمر المقدّمي يتبع الأمر بذي المقدّمة وجودا وعدما ومع ارتفاع المتبوع لا يعقل بقاء للتابع.

وأمّا العالم بالعواقب فهذا الأمر منه يصير من باب الأمر بما علم انتفاء شرطه ، نظرا إلى أنّ انتفاء القدرة على الجزء يستلزم انتفاء القدرة على الكلّ ، وقد تقرّر أنّ ذلك غير جائز سيّما مع علم المأمور أيضا بالحال ، فالخطابات العامّة لا تتناول هذا المكلّف واقعا. وإن كان ظاهرها في غير العالم التناول ، ومعه لا يعقل وجوب بتلك الخطابات بالنسبة إلى الأجزاء الباقية لا أصليّا ولا مقدّميا لعين ما تقدّم.

هذا إذا لم يكن العذر مسبوقا بحالة التمكّن وقت التكليف مع مضيّ مقدار من الوقت يسعه الفعل.

وأمّا مع مسبوقيّته فطروّ العذر يوجب ارتفاع التكليف عن الكلّ أيضا ، لأنّ القدرة كما

٢٢١

أنّها شرط في حدوث التكليف فكذلك في بقائه ، وأمّا الكلام في تحقّق العصيان وعدمه فيبتني على ما سبق في بحث الواجب الموسّع وحال الأجزاء الباقية كما تقدّم (١).

وما يقال : من أنّ الّذي يظهر من خطاب الموالي لعبيدهم وجميع الآمرين لمأموريهم والشارع للمكلّفين سواء خاطبوا مجملا أو مفصّلا أنّ هناك خطابين أحدهما متوجه إلى الطبيعة المشتركة بين الأجزاء والآحاد ، وثانيهما إرادة ذلك العدد المخصوص من بين الأعداد فالإتيان بالبعض من حيث البعضيّة وخصوص الجزئيّة لا مانع من أن يتعلّق به النيّة ويثاب على الخصوصيّة فإن اريد به أنّ الخطابين يقصدان من لفظ واحد ، فمع أنّه خلاف ظاهر الخطاب ومخالف لما صرّحوا به في مسألة الصحيحة والأعمّ من اتفاق الفريقين على كون الماهيّة المخترعة في حيّز الطلب متّصفة بالصحّة ومشتمل على اعتبار زائد يغني عنه من اعتبار خطاب آخر بالعدد المخصوص لكونه فردا من الطبيعة المشتركة فيغني الخطاب لها عن خطاب آخر به يستلزم ثبوت التخيير بين هذا العدد وبين غيره من أفراد الطبيعة المشتركة إن اعتبر الخطابان في مرتبة واحدة ، أو كون الأمر مستعملا في معنيين الوجوب المطلق والوجوب المشروط إن فرضا في مرتبتين لكون الأمر بالنسبة إلى ما عدا العدد المخصوص مشروطا بعدم التمكّن عن هذا العدد واللازم بكلا قسميه باطل ، مع ما عرفت من بطلان التعليق من الشارع في بعض صوره الّذي يندرج فيه المقام.

وإن اريد منهما يقصدان من لفظين أحدهما : ما ورد في خصوص العدد المخصوص وهو الكلّ بما هو كلّ ، وثانيهما : ما ورد في غيره ممّا يشمل ما عدا العدد المخصوص من مراتب النقصان ، فهو مع أنّه خارج عن مفروض الكلام من جهة كون التكليف بما عدا الكلّ حينئذ مستفادا عن خطاب آخر غير ما ورد فيه من الأمر المتعلّق به إنّما يستقيم إذا فرض الخطاب فيما بين هذا العدد وبين غيره ممّا نقص عنه لا بينه وبين الماهيّة المشتركة بينه وبين غيره لئلاّ يلزم تعلّق الأمر بالقدر المشترك بين المقدور وغيره. وهو محال كتعلّقه بغير المقدور فقط ، وظاهر العبارة المعنى الثاني كما لا يخفى.

__________________

(١) وقد وقفنا بعد مدّة طويلة من زمن الفراغ عن تحقيق المسألة على موافقة الفاضل النراقي في عوائده حاكيا عن صاحب المدارك والمحقّق الخوانساري ، استنادا إلى ما يرجع إلى ما قرّرناه من الدليل وهو أنّ وجوب الإتيان بالأجزاء الممكنة أو استحبابه خلاف الأصل ، والأمر بالكلّ لا يستلزم الأمر بالأجزاء إلاّ تبعا واذا انتفى المتبوع انتفى التابع ( منه ).

٢٢٢

والحاصل أنّ الأجزاء الباقية بعد تعذّر بعض أجزاء المأمور به لا تندرج في الأمر بالكلّ لتكون واجبة بعد تعذّر الكلّ بنفس ذلك الأمر ، بل وجوبها إن كان ولا بدّ منه إنّما يستفاد من أمر آخر ، كما أنّ وجوب القضاء لا بدّ وأن يستفاد من أمر آخر غير الأمر الأوّل من غير فرق في ذلك بين العرفيّات والشرعيّات ، وإنّما الشأن في بيان أنّه هل تجب الأجزاء الباقية بدليل آخر أو لا ، فالظاهر أنّ فيه خلافا أشار إليه بعض الأعاظم بقوله : « فاختلفوا في بقاء التكليف وعدمه على أقوال ثالثها الفرق بين المركّب العقلي والخارجي ، إلاّ أنّ الظاهر اتّفاقهم على عدم دلالة الأمر عليه ، وإنّما الاختلاف نشأ من جهة الخارج ».

ولا يخفى عليك أنّ فائدة هذا البحث إنّما تظهر فيما لم يثبت له أو لجزئه المتعذّر بدل في الشريعة بالخصوص ، كما في الأجزاء الاضطراريّة القائمة مقام الفرد الاختياري من المأمور به عند تعذّره ، وليس الإشكال بالنسبة إلى محلّ الفائدة في إمكان الوجوب بالدليل المتجدّد ، فإنّه ممّا لا يستريب فيه ذو مسكة ، بل الإشكال في فعليّة الوجوب الثابت بورود الدليل الخارج على أدلّة وجوب الكلّ من باب الحكومة ، فإنّ من الأعاظم من اختار الوجوب في المركّبات الخارجيّة خاصّة مستدلاّ بالروايات واصفا لها بالاعتبار كقوله عليه‌السلام : « وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » و « الميسور لا يسقط بالمعسور » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » وحكى الاستدلال عليه أيضا بالاستصحاب والاستقراء ، ولا يخفى ما فيهما ، فإنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوعه كما هو مفروض المقام ممّا لا معنى له ، والعلّيّة غير ثابتة وعلى فرضها غير ثابت الاعتبار.

والعمدة النظر في الروايات ، فإنّ لهم فيها سندا ودلالة كلاما فلذا حكي في دليل القول بعدم البقاء مطلقا تضعيفها في كلا الاعتبارين ، غير أنّ بعض الأعاظم دفعه باستظهار انجبارها بعمل الفحول حاكيا عن بعضهم أنّ الفقهاء يذكرونها في كتبهم الاستدلاليّة على وجه القبول وعدم الطعن في السند أصلا ونقلت في العوالي عنهم عليهم‌السلام ومشهورة في ألسن جميع المسلمين يذكرونها ويتمسّكون بها في محاوراتهم ومعاملاتهم من غير نكير ، والخطب في ذلك أيضا سهل والمهمّ تحقيق الدلالة فيها ، فإنّها في بعضها ممّا لا يخلو عن إشكال وإن أخذها بعض الأعاظم أخذ المسلّمات ، ووجه الإشكال أنّ الرواية الاولى محتملة لوجوه كثيرة يختلف مفادها في متفاهم العرف بحسب اختلاف تلك الوجوه ، فإنّ لفظة « من » في قوله عليه‌السلام : « منه » محتملة لكونها بمعنى « الباء » على حدّ قوله تعالى :

٢٢٣

( يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ )(١) غير أنّها في المقام تكون للتعدية كما لا يخفى ، ولكونها للبدليّة على حدّ قوله تعالى : ( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ )(٢) ولكونها مفسّرة على حدّ قوله تعالى : ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ )(٣) غير أنّها ... (٤).

__________________

(١) الشورى : ٤٥.

(٢) التوبة : ٣٨.

(٣) الحجّ : ٣٠.

(٤) هذا آخر ما ظفرنا عليها من الأوراق المرتبطة بهذا المبحث ومع المؤسف ضاعت بقيّة الأوراق المتعلّقة بالمقام طيلة الأيّام ونحن مع كثرة فحصنا عنها لم نعثر عليها ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.

٢٢٤

ـ تعليقة ـ

في المنطوق والمفهوم

والمقصود بالأصالة من عقد هذا الباب إنّما هو التكلّم في حجّيّة المفاهيم بجميع أنواعها ، وذكر المنطوق معه هنا إمّا لمجرّد مناسبة المقابلة فيما بينهما بحسب مصطلح الاصولي حيث اصطلحوهما في مدلولين متقابلين ، أو لما يلحقه في تضاعيف الباب من الأحكام المختصّة به ، أو المشتركة بينه وبين المفهوم أو لكونه واسطة لإدراك جملة من الأحكام اللاحقة بالمفهوم.

وكيف كان فمشارب الاصوليّين في موضع عنوان هذا الباب مختلفة.

فمنهم : من أفرده بباب مستقلّ برأسه وهم الأكثرون.

ومنهم : من أورده في باب الأوامر كالمصنّف وقبله العلاّمة ثمّ البهائي في التهذيب والزبدة.

ومنهم : من أدرجه في باب الأدلّة العقليّة كما في وافية التوني جاعلا له من الاستلزامات العقليّة الّتي ذكر منها في هذا الباب أربعة أنواع : مقدّمة الواجب ، والنهي عن الضدّ ، والمنطوق الغير الصريح ، والمفهوم.

والأوفق بمباحث الفنّ الأقرب إلى الصواب ما صنعه الأكثرون ، إذ لا مدخليّة لخصوصيّة الأمر في بحث المفاهيم ، بل موضوع البحث عند التحقيق هو الخطاب المتضمّن لتقييد الحكم بشرط أو صفة أو غاية أو غيرها ، والحكم المأخوذ هنا لا ينحصر في الأمر فإنّه قد يكون وضعيّا وقد يكون تكليفيّا ، والتكليفي قد يكون اقتضائيّا وقد يكون تخييريّا ، والاقتضائي قد يكون أمرا وقد يكون نهيا ، والأمر قد يكون إيجابيّا وقد يكون ندبيّا ، والنهي قد يكون تحريميّا وقد يكون كراهيّا ، والمبحث أعمّ من الجميع.

وعلى هذا نبّه المصنّف بقوله : « تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط » إلى آخر ما ذكره.

وأمّا ادراجه في الأدلّة العقليّة فلعلّه مبنيّ على القول بثبوت المفهوم بدلالة عقليّة من

٢٢٥

جهة الحكمة ، كما سيأتي عند تحرير أقوال المسألة في حجّيّة مفهوم الشرط ، وعليه مبنى الاحتجاج بأنّه لو لم يفد التعليق انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط أو الوصف لكان التعليق لغوا ، وإلاّ فعلى الطريقة الحقّة ـ من كون الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء لفظيّة منوطة بالوضع أو التبادر والانفهام العرفي ـ فلا وجه لذكرها في باب الأدلّة العقليّة ولا لعدّها من الاستلزامات العقليّة.

وبالتأمّل فيما ذكرنا ينقدح كون المسألة في مباحث الحجيّة اصوليّة باحثة عن حال الخطاب المتضمّن للتعليق من حيث إنّه يدلّ أو لا يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، ولا ينافيه التعبير بالحجّيّة في تضاعيف عباراتهم كقولهم : « مفهوم الشرط مثلا حجّة ، ومفهوم الوصف ليس بحجّة » لأنّه من باب التعبير باللازم ، حيث إنّ الدلالة المعتبرة حيث ثبتت يلزمها الحجّيّة ، فالبحث إنّما هو في إثبات الملزوم وهو « الدلالة » لا في إثبات اللازم وهو « الحجّيّة بعد الفراغ عن إحراز الملزوم » كما ربّما يوهمه العبارة في بادئ الرأي ، فإنّ الحجّيّة بعد ثبوت الدلالة ممّا لا مجال لأحد إلى إنكاره.

وكيف كان فينبغي قبل الخوض في مباحث الحجّيّة ، أن يورد امور تلاحظ في الباب من باب المبادئ المشتركة بين المنطوق والمفهوم فنذكر هذه الامور في مقامات :

المقام الأوّل

في أنّ المنطوق والمفهوم من مصطلحات الاصوليّين ، وهما ليسا كالحقيقة والمجاز والمشترك والمنقول من صفات اللفظ ، ولا كالكلّيّة والجزئيّة والتواطؤ والتشكيك من صفات المعنى لذاته ، ولا كالمطابقة والتضمّن والالتزام من صفات الدلالة ، بل وصفان للمعنى من حيث مدلوليّته للّفظ ويقال له : المدلول ، فيكونان وصفين للمدلول لتنصيص بعض الاصوليّين كالتفتازاني بذلك ، ناسبا له إلى صريح عباراتهم حيث قال ـ في شرح قول العضدي : « وما ها هنا مصدريّة » ـ هذا وإن كان مصحّحا لكون المفهوم والمنطوق من أقسام الدلالة ، لكنّه يحوج إلى تكلّف عظيم في تصحيح عبارات القوم ، لكونها صريحة في كونهما من أقسام المدلول كما قال الآمدي : « المنطوق ما فهم من اللفظ نطقا أي في محلّ النطق ، والمفهوم ما فهم من اللفظ في غير محلّ النطق » انتهى.

وتبادر المدلول حيث يردان في الاستعمال مطلقا وهو المعهود من اطلاقاتهما في تضاعيف الكتب الفقهيّة والاصوليّة كما يقال في آية النبأ (١) مثلا أنّ منطوقها وجوب التثبّت

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٢٢٦

عند مجيء الفاسق ومفهومها عدم وجوبه عند مجيء العادل أو عدم مجيء الفاسق.

ولحوق « ياء » النسبة بهما حيثما يرجعان إلى الدلالة توصيفا أو حملا وهو آية المبائنة كما في « الرجل البغدادي ».

وليس في كلامهم ما يخالف ما ذكرنا إلاّ ما يوهمه عبارة الحاجبي حيث قسّم الدلالة إلى المنطوق والمفهوم قائلا : « الدلالة منطوق وهو ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم بخلافه أي في غير محلّ النطق ».

والعضدي أخذ بهذا الإيهام فزعم انقسام الدلالة إليهما ، فقال : « إنّ ما ها هنا مصدريّة ».

ووافقه على ذلك التوهّم ، صاحب بيان المختصر قائلا : « الدلالة تنقسم إلى منطوق وإلى مفهوم ».

وربّما نسب جعلهما وصفين للدلالة إلى ظاهر ثاني الشهيدين.

ولا خفاء في ضعف الكلّ خصوصا ما سمعته من العضدي لظهور كلمة « ما » هنا في الموصول ، وجعلها مصدريّة ليس بأولى من جعل الدلالة بمعنى المدلول كما صنعه الفاضل الباغنوي بل هذا هو المتعيّن لوجود القرينة عليه في عبارة المختصر من وجوه : كتذكير الخبر ، وظهور الضمير المجرور في العود إلى الموصول من غير استخدام ، والعود إلى كلمة « ما » على تقدير المصدريّة غير ممكن فيلزم الاستخدام وهو خلاف ظاهر آخر ، وقوله في تقسيم المنطوق : « والأوّل صريح وهو ما وضع اللفظ له ، وغير الصريح بخلافه وهو ما يلزم منه » فإنّ ما وضع له اللفظ وما يلزمه لا يكونان إلاّ من قبيل المدلول.

ولا ينافي ما ذكر قولهم في المنطوق الغير الصريح أنّه : « ينقسم إلى دلالة اقتضاء ودلالة تنبيه وإيماء ودلالة إشارة » لا بتنائه على المسامحة في التعبير ، أو على الحذف والتقدير ، فإنّ المنطوق الغير الصريح إذا كان عبارة « عمّا يلزم ممّا وضع له اللفظ » فهو المدلول عليه الالتزامي بدلالة اقتضاء أو بدلالة تنبيه وإيماء ، أو بدلالة إشارة ، فالمقسم هو المدلول عليه الالتزامي لا نفس الدلالة ، كما أنّه لا ينافيه ما قد يوجد في كلامهم من التعبير : « بأنّ اللفظ بمنطوقه يدلّ على كذا وبمفهومه يدلّ على كذا » كما يقال في قوله : « في الغنم السائمة زكاة » : أنّه يدلّ بمنطوقه على وجوب الزكاة في السائمة وبمفهومه على عدم وجوبها في المعلوفة ، فإنّ نحو هذا التركيب يرد في كلامهم على أنحاء :

فقد يرد في موضع إرادة وصف اللفظ كما يقال : « اللفظ الفلاني يدلّ بحقيقته على كذا

٢٢٧

وبمجازه على كذا ».

وقد يرد في موضع إرادة وصف جزء اللفظ كما يقال : « الأمر يدلّ بهيئته على الطلب الحتمي وبمادّته على الماهيّة المطلقة ».

وقد يرد في موضع إرادة وصف الدلالة كما يقال : « اللفظ الفلاني يدلّ بالمطابقة على كذا وبالتضمّن على كذا وبالالتزام على كذا ».

وقد يرد في موضع إرادة وصف المعنى كما يقال : « هذه القضية تدلّ بمضمونها على كذا »

والعبارة المذكورة محتملة لهذه الوجوه كلّها ، أو ظاهرة في الوجه الأخير لا ما قبله.

وبالجملة لا ينبغي لذي مسكة الاسترابة في رجوع وصفي المنطوق والمفهوم إلى المدلول بوصف أنّه مدلول.

المقام الثاني

بعد ما علم أنّ المنطوق والمفهوم قسمان من المدلول ، فهل بينهما واسطة من مداليل الألفاظ ، بأن يكون منها ما لا يكون منطوقا ولا مفهوما ، أو لا واسطة بينهما فكلّ مدلول إمّا منطوق أو مفهوم؟ وجهان ينشئان من اختلاف كلماتهم واضطراب جملة من عباراتهم.

وقد يقال : إنّ المعاني المفردة خارجة عنهما.

وقضيّة ذلك اختصاصهما بمداليل الألفاظ المركّبة الّتي يجمعها الحكم أو الحال لشيء مذكور أو غير مذكور ، على ما يستفاد من كلام العضدي وتبعه بعض الأعلام ، ولعلّه وهم نشأ عن ذلك ومرجعه إلى اعتبار حكم وموضوع فيهما ، ونحوه كلام من يجعل لفظة « ما » في تعريفيهما موصولا كناية عن المدلول الّذي فسّره بالحكم وضمير « في محلّ النطق » راجعا إلى موضوعه ، أو مدخول كلمة « في » عبارة عنه ، مضافا إلى تقسيمهم المفهوم إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ، ومفهوم المخالفة إلى أقسامه الآتية مع نزاعهم الآتي في الحجّيّة ، فإنّ هذه الكلمات كما ترى توهم كونهما من المعاني المركّبة هذا.

ولكن في مقابلها جملة من عباراتهم المطلقة ، الظاهرة بإطلاقها في عموم المنطوق لمعاني المفردات أيضا كقولهم : المراد بالمنطوق مدلول اللفظ ، وبالمفهوم ما يلزم من المدلول ، وأنّ المراد بالمنطوق الصريح ما وضع له اللفظ وبغير الصريح ما يلزم ممّا وضع له.

مع إمكان القول بأنّ الّذي يظهر من التأمّل في مطاوي عباراتهم أنّ المنطوق قبالا للمفهوم كدلالة المطابقة قبالا للتضمّن والالتزام ، فكما أنّ المطابقة لا يستلزمهما وهما

٢٢٨

يستلزمانها ، فكذلك المنطوق لا يستلزم المفهوم وهو يستلزمه ، ومادّة التخلّف المعاني المفردة مطلقا كما يعطيه صريح بعض عباراتهم ، أو بعض منها كما يعطيه صريح البعض الآخر.

فمن الأوّل : ما ذكره في بيان المختصر في شرح أمثلة الأقسام الثلاث المذكورة لدلالة الاقتضاء المعدودة عندهم من المنطوق الغير الصريح ، فقال : « مثال ما توقّف صدق المتكلّم عليه قوله : « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان ... » فإنّ ما هو لازم للمعنى الموضوع له لفظ « الخطأ » وهو حكم الخطأ مقصود منه وتوقّف صدقه عليه ، ومثال ما توقّف عليه الصحّة العقليّة قوله : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(١) فإنّ ما هو لازم للمعنى الموضوع له لفظ « القرية » وهو الأهل مقصود منه وتوقّف الصحّة العقليّة عليه ، لأنّ السؤال عن القرية غير صحيح عقلا ، ومثال ما توقّف عليه الصحّة الشرعيّة ، قولك للغير : « أعتق عبدك عنّي على ألف » فإنّه يستدعي التمليك ، لتوقّف العتق عليه شرعا.

فالتمليك لازم للمعنى الّذي وضع له لفظ « أعتق عنّي » وهو مقصود وتوقّف عليه الصحّة الشرعيّة ».

ووجه صراحة ذلك : أنّه بعد ما فسّر قبل هذه العبارة المنطوق الصريح : « بما وضع له اللفظ » والغير الصريح : « بما يلزم عمّا وضع له اللفظ » جرى في الأمثلة المذكورة على التفسير المذكور ، وجعل كلاّ من اللازم والملزوم من المعاني المفردة ولا ينافيه قوله في ذيل العبارة المذكورة : لازم للمعنى الّذي وضع له لفظ « أعتق عنّي » لوضوح كون مراده وضع لفظ « أعتق » باعتبار المادّة أعني العتق.

وحاصل مراده : كون الملك ممّا يتوقّف عليه صحّة العتق شرعا ينهض قرينة على أنّ المراد من قوله : « أعتق عبدك عنّي على ألف » استدعاء تمليك عبده منه على ألف أوّلا ثمّ اعتاقه عنه ، فالملزوم وهو العتق مراد من لفظ : « أعتق » باعتبار مادّته ، ولازمه وهو التمليك مدلول عليه بدلالة الالتزام الحاصلة بملاحظة توقّف الصحّة الشرعيّة للعتق على الملك.

ومن الثاني : عبارة شارح المنهاج في تقسيم الخطاب إلى ما دلّ بمنطوقه وما دلّ بمفهومه فقال :

« فإن دلّ بمنطوقه فيحمل على الحقيقة الشرعيّة أوّلا إذ التخاطب فيه ، فإن لم يمكن حمله على الحقيقة الشرعيّة يحمل على العرفيّة ، إذ هي أقرب إلى الفهم وأسبق إلى الذهن ،

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

٢٢٩

فإن لم يمكن حمله على الحقيقة العرفيّة يحمل على اللغويّة ، وإن لم يمكن حمله على اللغويّة يحمل على المجاز الشرعي ثمّ اللغوي ثمّ العرفي.

وإن دلّ الخطاب على الحكم بمفهومه ، فذلك المفهوم اللازم لا يخلو من أن يكون لازما عن مفرد أو مركّب.

واللازم عن المفرد إمّا أن يتوقّف عليه المفرد عقلا كقولك : « إرم » فإنّه يلزم منه تحصيل المرمي والقوس ، والرمي يتوقّف عليهما عقلا.

وإمّا أن يتوقّف عليه المفرد شرعا كقولك : « أعتق عبدك عنّي » ، فإنّه يلزمه تمليك العبد أوّلا ثمّ اعتاقه عنه ، فالإعتاق يتوقّف على التمليك شرعا والتمليك لازم فيه ، وهذا القسم وهو اللازم من المفرد يسمّى اقتضاء ، أي الخطاب يقتضيه.

واللازم عن المركّب لا يخلو : من أن يكون موافقا لمدلول المنطوق في الإيجاب والسلب ، أو لا يكون موافقا » إلى آخر ما ذكره.

وعلى هذا فيوجّه الكلمات المتقدمّة المفيدة لثبوت الواسطة ، بأنّ النظر في اعتبار الحكم وموضوعه فيهما وفي التعريف المفيد لذلك أيضا إنّما هو إلى محلّ اجتماعهما ، فلا يكونان إلاّ من قبيل الحكم الّذي هو معنى تركيبي ، وعليه مبنى تقسيمهم للمفهوم وهو محلّ نزاعهم في حجّيّته ، وطن كان يستفاد من كلام شارح المنهاج انفكاك المفهوم من المنطوق أيضا ، كما في اللازم عن المفرد الّذي يتوقّف عليه المفرد عقلا أو شرعا وقد سمّاه بـ « مفهوم الاقتضاء ».

وعلى هذا فالمفهوم ليس تابعا للمنطوق كما أنّ المنطوق لا يتبع المفهوم.

فصار المحصّل : أنّه لا يخرج عنهما شيء من المداليل اللفظيّة المرتبطة بمقام الإفادة والاستفادة.

نعم إنّما يخرج عنهما المداليل العقليّة الصرفة الغير المرتبطة بمقام الإفادة والاستفادة وإن استندت بنوع من الاعتبار إلى الألفاظ ، كما في دلالة اللفظ على وجود اللافظ ، وكونه إنسانا وذا لسان ونحوه من لوازم التلفّظ الثابتة مع الألفاظ لمجرّد حكم العقل ، ولا يلزم من خروجها تحقّق الواسطة بينهما كما قد يسبق إلى الوهم ، لكون العبرة في انقسام المدلول إليهما بما يناط به مقام الإفادة والاستفادة ، كما يرشد إليه التأمّل في تضاعيف كلماتهم.

هذا ولكنّ الّذي يعطيه الإنصاف ويقتضيه مجانبة الاعتساف ، هو الإذعان بكونهما اصطلاحين في مداليل المركّبات وعدم جريانهما في مداليل المفردات ، فاللفظ في حدّيهما

٢٣٠

عبارة عن اللفظ المركّب ، فما سمعت عن شارحي المختصر والمنهاج من إجرائهما في المفردات أيضا غير سديد ، وسيلحقك زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.

المقام الثالث

ربّما يظهر منهم خلاف في حقيقة الفرق بينهما حسبما جرى عليه اصطلاحهم ، حيث إنّ الأكثرين منهم جعلوا كلاّ ممّا وضع له اللفظ وما يلزم منه بأحد الوجوه الآتية من المنطوق ، إلاّ أنّهم فرّقوا بينهما بجعل الأوّل صريحا والثاني غير صريح كما أشرنا صريحا وستعرف تفصيله ، وخالفهم في ذلك شارح المنهاج فجعل مناط الفرق بينهما بكون المنطوق مدلول اللفظ والمفهوم ما يلزم من المدلول ، سواء كان لازما عن مفرد فمفهوم اقتضاء ، أو عن مركّب فمفهوم موافقة أو مخالفة كما ظهر ذلك من كلامه المتقدّم بعين عبارته.

وقضيّة إطلاقه في جعل مدلول اللفظ منطوقا من غير أن يعتبر معه الوضع كون المعاني المجازيّة بأسرها من المنطوق ، على ما تقدّم منه من جعل المعاني المفردة من المنطوق في الجملة ، فيكون المفهوم المقابل له أعم ممّا يلزم اللفظ عن مدلوله الحقيقي أو عن مدلوله المجازي ، فلو قال : « إرم » كان الرمي منطوقا وتحصيل القوس والمرمي مفهوما لتوقّف الأوّل عليه عقلا ، وكذلك لو قال : « إضرب » مريدا به الرمي مجازا ، ولو قال : « أعتق عبدك عنّي بألف » كان الإعتاق منطوقا والتمليك مفهوما لتوقّف الأوّل عليه شرعا ، وكذلك لو قال : « كفّر عنّي بعبدك على ألف » مريدا به الإعتاق مجازا.

ويظهر قبول هذه الطريقة من العلاّمة ـ على ما حكي عنه ـ في إيراده على ما حكاه عن بعضهم من تعريف المنطوق : « بما فهم من اللفظ في محلّ النطق » بأنّه منقوض بدلالة الاقتضاء ، فإنّ الأحكام المضمرة فيها مفهومة من اللفظ في محلّ النطق ، مع أنّه لا يقال فيها : أنّها دلالة المنطوق.

وممّا يلزم على هذا القول كون وجوب المقدّمة والنهي عن الضدّ من قبيل المفهوم ، لكون كلّ منهما لازما عن مركّب وهو الأمر بالشيء ، مع أنّه لم يقل به أحد.

ولو دفع في الأوّل بعدم اندراجه في ضابط مفهوم الموافقة وهو اختلاف الحكمين في الأولويّة ، ولا في ضابط مفهوم المخالفة وهو اختلافهما في الإيجاب والسلب ، كان الثاني متوجّها لمكان الاختلاف في الإيجاب والسلب.

وكيف كان فالوقوف مع الأكثر أولى وأجدر ، كما هو المعيار في معرفة الامور

٢٣١

الاصطلاحيّة حيث يرجع فيها إلى أهل الاصطلاح كلّهم أو أكثرهم أو جماعة من معتبريهم ، ولا خفاء في شذوذ القول المذكور وندرة قائله.

ثمّ إنّه على مذهب الأكثر ربّما يتأمّل في الفرق بين المنطوق الغير الصريح والمفهوم ، كما في الشرح على الشرح للتفتازاني ، نظرا إلى كون كلّ منهما عندهم من المدلول الالتزامي اللازم للمدلول المطابقي.

واستشكل فيه أيضا السيّد صدر الدين في شرحه للوافية ، بل يظهر منه الميل إلى ما نقلناه عن شارح المنهاج من القول النادر ، حيث يقول : « فليت شعري ما الّذي جعل مثل هذا المعنى معنى التزاميّا أو منطوقا غير صريح ، وأخرج مفهوم الموافق أو المخالف عن المنطوق وجعلهما مقابلا له ، مع أنّ مطلق المفهوم ممّا يفهم عندهم من المعنى المطابقي وله مدخل في فهمه ، ويفهمه أهل اللغة أو العرف إمّا دائما أو في الأغلب ».

فالأولى ما جعله البعض كما نقله الفاضل الجواد وقال في شرحه للزبدة : « وبعضهم يجعل غير الصريح من المفهوم ، ويجعل المنطوق ما دلّ عليه اللفظ مطابقة أو تضمّنا ، والمفهوم ما كان لازما للمدلول ، ويجعل الاقتضاء والإيماء والإشارة من أقسام المفهوم ... إلى آخره ».

أقول : لعلّ مراده من البعض شارح المنهاج ، ويحتمل كونه غيره فيكون شارح المنهاج موافقا له ، لأنّه أهمل دلالة الإيماء ودلالة الإشارة بل ما يتوقّف عليه صدق الكلام من دلالة الاقتضاء ، لأنّه على ما تقدّم في كلامه لم يذكر من أقسامها إلاّ ما يتوقّف عليه الصحّة عقلا أو شرعا ، وإن عبّر عنه بالمفرد على خلاف ما عبّر به الأكثر أعني الكلام.

وكيف كان فالأمر في الذبّ عن الإشكال سهل ، لثبوت الفرق بينهما بحسب الموضوع ، فإنّ المنطوق الغير الصريح مدلول لموضوع مذكور في الكلام ، والمفهوم مدلول لموضوع غير مذكور فيه.

وقد يتوهّم الفرق بأنّ الملازمة في المفهوم عرفيّة وفي المنطوق الغير الصريح عقليّة أو شرعيّة حتّى في دلالة الإشارة ، من حيث إنّ العقل يحكم فيها بملازمة ما خرج عن المقصود للمقصود صونا لكلام الحكيم عن وصمة الكذب.

ويزيّفه : منع انحصار الملازمة في غير الصريح في العقليّة والشرعيّة ، فإنّ دلالة الإيماء

٢٣٢

ما يحصل الدلالة فيه لبعد الاقتران عرفا (١) فمنشأ الدلالة هو الاستبعاد العرفي فلا تكون الملازمة حينئذ إلاّ عرفيّة.

وإن كان ولا بدّ من بيان فرق آخر بينهما من غير جهة الموضوع ، فالأولى أن يفرّق بأن ليس المراد من لازم ما وضع له في تفسير المنطوق الغير الصريح ما ثبت لزومه له لذاته ، بحيث يلزم من تصوّره تصوّره وهو اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ، أو يلزم من تصوّرهما وتصوّر النسبة بينهما الجزم باللزوم وهو البيّن بالمعنى الأعمّ ، لعدم انطباق شيء من الأقسام الآتية وضابطها والأمثلة المذكورة لها على ذلك ، بل المراد به على ما يظهر من هذه الأمور ما يثبت لزومه له لعارض بحكم العقل أو الشرع أو العرف ، بواسطة توقّف صدق الكلام أو توقّف صحّته عقلا أو صحّته شرعا على إرادته وحده من دون ارادة ملزومه ، أو بواسطة بعد اقترانه عرفا لو لا إرادة كون ما اقترن به علّة مع إرادة ملزومه لذلك الملزوم ، أو بواسطة أنّه لولا لزومه للمراد من الكلام ـ وهو الملزوم وحده ـ لزم ما امتنع على المتكلّم الحكيم من كذب أو بيان لخلاف الواقع ، أو تناقض ، أو تكليف بما لا يطاق أو نحو ذلك من منافيات الحكمة ، بحيث لولا توقّف الصدق أو الصحّة عقلا أو شرعا أو الاستبعاد العرفي أو لزوم ما امتنع على الحكيم لم يكن لزوم لما فرض كونه لازما لما وضع له اللفظ أصلا.

ومن ذلك يعلم أنّ إطلاق اللازم عليه مسامحة أو أنّه اصطلاح آخر غير ما هو الاصطلاح المعروف ، بخلاف المفهوم فإنّ لزومه للمنطوق ثابت له لذاته بحيث يلزم تصوّره من تصوّره ، ضرورة أنّ من تصوّر الحكم المقيّد بشرط مثلا يلزم تصوّر نقيض ذلك الحكم على تقدير انتفائه كما يظهر بأدنى تأمّل ، وعليه مبنى دعوى التبادر في كلام من يتمسّك به لإثبات حجّيّة المفهوم حيث يكون حجّة.

__________________

(١) كقوله : « كفّر » عقيب قول السائل : « واقعت أهلي في نهار شهر رمضان » فيراد من قوله : « كفّر » باعتبار اقترانه بقول السائل ذلك إفادة حكمين ، أحدهما : وجوب الكفّارة وثانيهما : كون الوقاع علّة له ، والأوّل ما وضع له هذا اللفظ المركّب والثاني ما يلزم منه ، ثبت لزومه باستبعاد الاقتران عرفا لولا كونه مرادا ، ومن هذا البيان يعلم الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء من وجه آخر غير ما ذكرنا من ضابط الفرق بينهما في التقسيم وهو أنّ المراد في الاولى هو اللازم فقط وفي الثانية هو الملزوم واللازم معا ، غير أنّ الأوّل يراد من اللفظ والثاني من الاقتران. [ راجع حاشية المصنّف رحمه‌الله على القوانين ١ : ١٢٣ ].

٢٣٣

المقام الرابع

في تعريف هذين الموضوعين حسبما صنعه الاصوليّون ، والمعروف فيما بينهم قولا ونقلا أنّ المنطوق : ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم : ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق.

وقد يعبّر عن الدلالة بالفهم فيقال : إنّ المنطوق ما فهم من اللفظ في محلّ النطق والمفهوم بخلافه كما عن النهاية ، وفي معناهما : المنطوق ما فهم من اللفظ نطقا والمفهوم بخلافه كما عن الآمدي ، ويعبّر في تضاعيف كلماتهم ومطاوي عباراتهم عن محلّ النطق تارة بالمنطوق به واخرى بالملفوظ به ، وعن غير محلّ النطق بالمسكوت عنه ، والجامع بينهما ما له المدلول قبالا للمدلول المعبّر به عن الحكم ، فما له المدلول عبارة عن موضوعه ، والمراد بالموضوع هنا ـ بل مطلق مصطلح الاصوليّين على ما قيل ـ ما له نوع تعلّق بالحكم سواء كان مسندا أو مسندا إليه أو من متعلّقات المسند أو المسند إليه ، أو كان من شروط الحكم أو أسبابه أو علله الناقصة ، لا خصوص الموضوع المنطوقي ، فالشرط والوصف والغاية وكلّ قيد وفضلة في الكلام موضوع بهذا المعنى ، فهو بهذا المعنى قد يكون هو المكلّف وقد يكون هو المكلّف به ، وقد يكون من قيودهما ، وقد يكون من شروط التكليف وعلله.

وعلى هذا فيكون مدخول الظرفيّة أعني « محلّ النطق » عبارة عن نفس الموضوع المعبّر عنه بما له المدلول ، كما تنبّه عليه الفاضل السيّد صدر الدين وحكى عن بعض الفضلاء أنّه قال في حاشيته على شرحه للزبدة : « يعبّر عن المذكور بمحلّ النطق وعن المسكوت عنه بغير محلّ النطق ».

ومن هنا ظهر النكتة في التعبير عن الموضوع بمحلّ النطق فإنّه باعتبار كونه مذكورا في الكلام ، وإدخال النفي عليه بعبارة « لا في محلّ النطق » أو « في غير محلّ النطق » في تعريف المفهوم تنبيه على اعتبار كون موضوع الحكم المفهومي غير مذكور في الكلام ، فهذا هو الفارق بينه وبين المنطوق ، فالموضوع في نحو : « الغنم السائمة فيه زكاة » هو « السوم » وهو مذكور في القضيّة المنطوقيّة دون المفهوميّة ، وفي مثل : « إن جاءك زيد فأكرمه » هو « مجيء زيد » وهو مذكور في المنطوق دون المفهوم.

فحاصل معنى تعريف المنطوق حينئذ : « أنّه حكم دلّ عليه اللفظ ، ثابت في موضوع مذكور في الكلام » والمفهوم : « حكم دلّ عليه اللفظ ، ثابت في موضوع غير مذكور ».

٢٣٤

وعبارته الاخرى ما ذكره بعض الأعلام من أنّه : مدلول يكون حكما أو حالا لشيء مذكور ، سواء كان نفس ذلك المدلول مذكورا أو لا.

وهو المستفاد من كلام العضدي وغيره وأخصر عبارات تعريف المفهوم : « ما افيد لغير مذكور » والمنطوق بخلافه فهو الأولى ، والمراد من ثبوت الحكم في الموضوع بالمعنى المذكور تعلّقه به حسبما اعتبره المتكلّم حيث ربطه به وعلّقه عليه وقيّده به ، لا خصوص عروضه له كما هو المعتبر في الموضوع المنطقي.

فبما شرحناه ظهر أنّ ما تقدّم تعريف تامّ لا مسامحة فيه ولا قصور ، فلا حاجة في إصلاحه إلى تكلّف وارتكاب خلاف ظاهر من استخدام ونحوه كما زعمه بعض الأعلام ، حيث اختلط عليه الأمر فقال : « إنّ في الحدّ تسامحا ، لأنّ معيار الفرق بينهما كون ما له المدلول وهو موضوع الحكم مذكورا وعدمه ، مع كون المقصود من المدلول هو الحكم أو الوصف ، فلا يتمّ جعل قوله : « في محلّ النطق » حالا عن الموصول إلاّ بارتكاب نوع من الاستخدام ، ولو جعل الموصول كناية عن الموضوع يلزم خروجه عن المصطلح وارتكاب نوع استخدام في الضمير المجرور » انتهى.

وكأنّ مبناه على زعم كون « محلّ النطق » محمولا على إرادة اللفظ ، فيكون المعنى : ما دلّ عليه اللفظ حال كونه في اللفظ ، وكونه ثابتا في اللفظ كناية عن كونه مذكورا فيه.

وأنت خبير بأنّه في غاية البعد ، والتعبير عمّا له المدلول في مطاوي كلماتهم بالمنطوق أو الملفوظ به أقوى شاهد بأنّ المراد به نفس الموضوع ، ويتأكّد ذلك بنصّ من عرفت.

وبهذا كلّه ظهر أنّ ما في كلام بعض الأواخر عند الكلام في الحدّين من إكثار الاحتمالات ـ بأنّ الموصول إمّا كناية عن الحكم أو عن موضوعه ، وعلى التقديرين فالضميران إمّا يعودان إلى الحكم أو إلى موضوعه ، أو الأوّل يعود إلى الحكم والثاني إلى موضوعه ، أو بالعكس احتمالات ترتقي إلى ثمانية ، وأقلّها محذورا كون الموصول عبارة عن الحكم وعود الضمير المجرور إلى الحكم وضمير الحال إلى الموضوع وفيه نوع استخدام ـ ليس بسديد ، فإنّ مبناه على ما سمعت عن بعض الأعلام وقد عرفت فساده.

وحينئذ نقول : إنّ الموصول لا يتحمّل إلاّ كونه عبارة عن الحكم ، والضميران لا يتحمّلان إلاّ العود إلى الموصول بمعنى الحكم ، ومدخول الظرفيّة لا يتحمّل إلاّ كونه عبارة عمّا له المدلول وهو الموضوع فلا استخدام.

٢٣٥

كما ظهر بما بيّنّاه في تفسير الموضوع أنّه لا وقع لما أورد على الحدّين بالقياس إلى قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » وغيره من القضايا الشرطيّة من حيث إنّ ما له المدلول في كلّ من الحكم المنطوقي والحكم المفهومي وهو زيد مذكور في الكلام ، فيختلّ عكس حدّ المفهوم وطرد حدّ المنطوق ، فإنّه يندفع : بأنّ الموضوع بالمعنى المذكور في القضيّة المنطوقيّة هو « المجيء » لأنّه الّذي تعلّق بالحكم باعتبار أنّه علّق عليه الحكم ، فيكون الحكم المفهومي معلّقا على « عدم المجيء » وهو غير مذكور في الكلام ، فلا حاجة في دفع الإشكال إلى تكلّف أن يقال : إنّ موضوع المنطوق « زيد الجائي » وهو ليس بموضوع المفهوم.

وقد أورد على الحدّين بناء على التوجيه بامور اخر ذكرها بعض الفضلاء :

منها : إنّهما منقوضان بمفهوم الحصر بـ « إنّما » في صورة قصر الموصوف على الصفة ، كقولنا : « إنّما زيد شاعر » فإنّ ما له المدلول « زيد » وهو مذكور في الكلام ، وقد توارد عليه الحكمان : الإيجابي والسلبي ، أعني الشاعريّة له ونفي الصفات الاخر عنه.

وفيه : منع كون ما له المدلول في هذا التركيب هو « زيد » بل هو « شاعر » فيفيد إثبات الزيديّة للشاعر أعني الذات المتّصفة بالشاعريّة ، ونفيها عن الصفات الاخر كالكاتب والقارئ ونحوهما كما هو مفاد قصر الموصوف على الصفة ، فالحكم المنطوقي ثابت للشاعر والمفهومي للصفات الاخر وهي غير مذكورة في الكلام.

والوجه فيما ذكرناه ما قرّر في محلّه من أنّ المحصور فيه في الحصر بـ « إنّما » هو ما ذكر أخيرا وهو الصفة في تركيب قصر الموصوف على الصفة ، ومعنى كون ما ذكر أخيرا محصورا فيه إفادة التركيب إثبات ما ذكر أوّلا له وهو المنطوق ونفيه عمّا عداه وهو المفهوم.

ومبنى الإيراد على الخلط بين صورتي قصر الصفة على الموصوف وقصر الموصوف على الصفة بإجراء معنى الصورة الاولى في الثانية ، وما بيّناه أولى ممّا قد يتكلّف في دفع الإشكال باعتبار الاتّصاف في القضيّة المنطوقيّة وعدم الاتّصاف في القضيّة المفهوميّة ، فيرجع منطوق قولك : « إنّما زيد شاعر » إلى : أنّ زيدا متّصف بالشاعريّة ، ومفهومه إلى : أنّ زيدا غير متّصف بغير الشاعريّة.

ومنها : أنّهما منقوضان بدلالة الآيتين على أقلّ الحمل ، لأنّ الموضوع فيه مدلول الأقلّ دون الحمل وهو غير مذكور.

وفيه : منع كون الموضوع مدلول الأقلّ ، فإنّه مع ستّة أشهر من الحكم والموضوع هو

٢٣٦

الحمل فكأنّه قيل : الحمل أقلّه ستّة أشهر ، مع أنّ مدلول الأقلّ إن اريد به مصداقه وهو ستّة أشهر فهو مذكور في احدى الآيتين لكونه مرادا من الحمل ، بتقريب أنّ كون الموضوع مذكورا أعمّ من كونه مذكورا بلفظه أو بمعناه.

ومنها : أنّ كلاّ منهما منقوض بمثل قول القائل : « أكرم خدّام العالم » حيث يدلّ على وجوب إكرامه بطريق الأولويّة ، فإنّه يعدّ من مفهوم الموافقة على ما يقتضيه طريقتهم ، مع أنّ ما ثبت له الحكم وهو « العالم » مذكور.

ودفعه الفاضل : بأنّ ما ثبت له الحكم ـ أعني الوجوب ـ إنّما هو : « إكرام العالم » وما ذكر في المنطوق إنّما هو : « اكرام خدّام العالم » وهما متغايران.

والأولى أن يقال : إنّ الموضوع بمعنى ما له تعلّق بالحكم المنطوقي هو الخدّام المضاف بوصف الإضافة ، والعالم مذكور معه لمجرد التعريف لا لأنّ له تعلّقا به ، بل له تعلّق بالحكم المفهومي ، وهو بهذا التعلّق غير مذكور في الكلام ، فتدبّر.

وبمثل هذا أو سابقه يندفع النقض في الحصر بأنّما في صورة قصر الصفة على الموصوف بمثل : « إنّما غير زيد أكرمت ».

ومنها : أنّ حدّ المفهوم منقوض بدلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته ، وبدلالته على حرمة الضدّ وفساده.

ودفع : بأنّهما من أحكام الصلاة ومحمولاتها وهي مذكورة ، فكأنّه قيل : الصلاة يجب مقدّمتها ويحرم ضدّها ، ونحوها إزالة النجاسة عن المسجد ، فالمقدّمة والضدّ مأخوذان في جانب المحمول جزءان من الحكم لا أنّهما موضوعان.

ويؤيّده كون الوجوب والحرمة المضافين إليهما غيريّين ، لعروضهما لهما لمصلحة في غيرهما وهو الصلاة والإزالة مثلا ، فيتأكّد بذلك كونهما من أحكام [ الصلاة ] والإزالة.

وفيه : أنّه تكلّف بعيد ، والأولى في دفع الإشكال الالتزام بخروجهما عن المعرّف رأسا ، فإنّه ليس بذلك البعيد لأنّهما من الأحكام العقليّة التبعيّة ، لأنّ العقل يحكم بهما بملاحظة خطاب الشرع ، ولذا ذكرنا في بحثي المقدّمة والضدّ أنّ النزاع في المسألتين في الوجوب والنهي التبعيّين ، وأنّ المسألة الباحثة عنهما عقليّة باحثة عن حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه.

ومن ثمّ أدرجناهما في المبادئ الأحكاميّة ، كما يرشد إليه أيضا طريقة من أدرجهما

٢٣٧

في مباحث الأدلّة العقليّة في الاستلزامات العقليّة قبالا للمستقلاّت العقليّة ، وظاهر أنّ الأحكام العقليّة لا تندرج في المنطوق والمفهوم ، ولا يصحّ إطلاق شيء منهما عليها لكونهما من المداليل اللفظيّة ، فلا داعي حينئذ إلى إدراج وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ في حدّ المنطوق بل لا معنى له ، ويكفي في خروجهما عنه وعن حدّ المفهوم أيضا قيد « دلالة اللفظ » المأخوذ.

ومن أقوى ما يشهد بما ذكرنا ، أنّه لم يوجد في كلام فقيه ولا اصوليّ أنّه أطلق المنطوق أو المفهوم عليهما كما أنّهما يطلقان على سائر الأحكام العقليّة بل على مطلق الأحكام اللبّية ؛ خذ هذا واغتنم.

المقام الخامس

في أنّهم قسّموا المنطوق إلى صريح وهو : ما وضع له اللفظ ، وغير صريح : وهو ما يلزم ممّا وضع له اللفظ.

وصرّح غير واحد من العامّة والخاصّة كبعض أفاضل السادة والبهائي في الزبدة وغيرهما باندراج المدلول التضمّني في المنطوق الصريح.

وأنكره بعض الفضلاء واستشكله بعض الأعلام قائلا : « ولي في كون التضمّني صريحا إشكال ، بل هو من الدلالة العقليّة التبعيّة ، فالأولى جعله من باب الغير الصريح ».

أقول : وعندي أنّ هذا الخلاف ممّا لا يرجع إلى محصّل ولا يعود إلى طائل ، لكونه اختلافا في أمر اصطلاحي ، فكون التضمّني بحسب الاصطلاح من قسم الصريح أو غير الصريح لا يترتّب عليه فائدة عمليّة ولا علميّة ، ولا يكون مبتنيا على اختلافهم في أنّ دلالة التضمّن هل هي دلالة متميّزة عن دلالة المطابقة حتّى تكون عبارة عن فهم الجزء بعد فهم الكلّ أو لا؟ بل هي أمر اعتباري يتولّد من إضافة الدلالة على ما وضع له اللفظ إلى الجزء ، على معنى أنّها دلالة واحدة يقال لها : « المطابقة » باعتبار إضافتها إلى الكلّ ، و « التضمّن » باعتبار إضافتها إلى الجزء ، فالفرق بينهما اعتباري كما سبق إلى بعض الأوهام.

فإنّ هذا كلام في مسألة علميّة والمقام ليس منها ، فلا مانع من انعقاد اصطلاح المنطوق الصريح فيما يعمّ الأمر الحقيقي وهو المطابقة والأمر الاعتباري وهو التضمّن إن بنينا على عدم كونها متميّزة عن المطابقة.

مع أنّه لو أردنا تحقيق المقام نقول : بأنّ بناء الخلاف إنّما هو على أنّ المراد ممّا وضع

٢٣٨

له اللفظ في تفسير الصريح هل هو ما ثبت له الوضع بالاستقلال أو مطلقا ولو بمشاركة؟

والأظهر الثاني كما صرّح به التفتازاني في شرحه على شرح العضدي ، فلا ينبغي الاسترابة حينئذ في كون التضمّني من المنطوق الصريح ، ولا ينافيه كون الدلالة عليه تبعيّة إن اريد به ما يستتبعه الدلالة على الكلّ ، نظرا إلى أنّ الانتقال إلى الكلّ ممّا لا يتعقّل مع التعرية عن الانتقال إلى الجزء ولو إجمالا ، لا بمعنى أنّ هناك انتقالين ممتازين يقال لهما : هذا انتقال إلى الكلّ وذلك انتقال إلى الجزء ، بل بمعنى أنّه انتقال واحد وهو : الانتقال إلى الكلّ ، ويقال له : « المطابقة » بهذا الاعتبار ، ويصحّ إضافته إلى الجزء أيضا فيقال له : « التضمّن » ولذا قيل : إنّ الدلالة فيهما واحدة والفرق بينهما اعتباري كما عرفت.

مع أنّ الّذي يظهر من طريقتهم أنّ مناط الصراحة إنّما هو بكون الدلالة حاصلة من نفس اللفظ بلا افتقار لها إلى توسيط غيره من مقدّمة عقليّة أو شرعيّة أو عرفيّة.

ولا ريب أنّ الدلالة على الجزء أيضا تحصل في ضمن الكلّ بنفس اللفظ ، بملاحظة ما ذكرناه مرارا من كون الفرق بينهما اعتباريّا ، لوضوح أنّ الدلالة الواحدة الّتي إذا اضيفت إلى الكلّ كانت مطابقة وإذا اضيفت إلى الجزء كانت تضمّنا ليست إلاّ حاصلة بنفس اللفظ.

ومن هنا اتّجه أن يقال : إنّ هذه الدلالة الواحدة بالقياس إلى الجزء إذا كانت في حدّ ذاتها أمرا اعتباريّا فلتكن في عروض وصف الصراحة لها أيضا أمرا اعتباريّا ، على معنى أنّ المنطوق الصريح أمر واحد مستند إلى نفس اللفظ وهو المدلول المطابقي ويصحّ إضافته إلى الجزء فيكون مدلولا تضمّنيّا.

ثمّ إنّهم قسّموا المنطوق الغير الصريح إلى ما يكون مدلولا التزاميّا بدلالة الاقتضاء ، وما يكون مدلولا التزاميّا بدلالة التنبيه والإيماء ، وما يكون مدلولا التزاميّا بدلالة الإشارة.

وعن الحنفيّة التعبير عن الأوّل باقتضاء النصّ ، وعن الثاني بإيماء النصّ ، وعن الثالث بإشارة النصّ.

وذلك لأنّ ما يلزم ممّا وضع له إمّا أن يكون مقصودا للمتكلّم بالإصالة أو لا ، و « الثاني هو الدلالة بالإشارة كدلالة الآيتين (١) على أقلّ الحمل ، ودلالة النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : النساء ناقصات عقل ودين ، قيل : وما نقصان دينهنّ؟ قال : تمكث إحداهنّ شطر دهرها لا تصلّي » على أكثر الحيض وأقلّ الطهر وهو عشرة ، وغير ذلك من الأمثلة المذكورة في كتب الاصول.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣ والأحقاف : ١٥.

٢٣٩

فإنّ شيئا ممّا ذكر ليس مقصودا بالإفادة من الخطاب أصالة ، بل المقصود بالأصالة شيء آخر يستلزمه تبعا.

وعلى الأوّل فإن كان ممّا يتوقّف عليه صدق الكلام كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع عن امّتي تسعة » في الدلالة على رفع المؤاخذة ، أو صحّته عقلا كقوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(١) في الدلالة على سؤال أهل القرية ، أو صحّته شرعا كقوله : « أعتق عبدك عنّي بألف » في الدلالة على استدعاء التمليك فدلالة اقتضاء ، وإلاّ فلو اقترن الخطاب بما لو لم يكن علّة له لبعد الاقتران فدلالة تنبيه وإيماء ، كدلالة قوله عليه‌السلام : « كفّر » المقترن بقول السائل : « واقعت أهلي في نهار رمضان » على علّية الوقاع لوجوب الكفّارة ، وكقوله عليه‌السلام : « فلا إذن » بعد ما سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر المقترن بقوله : « نعم » في جواب قوله عليه‌السلام : « أينقص إذا جفّ؟ » على علّية النقصان لعدم الجواز.

لا يقال : قضيّة ما تقدّم في المقام السابق من كون دلالة التضمّن تبعيّة ، مع ما ذكرت هنا من تبعيّة دلالة الإشارة أيضا وعدم كون شيء منهما مقصودا من الخطاب أصالة ، كون التضمّن من دلالة الإشارة أو كون المدلول عليه بالإشارة من المنطوق الصريح ، فبطل بذلك أحد الأمرين من جعل المدلول التضمّني من المنطوق الصريح أو جعل المدلول عليه بالإشارة من غير الصريح.

لأنّا نقول : إنّ الصراحة وعدمها على ما يستفاد من طريقتهم ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ ليسا منوطين بأصالة القصد وعدمها ولا التبعيّة وعدمها بل بكون اللفظ مستقلاّ في الإفادة ـ كما في المنطوق الصريح ومنه المدلول التضمّني كما عرفت سابقا ـ وعدمه ، كما في غير الصريح لافتقار الخطاب في إفادته إلى توسيط أمر آخر وانضمامه إليه من مقدّمة عقليّة أو شرعيّة كما في الأنواع المذكورة.

أمّا ما يفتقر إلى انضمام المقدّمة العقليّة فكدلالة الإشارة ، والقسم الأوّل والثاني من دلالة الاقتضاء.

وأمّا ما يفتقر إلى المقدّمة الشرعيّة فكالقسم الأخير من دلالة الاقتضاء فإنّ عبارة : « أعتق عبدك عنّي بألف » من حيث إنّها إيجاب لعقد الوكالة في العتق يتوقّف صحّته ـ أي ترتّب الأثر عليه ـ على استدعاء تمليك العبد ، فإنّ صحّة الوكالة فرع على صحّة الموكّل

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

٢٤٠