تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

ومن هنا أوردنا في المسائل الفرعيّة على من توهّم تعارض العموم من وجه بين عمومات قراءة القرآن وعمومات المنع من الغناء ـ وقال : بأنّ القاعدة في مثل ذلك تقتضي إمّا الترجيح بالخارج إن كان أو التوقّف ، والترجيح هنا إمّا في جانب القراءة أو لا مرجّح في البين فيجب الوقف ، لا الحكم بحرمة الغناء في القراءة ، وكذا الحال في عمومات التعزية مع الغناء » ـ بكون عموم المنع بنفسه حاكما في نظر العرف على عموم الإذن ، فلا معنى للتوقّف ولا مراجعة المرجّحات الخارجية لترجّح عموم الإذن.

لا يقال : إنّهم في مسألة تعارض العامّين من وجه من باب التعادل والتراجيح ذكروا : أنّ القاعدة تقتضي الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة إن وجدت وإلاّ فيحكم بالإجمال ويرجع إلى الأصل كائنا ما كان ، ولعلّ هذا يخالف ما ذكرت.

لأنّه لا منافاة بينهما. أمّا أوّلا : فلأنّ ما ذكروه وجوب الرجوع إلى المرجّح وهو قد يكون داخليّا من جهة الدلالة وغيرها وقد يكون خارجيّا ، ولا تأثير للمرجّح الخارجي ما دام الداخلي موجودا من جهة الدلالة ، لإطباقهم على تحكيم المرجّحات الدلاليّة لقوّتها على المرجّحات الخارجيّة لعدم مقاومتها لها.

ومن هنا تراهم أنّه لو كان التخصيص في أحد العامّين من وجه تخصيص الأكثر وفي العامّ الآخر تخصيص الأقلّ يقدّمون الثاني تعليلا بأنّ العامّ الأوّل أظهر دلالة على عموم الحكم لمورد الاجتماع من العامّ الثاني ، وذلك كما لو قال : « أكرم العلماء » وهم خمسة عشر نفرا عشرة منهم فسّاق ، مع قوله : « لا تكرم الفسّاق » وهم مائة رجل عشرة منهم علماء ، فيتعارضان في العشرة العلماء الفسّاق.

وكذلك ذكر بعضهم فيما لو كان العموم في أحد العامّين وضعيّا وفي الآخر إطلاقيّا كقوله : « أكرم [ العلماء ] » و « لا تكرم الفاسق » أنّه يقدّم التخصيص في الثاني تعليلا بأنّ الأوّل أظهر في العموم لكونه وضعيّا والوضع أقوى سببي الدلالة من العقل الحاكم بالعموم بملاحظة السكوت في معرض البيان لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو صحّ ما ذكر من التصريح بخصوص المرجّحات الخارجيّة وجب تخصيصه بما بعد اليأس عن المرجّحات الدلاليّة ، لاتّفاقهم تحصيلا ونقلا على تقديمها على غيرها من المرجّحات الخارجيّة.

وأنت لو تتبّعت عباراتهم واستدلالاتهم في الفروع لوجدت كلامهم في الحكم المذكور

٦٢١

معلّقا على فقدها وحصول اليأس عنها ، وفهم الحكومة في دليل المنع إنّما هو لمرجّح الدلالة وهو الأظهريّة البالغة رتبة النصوصيّة ، والى ذلك يرجع ما قد يستدلّ على المختار من أنّ النهي أقوى دلالة من الأمر فيجب تقديمه بإرجاع التخصيص إلى الأمر ، فإنّ أقوائيّة دلالته باعتبار دلالته الالتزاميّة على التكرار ، لأنّ الامتناع عن الماهيّة لا يتأتّى إلاّ بالامتناع عن جميع أفرادها ، فيكون النهي باعتبار هذه الدلالة الالتزاميّة في ظهوره كالنصّ في العموم بخلاف الأمر.

وممّا يدلّ على القول المختار : قاعدة اللطف القاضية بجعل أصل التكاليف لكن لا بالمعنى المعروف ـ أعني ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية (١) ـ بل بمعنى آخر غير معروف وهو إيصال العباد إلى مصالح امورهم وتبعيدهم عن مفاسد امورهم ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بجعل التكاليف على طبق المصالح والمفاسد الباعثة على التزامهم بارتكاب ذي المصلحة واجتناب ذي المفسدة من الامور ، فيجب بحكم العقل المستقلّ عملا بمقتضى الرأفة الإلهيّة والشفقة الرحمانيّة وأداء لحقّ لطفه وحكمته ، وهذه القاعدة كما أنّها تقتضي جعل أصل التكاليف كذلك تقتضي ترجيح المنع على الإذن في مورد التعارض صونا للمكلّف عن مفسدة الفعل.

لا يقال : ترجيح المنع وإن كان يوجب ذلك إلاّ أنّه يوجب فوات مصلحة الفعل عنه أيضا ، لأنّه مع اشتماله على المفسدة مشتمل على المفسدة أيضا ، وتفويت المصلحة كالإيقاع في المفسدة ينافي اللطف.

لأنّ ذلك يندفع بفرض وجود المندوحة في موضوع المسألة.

فغاية ما يلزم من ترجيح المنع عدم إدراك المصلحة في ضمن هذا الفرض مع إمكان تداركها في ضمن فرد آخر ، بخلاف الصون عن المفسدة فإنّه لا يمكن تداركه على تقدير ترجيح الإذن ، فيكون المنافي للّطف هو ترجيح الإذن لا العكس.

فإن قلت : على تقدير ترجيح الإذن لا يبقى منع فلا يكون المكلّف آثما ولا معاقبا ولا مستحقّا للعقاب فكيف ينافي اللطف؟

__________________

(١) وقد وجّه بطلان المعنى المعروف من قاعدة اللطف في التحرير الأوّل من التعليقة بقوله : « فإنّه لو كان بظاهره أدّى إلى الدور ، لأنّ الطاعة والمعصية في مواردهما فرعان على التكليف فالقرب إلى الطاعة والبعد عن المعصية موقوفان على التكليف ومعه كيف يعقل توقّف التكليف عليهما ».

٦٢٢

قلت : مناط المفسدة ليس هو المعاقبة واستحقاق العقوبة ، فإنّها عبارة عن المضرّة وكثيرا مّا تكون دنيويّة كمفسدة السمّ بل هو الغالب في المناهي ، وقاعدة اللطف يقتضي دفعها مطلقا ولا يتأتّى إلاّ بترجيح المنع على الإذن.

ولا يتوجّه إلى التمسّك بهذه القاعدة هنا ما أوردناه على الفاضل التوني في تمسّكه بها دليلا على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ محصّل ذلك الإيراد منع الملازمة بين اجتماع الأمر والنهي وكونه تعالى مقرّبا للعبد إلى المعصية ، لأنّه تعالى لم يأمر بماهيّة المأمور به إلاّ لغرض الطاعة واختيار المكلّف امتثاله في ضمن الفرد المحرّم ليس من قبله تعالى فلم يكن مقرّبا له إلى المعصية ، على أنّ تحقّق النهي الفعلي المجامع له كاف في اقتضاء الانزجار عنها من غير حاجة معه إلى اعتبار شيء آخر من عدم أمر أو نحو ذلك ، فاللطف بالمعنى المعروف لا ينهض دليلا على امتناع الاجتماع ، بخلاف ما لو ثبت الامتناع بدليل آخر ووقع الكلام في الترجيح ، ولا ريب أنّ اللطف بالمعنى الآخر بملاحظة المفسدة الواقعيّة وإن لم يتعقّبها معصية فعلا يصلح وجها لترجيح جانب المنع على الإذن بتقريب ما تقدّم.

نعم لو كان مقصود المقام الاحتراز عن المعصية لما تمّ اللطف إذ لا معصية مع ترجيح الأمر ، فلا يرد عليه : أنّ الوقوع في المفسدة ليس مترتّبا على الأمر لأنّه يترتّب على ترجيح الأمر ، ولا أنّ النهي عن أصل الفعل يكفي في ذلك ، لأنّه على تقدير عدم تعلّقه بهذا الفرد فلا صارف له عن هذا الفرد ولا موجب للتجنّب عن فعله ، فإنّ الداعي إليه غالبا في غالب المكلّفين إنّما هو خوف العقاب بطروّ المعصية لا مجرّد خوف الوقوع في المفسدة الغير المتعقّبة للمعصية واستحقاق العقوبة كما لا يخفى ، فبين المقامين فرق واضح كما بين السماء والأرض.

لا يقال : إنّ قصارى ما يقتضيه دليل اللطف بالتقرير المذكور إنّما هو رجحان العمل بمقتضاه وليس كلّ راجح لازما.

وبعبارة اخرى : العمل بمقتضى اللطف لو ثبت تفضّل منه تعالى بالنسبة إلى العباد والتفضّل ليس شيئا يجب عليه مراعاته ، والمطلوب لا يثبت إلاّ على تقدير الوجوب.

لأنّ وجوب العمل بمقتضاه ممّا يقضي به القوّة العاقلة ويستقلّ بإدراكه ، ويكفي في ثبوته كون تركه تعالى إيصال العباد إلى مصالح امورهم وتبعيدهم عن مفاسدها مع علمه بهما وقدرته على الإيصال والتبعيد بخلا ، وهو منقصة وصفة ذمّ يجب تنزّهه تعالى عنهما

٦٢٣

كما هو منزّه عن سائر النقائص.

ألا ترى أنّ سلطانا رؤوفا في رعيّته مظهرا للّطف عليهم مطّلعا على مصالح امورهم ومفاسدها وهم غير مطّلعين عليهما لو لم يرشدهم إليهما ولم يعلمهم بهما بنصب طرق وأمارات توصلهم إليهما لكان مذموما عند العقلاء موصوفا بالبخل وسخافة الفطنة ودناءة الفطرة ، فيكون ترك العمل بمقتضى اللطف منافيا للحكمة فيكون قبيحا.

واستدلّ أيضا على المختار : بأنّ دفع المفسدة أولى وأهمّ من جلب المنفعة ، وقضيّة ذلك وجوب ترجيح جانب المنع على جانب [ الإذن ].

وتتميمه بحيث ينطبق على ما نحن فيه ويسلّم فيه الأولويّة يتوقّف على توجيه بأن يقال : إنّ المراد به أنّه لو دار الأمر بين دفع مفسدة لا يفوت معه المنفعة وجلب منفعة يحصل معه الوقوع في المفسدة كان الأوّل أولى بحكم القوّة العاقلة وفي بناء العقلاء ، بل العكس قبيح بحكم العقل المستقلّ.

ألا ترى أنّه لو قيل لأحد : « إن سافرت إلى الروم تصب مائة وتقطع يدك ، وإن سافرت إلى الهند لا تقطع يدك وتصب مائة » (١) فإنّه لا يزال يختار الثاني بحيث لو عكس ذمّه العقلاء قاطبة ورموه بالسفاهة واختلال الفطنة ، وأمّا على ظاهر عبارة الدليل من دوران الأمر بين دفع مفسدة لا منفعة معها وجلب منفعة لا مفسدة معها فلا ينطبق على ما نحن فيه ولا يسلم معه الحكم أيضا ، بل الأولويّة في جانب العكس.

وهاهنا وجه ثالث برزخ بين الوجهين وهو دوران الأمر بين دفع مفسدة لا منفعة معها وجلب منفعة يحصل معه الوقوع في المفسدة ، وحكم الأولويّة حينئذ وإن كان مسلّما إلاّ أنّه لا ينطبق على ما نحن فيه أيضا ، ولعلّه لتوهّم هذا الوجه اعترض عليه تارة : بمنع ثبوت ذلك على الإطلاق إذ في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعيّن.

واخرى : بمنع إطلاق الأهمّيّة في بناء العقلاء ، فإنّ بناءهم قد يكون على دفع المفسدة إذا كانت المفسدة عظيمة في مقابل النفع اليسير ، وقد يكون على جلب المنفعة كما لو كانت المنفعة عظيمة في مقابلة المفسدة اليسيرة ، وقد يكون على الوقف أو التخيير كما لو تساوت الجهتان.

__________________

(١) وقد ذكر المثال في حاشية القوانين هكذا : « إن سافرت إلى الهند تصب مائة وتقطع يدك وإن لم تسافر لا تقطع يدك وتصب مائة ».

٦٢٤

وثالثة : بمنع جريان هذا البناء من العقلاء في امور المعاد ، بل غاية ما ثبت منه إنّما هو في امور المعاش فليس محلّ الكلام من جزئيّات هذه القاعدة ، هذا مضافا إلى وجه آخر يقضي بعدم كون المقام من جزئيّات تلك القاعدة ، إذ محلّها فعل واحد يحتمل ارتكابه ضررا ونفعا بحيث لو ترك الارتكاب كان سالما عن الضرر ولم يصل إليه النفع أيضا ، والأمر في المقام تخييري فلا يلزم من ترك الإتيان بذلك الفرد فقد النفع بالمرّة لمكان تمكّنه عن امتثال الواجب في ضمن فرده الآخر ، بل هذه العلاوة صريح في كون نظر المعترض إلى الوجه الأخير ، وأمّا على ما وجّهناه فلا وقع له كما لا وقع معه للوجه [ الأوّل ] لأنّ الكلام في صورة المندوحة بأن يكون في سعة الوقت لا في ضيقه ليتعيّن بسببه المأمور به ، وكذلك لا وقع للتفصيل المذكور في الوجه الثاني إلاّ على المعنى الثالث في العبارة (١) وليس بمراد لعدم انطباقه على ما نحن فيه.

وأمّا الوجه الثالث فيندفع : بأنّ الاستناد إلى بناء العقلاء في امور المعاش لأجل كشفه عن طريقة الشارع الجارية في امور المعاد على وفق مجرى بنائهم ، نظرا إلى أنّ هذا البناء إنّما ينشأ من عقولهم القاصرة فكيف بالعقل الكامل الحكيم على الإطلاق.

واحتجّوا أيضا : بالأصل ، فإنّ مقتضى الشغل اليقيني بالعبادة مع استصحاب الأمر عدم صحّة العبادة بهذا الفرد المشكوك فيه لأنّها موضع شكّ ، وهذا معنى البطلان.

وبأنّ الاستقراء يقتضي ترجيح محتمل الحرمة على محتمل الوجوب كما في حرمة العبادة في أيّام الاستظهار ، ووجوب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين وكلاهما ضعيفان.

أمّا الأصل : فلأنّه وإن كان في مجراه إلاّ أنّه لا يجدي فيما هو مقصود المسألة من الترجيح وإرجاع التخصيص إلى الأمر ، فإنّ الأصل العملي لا يتعرّض للخطاب ولا يتكفّل لبيان حكم اللفظ فلا يصلح لإحراز الدلالة ، فغاية ما يفيده إنّما هو البطلان الظاهري وهو أعمّ من البطلان الواقعي ، فلم يتبيّن به مفاد اللفظ ولا ما ارتكبه المتكلّم من تخصيص أحد العامّين.

نعم إنّما يصحّ الاستناد إليه ممّن يقول بالبطلان عملا وتوقّف إجتهادا ، وأمّا معارضته بأصل البراءة بالقياس إلى الإثم كما قد يتوهّم ، فيدفعه : أنّ المسألة من الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف فلا معنى لأصل البراءة في نحوه.

__________________

(١) والمراد بالعبارة هي قول المستدلّ بأنّ : « دفع المفسدة أولى وأهمّ من جلب المنفعة » وبالمعنى الثالث هو ما أشار إليه بقوله : « وها هنا وجه ثالث برزخ بين الوجهين » الخ.

٦٢٥

وأمّا الاستقراء فأوّلا : لمنع الغلبة ، فإنّ ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب أو مطلق الإذن فإنّما ثبت في عدّة موارد لا تبلغ حدّ الغلبة.

وثانيا : لعدم كونها غلبة يعتدّ بها في إفادة ظنّ اللحوق.

وثالثا : لعدم كون مورد الشكّ متّحد الصنف مع الأفراد الغالبة ، والغلبة في نحوه لا تؤثّر في ظنّ اللحوق ، فإنّ غاية ما ثبت في الموارد المذكورة إنّما هو ترجيح احتمال المفسدة على احتمال المصلحة كما يفصح عنه مسألة الاستظهار ، نظرا إلى أنّ العبادة في أيّامه إمّا مصلحة محضة على تقدير كون الدم الموجود استحاضة أو مفسدة محضة على تقدير كونه حيضا ، وكذلك أحد الإناءين ، بخلاف المقام لدوران [ الأمر ] فيه بين مصلحة مقرونة بالمفسدة ومصلحة خالصة مجرّدة عن المفسدة.

وتوهّم الأولويّة بتقريب : أنّ مع ثبوت الترجيح للمفسدة المحتملة الغير المتعقبة لمصلحة فلأن يرجّح المفسدة المحقّقة طريق الأولويّة وإن تعقّبها المصلحة ، لأنّها مصلحة تتدارك بالمصلحة الخالصة المجرّدة عن المفسدة.

يزيّفه : مع كونها ظنّية أنّها غير منتجة لما هو مقصود المسألة من تعيين الدلالة ، لأنّها أولويّة اعتباريّة لا تعلّق لها بمقام الخطاب ، والمعتبر في باب الدلالات إنّما هو الأولويّة العرفيّة كما في مفهوم الموافقة لا مطلق الأولويّة ولو اعتباريّة في غير مقام الخطاب.

ورابعا : لمنع حجّيّة الظنّ الحاصل منها في محلّ البحث ونظائره ، فإنّ شبهة المسألة ناشئة عن إجمال العامّين الناشئ من تعارض أصالة الحقيقة في أحد العامّين لأصالة الحقيقة في العامّ الآخر ، والمتكلّم قد خرج عن إحداهما بطرحها ورفع اليد عنها والأخذ بالاخرى لا محالة ، فلا بدّ في تعيينها من ظنّ معتبر اعتبره أهل العرف ، وكما أنّ الاعتبار في إثبات الدلالة ابتداء بالظنّ المعتبر ولا يكفي غيره فكذلك الاعتبار في تعيين الدلالة بالظنّ المعتبر ولا يكفي مطلقه ، ولذا لا يعتبر الأقربيّة الاعتباريّة في تعيين [ المعنى ] المجازي فيما تعذّرت حقيقته وتعدّدت مجازاته ، بل لا بدّ فيها من أقربيّة عرفيّة كما عليه المحقّقون.

ومن ذلك أيضا أنّهم في باب تعارض الأحوال لا يعتنون بكلّ ظنّ في الترجيح ولا يعوّلون بالوجوه الاعتباريّة والاعتبارات الذوقيّة.

ومن ذلك أيضا القاعدة المعروفة الّتي يعبّرون عنها : « بعدم جواز ترجيح اللغة بالعقل » من غير فرق في ذلك بين ما يرجع إلى إثبات الوضع وما يرجع إلى إحراز الدلالة أو تعيينها ،

٦٢٦

وما ذكر من الاستقراء المتضمّن للغلبة إنّما ثبت في الشرعيّات لا في العرفيّات وباب الدلالات.

وخامسا : لمنع جدواه في ثبوت ما مقصود المقام ، لأنّ الثابت في المورد الغالب هو الحرمة ووجوب الاجتناب على وجه الحكم الظاهري كما هو الحال في عبادة أيّام الاستظهار وارتكاب أحد الإناءين ، والمقصود من الترجيح هنا إثبات المحرّم الواقعي ، لأنّ مورد اجتماع العامّين [ الّذي ] هو محلّ التعارض مردّد بينه وبين الواجب الواقعي فلو بنينا على الأخذ بموجب الغلبة فيه يحكم عليه بالحرمة الظاهريّة أيضا وإن لم يكن محرّما في الواقع لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، وهذا كما ترى ليس بالمقصود بل المقصود استعلام ما ارتكبه المتكلّم في كلاميه من التخصيص وتعيين محلّه من العامّين ، وظاهر أنّ الحكم الظاهري حيثما ثبت عند الشبهة في دلالة اللفظ لطروّ إجمال ذاتي أو عرضي للفظ لا يتعرّض لحكم اللفظ ولا يرجع إلى مفاده حسبما هو في لحاظ المتكلّم وضميره وإلاّ كان حكما واقعيّا ، بل هو حكم يرجع إلى موضوع عامّ يتولّد من فرض الإجمال وهو مغاير لموضوع حكم اللفظ جزما بل اللفظ بعد باق على إجماله ، إذ لم يتبيّن أنّ ما صدر من المتكلّم من التصرّف هل هو رفع للأصل الجاري في هذا العامّ أو طرح لما يجري في صاحبه؟

ومن الأعلام (١) من اعترض عليها بعد منع الحجّيّة بكونها معارضة بأصل البراءة ولا خفاء في سقوطه ، فإنّها إن كانت حجّة ـ كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره ـ فلا يعارضها أصل البراءة إذ الأصل العملي لا يعارض الدليل الاجتهادي ، وإن لم تكن حجّة فلا معارض لأصل البراءة لأنّ الظنّ الغير المعتبر والشكّ سيّان في عدم الاعتبار ودخولهما في موضوع الأصل.

واحتجّ بعض الأعاظم على ما صار إليه : « بأنّ التعارض فيما بين العامّين ـ بناء على القول باقتضاء النهي فساد العبادة أو هي مع المعاملة ـ يوجب الشكّ في الصحّة بالنسبة إلى مورد الاجتماع.

والمفروض أنّ الصحّة لا تتأتّى إلاّ على تقدير موافقة المأمور به ، والموافقة غير ثابتة بل لا أقلّ من الشكّ وفيه كفاية في البطلان ، كيف وهو موافق للأصل فعدم ثبوت خلافه كاف في الحكم به ، فظهر بذلك أنّ الحكم بالبطلان ليس لأجل تخصيص الأمر بل للأصل » (٢).

وفيه : أنّ إثبات البطلان بالأصل المذكور إنّما يصحّ في موضع لم يقم فيه دليل على الصحّة لا عموما ولا خصوصا والمقام ليس منه لقيام المقتضي للصحّة وهو عموم الأمر ،

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٣.

(٢) إشارات الاصول : ١١٢ نقلا بالمعنى.

٦٢٧

والكلام إنّما هو في المانع ولم يثبت ، لاحتمال كون المرتفع في مورد الاجتماع هو النهي ، مع أنّ فيما قرّرناه من الوجوه غناء عن الركون إلى الأصل وكفاية في توجيه التخصيص إلى الأمر ، ومعه لا معنى للأصل إلاّ من باب التأييد إن جوّزناه ، وإلاّ كما هو الحقّ فلا يصلح التأييد أيضا لارتفاع موضوعه مع قيام الدليل وإن كان موافقا له في الحكم صورة.

واحتجّ بعض الأعلام على ما صار إليه من التوقّف اجتهادا وعملا : « بأنّ مقتضى عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد عدم إمكان كون الشيء الواحد مطلوبا ومبغوضا ، وأمّا اقتضاء ذلك تخصيص الأمر بالنهي والحكم بالبطلان دون العكس فكلاّ ، فإنّ قول الشارع : « صلّ » مطلق والأمر يقتضي الإجزاء في ضمن كلّما يصدق عليه المأمور به وقوله : « لا تغصب » أيضا مطلق يقتضي حرمة كلّ ما يصدق عليه أنّه غصب ، والقاعدة المبحوث عنها بعد استقرارها على عدم الجواز لا تقتضي إلاّ لزوم إرجاع أحد العامّين إلى الآخر ، فلا وجه لتخصيص الأمر والقول بالبطلان كما اختاروه ».

إلى أن قال : « وبالجملة فلا بدّ من مرجّح يطمئنّ إليه النفس ثمّ الحكم على مقتضاه بالصحّة والبطلان » (١).

وفيه : أنّ مجرّد امتناع الاجتماع وإن كان لا يصلح للترجيح لكونه جهة لكنّ المرجّح قد ظهر ممّا قرّرناه على القول المختار.

المطلب الثاني

الظاهر أنّ الآتي بمورد الاجتماع اضطرارا لعدم المندوحة ـ لضيق وقت أو انحصار مكان أو سهوا أو نسيانا أو جهلا بالموضوع أو بالحكم حيث يعذّر الجاهل ـ ممتثل وعبادته صحيحة ، بل هو الظاهر من مذهب الفقهاء حيث يصحّحون العبادات الواقعة في المكان المغصوب لإحدى الامور المذكورة من غير فرق فيه بين المجوّزين لاجتماع الأمر والنهي والمانعين منه ، وهو مع ذلك ممّا لا إشكال فيه ، وليس الصحّة هنا لإرجاع التخصيص إلى النهي على عكس ما سبق من ارجاعه إلى الأمر في حقّ المختار العالم المتذكّر ليلزم كون كلّ من العامّين مستعملا في معنيين العموم والخصوص أو الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة ، بل لخروج موضوعي بالقياس إلى المكلّف ، فإنّ الخطابات

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٣.

٦٢٨

بأسرها معلّقة على القدرة مخصوصة بالقادرين فقوله : « لا تغصب » أيضا على هذه القاعدة مخصوص بمن يقدر على ترك الغصب ، فلا يكون إلاّ بأن يكون مختارا عالما متذكّرا ، فلا يدخل فيه من تعيّن عليه فعل الصلاة في ضمن هذا الفرد لضيق وقت أو انحصار مكان ولا الساهي ولا الناسي ولا الجاهل ، فلا تخصيص ولا إشكال من جهة الصحّة.

لا يقال : إنّ الصحّة في هذه الصور تنافي قاعدة اللطف [ بالمعنى ] المتقدّم أعني إيصال العباد إلى مصالح امورهم وتبعيدهم عن مفاسد امورهم ، والتبعيد عن مفسدة هذا الفرد يقتضي التحريم.

لأنّ اللطف بهذا المعنى إنّما يقتضي وجوب الإيصال إلى مصالح الامور والتبعيد عن مفاسدها بجعل الإيجاب في الأوّل والتحريم في الثاني في حقّ مكلّف يكون قابلا لأن يجعل له الإيجاب أو التحريم ويتوجّه إليه الخطاب ، والمفروض أنّ من تعيّن عليه الفعل أو الساهي أو الناسي أو الجاهل غير قابل له ، فقاعدة اللطف بالمعنى المذكور لا حكم لها في هذه الصور.

فإن قلت : هذا إنّما يسلّم في غير صورة تعيّن الفعل لضيق وقت أو انحصار مكان ، ومرجعهما إلى انحصار الفرد المقدور من المأمور به في هذا الفرد ، لأنّ الاضطرار إلى الفعل حينئذ إنّما نشأ من أمر الشارع وهو ينافي اللطف فوجب عليه تعالى أن لا يأمر بهذا الفرد لئلاّ يتعيّن عليه الفعل لئلاّ يقع في مفسدة الغصب.

قلت أوّلا : مصلحة الصلاة أعظم من مفسدة الغصب فترجّح عليها ، لأنّها من جهة عدم المندوحة لا تتدارك بمصلحة فرد آخر بخلاف صورة وجود المندوحة فترجّح عليها المفسدة لأنّها تتدارك بمصلحة فرد آخر.

وثانيا : أنّ الوقوع في مفسدة الغصب في هذه الصورة لازم على المكلّف لا محالة ، لابتناء فرض [ عدم ] المندوحة عليه سواء أمر بفعل هذا الفرد أو لم يؤمر ، فالوقوع في المفسدة لا يستند إلى أمره تعالى أصلا ، فلو [ لم ] يأمر به مع الوقوع فيها تفوت على المكلّف مصلحة الصلاة أيضا ، وتفويت المصلحة في نحو هذه الصورة على المكلّف ينافي لطفه تعالى ، فوجب الأمر لئلاّ يفوت عليه المصلحة.

ونحو هذا الكلام يجري في سائر الصور أيضا ، فإنّ منافاة اللطف إنّما يلزم إذا استند الوقوع في المفسدة إلى ترك العمل بمقتضى اللطف استنادا حقيقيّا ، كما لو أهمل في نهي ذي العلم والشعور الجامع لسائر الشروط ، والوقوع فيها في مفروض المسألة ليس بمستند

٦٢٩

إليه بل إلى طروّ الامور المذكورة بلا اختيار للمكلّف فيه ، فهو معه واقع فيها لا محالة سواء فرضناه منهيّا عن الفعل أو غير منهيّ عنه.

مع إمكان [ القول بعدم ] صدق عنوان [ المنهيّ عنه ] من أصله وهو التصرّف العدواني فيما نحن فيه (١) فلا وقوع للمفسدة فيبقى الأمر بالفعل المقتضي للصحّة بلا مانع يمنعه من جميع الجهات ولا مزاحم يزاحمه من جميع الوجوه.

لا يقال : لا وجه لتصحيح العبادة في هذه الموارد ، لجواز استناد البطلان إلى وجود المانع وهو الغصبيّة أو فقد الشرط وهو إباحة المكان ، ولذا ترى أنّ الفقهاء يذكرون إباحة المكان وإباحة الماء بالنسبة إلى الصلاة والوضوء من شروط الصحّة ، وكما أنّ قوله : « لا تصلّ حال الجنابة » مثلا يفيد كون الجنابة مانعا على معنى كون عدمها من قيود المكلّف به والطهارة شرطا ، فكذلك قوله : « لا تغصب » يقضي بمانعيّة الغصب وشرطيّة خلافها ، بل نقول : إذا ثبت أنّ الغصبيّة مانعة كان عدمها شرطا ، ومعه يتّجه الحكم في الموارد المذكورة بالبطلان وإن فرض الحرمة الفعليّة أيضا مرتفعة.

لأنّا نقول : إنّ استفادة المانعيّة من النهي على وجه يثبت به قيد عدميّ للمأمور به إنّما يستقيم في النهي المتعلّق بنفس العبادة كقوله : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » لا بأمر خارج عنها متّحد معها في الوجود في بعض الأحيان كما نحن فيه ، فلا يبقى في النهي عن الغصب إلاّ إفادة التحريم الصرف وهو غير شامل لما نحن فيه ، فيبقى الأمر بلا مانع من اقتضائه الصحّة ، ولا ينافيه كون الإباحة على قول الفقهاء من شروط الصحّة ، لأنّ الإباحة غير عدم الغصبيّة وهي على معناها المعروف حاصلة في الموارد المذكورة ، إذ المفروض ارتفاع الحرمة بما فرض فيها من الأعذار العقليّة فتثبت الإباحة وهو المطلوب.

المطلب الثالث

قد ظهر بتضاعيف ما تقدّم أنّ الأمر والنهي إذا كان اجتماعهما في غير موضع

__________________

(١) لأنّ طروّ الأحوال المذكورة كما أنّها رافعة للحرمة عن هذا الفعل فكذلك تكون رافعة لأصل العنوان المنهيّ عنه المشتمل على المفسدة وهو الغصب الّذي هو عبارة عن التصرّف العدواني ، على معنى أنّه يوجب خروج الفعل المذكور عن عنوان التصرّف العدواني ، ضرورة أنّه مع أحد الأعذار المذكورة ليس تصرّفا عدوانيّا فلا يكون مشتملا على مفسدة المنهيّ عنه فيسلم مصلحته عن المزاحم ( نقلناه عن هامش التحرير الأوّل من التعليقة بخطّ يده رحمه‌الله إيضاحا لمراده قدس‌سره ).

٦٣٠

المندوحة فلا خلاف في عدم جوازه ، وهو الّذي يعبّر عنه : « بالاجتماع الآمري » الّذي اتّفق الفريقان على امتناعه ، لكن هذا حيث لم يكن المكلّف بنفسه سببا للاجتماع فأمّا إذا كان هو السبب في اجتماعهما بأن يفعل باختياره فعلا أوقعه في التكليفين بلا مندوحة ولا مجال من امتثالهما معا وقد يعبّر عنه : « بما لا يمكن الانفكاك بينهما في شيء من الجانبين » ففي جوازه والعدم خلاف على أقوال ، وفرضوا المسألة فيمن توسّط دار مغصوبة فهل يكون مأمورا بالخروج ومنهيّا عنه؟ وإذا خرج كان مطيعا عاصيا.

فعن أبي هاشم ـ على ما في مختصر الحاجبي وشرحه الموسوم بالبيان ـ أنّه يكون عاصيا بالخروج والإقامة معا فيكون الخروج مأمورا به ومنهيّا عنه.

ووافقه بعض الأعلام (١) ناسبا له إلى أكثر أفاضلي متأخّرينا ، وعن فخر الدين الرازي أنّه عاص بالخروج استصحابا لحكم المعصية مع كونه واجبا عليه غير منهيّ عنه.

ووافقه من أصحابنا بعض الفضلاء (٢) وابن عمّنا السيّد (٣) طاب ثراهما وقيل : إنّه مأمور بالخروج وليس منهيّا عنه ولا معصية عليه ، وعزى إلى ابن الحاجب وفيه منع لأنّ التأمّل في كلامه يعطي اختياره القول بالتفصيل كما ستعرفه عن السيّد.

ويظهر من بعض الأعاظم عكس ذلك وهو كونه منهيّا عن الخروج حيث قال : « والحقّ أنّه لا أمر بالخروج هنا بل الواجب عليه عدم التصرّف في ملك الغير بغير إذنه والخروج هنا مقدّمة له وليس واجبا » (٤).

ويظهر من السيّد التفصيل بين كون الخروج بنيّة التخلّص فيكون مأمورا به أو بنيّة الفساد فيكون منهيّا عنه (٥) وإليه [ ينظر ] كلام ابن الحاجب في مختصره حيث صرّح بالقطع بنفي المعصية وقيّده بما فسّره شارح البيان بقوله : « وإذا تعيّن الخروج لكونه متعلّقا للأمر يجب أن يقطع بنفي المعصية لأجل الأمر بالخروج ، لكن بشرط نفي المعصية عن نفسه وهو أن يقصد الخروج عن الغصب ، فإنّه لو قصد بالخروج التصرّف في ملك الغير لم ينتف المعصية عنه ، أمّا لو قصد الخروج عن المعصية يكون الخروج حينئذ مأمورا به والمأمور به لا يكون معصية » انتهى.

ولنا في المقام إشكالان :

أحدهما : ما يتوجّه إلى القول بكون الخروج مأمورا به على الإطلاق أو في الجملة ،

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٣.

(٢) الفصول : ١٣٨.

(٣) ضوابط الاصول : ...

(٤) إشارات الاصول : ١١٣.

(٥) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٧٨.

٦٣١

نظرا إلى أنّه كيف يصحّ ذلك مع ما هم عليه من أنّ فعل الضدّ لا يكون مقدّمة لترك ضدّه ، وبذلك أطبقوا على بطلان مذهب الكعبي في دعوى وجوب المباح لكونه مقدّمة لترك الحرام.

وأوردوا عليه من باب النقض : بأنّه لو صحّ ذلك لزم إيجاب الحرام وتحريم الواجب.

والاعتذار له تارة : بأنّ هذا إنّما هو في الغالب وإلاّ فقد يتّفق أنّ ترك الحرام يتوقّف على فعل وجودي.

واخرى : بأنّ الوجوب هنا ثابت بالنصّ والإجماع أو بالعقل والنقل كما في كلام بعض الفضلاء (١).

يندفع في الأوّل : بمنع التوقّف مطلقا بل ترك الحرام يستند دائما الى وجود الصارف الّذي قد يقارنه فعل وجودي كما تقدّم تحقيقه في بحث الضدّ.

وفي الثاني : منع وجود النصّ والنقل بوجوب الخروج بالخصوص ، ومنع تحقّق الإجماع ومساعدة العقل على وجوب مطلق الخروج حتّى ما لا يكون منه بنيّة التخلّص ورفع اليد عن ملك الغير.

وثانيهما : ما يتوجّه إلى من أطلق في القول بكون الخروج منهيّا عنه ، نظرا إلى أنّ الأحكام تتبع عناوينها فتثبت مع ثبوتها وتنتفي مع انتفائها ولو لأجل اختلال قيد من قيودها كما هو كذلك في المثال المذكور ، فإنّ الغصب تصرّف عدوانيّ أو تصرّف غير مأذون فيه من المالك والخروج كثيرا مّا يلحقه إذن المالك ورضاه كما إذا كان على وجه التخلّص بل هو كذلك دائما ، لما هو معلوم بشهادة الحال أنّ كلّ مالك مغصوب منه آذن في الخروج عن ملكه وراض به وغير مانع منه ، ومعه كيف يتصوّر النهي والتحريم.

إلاّ أن يقال : بأنّ ذلك مناقشة في المثال وأمثلة المسألة غير منحصرة فيما تقدّم بل لها أمثلة كثيرة :

منها : ما لو قعد على صدر حيّ إذا كان انفصاله عنه يؤلمه كقعوده عليه.

ومنها : ما لو أولج فرجه في فرج امرأة زانيا ، فإنّه مأمور بإخراج فرجه ومنهيّ عنه.

ومنها : ما لو ردّ الغاصب العين المغصوبة إلى مالكها فإنّه مأمور بذلك الردّ ومنهيّ عنه.

ولكن يردّه : أنّ المحرّم قد يصادفه ما يوجب حسنه كالتخلّص عن معصية الله ونحوه فلا فرق بين الأمثلة.

__________________

(١) الفصول : ١٣٨.

٦٣٢

وكيف كان فاحتجّ بعض الأعلام على ما اختاره بما يرجع محصّله إلى : « أنّ الأمر والنهي دليلان يجب إعمالهما من غير موجب للجمع والتقييد ، لأنّ الموجب إمّا العرف كما في العامّ والخاصّ المطلقين ، أو العقل كما في الساهي إذا دخل الدار المغصوبة فإنّه مأمور بالخروج خاصّة ولا نهي حذرا عن تكليف ما لا يطاق ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلعدم كون الخروج من حيث هو موردا للنهي ليكون أخصّ من الغصب المنهيّ عنه ، بل من حيث إنّه تخلّص عن الغصب وهو أعمّ من الغصب ، لأنّه إنّما وجب من حيث كونه من مقدّمات ترك الغصب الواجب ومقدّمة الترك هنا أعمّ من الخروج وإن انحصر أفراده العادية هنا في الخروج ، فيكون بينهما عموم من وجه.

وأمّا الثاني : فلأنّ فرض الاجتماع هنا وإن كان يؤدّي إلى تكليف ما لا يطاق إلاّ أنّه لا قبح فيه لكونه من سوء اختيار المكلّف ، كما يظهر ذلك من الفقهاء فيمن كان مستطيعا فأخّر المسير اختيارا حتّى فاتت استطاعته » (١).

وفيه أوّلا : أنّ عنوان التخلّص عن الغصب وعنوان الغصب لا يجتمعان أبدا ولا يتصادقان على مصداق واحد قطّ ، لما بيّنّاه من أنّ قصد التخلّص رافع لعنوان الغصب وهو لا يصدق على الخروج إلاّ مع قصده ، فإن قصد به التخلّص فهو مأمور به لا غير لأنّه ليس بغصب حينئذ ، وإلاّ فهو منهيّ عنه لا غير لأنّه ليس بتخلّص عن الغصب حينئذ بل هو عين الغصب.

وثانيا : أنّ المانع على تقدير اجتماع العنوانين عقليّ ، وهو عدم الفرق عند العقل في استحالة التكليف بما لا يطاق بين ما لو استند امتناعه إلى اختيار المكلّف أو إلى غيره ، فإنّ الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار خطابا وعقابا كما حقّقناه في بحث المقدّمة.

وثالثا : عدم انحصار جهة المنع في لزوم تكليف ما لا يطاق بل العمدة فيها ـ كما تقدّم في الاحتجاج على المختار في أصل المسألة ـ لزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد وهو لازم هنا جزما.

ثمّ إنّه رحمه‌الله بعد كلام طويل قال : « بأنّ مبنى ما اخترناه من اجتماع الأمر والنهي على جعل التكليف من باب التكليف الابتلائي المقصود به التنبيه على استحقاق العقاب ، لا طلبا في نفس الأمر مع علم الآمر بأنّه لا يمكن حصوله مع امتثال الأمر » (٢).

وكأنّه تنبّه على بعض ما أوردناه على احتجاجه ، ويشكل : بأنّه يؤدّي إلى استعمال

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٣ ـ ١٥٤ نقلا بالمعنى.

(٢) القوانين ١ : ١٥٤.

٦٣٣

أصل

اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه ، على أقوال* (١).

_______________________________

النهي في معنييه الحقيقي والمجازي ، لعدم ثبوت هذا النهي بالنسبة إلى الخروج إلاّ من عموم النهي عن الغصب ولذا فرض كونه موردا لاجتماع العامّين من وجه ، والمفروض أنّه بالنسبة إلى مورد الافتراق مستعمل في التكليف الحقيقي والتكليف الابتلائي عنده معنى مجازي في كلّ من الأمر والنهي.

وعن الرازي الاحتجاج على عدم النهي بما يرجع إلى : « أنّ النهي تكليف ، والتكليف مشروط بالإمكان ، ولا إمكان مع الخروج امتثالا للأمر » وعلى ثبوت المعصية : « بأنّ دوام المعصية ينفكّ عن النهي ».

ووجّه : « بأنّ المعصية في الفعل لا تنحصر في فعل المنهيّ عنه وترك المأمور به بل ذلك إنّما هو في أوّل الأمر وإلاّ فقد يحصل بفعل ما يكون حاصلا بسبب فعله الاختياري » (١) وكأنّ حاصل مراده : أنّ هذه المعصية تتبع الخطاب الأوّل المتوجّه إلى المكلّف قبل الدخول في الدار المغصوبة فإنّ قوله : « لا تغصب » في ذلك الوقت يشمل بعمومه جميع أفراد الغصب من الدخول والمشي إلى الوسط والإقامة هنا والخروج ، فيكون الخروج حين تحقّقه مخالفة لذلك الخطاب وإن كان نهيه قد ارتفع بواسطة الأمر ، وهذا هو معنى انفكاك دوام المعصية عن النهي.

ففيه : أنّ صدق المخالفة على هذا الوجه لا يؤثّر في ترتّب العقاب أو استحقاق العقوبة إلاّ إذا بقيت على قبحها ، ولا يسلّم ذلك إلاّ إذا لم يكن الخروج بقصد التخلّص لوضوح أنّ قصد التخلّص يوجب الحسن الرافع لقبحه ومعه لا معنى لترتّب العقاب عليه.

فتلخّص بملاحظة كلماتنا أنّ الأوفق بالقواعد ما فصّله السيّد ، فتدبّر ولا تغفل.

(١) * ينبغي قبل الخوض في تحقيق المسألة رسم امور من باب المبادئ.

أحدها : ظاهر العنوان المذكور مع ما هو المستفاد من مطاوي كلامهم تصريحا وتلويحا أنّ المراد من الفساد المتنازع فيه ما يستند إلى النهي ، بحيث لو لاه أو لو لا دلالته على القول به كان المورد محكوما عليه بالصحّة ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا كان هنا عنوان كلّي من

__________________

(١) الموجّه هو المحقّق القمّي رحمه‌الله في حاشية القوانين ١ : ١٥٤.

٦٣٤

العبادة أو المعاملة قام به المقتضي للصحّة من عموم أو إطلاق في خطاب تكليفي أو وضعي ولو التزاما ثمّ ورد النهي عن بعض أفراد ذلك العنوان لجميع آحاد المكلّفين ، كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) مع قوله : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » أو لبعض آحاد المكلّفين عن هذا العنوان الكلّي بجميع أفراده كالمثال مع قوله عليه‌السلام : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » وهذا هو معنى ما في كلام غير واحد من أنّ المتنازع فيه ما لو تعلّق النهي بشيء بعد ما ورد فيه من الشارع جهة صحّة.

وأنت إذا تأمّلت في أدلّتهم ولا سيّما احتجاج أهل القول بالدلالة شرعا فقط بأنّه : « لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدلّ عليها النهي ومن ثبوته حكمة يدلّ عليها الصحّة واللازم باطل » لوجدت هذه المقالة مقرونة بالصدق والصواب.

فما يقال : من أنّ الأولى في المقام تعميم محلّ الكلام بالنسبة إلى كلّ ما من شأنه أن يتّصف بالصحّة والفساد سواء ثبت له جهة صحّة أو لا كما يقتضيه إطلاق الأدلّة والعناوين ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه كما يتّضح فيما بعد ذلك أيضا.

وممّا بيّنّاه يظهر أنّ مرجع البحث في المسألة إلى أنّ النهي المتعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يقتضي خروج المورد عن عمومات الصحّة على وجه التخصيص أو لا؟ وهو المراد من دلالته على الفساد المأخوذة في عناوين المسألة كما سمعت في عنوان المصنّف ، إذ فساد المنهيّ عنه عبادة كان أو معاملة إنّما يكون باعتبار خروجه من عموم المقتضي للصحّة بالتخصيص اللاحق له بواسطة النهي.

ومن هنا يظهر الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّها على ما بيّنّاه ثمّة مسألة عقليّة من قبيل المبادئ الأحكاميّة وهذه المسألة لفظيّة باحثة عن حال الدليل الّذي هو النهي من حيث إنّه يقتضي أو لا يقتضي فتكون اصوليّة.

وتوهّم اندراجها في المسائل الكلاميّة المأخوذة في هذا الفنّ من باب المبادئ الأحكاميّة ـ بتقريب : رجوع البحث فيها إلى الملازمة بين تحريم الشيء وفساده كما في مسألتي مقدّمة الواجب والضدّ ، حيث يرجع البحث فيهما إلى الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، والملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ـ واضح الضعف.

ولا ينافي ما بيّنّاه من جهة البحث ما اتّفقوا عليه من وجوب بناء العامّ على الخاصّ

__________________

(١) النور : ٥٦.

٦٣٥

وحمل المطلق على المقيّد وتقديم الخاصّ على العامّ إذا اجتمع شروط الاعتبار ، لأنّ المذكورات أحكام كبرويّة حصل الاتّفاق عليها على تقدير تحقّق صغراها وهو التنافي الظاهري فيما بين مدلولي العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ، وكلامهم هنا صغرويّ ومنشؤه الشبهة في التنافي وفيه بحث يأتي بيانه في باب حمل المطلق على المقيّد.

ثانيها : بيان الفرق بين العبادة والمعاملة لكون معرفتهما من مبادئ المسألة فنقول : إنّ « العبادة » في لسان الفقهاء بل المتشرّعة في الجملة تطلق على حسب الموارد الجزئيّة المختلفة الأنواع على معان :

منها : الصلاة والصيام وغيرهما من الماهيّات المخترعة الشرعيّة الّتي يقع عليها اسم الواجب التعبّدي قبالا للواجب التوصّلي ، وضابطه الكلّي الجامع لشتات جزئيّاته ما أمر به لأجل التقرّب والزلفى وقد يعبّر عنه بما أمر به لأجل التعبّد ويقابله المعاملة فهي ما لم يؤمر به لأجل التقرّب والزلفى ، سواء أمر به لا لأجل ذلك كالواجبات التوصّليّة أو لم يؤمر به أصلا كالبيع والإجارة والنكاح والطلاق والظهار وغيرها من أنواع العقود والإيقاعات.

والعبادة بالمعنى المذكور أخصّ منها بالمعنى الآتيين لعدم تناولها المندوبات ولا نحو العتق والوقف ولا سائر أنواع العقود والإيقاعات كما عرفت ، وهي بهذا المعنى موضوع البحث المعنون في محلّه من أنّ الأصل في الواجب أن يكون عبادة أو معاملة؟ فإنّ القول الأوّل معناه : أنّ الأصل في كلّ واجب كونه بحيث أمر به لغاية التقرّب الّتي لا تتأتّى بحكم العادة والعقل إلاّ مع قصد الإطاعة ونيّة الانقياد ، وقضيّة ذلك اشتراط صحّة المأمور به بالنيّة وقصد القربة ، وعمدة دليله حسبما اعتمد عليه أصحابه من الاصول اللفظيّة فهم العرف وبناؤهم على أنّ امتثال الأمر لا يحصل إلاّ بذلك ومن الاصول العمليّة قاعدة الاشتغال القاضية بتوقّف يقين البراءة على القصد والنيّة.

ونحن أوردنا تحقيق ذلك مشروحا في رسالة منفردة (١) وليس هنا محلّه.

نعم هنا دقيقة لا بأس بالإشارة إليها وهي عدم إمكان الجمع بين دليل هذا القول وبين الضابط المتقدّم من غير تأويل وتكلّف ، فإنّ مقتضى ذلك الضابط كون الغاية الباعثة على الأمر والفائدة المقصودة منه حصول التقرّب وهو لا يلائم الدليل المذكور بشيء من وجهيه.

__________________

(١) المسمّاة بـ « رسالة في أقسام الواجب » وهي موجودة عندنا بخطّه الشريف ونسأل الله التوفيق لطبعها ونشرها إن شاء الله تعالى.

٦٣٦

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ أقصى ما يقتضيه بناء العرف كون النيّة شرطا في المأمور به معتبرا في وصفه العنواني ولا ملازمة بينه وبين كون الغاية المقصودة منه حصول التقرّب ، لجواز أن يكون هنا غاية اخرى منوطة في نظر الآمر باقتران العمل بالقصد والنيّة ، ولا ينافيه كون حصول التقرّب أيضا من الفوائد المترتّبة على القصد والنيّة ، إذ لا ملازمة بين مطلق الفائدة والفائدة المقصودة والعبرة في الغايات بالثاني دون الأوّل.

ويمكن الذبّ بجعل « اللام » في قولنا : « لأجل التقرّب » كاللام في قوله تعالى : ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً )(١) بتقريب : أنّ الفائدة تشبه العلّة الغائيّة في ترتّبها على الفعل.

إلاّ أنّه يشكل ذلك أيضا : بأنّ العلّة الغائيّة الداعية إلى الأمر قد تكون حصول التقرّب لا غير فلا يستقيم الضابط إلاّ بحمل متعلّق « اللام » على ما يعمّ المشبّه والمشبّه به معا ، ولعلّه غير صحيح لعدم معقوليّة [ جامع ] بينهما يراد من اللفظ حذرا من الاستعمال في معنيين ، إلاّ بأن يقدّر الفائدة المطلقة فردا من العلّة الغائيّة ادّعاء فيراد من مدخول اللام العلّة الغائيّة على نحو يتناول فردها الادّعائي أيضا ليشمل كلاّ ممّا يكون علّته الغائيّة حصول التقرّب وما يكون علّته غير ذلك.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ قاعدة الاشتغال لكونها من الاصول العمليّة غير متعرّضة لإحراز الواقع ، وقضيّة الضابط ثبوت اعتبار القصد والنيّة في الواقع بعنوان القطع فلا ملازمة أيضا.

ومن هنا يتبيّن أنّ هذا الضابط لو اعتبرناه تعريفا حقيقيّا كان مختلاّ بانتقاض عكسه بالنسبة إلى ما ثبت اعتبار النيّة فيه بقاعدة الاشتغال ، كما أنّه مختلّ أيضا على مذهب من يجعل المعيار في العبادة عدم معلوميّة انحصار المصلحة فيها كما لا يخفى.

ومنها : ما يعمّ الواجبات التعبّديّة والمندوبات ، وضابطه الكلّي ـ على ما في كلام غير واحد ـ ما احتاج صحّته إلى النيّة ، ويقابله المعاملة وهو ما لا يحتاج صحّته إلى النيّة ، ويندرج فيه الواجبات التوصّليّة وغيرها من أنواع العقود والإيقاعات ما عدا الوقف والعتق ، فإنّهما بحسب الوضع الشرعي وإن كانا من قسم العقود كالأوّل والإيقاعات كالثاني إلاّ أنّهما لاشتراط نيّة القربة في صحّتهما يندرجان في العبادة لصدق الضابط المذكور عليهما ، وفي اندراج وقف الكافر وعتقه ـ على القول بصحّتهما منه لإمكان تحقّق النيّة منه ـ فيها أيضا وعدمه وجهان ، من أنّ المراد بالنيّة المأخوذة فيها خصوص النيّة المؤثّرة فيخرجان

__________________

(١) القصص : ٨.

٦٣٧

منها أو أعمّ منها فيندرجان فيها.

ولذا قد يقال : إنّ العبادة بهذا التفسير لها معنيان :

أحدهما أخصّ من الآخر مطلقا لافتراق الآخر عنه في الوقف والعتق إذا صدرا من الكافر.

فقد ظهر أنّ المراد بالصحّة في تفسير العبادة لا بدّ وأن يكون ما يعمّ الصحّة الجارية في الواجبات والمندوبات والصحّة الجارية في العقود والإيقاعات ، وهو ترتّب الأثر الشرعي المقصود بالأصالة من وضع مورده في نظر الشارع ، وحملها على ذلك لا ينافي شمول التفسير المذكور المندوبات والواجبات التعبديّة ، لا لأنّ الأثر المترتّب عليهما موافقة الأمر أو سقوط القضاء كما توهّم ، فإنّه على ما سيظهر بمعزل عن التحقيق ، بل لأنّ فيهما أيضا آثارا مخصوصة مقصودة من وضعهما متوقّفة في ترتّبها على قصد الإطاعة ونيّة الانقياد وإن لم نعلمها بالخصوص أو كان هو حصول التقرّب والزلفى.

ولا ينتقض التفسير على تقدير كون ذلك هو الأثر المقصود بالأصالة أو بعضا منه بوقف الكافر وعتقه ، لأنّ الأثر المقصود في وضع العبادة والمعاملة لو حظ من باب العلّة الغائيّة ، ولا يجب في كلّ علّة غائيّة أن تترتّب على المعلول فعلا بل هي كثيرا مّا لا تترتّب عليه فعلا لمصادفة فقد شرط أو وجود مانع ، على أنّ كلّ فعل بالقياس إلى علّته الغائيّة من باب المقتضي وظاهر أنّ المقتضي قد يجامع فقد شرط من شروط اقتضائه أو وجود مانع من موانع اقتضائه ، ولا ريب أنّ الكفر في وقف الكافر وعتقه من موانع حصول التقرّب إذ لولاه كان التقرّب حاصلا.

وبما ذكرناه يندفع ما عساه يورد من عدم انطباق الحدّ المذكور على ما يقع عليه اسم العبادة ، فإنّ الإطلاق يقع على المفاهيم الكلّية من أنواع الواجبات التعبديّة والمندوبات والعتق والوقف والحدّ المذكور لا ينطبق إلاّ على جزئيّاتها الخارجيّة ، لأنّ الصحّة المأخوذة فيه غير خالية عن أن يراد بها ما هو مصطلح المتكلّمين وهو موافقة الأمر أو ما هو مصطلح الفقهاء وهو إسقاط القضاء ، وأيّا منهما كان فهو من لوازم الوجود الخارجي.

أمّا الأوّل : فلأنّ الموافقة أمر نسبيّ يقتضي المغايرة بين منتسبيه الموافق والموافق ، ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا اعتبر الموافقة وصفا للفرد المأتّي به لأنّه الّذي يوافق المأمور به الكلّي ، إذ لو اعتبرت وصفا لنفس الكلّي المأمور به اتّحد الموافق والموافق وهو محال ،

٦٣٨

مضافا إلى أنّه خلاف الفرض إذ الّذي يؤتى به في الخارج هو الفرد لا الكلّي بما هو كلّي.

وأمّا الثاني : فلأنّ الّذي يوجب سقوط التعبّد بالمأمور به ثانيا هو الإتيان بالفرد فيكون الإسقاط أيضا وصفا للفرد لا الكلّي.

ووجه الاندفاع : المنع من كون المراد به هنا أحد المعنيين بل المراد ترتّب الأثر وهو من لوازم الماهيّة ، لما عرفت من أنّ الآثار الشرعيّة المعتبرة مع العبادات والمعاملات عبارة عن الغايات المقصودة لذواتها من تشريع العبادة والمعاملة وهي عبارة عن المصالح الّتي يتبعها الأحكام اقتضائيّة ووضعيّة.

ولا ريب أنّ المصالح امور كامنة في الماهيّات ملحوظة معها ولذا يتبعها الأحكام في تعلّقها بالطبائع دون الأفراد على ما سبق تحقيقه ، ومعنى كون ترتّب الأثر من لوازم الماهيّة أنّ الشارع لمّا لا حظ الماهيّات فوجدها بحيث يترتّب عليها الآثار المخصوصة فشرّعها على طبق تلك الآثار بواسطة خطاب اقتضاء أو وضع مفيد للسببيّة.

وربّما يعترض على الحدّ المذكور بما لا وقع فيه أيضا وهو أنّ المراد من الصحّة المأخوذة فيه إمّا إسقاط القضاء أو موافقة الأمر أو ترتّب الأثر ، ولا يستقيم شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه الدور المصرّح ، فإنّهم عرّفوا صحيح العبادة بما أسقط القضاء فمعرفة صحيحها مسبوقة بمعرفة نفسها والمفروض أنّها عرّفت بالصحيحة وما هذا إلاّ الدور المحال.

وأمّا الثاني : فأوّلا : لاستلزامه شمول الحدّ للواجبات التوصّليّة أيضا كغسل الثوب إذ لا ريب أنّ موافقة الأمر فيها يحتاج إلى النيّة.

وثانيا : لاستلزامه كون النيّة جزءا أو شرطا واللازم باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّها لو لم تكن جزءا أو شرطا وأتى المكلّف بالفعل لا بقصد الامتثال صدق عليه أنّه وافق الأمر ، فيكذب به دعوى احتياج موافقة الأمر إلى النيّة.

وأمّا بطلان اللازم ، فلما حقّق في معنى الواجب التعبّدي والتوصّلي من أنّ النيّة خارجة عن حقيقة العبادة بل هي داعية إلى الأمر بها ، ولئن سلّمنا كونها جزءا أو شرطا لا يستقيم الحدّ أيضا ، نظرا إلى أنّ المتوقّف على النيّة حينئذ إنّما هو وجود نفس المأمور به لا صحّته.

وأمّا الثالث : فلأنّ الأثر إن اريد به خصوص إسقاط القضاء أو موافقة الأمر ففيه : ما مرّ ، وإن اريد به أعمّ منهما فلا يسلّم أنّه بالمعنى [ الأعمّ ] يتوقّف ترتّبه عليه ، إذ كثيرا مّا يترتّب

٦٣٩

ما عدا هذين الأثرين من الآثار الاخر على الخالية عن النيّة.

وفيه ما لا يخفى من ابتنائه على السهو والخلط والاشتباه ، لأنّه لو بني على الإغماض عمّا قرّرناه من لزوم إرادة المعنى الثالث ليندرج ما هو من قسم العقود أو الإيقاعات في الحدّ ودفعا للإشكال المتقدّم الوارد على إرادة أحد المعنيين الأوّلين يمكن إرادة كلّ من المعاني الثلاث ودفع جميع المحاذير المتوهمة في ارادة هذه المعاني.

أمّا الأوّل : فلمنع استلزام إرادته الدور بمنع توقّف معرفة صحّة العبادة على معرفة نفسها ، إذ الوجه في توهّم هذا التوقّف إن كان تعريفهم لصحيح العبادة بما أسقط القضاء كما هو ظاهر عبارة تقرير الدور ، ففيه : أنّ هذا التعريف للصفة لا للموصوف.

وتوضيحه : أنّ إضافة الصحيح إلى العبادة من إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله العبادة الصحيحة ، والمقصود من التعريف معرفة الصحّة لا معرفة العبادة ، لأنّ معرفتها إنّما حصلت من تعريفها بما احتاج صحّته إلى النيّة ، فقولهم : « صحيح العبادة ما أسقط القضاء » في معنى قولهم : « صحّة العبادة إسقاط القضاء » فمعرفة صحّة العبادة حينئذ متوقّفة على معرفة إسقاط القضاء لا على معرفة العبادة فلا دور.

وإن كان دخول القضاء في مفهوم الصحّة بالمعنى المذكور المأخوذة في تعريف العبادة بتقريب : أنّ القضاء بمعنى مطلق التدارك عبارة عمّا يعمّ العبادة المعادة والعبادة الواقعة في خارج الوقت ، فالعبادة داخلة في تعريف الصحّة كما أنّ الصحّة داخلة في تعريف العبادة ، فيتّجه أن يقال : إنّ معرفة صحّة العبادة متوقّفة على معرفة نفسها والمفروض أنّ معرفة نفسها أيضا متوقّفة على معرفة صحّتها.

ففيه : منع كون القضاء في تعريف الصحّة مرادا به ما ذكر ، بل هو عبارة عن الإتيان بالمأمور به ثابتا في الوقت أو في خارجه لوقوع خلل في الإتيان الأوّل ، فمعرفة الصحّة متوقّفة على معرفة ذلك لا على معرفة العبادة.

وأمّا الثاني : فلمنع استلزام إرادته شمول الحدّ للتوصّليّات بمنع احتياج موافقة الأمر فيها ـ على معنى كون الفرد المأتّي به موافقا للمأمور به الكلّي ـ إلى النيّة وإلاّ لم يكن توصّليّا.

والسرّ في احتياجه إليها في الواجب التعبّدي كون النيّة معتبرة فيه جزءا أو شرطا فالفرد الخارجي المأتيّ به لا يوافقه إلاّ بتقدير اقترانه بالنيّة بخلاف التوصّلي فإنّ النيّة ليست معتبرة فيه أصلا ، فلا يحتاج موافقة فرده الخارجي إليها هذا في دفع ما ذكر أوّلا.

٦٤٠