تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-535-1
الصفحات: ٨٦٤

بالكسر ، فيكون مبنى الاستدلال حينئذ على استحالة تحقّق التكليفين من شخص واحد في أمر واحد لما بينهما من المضادّة والتنافي الموجب لاستحالة اجتماعهما في محلّ واحد.

واحتمال عوده إلى الإيجاد وعدم الإيجاد فالجمع المحكوم عليه بالامتناع حينئذ يراد به ما يكون فعل المكلّف بالفتح ، فيكون مبنى الاستدلال حينئذ على لزوم التكليف بالمحال الّذي مداره على تعذّر امتثال التكليفين لامتناع الجمع بين الإيجاد وعدمه في آن واحد.

وهذان الوجهان قد اعتمد على كلّ منهما جماعة منهم الفاضل التوني في الوافية فأشار إلى أوّلهما بقوله : « إذ امتناع كون الشيء الواحد مرادا ولو على جهة التخيير وغير مراد بل مبغوضا لشخص واحد في غاية الظهور » وإلى ثانيهما بقوله : « وتعلّق الوجوب التخييري به يوجب الرخصة من الحكيم باختياره ، مع استلزامه حينئذ امتناع الإطاعة في طرف النهي » (١).

ومن الفضلاء من احتجّ ـ مضافا إلى الوجه الأوّل ـ : « بأنّ قاعدة التحسين والتقبيح على ما تقرّر عندهم قاضية بأنّ الأمر يستتبع حسنا في المأمور به والنهي يستتبع قبحا في المنهيّ عنه ، فمتى اجتمعت الجهتان في شيء فإمّا أن يتكافئا فيرجع حكمه إلى الإباحة ، أو يترجّح إحداهما على الاخرى فيرجع في حكمه إلى أحد الأحكام الأربعة بحسب مراتب الرجحان واختلافه ، فالفرد الّذي وجدت فيه الطبيعتان متّحد معهما في الخارج وقد حاز الجهتين على ما هو قضيّة الأمر والنهي ، وحينئذ فإمّا أن يتكافئا أو يترجّح إحداهما على الاخرى ، فكيف كان فلا يتحقّق الاجتماع.

والّذي يكشف عمّا ذكرنا أنّ الحسن والقبح وإن كانا من الامور الاعتباريّة لكنّهما من لواحق الامور الخارجيّة ، يعني أنّهما أمران يثبتان في العقل للأفعال الخارجيّة باعتبار كونها خارجيّة »

إلى أن قال : « فظهر أنّ الحسن والقبح إنّما يعرضان الطبائع باعتبار وجوداتها الخارجيّة ، والعقل إنّما يحكم عليها بأحد الوصفين باعتبار الخارج ، فثبوتهما من قبيل ثبوت الوحدة للواحد والزوجيّة للاثنين لا من قبيل الجنسيّة للحيوان والفصليّة للناطق فإنّ لحوقهما بحسب الوجود الذهني لا غير ، ولا ريب في أنّ الطبيعتين بهذا الاعتبار ـ أعني اعتبار الخارج ـ متّحدتان على ما مرّ فيمتنع أن يتّصف إحداهما بالحسن والاخرى بالقبح ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى اتّصاف الشيء الواحد بهما وهو مستحيل ، ضرورة أنّ الشيء الواحد

__________________

(١) الوافية : ٩٢.

٥٦١

باعتبار كونه واحدا لا يكون حسنا وقبيحا ولا يجدي تغاير المحلّ بحسب العقل لأنّ الوصف لم يثبت له باعتباره » انتهى (١).

وها هنا وجه رابع استدلّ به الفاضل التوني بعد ما استدلّ بالوجهين المتقدّمين وهو : « أنّ هذا ينافي اللطف إذ المكلّف حينئذ مقرّب للمكلّف إلى المعصية كما لا يخفى » (٢).

ووجه خامس أشار إليه بعض الأعلام في طيّ كلماته وهو : « أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرّب وهي حين اجتماعها مع المعصية غير ممكنة » (٣) ولعلّه إلى ذلك أو سابقه ينظر ما حكاه بعض الأعاظم (٤) من أنّ الأمر المبعّد عن الله تعالى كيف يصير مقرّبا إليه حين ما هو مبعّد؟ والموجب لدخول النار كيف يصير موجبا لدخول الجنّة؟ بل المقرّب إلى العقاب مبعّد عن الثواب والمقرّب إلى الثواب مبعّد عن العقاب فكيف يجدي تعدّد الجهة.

ووجه سادس حكاه بعض الأعاظم منضمّا إلى الوجه المذكور وأشار إليه بعض الأعلام أيضا وهو : « أنّه إذا أراد المصلّي أن يركع كيف يقول الله : لا تركع هذا الركوع البتّة ولو ركعت لعاقبتك ؛ ويهدّد ويخوّف على الفعل ، ومع ذلك يقول له : اركع هذا الركوع أو غيره أيّهما شئت ، ولو تركت لعاقبتك ، ويهدّد ويحذّر على الترك » (٥).

فهذه وجوه ستّة استدلّ بها على القول بالامتناع إلاّ أنّ المعتمد والمعوّل عليه هو الوجه الأوّل ودونه الوجه الثاني لوضوح فساد الباقي ، ولا بأس بأن نفصّل القول فيها وعليها فنقول :

أمّا الوجه الأوّل : فمبنى الاستدلال به على مقدّمات اشير إليها في متن الدليل.

اولاها : أنّ الوجوب والحرمة متضادّان لمضادّة جنس كلّ منهما لفصل الآخر كما تقدّم الإشارة إليه ، مضافا إلى أنّهما يستتبعان صفات متضادّة اخر نشير إليها في ذيل الكلام.

وثانيتها : أنّ الوجوب والحرمة يتعلّقان بإيجاد الماهيّة وعدم إيجادها وكذلك سائر الأحكام كما يشهد به الوجدان الصريح والطبع السليم مضافا إلى أنّه المتبادر من الأمر والنهي ، فقولنا : « اضرب أو لا تضرب » يتبادر منه : « أوجد الضرب أو لا توجد الضرب » كما أنّ « ضرب » و « يضرب » يتبادر منهما أوجد الضرب ويوجد الضرب ، وقد سبق منّا تحقيق هذا المقام في غير موضع من الكتاب ، فالقول بأنّ الأحكام تتعلّق بالطبائع معناه : أنّها تتعلّق بها باعتبار إيجاداتها ، ولو وجد في بعض العبارات التعبير بأنّها تتعلّق بها باعتبار وجوداتها

__________________

(١) الفصول : ١٢٦.

(٢) الوافية : ٩٢.

(٣) القوانين ١ : ١٤٥ نقلا بالمعنى.

(٤ و ٥) إشارات الاصول : ١١٢.

٥٦٢

ـ كما تقدّم في عبارة بعض الفضلاء في احتجاجه (١) ـ فهو مبنيّ على القول بأنّ الإيجاد والوجود لا تغائر بينهما إلاّ بالاعتبار ، فالوجود حينئذ يراد به ما يرجع إلى الإيجاد لا غير فلا تغاير بين العبارتين بالذات ، ولا ينافي ما ذكرناه كون موادّ الأوامر والنواهي بحسب أوضاعها اللغويّة على ما في كتب اللغة هي الطبائع المجرّدة المأخوذة معرّاة عن الإيجاد ، لأنّ تبادر الإيجاد حسبما ذكرناه من مقتضيات مدلول الصيغة وغيرها من اللفظ الدالّ على الحكم الاقتضائي أو التخييري الّذي لا بدّ في تعلّقه من اعتبار الإيجاد.

وثالثتها : أنّ الإيجاد حيثما تحقّق من موجده في الخارج شيء واحد يقع على نمط واحد ولا يقبل التفاضل ولا التعدّد وإن تعدّدت إضافاته باعتبار تعدّد الماهيّة المضاف إليها الإيجاد ، فهو كالعرض اللاحق للعين الّذي لا يتعدّد بتعدّد إضافاته إلى العناوين الصادقة على العين ، مثل سواد العباء الصادق عليه الصوفيّة والمغزوليّة والمنسوجيّة والملبوسيّة.

وقضيّة هذه المقدّمات استحالة اجتماع الوجوب والحرمة فيه ، وإلاّ لزم كون إيجاد واحد حقيقي مطلوبا وممنوعا ككون عدمه مطلوبا وممنوعا ، بل لزم كون كلّ منهما راجحا ومرجوحا مرادا ومكروها محبوبا ومبغوضا وكلّ ذلك ممّا يقضي الضرورة بامتناعه ، بل امتناع اجتماع المتضادّين في محلّ واحد من ضروريّات العقول فضلا عن اجتماع المتضادّات من جهات شتّى.

لا يقال : إنّ متعلّق الأمر ليس هذا الإيجاد الخاصّ بل مطلق إيجاد الماهيّة ، وهو أيضا كلّي له أفراد وهي الإيجادات الخاصّة المتمايزة بخصوصيّات الأمكنة وغيرها الّتي منها هذا الإيجاد الخاصّ ، والوجوب إنّما تعلّق بكلّي الإيجاد لا بهذا الإيجاد الخاصّ ، فهذا بمقتضى تكرار النهي ليس إلاّ محرّما ولا تكرار في الأمر ، فلا يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في محلّ واحد من فرض كون المكلّف مطيعا وعاصيا لإتيانه بما ينطبق على الماهيّة المأمور بإيجادها الكلّي.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن وجوب الإيجاد الكلّي تعيينا يستتبع وقوع الوجوب تخييرا في الإيجادات الخاصّة المندرجة تحته ، والوجوب التخييري أيضا ممّا يستحيل اجتماعه مع التحريم التعييني ، ضرورة أنّ مطلوبيّة هذا الإيجاد الخاصّ على تقدير عدم حصول الماهيّة بإيجاد آخر يضادّ ممنوعيّته على كلا تقديري حصولها بإيجاد آخر وعدم حصولها.

__________________

(١) الفصول : ١٢٦.

٥٦٣

وتعدّد الجهة غير مجد مع اتّحاد المتعلّق* (١) ؛ إذ الامتناع إنّما ينشأ من لزوم

_______________________________

فإن قلت : هذا التخيير عقليّ وحكم العقل بالتخيير كأمره بالإطاعة إرشادي صرف خال عن الطلب والمنع ، فلم يتحقّق بالنسبة إلى هذا الإيجاد الخاصّ طلب لا تعيينا ولا تخييرا ليضادّ المنع الثابت فيه من جهة النهي.

قلت : حكم العقل بالتخيير في التخييرات العقليّة ليس كأمره بالإطاعة ليكون إرشاديّا صرفا ، لأنّه ليس على وجه الإنشاء بل هو من باب إدراكه الطلب التخييري القائم بنفس الشارع عند الأمر بإيجاد الماهيّة.

وتوضيحه : أنّ الشارع إذا أمر بإيجاد ماهيّة انعقد في نفسه طلب متعلّق بإيجادها الكلّي على وجه التعيين ، وهذا الطلب التعييني لزمه الطلب التخييري بالإضافة إلى الإيجادات الخاصّة المندرجة تحت هذا الإيجاد الكلّي ، إمّا بمعنى أنّ المنعقد في ضمير الشارع طلب واحد إلاّ أنّ له إضافة إلى الإيجاد الكلّي وإضافة إلى الإيجادات الخاصّة ، فإن أخذ باعتبار الإضافة الاولى كان تعيينيّا وإن أخذ باعتبار الإضافة الثانية كان تخييريّا ، والشارع قصد من الخطاب إفادته بالاعتبار الأوّل وأمّا هو بالاعتبار الثاني فيدركه العقل تبعا من باب دلالة الإشارة.

أو بمعنى أنّه ينعقد في ضميره طلبان تعييني بالإضافة إلى الإيجاد الكلّي وتخييري بالإضافة إلى الإيجادات الخاصّة وهذا لازم للأوّل ، والشارع إنّما قصد من الخطاب إفادة الأوّل. وأمّا الثاني فيدركه العقل تبعا من باب دلالة الإشارة ، ولذا يعبّر عنه بالتخيير العقلي قبالا للتخيير الشرعي ، لأنّه ما يؤخذ من الشارع بلسان العقل والتخيير الشرعي ما يؤخذ منه بلسان الشرع من حيث إنّه قصده من الخطاب أصالة ، فالفرق بينهما كالفرق بين الوجوب الأصلي والوجوب التبعي من حيث إنّ أحدهما مدلول الخطاب أصالة والآخر مدلوله تبعا لأنّه مستفاد منه بالدلالة التبعيّة العقليّة ، وهذا التخيير أيضا يستحيل اجتماعه مع التحريم التعييني على معنى استحالة وقوع المحرّم بعينه طرفا للتخيير.

(١) * معناه على حسبما شرحناه : أنّ تعدّد الماهيّتين اللتين توجدان بإيجاد واحد لا يجدي في جواز اجتماعهما ، لأنّه لا يجدي في تعدّد الإيجاد الّذي يضاف إليهما ، لما عرفت من أنّه إيجاد واحد لا يقبل التعدّد وإن تعدّدت إضافته إلى الماهيّتين ، فمتعلّق الوجوب على تقدير الاجتماع هو هذا الإيجاد وهو متّحد لا يمكن تعدّده بحيث يتحقّق في الواقع

٥٦٤

اجتماع المتنافيين في شيء واحد. وذلك لا يندفع إلاّ بتعدّد المتعلّق ، بحيث يعدّ في الواقع أمرين ، هذا مأمور به وذلك منهيّ عنه. ومن البيّن أنّ التعدّد بالجهة لا يقتضي ذلك بل الوحدة باقية معه قطعا ؛ فالصلاة في الدار المغصوبة ، وإن تعدّدت فيها جهة الأمر والنهي ، لكنّ المتعلّق الّذي هو الكون متّحد ؛ فلو صحّت ، لكان مأمورا به ـ من حيث انّه أحد الأجزاء المأمور بها للصلاة وجزء الجزء جزء والأمر بالمركّب أمر باجزائه ـ ومنهيّا عنه ، باعتبار أنّه بعينه الكون في الدار المغصوبة ، فيجتمع فيه الأمر والنهي وهو متّحد. وقد بيّنا امتناعه ؛ فتعيّن بطلانها.

_______________________________

أمران متمايزان : هذا مأمور به وهذا منهيّ عنه ويشار إليهما بالإشارة الحسيّة.

وأمّا ما أورد عليه بعض المحقّقين وتبعه آخرون من : « أنّ هذا إنّما يستقيم إذا كانت الجهتان تعليليّتين ، إذ اختلاف العلّة غير نافع في منع لزوم اجتماع المتنافيين في موضع واحد بخلاف ما لو كانتا تقييديّتين فلا يلزم ذلك ، والظاهر أنّ الصلاة في الدار المغصوبة من قبيل الثاني ، فإنّ متعلّق الوجوب فيها هو ماهيّة الكون من حيث هو كون مطلق ومتعلّق الحرمة خصوصيّة الكون وتشخّصه ، ويمكن انفكاك أحدهما عن الآخر وقد جمعهما المكلّف باختياره ، فالموضوعان مختلفان وإن عرض أحدهما للآخر ولا فساد فيه » انتهى.

ومحصّله : أنّ نسبة كون الصلاة مع كون الغصب كنسبة العارض مع المعروض ، من حيث إنّ الغصب وهو التصرّف العدواني بمنزلة المادّة وقد عرضها الهيئة الصلاتيّة كما يعرضها الهيئات الاخر من نوم واضطجاع ومشي وجلسة ونحوها ، والمفروض أنّ الوجوب تعلّق بالعارض والحرمة بالمعروض وهما متّحدان فلا يلزم تعلّقهما بشيء واحد.

ففيه : أنّ تقييديّة الجهتين على ما بيّنّاه في المقدّمة الرابعة مسلّمة ، ولكن تعدّدهما لا يجدي في تعدّد متعلّق الحكمين وتمايزهما في الخارج بعد فرض كونه الإيجاد الّذي هو أمر واحد ، وتعدّد إضافته إلى العارض والمعروض غير مجد ما لم يوجب تعدّده في الواقع والمفروض خلافه ، وقطع النظر عن اتّحاده الحقيقي في نظر الحسّ وعدم الاعتناء به لا يجعله أمرين متغايرين بحسب الواقع.

نعم يتوجّه إليه السؤال المتقدّم من أنّ الحكمين يتعلّقان بكلّي إيجاد الصلاة وكلّي

٥٦٥

إيجاد الغصب لا بهذا الإيجاد الخاصّ.

ويدفعه : ما تقدّم من أنّهما يستتبعان طلب هذا الإيجاد الخاصّ تخييرا والمنع منه تعيينا بمقتضى تكرار النهي الّذي يثبت بدلالة الإشارة أيضا على ما بيّنّاه في محلّه ، فيلزم محذور اجتماع المتنافيين في محلّ واحد.

وممّا قرّرناه يعلم أنّه لا وقع لما قيل إيرادا على الدليل من : أنّه لا اتّحاد بينهما في الوجود الخارجي ، كيف ومن المقرّر في محلّه أنّ الكلّيين يستحيل اتّحادهما حقيقيّة إلاّ إذا كان أحدهما جنسا والآخر فصلا ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك قطعا لكون الوحدة فيه عرفيّة يحكم عليه بها مسامحة ، وإلاّ فالمتحقّق في الحقيقة أمران مختلفان.

نعم لو كان هناك وحدة حقيقيّة كما لو أمر بالجنس ونهى عن الفصل أو بالعكس فهذا من الاجتماع المستحيل ، ضرورة أنّ النهي عن الفصل عين النهي عن الجنس المتفصّل به ، إذ لا تحصّل له في حدّ ذاته إلاّ بتحصّله بل ليس لهما إلاّ تحصّل واحد ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ متعلّق الأمر عنوان ومتعلّق النهي عنوان آخر ولكلّ منهما تحصّل في حدّ ذاته ولا مانع من مطلوبيّة أحدهما ومبغوضيّة الآخر.

فإنّ فيه أوّلا : منع تعدّد العنوان إن اريد به التعدّد الخارجي بحيث لا يصدق شيء من أفراد أحدهما على شيء من أفراد الآخر ، ومنع انحصار ما لا يستحيل من اتّحاد كلّيين في الجنس والفصل إلاّ إذا كانا بحيث يتشخّص كلّ منهما بالآخر عند الانضمام ، كما لو كان أحدهما من مقولة الجوهر والآخر من مقولة العرض كالإنسان والبياض وطول القامة مثلا ، فكما أنّ الإنسان الكلّي يتشخّص بالبياض وطول القامة فيصير شخصا من الإنسان فكذلك كلّ من البياض وطول القامة يتشخّص بالإنسان فيصير شخصا من البياض الكلّي وطول القامة ، وهذان من كلّيين يستحيل اتّحادهما في الوجود الخارجي ، ولذا لا يصحّ حمل شيء منهما على شخص الآخر ، بخلاف ما نحن فيه كالصلاة والغصب فإنّهما في مادّة الاجتماع متّحدان بحسب الوجود الخارجي ولذا يصحّ حمل كلّ منهما على الفرد الخارجي الّذي لا تعدّد فيه.

وثانيا : منع تعلّق الحكمين بنفس العنوانين بل بايجادهما وهو واحد لا تعدّد فيه أصلا وإن فرض تعدّد وجوديهما ، لما عرفت من أنّ تعدّد إضافة الإيجاد الخاصّ ولو إلى موجودين لا يوجب تعدّد المضاف.

وثالثا : أنّ تعدّد العنوان بحسب الخارج إن أوجب عدم تصادقهما على شيء واحد

٥٦٦

يكون مصداقا لهما كان خارجا عن موضوع المسألة لما عرفت في مقدّماتها ، وإلاّ لم يكن تعدّدهما مع اتّحاد الفرد مجديا.

وأمّا ما يقال أيضا : من أنّ إرجاع سند المنع إلى اتّحاد الكلّيين في الفرد لا ينافي المصير إلى تعلّق الأحكام بالطبائع من حيث هي من دون نظر فيها إلى الفرد معيّنا وغير معيّن ، ومع ذلك نقول : انّ اتّحادهما في الفرد لا يصلح مانعا من اجتماع الوجوب والحرمة فيهما على نحو يكون تأدية أحدهما موجبة للاطاعة وتأدية الآخر موجبة للمعصية ، لأنّ الفرد لا يكون إلاّ مقدّمة لهما وقد حقّقنا في محلّه أنّ إيجاب الشيء وتحريمه لا يستلزمان الإيجاب والتحريم في مقدّماته ، فالفرد وإن كان واحدا حقيقيّا غير أنّه ليس بواجب ولا حرام حتّى يلزم فيه اجتماع المتضادّين في محلّ واحد.

سلّمنا أنّ كلاّ من إيجاب الشيء وتحريمه يستلزم إيجاب المقدّمة وتحريمها ، ولكن غاية ما يلزم كون الفرد واجبا وحراما ولا ضير فيه ، لأنّ وجوبه مقدّمي كما أنّ تحريمه مقدّمي ولا مانع من اجتماع الوجوب المقدّمي لكونه توصّليّا صرفا مع تحريمه ، بل لا مانع من اجتماع الوجوب التوصّليّ مع التحريم النفسي لو فرضنا الفرد حراما نفسيّا ، ولو سلّمنا امتناعه أيضا فغاية ما يلزم كون الفرد حراما محضا ولكن لا يلزم منه عدم كونه مجزيا ومحصّلا للغرض من الأمر لأنّ الحرام قد يكون مسقطا عن الواجب ، كما في غسل الثوب بالماء المغصوب وركوب الدابّة المغصوبة في طيّ مسافة الحجّ.

فإنّا نجيب عن الأوّل : بعدم كون مبنى الاستدلال على دعوى اتّحاد الكلّيين في الفرد بل على دعوى اتّحاد إيجادهما ، مضافا إلى ما حقّقناه في مباحث الكلّي والجزئي من أنّ الفرد ليس إلاّ الماهيّة الموجودة إمّا بمعنى المجموع من الماهيّة ووجودها ، أو بمعنى الماهيّة المقيّدة بالوجود على نحو دخول التقيّد وخروج القيد ، فهي فرد بالوجود والوجود حاصل بالإيجاد ومعنى اتّحاد الفرد اتّحاد إيجاده وهو واحد لا محالة كما عرفت وإن فرض الوجود متعدّدا.

وقد عرفت أيضا أنّ معنى تعلّق الحكم بالطبائع تعلّقه بإيجادها وإن استلزم ذلك الإيجاد الفرديّة ، وهذا معنى لا مدخل له بتعلّق الحكم بنفس الفرد ، وإذا كان المتعلّق هو الإيجاد وهو واحد فكيف يعقل فرضه متعلّقا للحكمين المتضادّين؟ وإن كابرت معنا بادّعاء تعدّد الإيجاد أيضا أو تعلّق الحكم بنفس الطبيعة من غير نظر إلى الإيجاد فلا تستحقّ الجواب.

وعن الثاني : بما حقّقناه أيضا من منع مقدّميّة الفرد للكلّي لاستحالته باعتبار لزومه

٥٦٧

توقّف الشيء على نفسه.

وعن الثالث : بأنّه بعد الإغماض عمّا ذكرناه من منع المقدّميّة نقول : انّ الّذي يمنع من جواز اجتماع الوجوب والحرمة في محلّ واحد يمنعه مطلقا حتّى في التوصليّين والتوصّلي والنفسي لاشتراك جهة المنع في الجميع كما أشرنا إليه في مقدّمات المسألة وحقّقناه في بحث المقدّمة وغيره.

وعن الرابع : بأنّه ـ مع الغضّ عن أنّ الالتجاء بمسألة الإسقاط خروج عن المتنازع كما نبّهنا عليه في المقدّمات ـ لا ريب أنّ كون الحرام مسقطا عن الواجب إنّما يصحّ فيما إذا أوجب حصول الغرض كما في المثالين المتقدّمين ، وهذا فيما نحن فيه غير معقول لأنّ قضيّة امتناع اجتماع الوجوب تخييرا مع الحرمة عدم وقوع الفرد المحرّم طرفا للتخيير الّذي يستتبعه وجوب الكلّي تعيينا.

وقضيّة ذلك وقوع ذلك التخيير بين الأفراد الاخر غير هذا الفرد.

وقضيّة ذلك عدم كون الحصّة الموجودة في ضمن هذا الفرد مشمولة للأمر بالماهيّة ، وهذا يرجع إلى كون الماهيّة المأمور بإيجادها متقيّدة بما عدا الحصّة المتحقّقة في هذا الفرد ، ومع ذلك كيف يعقل كونه مسقطا للأمر مجزيا عن المأمور به؟

وممّا بيّنّاه يندفع توهّم نفي احتمال التقييد بأصالة عدمه ، إذ الأصل مع تعيّن التقييد في نظر العقل المستقلّ ممّا لا معنى له.

وممّا يؤيّد المختار ودليله المذكور ما ورد في بعض الأخبار من قوله عليه‌السلام (١) : « لا طاعة في معصية الله » وفي رواية اخرى : « لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق » (٢) فإنّ النافية للجنس تنفي ماهيّة الطاعة في معصية الله ومعصية الخالق وإطلاقه يشمل ما نحن فيه ، لأنّ الإتيان بالفرد المحرّم معصية لله ومعصية للخالق فكيف يقال : إنّ الآتي بالفرد الجامع للماهيّتين مطيع وعاص لجهتي الأمر والنهي؟

وأمّا الوجه الثاني (٣) : فيمكن تتميمه أيضا بأنّ الجمع بين الإيجاد الواحد وعدمه امتثالا

__________________

(١) تنبيه الخواطر ١ : ٥١ ، مسند أحمد ١ : ٩٤ وصحيح مسلم ٦ : ١٥.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ٣٥٠ ونهج البلاغة ، الحكمة ١٦٥.

(٣) إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه الستّة الّتي استدلّ بها على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وقد مرّت الإشارة إليها في الصفحة ٥٦١.

٥٦٨

للتكليفين محال فالتكليف بهما تكليف بالمحال ، ومرجعه إلى تعذّر امتثال التكليفين ، فلو اجتمع الأمر والنهي مع فرض تعلّقهما بإيجاد الماهيّتين لزم التكليف بما لا يطاق.

لا يقال : إنّ الأمر إنّما تعلّق بالإيجاد الكلّي لا بهذا الإيجاد الخاصّ وامتثاله ممكن بإيجاد آخر غير هذا الإيجاد ، لأنّ الأمر بالإيجاد الكلّي يستتبع الأمر التخييري بالقياس إلى الإيجاد الخاصّ ، والأمر التخييري أيضا يستدعي الامتثال وهو متعلّق بالممتنع بالمنع الشرعي وهو كالممتنع بالمنع العقلي والأمر التخييري بالممتنع أيضا تكليف بالمحال.

فإن قلت : إنّ للمكلّف مندوحة ، فامتثال الأمر التخييري أيضا ممكن بغير هذا الإيجاد المحرّم وقد اختاره في ضمنه بسوء اختياره فيكون ممتثلا وعاصيا.

قلت : الأمر التخييري المفروض بالنسبة إلى هذا الإيجاد هل تضمّن الإذن والرخصة في اختياره أو لا؟ والثاني باطل لأنّ الأمر كائنا ما كان يتضمّن الإذن في الفعل ، وعلى الأوّل كيف يقال : إنّ هذا الإيجاد حصل من سوء اختيار المكلّف وقد اختار تعويلا على إذن الشارع.

فإن قلت : بأنّه لم يكن مأذونا في اختياره ، رجع ذلك إلى عدم وقوعه طرفا للتخيير لئلاّ يلزم التكليف بالممتنع ، ومعناه وقوع الأمر التخييري الملازم للأمر بإيجاد الماهيّة بين إيجاداتها الاخر ، ومرجعه إلى تعلّق الأمر بالماهيّة من حيث وجودها في ضمن ما عدا هذا الفرد لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق بسبب توارد الطلب التخييري والمنع التعييني على إيجاد واحد.

وأمّا ما يقال في دفع ذلك : من أنّ معنى اجتماع الأمر والنهي حسبما تقدّم بيانه كون الفعل بحيث لو أتى به المكلّف وأوجده كان ممتثلا وعاصيا لجهتي الأمر والنهي كما هو المصرّح به في كلام المجوّزين ، وهذا المعنى بعد قطع النظر عن محذور اجتماع المتضادّين حاصل في المقام ، لأنّ المكلّف بمجرّد شروعه في التشاغل بالفرد المحرّم صار عاصيا فإذا فرغ عن العمل يصير ممتثلا ، ولا ينافي شيئا من العصيان والامتثال عدم بقاء التكليف بالنسبة إلى جانب الترك ما دام التشاغل ثابتا ، لأنّه زمان المعصية بالقياس إلى النهي ولا يلزم في التكليف أن يكون باقيا في زمان المعصية إن لم نقل بأنّه لا يعقل.

ففيه : أنّ عدم بقاء التكليف من جهة النهي في الجزء المتشاغل به من الفعل مسلّم وفي غيره غير مسلّم لعدم تحقّق المعصية بالقياس إليه ، نظرا إلى أنّ كلّ جزء من الفعل في نفسه من أفراد المنهيّ عنه ؛ فنقول : إنّ المنع المفروض بالنسبة إلى كلّ جزء قبل التشاغل به

٥٦٩

لاقتضائه الامتثال بالترك مانع من أوّل الأمر عن تعلّق الأمر المقتضي للامتثال بالفعل ، والجمع بينهما في الامتثال غير ممكن فيستحيل تعلّق الأمر مع المنع المفروض لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق القبيح على الحكيم ، وجعل الأمر مشروطا بحصول المعصية كما هو قضيّة القول مدفوع بما ذكرناه في بحث الضدّ عند الكلام على من يصحّح فعل الضدّ إذا كان عبادة مع قوله بالنهي فيه.

وأمّا الوجه الثالث ففيه : أنّ صدره مع ذيله غير متلائمين ، لأنّ مقتضى الصدر كون الجهة المانعة من اجتماع الأمر والنهي هو تكافؤ الجهة المحسّنة والجهة المقبّحة أو ترجّح إحداهما على الاخرى ، ومقتضى الذيل كون الجهة المانعة هو لزوم اتّصاف الشيء الواحد بالمتضادّين وهو مستحيل ، والفرق بينهما : أنّ مرجع الأوّل في منع الاجتماع إلى دعوى عدم وجود المقتضى ومرجع الثاني إلى إبداء وجود المانع من الاجتماع ، وهو محذور اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ولا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ، وممّا يفصح عن رجوع الثاني إلى إلزام الخصم بلزوم اجتماع المتضادّين مضافا إلى ما تقدّم من صراحة قوله : « لأنّ ذلك يؤدّي إلى اتّصاف الشيء الواحد بهما وهو مستحيل » قوله بعد العبارة المتقدّمة : « ومعنى كون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات أنّ الوجوه والاعتبارات أسباب مقتضية لكون الفعل الخارجي باعتبار كونه خارجيّا حسنا أو قبيحا ، لا أنّ الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة الطارئة على الطبائع باعتبار وجودها العقلي كالجنسيّة والفصليّة ، وإلاّ لما صحّ الحكم على الفعل الخارجي باعتبار كونه خارجيّا بحسن ولا قبح.

لا يقال : هذا منقوض بمثل الوحدة والكثرة ، فإنّهما من الصفات المتضادّة المنتزعة من الامور الخارجيّة باعتبار كونها خارجيّة ومع ذلك يجوز انتزاعها عن موصوف واحد كالعشرة فإنّها تتّصف بالوحدة والكثرة كذلك باعتبارين ، فظهر أنّ المغايرة الاعتباريّة كافية في اتّصاف الشيء بوصفين اعتباريّين وإن كانا متغايرين.

لأنّا نقول : بين الموصوفين هناك مغايرة [ فإنّ الموصوف بالكثرة نفس الآحاد المنضمّة وبالوحدة الآحاد مع الهيئة التركيبيّة ] ولا ريب أنّ أحدهما ليس نفس الآخر بدليل صحّة السلب ، فاتّصاف أحدهما بصفة لا ينافي اتّصاف الآخر بضدّها ، كالإنسان فإنّه يتّصف بالكاتبيّة والجوهريّة وإن أخذ مقيّدا بصفة البياض مثلا ، ولا يتّصف المركّب منهما بهما بل يتّصف بصفة نقيضهما ، وذلك بخلاف ما نحن فيه فإنّ الموصوف بالحسن في الخارج عين

٥٧٠

الموصوف بالقبح فيه ، ضرورة أن لا مميّز بين الصلاة والغصب في الخارج إذا وقعت في المكان المغصوب ولا مغايرة بينهما فيه أصلا حتّى يتصوّر تغاير بين الموردين » انتهى (١).

فإنّ ذلك أيضا صريح في أنّ جهة الامتناع مانعيّة الاتّصاف بالمتضادّين في شيء واحد.

هذا كلّه مضافا إلى أنّه يرد على ما في الذيل أنّه رجوع في إقامة سند المنع إلى الدليل الأوّل لابتنائه على استحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، فلا ينبغي عدّه دليلا آخر مقابلا للأوّل بعد الاستناد إليه كما صنعه رحمه‌الله ، وإلاّ فلا ينحصر هذا النوع من جهة المنع فيما ذكره من لزوم اتّصاف الشيء الواحد بالحسن والقبح ، لأنّ لكلّ من الأمر والنهي لوازم متكثّرة كلّ واحد منها مع مقابله متضادّان ، كالرجحان والمرجوحيّة ، والمحبوبيّة والمبغوضيّة ، والمراديّة والمكروهيّة ، فلو صحّ كلّ من المطلوبيّة والممنوعيّة والحسن والقبح مع اتّحادهما في السنخ كونه دليلا على حدة مستقلاّ برأسه ، فقد صلح كلّ من المتقابلات الاخر دليلا على حدة مستقلاّ برأسه فلا ينبغي الاقتصار على ما ذكره بل ينبغي تكثير الأدلّة بعدّ كلّ متقابلين من اللوازم المذكورة دليلا على حدة.

إلاّ أن يقال : بأنّ [ بين ] الوجهين فرقا [ في ] رجوع الأوّل إلى ما ينافي حكمة الشارع من حيث إنّه يجمع في التكليف بين طلب فعل شيء ولو تخييرا وطلب تركه بعينه ، وهذا أمر محال على الشارع الحكيم بنفسه ، ولو مع قطع النظر عمّا يلزمه من اجتماع المتضادّين في محلّ واحد الّذي هو محال لذاته لا لأجل منافاته الحكمة.

ولكن يدفعه : عدم مساعدة كلامه في تقرير الوجه الأوّل على هذا الفرق ، بل ظاهره كون جهة المنع فيه أيضا الاستحالة الذاتيّة من جهة لزوم الاتّصاف بالمتضادّين لا منافاة الحكمة ، بل هو صريح كلامه حيث قال في تقرير الوجه الأوّل : « فظهر أنّ المطلوب لا يكون إلاّ وجود الماهيّة أو عدمها ، وحيث إنّ المطلوب من الأمر وجود الطبيعة على وجه يستلزم مبغوضيّة تركها وفي النهي عدمها على وجه يستلزم مبغوضيّة فعلها فإذا اتّحدت الطبيعتان في الخارج بأن وجدتا بوجود واحد كالصلاة في المكان المغصوب المتّحدة مع الغصب لزم على تقدير الاجتماع اجتماع المطلوبيّة والمبغوضيّة في الوجود الّذي هو واحد شخصي على ما تقرّر في محلّه وهو باطل ، ضرورة أنّ المطلوبيّة والمبغوضيّة وصفان متضادّان يستدعيان محلّين متغايرين » انتهى (٢).

__________________

(١) الفصول : ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) الفصول : ١٢٥.

٥٧١

ويمكن أن يقال في دفع الإشكالين : بكون ما ذكره في الذيل توطئة لإلزام الخصم على ما ذكره في الصدر ، بتقريب : أنّه إذا استحال اتّصاف الشيء الواحد بالحسن والقبح فلا بدّ في التفصّي عن المحال من التزام تكافئهما ، فيرجع حكم الواقعة إلى الإباحة أو ترجّح أحدهما على الآخر ، فيرجع حكمها إلى الأحكام الأربع غير الإباحة.

ولكن يرد عليه حينئذ : ـ مضافا إلى أنّ ترجّح أحدهما على الآخر يوجب تعيّن كون حكم الواقعة إمّا الحرمة الّتي لا وجوب معها أو الوجوب الّذي لا حرمة معه ولا وجه لاحتمال الحكمين الآخرين ، لكون كلّ من الوصفين المتضادّين في حدّ اللزوم ، وقضيّة ترجيحه ثبوت مقتضاه من أحد الحكمين الإلزاميّين لا غير ـ إشكالان آخران :

أحدهما : أنّ ذلك لا يصلح ردّا على أكثر القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي وهم الأشاعرة ، لأنّهم لا يقولون بكون الأمر والنهي مستتبعين للحسن والقبح في المأمور به والمنهيّ عنه كما هو المعهود من مذهبهم من إنكارهم تبعيّة الأحكام للصفات الكامنة ، فلا يجدي نفعا في إلزامهم إلاّ أن يجعل دليلا إقناعيّا ، كما أنّ ما تقدّم من الوجه الثاني كان دليلا إقناعيّا لأنّ الأشاعرة لا يستحيلون التكليف بالممتنع العرضي.

وثانيهما : أنّ مجرى الأصل المشار إليه على ما أصّله العدليّة إنّما هو الحيثيّات التعليليّة المجتمعة في شيء واحد الباعثة على الحسن والقبح وإن كانت من الوجوه والاعتبارات ، كحيثيّتي النفع والضرر المجتمعين في الصدق أو الكذب مثلا ونظائرهما.

ومبنى كلام المجوّزين للاجتماع على جعل حيثيّتي الصلاتيّة والغصبيّة تقييديّتين مع كونهما ماهيّتين متغايرتين وإن اتّحدتا في الوجود ، بناء منهم على أنّ الاتّحاد في الوجود الخارجي لا يرفع الإثنينيّة الواقعيّة عمّا بينهما ، والحسن والقبح وإن كانا من توابع الطبائع في الوجود الخارجي إلاّ أنّهما قائمان بمحلّين موجودين بوجود واحد ، لا أنّهما مجتمعان في شيء واحد حتّى يجري فيهما الأصل المذكور من التكافؤ أو الترجّح ، ولذا يلتزمون بحصول الإطاعة والمعصية لجهتي الأمر والنهي ، فالوجه المذكور لا ينفع في إلزامهم أيضا وإن كانوا من العدليّة ، لأنّهم متسالمون مع المانعين في منع الاجتماع لو كانت الحيثيّتان تعليليّتين ويمنعون الشرط.

وأمّا ما ذكره فيما نقلنا عنه ثانيا في دفع ما أورده على نفسه من الفرق بين محلّ البحث والعشرة فمع أنّه تكلّف ، يرد عليه : أنّه بعينه جار في محلّ البحث لأنّ غاية ما

٥٧٢

يوجّه به كلامه في توجيه العشرة الموصوفة تارة بالوحدة واخرى بالكثرة هو أن يقال : إنّ العشرة باعتبار أنّها مرتبة مخصوصة من مراتب العدد تتّصف بالوحدة لأنّها عدد واحد بحسب المرتبة ، وباعتبار اشتمالها على آحاد مجتمعة تبلغ إلى ما يتحقّق به مفهوم العشريّة تتّصف بالكثرة لأنّها عدد كثير باعتبار آحادها بالقياس إلى ما تحتها.

وهذا كما ترى لا يزيد على المغائرة الاعتباريّة حسبما توهّمه المورد ، ومع ذلك يجري نظيره في الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة فيقال : إنّ هذه الأكوان المخصوصة باعتبار أنّها محصّلة للماهيّة المجعولة من العبادة صلاة ، وباعتبار أنّها محقّقة لعنوان ما منع عنه الشارع غصب ، فتتّصف بالصلاتيّة والغصبيّة باعتبارين لا باعتبار واحد.

فإن قلت : المغايرة فيما بين الموصوف بالوحدة والموصوف بالكثرة في العشرة حقيقيّة ، ولحوقهما بالعشرة إنّما هو باعتبار متعلّق الموصوف ، إذ الموصوف الحقيقي بالوحدة هو المرتبة وبالكثرة آحاد العشرة لا نفسها ، بخلاف المقام فإنّ المغائرة فيه حسبما ذكرته اعتباريّة لكون الموصوف الحقيقي واحدا شخصيّا يلحقه اعتباران.

قلت : لو كان هذا البيان كافيا في تحقّق المغائرة الحقيقيّة في العشرة بالنسبة الى الموصوفين ـ مع أنّ أحد الموصوفين وهو المرتبة ليس من الامور الخارجيّة بل أمر اعتباري صرف يعتبره العقل ـ يجري نحوه في محلّ البحث أيضا بجعل إحدى الطبيعتين المتصادقتين عارضا والاخرى معروضا كما زعمه المحقّق السلطان في إيراده على المصنّف.

ولا ريب أنّ العارض والمعروض أمران متغايران حقيقة يتّصف أحدهما بالصلاتيّة والآخر بالغصبيّة ، ويقوى ذلك على القول بامتناع اتّحاد الكلّيين في الخارج بحسب الحقيقة ، وإنّ الحكم عليهما بالاتّحاد منوط بالعرف واقع على وجه المسامحة ، وإلاّ فلا اتّحاد حقيقة ، فلم يلزم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد.

فإن قلت : هذا هدم لما بنيت عليه في تتميم الوجه الأوّل من الأدلّة من لزوم اجتماع الضدّين ، لكون متعلّق الحكمين واحدا فيكون رجوعا عمّا اخترته أوّلا.

قلت : ليس كذلك ، لما قرّرنا من أنّ متعلّق الحكمين على تقدير الاجتماع هو الإيجاد وهو أمر واحد لا تعدّد فيه ، ولا يتعدّد بتعدّد إضافاته لأنّه تأثير واحد قائم بفاعل الطبيعتين وإن ترتّب عليه أثران على تقدير التغاير الخارجي.

فإن قلت : هلاّ تعتبر متعلّق وصفي الحسن والقبح على تقدير الاجتماع إيجاد الطبيعتين

٥٧٣

لا هما بأنفسهما؟ فيلزم اجتماعهما في شيء واحد حسبما ذكره الفاضل المتقدّم.

قلت : الحسن والقبح وصفان يلحقان طبائع الأفعال ولكن في الوجود الخارجي على وجه يكون الخارج ظرفا للاتّصاف لا موصوفا لما فيها ممّا يقتضي ذلك ، ولذا يعرّف الحسن بكون الفعل بحيث أوجب في فاعله استحقاق المدح والقبح بكونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق الذمّ ، والحيثيّة المأخوذة فيهما إشارة إلى ما أشرنا إليه من المقتضي لا أنّهما يتعلّقان بالإيجاد.

نعم حصول ذلك المقتضي وهو المصلحة والمفسدة في الخارج يتوقّف على الإيجاد ويترتّب عليه ، وقضيّة ذلك أن يكون الحسن والقبح أيضا في لحوقهما الطبائع في الوجود الخارجي ممّا يترتّب على الإيجاد لا أنّه يتعلّق به ، وفرق واضح بين كون الشيء ما يترتّب عليه شيء آخر وكونه ما يتعلّق به ذلك الشيء ، والإيجاد بالنسبة إلى الحسن والقبح من قبيل الأوّل بخلافه بالنسبة إلى الإيجاب والتحريم فإنّهما يتعلّقان به لا أنّهما يترتّبان عليه ، وإلاّ يلزم تأديتهما إلى طلب الحاصل وهو [ محال ] لأنّ ما يترتّب عليه الشيء متقدّم على ذلك الشيء.

وأمّا الوجه الرابع فيمكن المناقشة فيه : بمنع منافاة اللطف في ترتّب الإطاعة والمعصية معا على الشخص الخارجي لجهتي الأمر والنهي على ما يقوله المجوّزون للاجتماع ، لأنّ اللطف الواجب على الله تعالى في المناهي إنّما يتأدّى بالنهي وإعلام المنع وقد حصل بالقياس إلى كلّي المنهيّ عنه ، وأمره بالصلاة ليس على أنّها مقرّبة إلى المعصية بل على أنّها بنفسها طاعة فهذا أيضا من اللطف الواجب عليه.

غاية الأمر أنّه حصل الاتّحاد بينهما في الفرد ، والاتّحاد ليس من فعل الشارع بل من فعل المكلّف حيث اختار امتثال الأمر بكلّي المأمور به في ضمن هذا الفرد المحرّم ، وليس يجب عليه تعالى منعه من هذا الاختيار قهرا عليه ، لأنّ اللطف إنّما يجب عليه ما لم يبلغ حدّ الإلجاء.

إلاّ أن يقال : إنّ المكلّف في اختياره هذا إنّما اعتمد على إذن الشارع وترخيصه فيه على تقدير تناول أمره لهذا الفرد المحرّم ولو بالتخيير اللازم من الأمر بالكلّي ، فيكون الشارع بإذنه المفروض مقرّبا له إلى المعصية.

ولكن يمكن دفعه : بأنّ ذلك إنّما يتّجه إذا كان إقدامه على المعصية بفعل المنهيّ عنه

٥٧٤

مترتّبا على اختياره الإطاعة بفعل المأمور به على هذا الوجه ، وليس كذلك لأنّه بسوء اختياره ودواعيه النفسانيّة مقدم على المعصية وإن لم يكن مأمورا بشيء في تلك الحال.

غاية الأمر أنّه اتّفق من باب المقارنات الاتّفاقيّة أنّه توجّه إليه أمر واختار امتثاله في ضمن المعصية ، فلم يستند وقوعه في المعصية إلى الشارع حيث قارنها أمره بالطاعة وإذنه في فعلها في ضمنها ، لفرض وقوعه فيها من غير جهة هذا الأمر والإذن بل على تقديري توجّه هذا الأمر إليه وعدمه.

وأمّا الوجه الخامس فيمكن دفعه : بأنّ الأصل في قصد القربة بل روحه قصد امتثال الأمر ، وإنّما اكتفى في العبادة بقصد القربة لأنّ التقرّب إلى رحمة الله لا يكون إلاّ بامتثال أمره تعالى وإطاعته ، فقصدها في معنى قصد الامتثال إجمالا.

ولا ريب أنّ قصد امتثال الأمر بالماهيّة حين اجتماعها مع المعصية ممكن ، ولا ينافيه عدم تأثيره في حصول التقرّب ، لأنّ الامتثال بالنسبة إلى التقرّب من باب المقتضي لا العلّة التامّة ، فقد يصادفه مقارنة مانع يمنعه عن الاقتضاء والعبادة مع ذلك تقع مجزية لاشتمالها على شرط الصحّة الّتي منها نيّة القربة.

وممّا يفصح عن ذلك ما حقّق من جواز تخلّف مقام القبول عن مقام الصحّة باعتبار مقارنة العمل لبعض الحزازات الموجبة لانحطاطه عن درجة القبول ، ومن الجائز ـ على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ كون مقارنة المعصية من هذا القبيل ، والتقرّب يترتّب على القبول لا على مجرّد الصحّة والإجزاء.

نعم يمكن توجيه عدم إمكان نيّة القربة على نهج آخر وهو : أنّ نيّة القربة بمعنى قصد امتثال الأمر موقوفة على العلم ـ ولو شرعيّا ـ بشمول الأمر بالماهيّة لهذه الحصّة الموجودة في الفرد المحرّم وهو غير حاصل ، وتوهّم الإطلاق الموجب للعلم الشرعي ، يدفعه : أنّ الإطلاق وغيره من الظواهر إنّما يعتمد عليه حيث لم يطرأه ما يوجب وهنه ، والنهي المجامع للمأمور به إن لم يصلح مقيّدا أو كاشفا عن التقييد فلا أقلّ من صلوحه موهنا في إطلاق المأمور به المقتضي للإجزاء.

ولكن يمكن الذبّ عنه : بأنّ احتمال الأمر ربّما يصحّح النيّة إذا حصل الإتيان بالعمل برجاء كونه مأمورا به كما في مواضع الاحتياط ، ومنعه بأنّ الاكتفاء بهذا العمل مع مقارنته لحزازة المعصية الموجبة للشكّ في تناول الإطلاق خلاف الاحتياط ـ لأنّه لا يوجب يقين

٥٧٥

احتجّ المخالف بوجهين* (١) ، الأوّل : أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، ثمّ خاطه في ذلك المكان ، فانّا نقطع بأنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.

الثاني : أنّه لو امتنع الجمع ، لكان باعتبار اتّحاد متعلّق الأمر والنهي ، إذ لا مانع سواه اتّفاقا. واللازم باطل ؛ إذ لا اتّحاد في المتعلّقين. فانّ متعلّق الأمر الصلاة ، ومتعلّق النهي الغصب ، وكلّ منهما يتعقّل انفكاكه عن الآخر ، وقد اختار المكلّف جمعهما ، مع إمكان عدمه. وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما متعلّقا الأمر والنهي ، حتّى لا يبقيا حقيقتين مختلفتين ؛ فيتّحد المتعلّق.

_______________________________

البراءة الواجب تحصيله بعد الاشتغال اليقيني ـ خروج عن الاستدلال بعدم إمكان نيّة القربة.

وأمّا الوجه السادس فيمكن المناقشة فيه أيضا : بأنّ الشارع لم يقل : « لا تركع هذا الركوع » بل قال : « لا تغصب » كما أنّه لم يقل : « اركع هذا الركوع أو غيره » بل قال : « صلّ ».

غاية الأمر أنّ المكلّف جمعهما في شخص واحد من غير توجّه الخطاب إليه ، والتشبّث بالتخيير اللازم من الأمر بالكلّي وهو بالقياس إلى الفرد قبيح لتعيّن تركه المانع من فعله رجوع إلى أحد الوجهين الأوّلين ، فلا ينبغي عدّه دليلا آخر.

(١) * احتجّ أهل القول بجواز الاجتماع بوجهين بل بوجوه :

منها : ما قرّره المصنّف من أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة الثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه في ذلك المكان فإنّا نقطع بأنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.

ومحصّل هذا الوجه يرجع إلى التمسّك بفهم العرف استكشافا عن عدم المنافاة بين الوجوب والحرمة ، أو عن جدوى تعدّد الجهة في تكثير الموضوع ، وإلاّ لما حكم على العبد المذكور بالإطاعة والعصيان ، فإذا جاز ذلك في العرف لجاز في الشرع أيضا لأنّ خطابات الشارع واردة على طبق القواعد العرفيّة.

وربّما يؤكّد هذا التقرير من الدليل بعبارة أوضح وأصرح في الدلالة على الاجتماع فيقال : إنّ السيّد إذا أمر العبد بالخياطة في الجملة ونهاه عن شغله المكان المخصوص وقال :

٥٧٦

« إن ارتكبت النهي ضربتك ، وإن امتثلت الأمر فأعتقتك » فخاط الثوب في هذا المكان فيحسن من السيّد أن يضربه ويعتقه ويقول : « أطاع بالخياطة وعصى بدخول المكان » فالخياطة من حيث هي غير ممنوع عنها قطعا ، بل ربّما يتعدّى بإجراء هذا الدليل أو ما هو أصرح منه فيما لو كان المنهيّ عنه أخصّ من المأمور به كما عن الفاضل الباغنوي ـ على ما حكاه السيّد صدر الدين في شرح الوافية ـ من أنّه عند ذكره الوجه المذكور للمجوّزين مع اختياره الجواز ، قال : « بقي الكلام في أنّ هذا الدليل هل هو جار فيما إذا صحّ الانفكاك من أحد الجانبين كما إذا نهاه عن الخياطة في الحرم وأمره بالخياطة ، فإذا خاطه في الحرم فلا شكّ في أنّه عاص لمخالفته النهي فهل هو مطيع للآمر؟ والظاهر أنّه مطيع لأنّه لم يقيّد أمره بالخياطة بأن لا يكون في الحرم ، فلعلّ غرضه في الأمر مجرّد خياطة الثوب مجرّدا عن قيد عدم كونها في الحرم ، وجعل النهي قرينة للتقييد ارتكاب للمجاز وإبقاء كلّ من الأمر والنهي أولى من تخصيص أحدهما ، فيكون معنى كلامه : « أنّك لا تفعل الخياطة في الحرم ، فإنّك لو فعلتها فيه لعاقبتك لكن يحصل ما هو مطلوبي بالأمر لأنّ مطلوبي بالأمر خياطة الثوب في مكان مّا أيّ مكان كان » ولا يخفى أنّ هذا معنى صحيح غير مخالف للّغة ولا للعقل ولا يحتاج فيه إلى ارتكاب التخصيص في الأمر فلنحمل عليه إلى آخره.

ومنها : ما قرّره جماعة منهم المصنّف بقوله : « لو امتنع الجمع لكان باعتبار اتّحاد متعلّق الأمر والنهي إذ لا مانع سواه اتّفاقا ، واللازم باطل إذ لا اتّحاد في المتعلّقين » إلى آخر ما ذكره.

وهذا التقرير من الدليل كما يجري على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع فكذلك يجري على القول بتعلّقها بالأفراد ، ولذا ترى أنّ ابن الحاجب مع قوله بذلك قرّر الدليل هكذا : « وأيضا لو لم يصحّ لكان لاتّحاد المتعلّقين إذ لا مانع سواه اتّفاقا ، ولا اتّحاد لأنّ الأمر للصلاة والنهي للغصب واختيار المكلّف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما » وظاهر أنّ الحقيقة على المذهب الأوّل يراد بها الماهيّة الكلّية الموجودة في ضمن الفرد الخارجي. وعلى المذهب الآخر يراد بها الشخص المعنون تارة بالصلاتيّة واخرى بالغصبيّة ، ودعوى عدم الاتّحاد بينهما بمجرّد اختيار المكلّف جمعهما مبنيّة إمّا على ما قيل : من أنّ الاتّحاد في الوجود الخارجي لا يوجب ارتفاع الاثنينيّة في الحقيقة أو على ما يمكن أن يقال : إنّ الاتّحاد المستحيل معه اجتماع الضدّين ما إذا كان متعلّقهما واحدا ذهنا وخارجا لا خارجا فقط دون الذهن.

٥٧٧

ومن الأعلام من قرّر الدليل على وجه لا يجري على المذهب الثاني فقال : « إنّ الحكم إنّما تعلّق بالطبيعة ـ على ما أسلفنا تحقيقه ـ فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة ومتعلّق النهي طبيعة الغصب وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد ، ولا يرد من ذلك قبح على الآمر لتغاير متعلّق المتضادّين ، فلا يلزم التكليف بالمتضادّين ، ولا كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة ».

ثمّ أورد على نفسه بما يرجع إلى لزوم اجتماع المتضادّين في الفرد من جهتي المقدّميّة فعاد المحذور.

وأجاب بما يرجع تارة إلى منع وجوب المقدّمة.

واخرى إلى منع المقدّميّة ، لعدم توقّف المأمور به على هذا الكون الخاصّ بل غايته التوقّف على فرد مّا من الكون.

وثالثة إلى تسليم الاجتماع ومنع بطلان اللازم ، بناء على أنّ وجوب المقدّمة توصّلي فلا مانع من اجتماعه مع الحرام.

ورابعة إلى تسليم الامتناع وغايته كون الفرد محرّما صرفا لكنّه لا يقدح في الصحّة لمكان سقوط الواجب بالحرام ، وغايته سقوط التكليف بسبب حصول الطبيعة في الخارج وذلك لا يستلزم كون المقدّمة مطلقا مطلوبة للآمر ، إلى آخر ما ذكره (١).

ومنها : ما اعتمد عليه جماعة منهم بعض الأعلام (٢) من أنّه لو لم يكن تعدّد الجهة مجديا في اجتماع الأمر والنهي لما وقع ، والتالي باطل بالإجماع كما في العبادات المكروهة ، أمّا الملازمة : فلأنّه لا مانع من الاجتماع إلاّ التضادّ وهو لا يختصّ بالوجوب والحرمة بل يتأتّى فيه وفي الندب مع الكراهة أيضا ، فإنّ الأحكام كلّها متضادّة ، فلو لم يكن تعدّد الجهة مجديا في الواحد الشخصي للزم القبح والمحال ، مع أنّ هذا يدلّ على المطلوب بطريق أولى ، إذ النهي في المكروهات تعلّق بنفس العبادات دون ما نحن فيه.

وقد يلحق بالعبادات المكروهة في النقض امور اخر ممّا وقع في الشرع منها : الصلاة في المسجد وغيرها من الأفراد المستحبّة للواجب نظرا إلى أنّ الوجوب والاستحباب [ أيضا متضادّان ](٣).

ومنها : أفضل فردي الواجب التخييري لكونه مستحبّا مع وجوبه.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) القوانين ١ : ١٤٢.

(٣) أضفناه لاستقامة العبارة.

٥٧٨

والجواب عن الأوّل : أنّ الظاهر في المثال المذكور إرادة تحصيل خياطة الثوب بأيّ وجه اتّفق* (١). سلّمنا ، لكن المتعلّق فيه مختلف ، فانّ الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة ، بخلاف الصلاة** (٢). سلّمنا ، لكن نمنع كونه مطيعا

_______________________________

ومنها : تداخل الأغسال الواجبة والمستحبّة وكذلك الوضوءات المتداخلة.

ومنها : الوجوب النفسي والاستحباب الغيري كغسل الجنابة للنافلة على القول بوجوبه لنفسه.

ومنها : الوجوب الغيري والاستحباب النفسي كالغسل أيضا على القول الآخر ، وربّما يذكر من أمثلة العبادات المكروهة الوضوء بالماء المشمّس ، ومن أمثلة أفضل فردي الواجب التخييري الاستنجاء بالماء.

(١) * وأورد عليه : بأنّ ذلك مشعر بالتزام جواز الاجتماع في التوصّليّات والمانع لا يفرّق بينها وبين التعبّديّات في امتناع الاجتماع ، لأنّ سند المنع استحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد والتوصّليّة لا ترفعها ، والمثال المذكور وارد على سبيل المغالطة ، ولا يمكن دفعه بالتزام التخصيص بدعوى : أنّ الدليل دلّ على عدم الجواز إلاّ ما قام فيه شاهد من العرف بإرادة التعميم في أفراد المأمور به ، لأنّ دليل المنع عقليّ غير قابل للتخصيص وإن صحّحنا المثال المذكور فهو لكشفه عن الجواز كاشف عن فساد سند المنع مطلقا ووروده في كلام المانع على سبيل المغالطة ، فالتفصيل بالمنع في التعبّدي والجواز في التوصّلي غير صحيح جزما.

وأمّا ما قيل في الاعتذار عنه : بأنّ مراده بذلك بيان حصول الغرض بالفرد المنهيّ عنه حيث إنّ غرض المولى حصول الخياطة بأيّ وجه اتّفق لا حصول معنى الإطاعة والانقياد كما في العبادات لئلاّ يحصل بأداء المنهيّ عنه ، فيكون ما ذكره وجها للفرق بين أداء المقصود وحصول الامتثال.

ففيه : أنّه بعيد عن مساق العبارة وغير ملائم لما يذكره فيما بعد من الوجه الأخير كما لا يخفى.

وربّما يعترض عليه أيضا : بأنّه يجري مثل ذلك في الصلاة أيضا.

وفيه : منع واضح ، لوضوح الفرق بين العبادة وغيرها المنوط بنظر العرف ، فالعبادة ممّا لا يقبل التعميم على الوجه المذكور وإلاّ لا تكون عبادة.

(٢) ** هذا هو الجواب الحقّ الّذي لا محيص عنه كما أشرنا إليه في المقدّمات.

٥٧٩

والحال هذه. ودعوى حصول القطع بذلك في حيّز المنع ، حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيف ما اتّفقت.

_______________________________

ومحصّله أنّ الكون في المكان بالمعنى اللازم للجسم غير داخل في حقيقة الخياطة من حيث إنّها حركات قائمة بالجارحة ولا متّحد معها في الوجود ، ولكلّ منهما وجود ممتاز عن وجود الآخر كما يفصح عنه القعود في ذلك المكان مع تحريك اليد أو غيرها من الجوارح ، حيث إنّ القعود يجتمع مع وجودها وعدمها ، ومع الوجود يكون كلّ منهما فعلا غير الآخر بل « الكون » يجامع كلاّ من وجود الخياطة وعدمها ، بخلاف الصلاة مع الغصب فإنّ أكوان الصلاة من الحركات والسكنات بنفسها تصرّف عدواني بلا مغايرة بينهما في نظر الحسّ أصلا.

وبذلك يندفع ما في كلام سلطان العلماء من المناقشة بأنّ ربط الكون بالصلاة ليس بأزيد من ربطه بالخياطة بل في كليهما من لوازم الجسم ، فإنّ الكون بهذا المعنى الّذي هو من لوازم الجسم لا فرق فيه بين ما يتحقّق مع الصلاة وما يتحقّق مع الخياطة ، ولكنّ الفرق بينهما في أنّ المنهيّ عنه في الأوّل شيء آخر غير هذا الكون متّحد مع الصلاة في الوجود وهو التصرّف العدواني المسمّى بالغصب ، بخلاف المنهيّ عنه في الثاني فإنّه نفس هذا الكون وهذا لا يسمّى غصبا ، ولا أنّه متّحد مع الخياطة الّتي هي حركة مخصوصة زائدة على أصل الكون في الوجود. كما يندفع به ما عساه يناقش أيضا بما ذكره المدقّق الشيرواني في جملة ما أورده على المحقّق المتقدّم في مناقشته المذكورة من أنّ « الكون » في عرفهم منحصر في الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، ومن الظاهر أنّ كلاّ من الصلاة والخياطة عمدة أجزائهما وجلّ أركانهما عبارة عن الأوّلين ، فإنّ الصلاة عبارة عن حركات مخصوصة وهيئات معيّنة ترجع إلى السكون وكذلك الخياطة عبارة عن أفعال مخصوصة هي حركات الأعضاء المعيّنة القائمة بالخيّاط وليس عبارة عن الأثر المترتّب على الفعل.

فإنّ مبنى كلام المصنّف ليس على توهّم كون الخياطة عبارة عن الأثر المترتّب على الفعل ليقابل بنحو ما ذكر في ردّه ، بل على ما قرّرناه فكونها عبارة عن الحركات المعيّنة لا يقضي بكونها موردا للنهي ، لأنّ الكون المنهيّ عنه في استعمالات العرف لا ينزّل عليها باعتبار أنّها المعنى المصطلح عليه في عرف أهل المعقول.

نعم ربّما يشكل ما ذكرناه بما أشار إليه الفاضل النراقي بقوله : « لا يقال : اختلاف

٥٨٠