بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

من علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك منه ما ربما أظلم علينا فيه.

أى بني وإنى وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثار هم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلى من امور هم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل بين ذي النقية والنية وأن أبدأك بتعليم كتاب الله (١) وتأويله وشرائع الاسلام وأحكامه وحلاله وحرامه ، لا اجاوز ذلك بك إلى غيره ثم أشفقت أن يلبسك ما اختلف الناس فيه أهواؤهم مثل الذي لبسهم (٢) وكان إحكام ذلك لك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة ، ورجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك وأن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي هذه. واعلم مع ذلك (٣) :

أي بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما افترض عليك والاخذ بما مضى عليه الاولون من آبائك والصالحون من أهل ملتك فانهم لم يدعوا أن [ ي ] نظروا لانفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر ثم رد هم آخر ذلك إلى الاخذ بما عرفوا والامساك عمالم يكلفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم [ كما ] كانوا علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم لابتورط الشبهات وعلو الخصومات ، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك عليه والرغبة

____________________

(١) في النهج « وأنت مقبل العمر ، مقتبل الدهر ، ذونية سليمة ونفس صافية وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله ». وفى بعض نسخ الكتاب « ذى الفئة ».

(٢) في النهج « أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذى التبس عليهم ».

(٣) في المصدر وأحكم مع ذلك.

٢٢١

إليه في توفيقك وترك كل شائبة أدخلت عليك شبهة (١) وأسلمتك إلى ضلالة وإذا أنت أيقنت أن قد صفا [ لك ] قلبك فخشع ، وتم رأيك فاجتمع وكان همك في ذلك هما واحدا فانظر فيما فسرت لك وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك من [ فراغ ] فكرك ونظرك فاعلم أنك إنما تخبط خبط العشواء ، وليس طالب الدين من خبط ولا خلط والامساك عند ذلك أمثل.

وإن أول ما أبدأ به من ذلك وآخره أني أحمد إليك إلهي وإلهك وإله آبائك الاولين والاخرين ورب من في السماوات والارضين بما هو أهله [ و ] كما هو أهله وكما يحب وينبغي ونسأله أن يصلي عنا على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أهل بيته وعلى أنبياء الله ورسله بصلاة جميع من صلى عليه من خلقه وأن يتم نعمه علينا فيما وفقنا له من مسألته بالاجابة لنا فان بنعمته تتم الصالحات.

فتفهم أي بني وصيتي واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة وأن الخالق هو المميت وأن المفني هو المعيد وأن المبتلي هو المعافي وأن الدنيا لم تكن لتستقيم إلا على ما خلقها الله تبارك وتعالى عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد أو ماشاء مما لا نعلم ، فإن أشكل عليك شئ من ذلك فاحمله على جهالتك به وإنك أول ما خلقت [ خلقت ] جاهلا ثم عملت وما أكثر ما تجهل من الامر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك ، فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك فليكن له تعمدك (٢) وإليه رغبتك ومنه شفقتك.

واعلم [ يابني ] أن أحدا لم ينبئ عن الله تبارك وتعالى كما أنبأ عنه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فارض به رائدا (٣) [ وإلى النجاة قائدا ] فإني لم آلك نصيحة (٤)

____________________

(١) في النهج « أو لجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة ».

(٢) في النهج « له تعبدك ».

(٣) الرائد : هوالذى يذهب لطلب المنزل لصاحبه أو من ترسله في طلب الكلاء ليتعرف موقعه والرسول قد عرف عن الله وأخبرنا بمرضاته ، فهو رائد سعادتنا.

(٤) أى لم اقصر في نصيحتك.

٢٢٢

وإنك لم تبلغ في النظر لنفسك [ وإن اجتهدت مبلغ ] نظري لك ، واعلم. [ يابني ] أنه لو كان لربك شريك لاتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت صفته وفغاله ولكنه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضاده في ذلك أحد ولا يحاجه وأنه خالق كل شئ وأنه أجل من أن يثبت لربوبيته بالاحاطة قلب أوبصر (١) وإذا أنت عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثك في صغر خطرك وقلة مقدرتك وعظم حاجتك إليه أن يفعل مثله في طلب طاعته والرهبة له والشفقة من سخطه ، فانه لم يأمرك إلا بحسن ولم ينهك إلا عن قبيح.

أى بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها بأهلها ، وأنبأتك عن الاخرة وما أعد لاهلها فيه وضربت لك فيها الامثال ، إنما مثل من أبصر الدنيا كمثل قوم سفز نبابهم منزل جدب فأموا منزلا خصيبا [ وجنابا مريعا ] فاحتموا وعثاء الطريق (٢) وفراق الصديق وخشونة السفر في الطعام والمنام (٣) ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشئ من ذلك ألما ولا يرون نفقته مغرما ولا شيئا أحب إليهم مما قربهم من منزلهم ، ومثل من اغتربها كمثل قوم كانوا بمنزل خصب فنبابهم إلى منزل جدب فليس شئ أكره إليهم ولا أهول لديهم من مفارقة ما هم فيه إلى ما يهجمون عليه (٤) ويصيرون إليه ، وقرعتك بأنواع الجهالات لئلا تعد نفسك عالما ، فإن ورد عليك شي لا تعرفه أكبرت ذلك فان العالم من عرف أن ما يعلم فيما لا يعلم قليل فعد نفسه بذلك جاهلا ، فازداد بما عرف من ذلك في طلب العلم اجتهادا ، فما يزال للعلم طالبا ، وفيه راغبا ، وله مستفيدا ، ولاهله خاشعا ولرأية متهما (٥) وللصمت لازما ، وللخطأ حاذرا ، ومنه مستحييا.

____________________

(١) كذا وفى النهج « من أن يثبت ربوبيته باحاطة قلب أو بصر ».

(٢) الجناب : الناحية. والرابع : كثير العشب. ووعثاء الطريق : مشقته.

(٣) في النهج « خشونة السفر وجشوبة المطعم » والجشوبة بضم الجيم : الغلظ أو كون الطعام بلا أدم.

(٤) هجم عليه أى انتهى اليه بغتة.

(٥) في المصدر « ولا هله خاشعا مهتما ».

٢٢٣

وإن ورد عليه ما لا يعرف لم ينكر ذلك لما قر ربه نفسه من الجهالة وإن الجاهل من عد نفسه بما جهل من معرفة العلم عالما ، وبرأيه مكتفيا ، فما يزال للعلماء مباعدا ، وعليهم زاريا ، ولمن خالفه مخطئا ، ولما لم يعرف من الامور مضللا فإذا ورد عليه من الامور ما لم يعرفه أنكره وكذب به وقال بجهالته : ما أعرف هذا ، وما أراه كان ، وما أظن أن يكون ، وأني كان؟ وذلك لثقته برأيه ، وقلة معرفته بجهالته ، فما ينفك بما يرى مما يلتبس عليه رأيه مما لا يعرف للجهل مستفيدا وللحق منكرا ، وفي الجهالة متحيرا وعن طلب العلم مستكبرا.

أي بني تفهم وصيتي واجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لنفسك ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من الناس لك ما ترضى به لهم منك ، ولا تقل بما لا تعلم ، بل لا تقل كلما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.

واعلم أن الاعجاب ضد الصواب وآفة الالباب ، فإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك.

واعلم أن أمامك طريقا ذامشقة بعيدة ، وأهوال شديدة ، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن ارلا تياد (١) وقدر بلاغك من الزاد (٢) وخفة الظهر ، فلا تحملن على ظهرك فوق بلاغك ، فيكون ثقلا ووبالا عليك ، وإذا وجدت من أهل الحاجة من يحمل لك زادك فيوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه ، واغتنم من استقرضك (٣)

____________________

(١) الارتباد : الطلب أصله واوى من راد يرود وحسن الارتياد : اتيانه من وجهه.

(٢) البلاغ بالفتح : الكفاية أى ما يكفى من العيش ولا يفضل.

(٣) في قوله : « من استقرضك الخ » حث على الصدقة والمراد انك اذا أنفقت المال على الفقراء وأهل الحاجة كان أجر ذلك وثوابه ذخيرة لك تنالها في القيامة فكانهم حملوا عنك زادك ويؤدونه اليك وقت الحاجة.

٢٢٤

في حال غناك واجعل وقت قضائك في يوم عسرتك (١).

واعلم أن أمامك عقبة كؤودا ، لا محالة مهبطابك على جنة أو على نار ، المخف فيها أحسن حالا من المثقل فارتد لنفسك قبل نزولك (٢).

واعلم أن الذي بيده ملكوت خزائن الدنيا والآخرة قد أذن بدعائك وتكفل بإجابتك ، وأمرك أن تسأله ليعطيك وهو رحيم ، لم يجعل بينك وبينه ترجمانا ، ولم يحجبك عنه ، ولم يلجئك إلى من يشفع إليه لك ، ولم يمنعك إن أسات التوبة (٣) ولم يعيرك بالانابة ، ولم يعاجلك بالنقمة ، ولم يفضحك حيث تعرضت للفضيحة ، ولم يناقشك بالجريمة ، ولم يؤيسك من الرحمة ، ولم يشدد عليك في التوبة فجعل النزوع عن الذنب حسنته (٤) وحسب سيئتك واحدة ، وحسب حسنتك عشرا ، وفتح لك باب المتاب والاستيناف (٥) فمتى شئت سمع نداءك ونجواك ، فأفضيت إليه بحاجتك ، وأنبأته عن ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستعنته على امورك وناجيته بما تستخفي به من الخلق من سرك (٦) ثم جعل بيدك مفاتيح خزائنه ، فألحح في المسألة يفتح لك باب الرحمة بما أذن لك فيه من مسألته.

____________________

(١) كذا وفى النهج « واغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك ».

(٢) فارتد لنفسك أصله من راديرود اذا طلب وتفقد وتهيأ مكانا لينزل اليها والمراد ابعث رائدا من قبلك من الاعمال الصالحة توقفك الثقة به على جودة المنزل. وفى النهج « ولم يمنعك ان أسأت من التوبة ». والانابة الرجوع إلى الله.

(٣) التوبة مفعول لقوله عليه‌السلام « ولم يمنعك ».

(٤) النزوع : الرجوع والكف.

(٥) المتاب : التوبة. والاستئناف : الاخذ في الشئ وابتداؤه. وفى بعض النسخ « استيتاب ».

(٦) المناجاة : المكالمة سرا.

٢٢٥

فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه ، فألحح (١) ولا يقنطك إن أبطأت عنك الاجابة فإن العطية على قدر المسألة ، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون أطول للمسألة وأجزل للعطية ، وربما ، سألت الشئ فلم تؤته وأوتيت خيرا منه عاجلا وآجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اوتيته ، ولتكن مسألتك فيما يعنيك مما يبقى لك جماله [ أ ] وينفى عنك وباله والمال لا يبقى لك ولا تبقى له ، فإنه يوشك أن ترى عاقبة أمرك حسنا أوسيئا أو يعفو العفو الكريم.

واعلم أنك خلقت للاخرة لا للدنيا وللفناء لا لبقاء وللموت لا للحياة وأنك في منزل قلعة ودار بلغة ، وطريق إلى الاخرة ، أنك طريد الموت الذي لا ينجو [ منه ] هاربه ولابد أنه يدر كك يوما ، فكن منه على حذر أن يدركك على حال سيئة قد كنت تحدث نفسك فيها بالتوبة ، فتحول بينك وبين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك.

أي بني أكثر ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه ، واجعله أمامك حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك (٢) ولا يأخذك على غرتك وأكثر ذكر الاخرة وما فيها من النعيم والعذاب الاليم فإن ذلك يزهدك في الدنيا ويصغرها عندك ، وقد نبأك الله عنها ونعتت لك نفسها (٣) وكشفت عن مساويها ، فإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهلها إليها ، وتكالبهم عليها (٤) وإنما أهلها كلاب عاوية

____________________

(٨) يقال : ألح في السؤال : ألحف فيه وأقبل عليه مواظبا.

(٢) الحذر ـ بالكسر ـ : الاحتراز والاحتراس. والغرة ـ بالكسر فالتشديد ـ ، الغفلة.

(٣) النعى : الاخبار بالموت والمراد أن الدنيا تخبر بحالها من التغير والتحول عن فنائها.

(٤) التكالب ، التواثب وتكالبهم عليها أى شدة حرصهم عليها.

٢٢٦

وسباع ضارية ، يهر بعضها على بعض (١) ، يأكل عزيزها ذليلها وكبيرها صغيرها قد أضلت أهلها عن قصد السبيل ، وسلكت بهم طريق العمى (٢) وأخذت بأبصارهم عن منهج الصواب ، فتاهوا في حيرتها (٣) وغرقوا في فتنتها ، واتخذواها ربا ، فلعبت بهم ، ولعبوا بها ونسوا ماوراءها.

فإياك يا بني أن تكون قد شانته كثرة عيوبها (٤) نعم معقلة واخرى مهملة قد أضلت عقولها ، وركبت مجهولها ، سروح عاهة بواد وعث ، ليس لها راع يقيمها. رويدا حتى يسفر الظلام ، كأن قد وردت الظعينة (٥) يوشك من أسرع أن يؤوب.

واعلم أن من كانت مطيته الليل والنهار ، فإنه يساربه وإن كان لايسير (٦) أبى الله إلا خزاب الدنيا وعمارة الاخرة.

أي بني فإن تزهد فيما زهدك الله فيه من الدنيا وتعزف نفسك عنها ، فهي أهل ذلك ، وإن كنت غير قابل نصيحتي إياك فيها فاعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك ولن تعدو أجلك وأنك في سبيل من كان قبلك ، فاخفض في الطلب (٧) وأجمل في

____________________

(١) الضارية : المولعة بالافتراس. يهر أى يكره أن ينظر بعضها بعضا ويمقت.

(٢) العمى والعماءة : الغواية.

(٣) فتاهوا أى ضلوا الطريق. والحيرة : التحير والتردد.

(٤) الشين : ضد الزين. أى اياك أن تكون الذى شانته كثرة عيوب الدنيا. وعقل البعير بالتشديد شد وظيفه إلى ذراعه. والنعم ـ محركة ـ : الابل أى أهلها على قسمين قسم كابل منعها عن الشر عقالها وهم الضعفاء واخرى مهملة تأتى من السوء ما تشاء وهم الاقوياء.

(٥) الظعينة : الهودج. عبربه عليه‌السلام عن المسافرين في طريق الدنيا إلى الاخرة كإن حالهم أن وردوا على غاية سيرهم. وقوله : « يؤوب » أى يرجع.

(٦) وفى بعض النسخ « وان كان واقعا لا يسير ».

(٧) فاخفض أى وارفق من الخفض بمعنى السهل. وأجمل فيما تكتسب أى اسع سعيا جميلا لا بحرص ولا بطمع.

٢٢٧

المكتسب فإنه رب طلب قد جر إلى حرب ، وليس كل طالب بناج وكل مجمل بمحتاج. وأكرم نفسك كل دنية ، وإن ساقتك إلى رغبة ، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا ، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ، وما خير خير لا ينال إلا بشر ويسر لاينال إلا بعسر.

وإياك أن توجف بك مطايا الطمع ، فتوردك مناهل الهلكة ، وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فانك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك.

وإن اليسير من الله تبارك وتعالى أكثر وأعظم من الكثير من خلقه ، وإن كان كل منه ولو نظرت ـ ولله المثل الاعلى ـ فيما تطلب من الملوك ومن دونهم من السفلة لعرفت أن لك في يسير ما تصيب من الملوك افتخارا ، وأن عليك في كثير ما تصيب من الدناة عارا. فاقتصد في أمرك تحمد. مغبة علمك (١) إنك لست بائعا شيئا من دينك وعرضك بثمن ، والمغبون من غبن نصيبه من الله ، فخذ من الدنيا ما أتاك واترك ما تولى ، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب.

وإياك ومقارنة من رهبته على دينك وباعد السلطان ولا تأمن خدع الشيطان (٢) وتقول : متى أرى ما أنكر نزعت ، فإنه كذا هلك من كان قبلك من أهل القبلة وقد أيقنوا بالمعاد ، فلو سمعت بعضهم بيع آخرته بالدنيا لم يطب بذلك نفسا ، ثم قد يتخيله الشيطان بخدعه ومكره حتى يور طه في هلكته بعرض من الدنيا حقير وينقله من شر إلى شر حتى يؤيسه من رحمة الله ويدخله في القنوط ، فيجد الوجه إلى ما خالف الاسلام وأحكامه ، فإن أبت نفسك إلا حب الدنيا وقرب السلطان فخالفت مات نهيتك عنه بما فيه رشدك ، فأملك عليك لسانك فإنه لا بقية للموك عند الغضب ، ولا تسأل عن أخبار هم ، ولا تنطق عند أسرارهم ، ولا تدخل فيما بينك وبينهم.

وفي الصمت السلامة من الندامة ، وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك

____________________

(١) كذا والمغبة : عاقبة الشئ.

(٢) كذا. والخدع ـ بضمتين ـ جمع الخدوع وهو الكثير الخداع.

٢٢٨

ما فات من منطقك [ وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء ] وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك ، ولا تحدث إلا عن ثقة فتكون كاذبا والكذب ذل. وحسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير مع الاسراف ، وحسن اليأس (١) خير من الطلب إلى الناس ، والعفة مع الحرفة خير من سرور مع فجور (٢) والمرء أحفظ سره (٣).

ورب ساع فيما يضره (٤). من أكثر [ أ ] هجر ( ه ) ومن تفكر أبصر ، ومن خير حظ امرء قرين صالح ، فقارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشرتبن عنهم ، ولا يغلبن عليك سوء الظن ، فإنه لا يدع بينك وبين خليل صلحا وقد يقال : من الحزم سوء الظن. بئس الطعام الحرام. وظلم الضعيف أفحش الظلم. والفاحشة كاسمها والتصبر على المكروه يعصم القلب (٦). وإن كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا ، وربما كان الدواء داءا والداء دواء ، وربما نصح غير الناصح وغش المستنصح ، وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى ، وتثبط عن خير الاخرة والدنيا ، زك قلبك بالادب كما تذكي النار بالحطب ، ولا تكن كحا طب الليل وعثاء السبيل (٧) وكفر

____________________

(١) وفى النهج « مرارة اليأس ».

(٢) وفى النهج « والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور ».

(٣) أى الاولى أن لا تبوح بسرك إلى أحد فانت احفظ من غيرك فان أذعته انتشر فلم تلم الا نفسك لا نك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك فغيرك أعجز.

اذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه * فصدر الذى يستودع السر أضيق.

(٤) ربما كان الانسان يسعى فيما يضره لجله أوسوء قصده.

(٥) يقال : فلان أهجر في منطقه أى تكلم بالهذيان ، وكثير الكلام لا يخلو من الاهجار وهجر في مرضه هذى.

(٦) في المصدر « نقص للقلب ».

(٧) يقال : « هو حاطب ليل » أى يخلط في كلامه. والوعثاء : التعب والمشقة. وفى كشف المحجة « وغثاء السيل » وهو الصواب.

٢٢٩

النعمة لؤم. وصحبة الجاهل شؤم ، والعقل حفظ التجارب ، وخير ما جربت ما وعظك ومن الكرم لين الشيم.

بادر الفرصة قبل أن تكون غصة ، من الحزم العزم ، ومن سبب الحرمان التواني ليس كل طالب يصيب ، ولاكل راكب يؤوب ، ومن الفساد إضاعة الزاد. ولكل أمر عاقبة ، رب يسير أنمى من كثير ، سوف يأتيك ما قدر لك ، التاجر مخاطر (١) ولا خير في معين مهين ، لا تبيتن من أمر على غرر (٢) من حكم ساد ، ومن تفهم ازداد ، ولقاء أهل الخير عمارة القلوب ، ساهل الدهر ما ذل لك قعوده ، وإياك أن تجمح بك مطية اللحاج ، وإن قارفت سيئة فعجل محوها بالتوبة ، ولا تخن من ائتمنك وإن خانك ، ولا تذع سره وإن أذاعه ، ولا تخاطر بشئ رجاء أكثر منه واطلب فإنه يأتيك ما قسم لك ، خذ بالفضل وأحسن البذل ، وقل للناس حسنا.

وأي كلمة حكم جامعة أن تحب للناس ما تحب لنفسك؟ وتكره لهم ما تكره لها. إنك قل ما تسلم ممن تسرعت إليه أو تندم إن تتفضل عليه.

واعلم أن من الكرم الوفاء بالذمم ، والدفع عن الحرم (٣) والصدود آية المقت ، وكثرة العلل آية البخل ، ولبعض إمساكك عن أخيك مع لطف خير من بذل مع جنف ، ومن التكرم صلة الرحم ومن يرجوك أويثق بصلتك إذا قطعت قرابتك؟ (٤) والتحريم وجه القطيعة ، احمل نفسك مع أخيك عند صرمه على الصلة وعند صدوده على اللطف والمسألة ، وعند جموده على البذل ، وعند تباعده على الدنو

____________________

(١) أى بنفسه وماله. والمهين اما بضم الميم بمعنى فاعل الاهانة ولا يصلح لان يكون معينا فيفسد ما يصلح ، أو بفتحها بمعنى الحقير فانه أيضا لا يصلح لضعف قدرته. وفى النهج بعد هذا الكلام « ولا في صديق ظنين » والظنين ـ بالطاء : المتهم : ـ وبالظاد : البخيل.

(٢) الغرر ـ بالتحريك ـ المغرور به. وفى النهج « ولا تبين من أمر على عذر ».

(٣) الحرم ـ بضمتين ـ : جمع الحريم : ما يدافع عنه ويحميه.

(٤) قوله عليه‌السلام ومن يرجوك استفهام ، أو عطف على قوله : « الرحم » يعنى صلة من يرجوك الخ. والتحريم من الصلة سبب لقطع القرابة.

٢٣٠

وعند شدته على اللين ، وعند جرمه على الاعتذار ، حتى كأنك له عبد ، وكأنه ذونعمة عليك ، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه ، وأن تفعله بغير أهله.

لا تتخذن عدو صديقك فتعادي صديقك ، ولاتحمل بالخديعة فانها خلق اللئيم ، وامحض أخاك النصيحة ، حسنة كانت أو قبيحة ، وساعده على كل حال ، وزل معه حيث زال ، ولا تطلبن مجازاة أخيك ولو حثا التراب بفيك ، وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحرى للظفر (١) وتسلم من الناس بحسن الخلق ، وتجرع الغيظ ، فإني لم أرجرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة ، ولا تصرم أخاك على ارتياب ولا تقطعه دون استعتاب ، ولن لمن غالظك ، فإنه يوشك أن يلين لك. ما أقبح القطيعة بعد الصلة ، والجفاء بعد الاخاء ، والعداوة بعد المودة ، والخيانة لمن ائتمنك ، وخلف الظن لمن ارتجاك ، والغدر بمن استأمن إليك ، فإن أنت غلبتك قطيعة أخيك فاستبق لها من نفسك بقية ترجع إليها إن بدا ذلك له يوما ، ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه. ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه ، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه ، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبن فيمن زهد فيك ، ولا تزهدن فيمن رغب إليك إذا كان للخلطة موضعا ، ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ، ولا يكونن على الاساءة أقوى منك على الاحسان ، ولا على البخل أقوى منك على البذل ، ولا على التقصير أقوى منك على الفضل ، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه إنما يسعى في مضرته ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسوءه ، والرزق رزقان : رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك.

واعلم أي بني أن الدهر ذوصروف ، فلا تكونن ممن تشتد لا ئمته ، ويقل عند الناس عذره ، ما أقبح الخصوع عند الحاجة ، والجفاء عند الغنى ، إنما لك من دنياك ما أصلجت به مثواك (٢) ، فأنفق في حق ولا تكن خازنا لغيرك ، وإن كنت جازعا

____________________

(١) في النهج « فانه أحلى الظفرين » أى ظفر الانتقام وظفر التملك بالاحسان.

(٢) المثوى : المقام ، أى حظك من الدنيا ما اصلحت به منزلتك من الكرامة في الدنيا والاخرة.

٢٣١

على ما تفلت من يديك فاجزع على كل مالم يصل إليك. واستدلل على مالم يكن بما كان ، فإنما الامور أشباه ، ولا تكفرن ذانعمة ، فإن كفر النعمة من ألام الكفر.

واقبل العذر ، ولا تكونن ممن لا ينتفع من العظة إلا بما لزمه (١) فإن العاقل ينتفع بالادب ، والبهايم لا تتعظ إلا بالضرب ، اعرف الحق لمن عرفه لك رفيعا كان أو وضيعا ، واطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين.

من ترك القصد جار ، ونعم حظ المرء القناعة ، ومن شر ما صحب المرء الحسد. وفي القنوط التفريط. والشح يجلب الملامة. والصاحب مناسب ، والصديق من صدق غيبه ، والهوى شريك العمى. ومن التوفيق الوقوف عند الحيرة ، ونعم طاردالهم اليقين. وعاقبة الكذب الذم ، وفي الصدق السلامة ، وعاقبة الكذب شر عاقبة ، رب بعيد أقرب من قريب وقريب أبعد من بعيد ، والغريب من لم يكن له حبيب لا يعدمك من حبيب سوء ظن ، ومن حمى طنى (٢) ومن تعدى الحق ضاق مذهبه ومن اقتصر على قدره كان أبقى له ، نعم الخلق التكرم ، وألام اللؤم البغي عند القدرة ، والحياء سبب إلى كل جميل ، وأوثق العرى التقوى ، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله. ومنك من أعتبك (٣) ، والافراط في الملامة تشب نيران اللجاج ، وكم من دنف قدنجا (٤) وصحيح قد هوى. فقد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا ، وليس كل عورة [ تظهر ، ولاكل فريضة ] تصاب. وربما أخطأ البصير قصده ، وأصاب الاعمى رشده ، ليس كل من طلب وجد ، ولا كل من توقى

____________________

(١) وفى النهج « ممن لا تنفعه العظة الا اذا بالغت في أيلامه ».

(٢) حمى الشئ يحميه حميا وحمى وحماية : منعه ودفعه عنه وحمى القوم حماية : قام بنصر هم والمريض : ما يضره. وطنى اللديغ من لدغ العقرب : عوفى. وطنى فلانا : عالجه من طناه والمعنى من منع نفسه عما يضره نال العافية.

(٣) ولعل المعنى : من عليك من استرضاك ويؤيده ما في بعض نسخ الحديث : « سرك من أعتبك ».

(٤) الدنف ـ محركة ـ المريض الذى طال به المرض.

٢٣٢

نجا (١) أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته (٢) وأحسن إن أحببت أن يحسن إليك واحتمل أخاك على مافيه ، ولا تكثر العتاب فإنه يورث الضغينة ، ويجر إلى البغضة (٣) واستعتب من رجوت إعتابه ، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل ، ومن الكرم منع الحزم (٤). من كابر الزمان عطب ومن ينقم عليه غضب (٥). ما أقرب النقمة من أهل البغي. وأخلق بمن غدر ألا يوفى له (٦).

زلة المتوقي أشد زلة. وعلة الكذب أقبح علة. والفساد يبير الكثير. والاقتصاد يثمر اليسير (٧) والقلة ذلة ، وبر الوالدين من كرم الطبيعة ، والزلل مع العجل ، ولا خير في لذة تعقب ندما. والعاقل من وعظته التجارب ، والهدى يجلو العمى. ولسانك ترجمان عقلك ، ليس مع الاختلاف أئتلاف ، من حسن الجوار تفقد الجار ، لن يهلك من اقتصد ، ولن يفتقر من زهد. بين عن امرء دخيله ، رب باحث عن حتفه (٨) لا تشترين بثقة رجاء ، ما كل ما يخشى يضر ، رب هزل عاد جدا (٩) من أمن الزمان خانه ، ومن تعظم عليه أهانه (١٠) ومن ترغم عليه أرغمه ، ومن لجأ

____________________

(١) توقى اى تجنب وحذر وخاف

(٢) قيل : لان فرص الشر لا تنقضى لكثرة طرقه وطريق الخير واحد وهوالحق.

(٣) البغضة ـ بالكسر ـ : شدة البغض.

(٤) الحزم : ضبط الامر واحكامه والحذر من فواته والاخذ فيه بالثقة وهنا بمعنى الشدة والغلظة.

(٥) عطب الرجل ـ كفرح ـ يعطب عطبا : هلك وفى بعض النسخ « من تنقم عليه غضب ».

(٦) الاخلق : الاجدر. يقال : هو خليق به أى جدير.

(٧) في بعض نسخ الكتاب « يدبر الكثير ». وفى بعض نسخ الحديث « يبيد الكثير والاقتصاد ينمى اليسير ».

(٨) بحث في الارض : حفرها. والحتف : الموت. وفى المثل « كالباحث عن حتفه بظلفه » يضرب لمن يطلب ما يؤدى إلى تلف النفس. وفى بعض نسخ الحديث « لا تشوبن ».

(٩) هزل في كلامه هزلا ـ كضرب ـ : مزح وهو ضد الجد.

(١٠) تنبيه على وجوب الحذر من الزمان ودوام ملاحظة تغيراته والاستعداد لحوادثه قبل نزولها واستعار لفظ الخيانة باعتبار تغيره عند الغفلة عنه والامن فيه فهو في ذلك كالصديق الخائن.

٢٣٣

إليه أسلمه. وليس كل من رمى أصاب (١) إذا تغير السلطان تغير الزمان (٢) وخير أهلك من كفاك ، والمزاح يورث الضغائن ، وربما أكدى الحريص (٣) رأس الدين صحة اليقين ، وتمام الاخلاص تجنبك المعاصي ، وخير المقال ما صدقه الفعال ، والسلامة مع الاستقامة ، والدعاء مفتاح الرحمة ، سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار ، وكن من الدنيا على قلعة. احمل لمن أدل عليك ، واقبل عذر من اعتذر إليك ، وخذ العفو من الناس ، ولا تبلغ إلى أحد مكروهه ، أطع أخاك وإن عصاك وصله وإن جفاك. وعود نفسك السماح ، وتخير لها من كل خلق أحسنه. فان الخير عادة ، وإياك أن تذكر من الكلام قذرا (٤) أو تكون مضحكا وإن حكيت ذلك عن غيرك (٥).

وأنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك (٦) وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن (٧) وعزمهن إلى وهن ، واكفف عليهن من أبصارهن بحجبك إياهن فان شدة الحجاب خير لك ولهن.

وليس خروجهن بأشد من إذا خالك من لا يوثق به عليهن ، وإن استطعت أن

____________________

(١) تنبيه على ما ينبغى من ترك الاسف على ما يفوت من المطالب والتسلى بمن أخطأ في طلبه واليه أشار أبوالطيب :

ما كل من طلب المعالى نافذا * فيها ولا كل الرجال فحول (٢) تنبيه على أن تغير السلطان في رأيه ونيته وفعله في رعيته من العدل إلى الجور يسلتزم تغير الزمان عليهم اذ يغير من الاعداد للعدل إلى الاعداد للجور.

(٣) يقال : أكدى الرجل أى لم يظفر بحاجته.

(٤) القذر : الوسخ ، وفى بعض نسخ الحديث « هذرا » مكان « قذرا » وهذر في كلامه : خلط وتكلم بما لا ينبغى.

(٥) ذلك لا ستلزامه الهوان وقلة الهيبة في النفوس.

(٦) أى عامل الناس بالانصاف قبل أن يطلبوا منك النصف.

(٧) الافن ـ بالتحريك ـ : ضعف الرأى. والوهن : الضعف.

٢٣٤

لا يعرفن غيرك فافعل ، ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فان ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها ، وأدوم لجمالها ، فان المرأة ريحانة ، وليست بقهرمانه ، ولا تعد بكرامتها نفسها ، ولا تطعمها أن تشفع لغيرها فتميل مغضبة عليك معها ، ولا تطل الخلوة مع النساء فيملكنك (١) أو تملهن واستبق من نفسك بقية من إمساكك عنهن وهن يرين أنك ذو إقتدار خير من أن يظهرن منك على انتشار ، وإياك والتغاير في غير موضع غيرة فان ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم ، ولكن أحكم أمرهن فإن رأيت ذنبا فعاجل النكير على الكبير والصغير. وإياك أن تعاقب فتعظم الذنب و تهون العتب. وأحسن للمماليك الادب. وأقلل الغضب ولا تكثر العتب في غير ذنب ، فإذا استحق أحد منهم ذنبا فأحسن العدل فإن العدل مع العفو أشد من الضرب لمن كان له عقل. والتمسك بمن لا عقل له أوجب القصاص (٢).

واجعل لكل امرء منهم عملا تأخذه به ، فإنه أحرى أن لا يتواكلوا ، و أكرم عشيرتك ، فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير ، وبهم تصول وهم العدة عند الشدة (٣) فأكرم كريمهم وعد سقيمهم ، وأشركهم في أمورهم وتيسر عند معسور [ ل ] هم. واستعن بالله على أمورك ، فانه أكفى معين.

أستودع الله دينك ودنياك وأسأله خير القضاء لك في الدنيا والآخرة والسلام عليك ورحمة الله.

جش (٤) الاصبغ بن نباتة المجاشعي كان من خاصة أمير المؤمنين عليه‌السلام وعمر بعده ، وروى عنه عهد الاشتر ووصيته إلى محمد ابنه أخبر نا عبدالسلام بن الحسين الاديب عن أبي بكر الدوري ، عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج ، عن جعفر بن محمد الحسني عن علي بن عبدل ، عن الحسن بن ظريف ، عن الحسين بن علوان ، عن سعد بن طريف عن الاصبغ بن نباته بالوصية.

____________________

(١) في بعض النسخ « فيملنك ». (٢) في الكشف « وخف القصاص ».

(٣) العدة ـ بالضم ـ الاستعداد وبالكسر : الجماعة.

(٤) رجال النجاشى ص ٧.

٢٣٥

بيان : قوله عليه‌السلام (١)

٣ ـ د (٢) من وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام لولده الحسن عليه‌السلام : كيف وأنى بك يا بني إذا صرت في قوم صبيهم غاو ، وشابهم فاتك ، وشيخهم لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ، وعالمهم خب مواه (٣) مستحوذ عليه هواه ، متمسك بعاجل دنياه أشدهم عليك إقبالا يرصدك بالغوايل ، ويطلب الحيلة بالتمني ، ويطلب الدنيا بالاجتهاد ، خوفهم أجل ، ورجاؤهم عاجل ، لا يهابون إلا من يخافون لسانه و [ لا يكرمون إلامن ] يرجون نواله ، دينهم الربا ، كل حق عندهم مهجور ، يحبون من غشهم ويملون من داهنهم ، قلوبهم خاوية ، لا يسمعون دعاء ، ولا يجيبون سائلا ، قد استولت عليهم سكرة الغفلة ، إن تركتهم لم يتركوك ، وإن تابعتهم اغتالوك ، إخوان الظاهرو أعداء السرائر ، يتصاحبون على غير تقوى ، فاذا افترقوا ذم بعضهم بعضا ، تموت فيهم السنن ، وتحيى فيهم البدع ، فأحمق الناس من أسف على فقدهم ، أوسر بكثرتهم ، فكن عند ذلك يا بني كابن اللبون لا ظهر فير كب ، ولا ويرفيسلب ، ولا ضرع فيحلب ، فما طلا بك لقوم إن كنت عالما عابوك ، وإن كنت جاهلا لم يرشدوك ، وإن طلبت العلم قالوا : متكلف متعمق ، وإن تركت طلب العلم قالوا : عاجز غبي (٤) وإن تحققت لعبادة ربك قالوا : متصنع مراء ، وإن لزمت الصمت قالوا : ألكن ، وإن نطقت قالوا : مهذار ، وإن أنفقت قالوا : مسرف ، وإن اقتصدت قالوا : بخيل ، وإن احتجت إلى ما في أيديهم صارموك (٥) وذموك ، وإن لم تعتد بهم كفروك ، فهذه صفة أهل زمانك

____________________

(١) كان هنا بياض مقدار نصف الصفحة.

(٢) العدد القوية لدفع المخاوف اليومية تأليف الشيخ الفقيه رضى الدين على بن يوسف ابن المطهر الحلى. مخلوط.

(٣) الخب ـ بتشديد الباء الموحدة ـ : الخداع. وموه الخبر : زوره عليه وزخرفه ولبسه او بلغه خلاف ما هو.

(٤) الغبى ضد الذكى.

(٥) أى قاطعوك. والصرم القطع.

٢٣٦

فاصغاك (١) من فرغ عن جورهم ، وأمن من الطمع فيهم ، فهو مقبل على شأنه ، مدار لاهل زمانه.

ومن صفة العالم أن لا يعظ إلا من يقبل عظته ، ولا ينصح معجبا برأيه ، ولا يخبر بما يخاف إذا عته.

ولا تودع سرك إلا عند كل ثقة ، ولا تلفظ إلا بما يتعارفون به الناس ، ولا تخالطهم إلا بما يفعلون ، فاحذر كل الحذر وكن فردا وحيدا.

واعلم أن من نظر في عيب نفسه شغل عن عيب غيره ، ومن كابد الامور عطب ومن اقتحم اللجج غرق ، ومن أعجب برأيه ضل ، ومن استغنى بعقله زل ، ومن تكبر على الناس ذل. ومن مزح استخف به ، ومن كثر من شئ عرف به ، ومن كثر كلامه كثر خطاؤه ، ومن كثر خطاؤه قل حياءه ، ومن قل حياؤه ، قل ورعه ، ومن قل ورعه قل دينه ، ومن قل دينه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار.

قيل : وقف رجل على الحسن بن علي عليهما‌السلام فقال : يا ابن أمير المؤمنين بالذي أنعم عليك بهذه النعمة التي مانلتها منه بشفيع منك إليه ، بل إنعاما منه عليك إلا ما أنصفتني من خصمي فانه غشوم ظلوم ، لا يوقر الشيخ الكبير ولا يرحم الطفل الصغير.

وكان متكئا فاستوى جالسا وقال له : من خصمك حتى أنتصف لك منه؟ فقال له : الفقر ، فأطرق عليه‌السلام ساعة ثم رفع رأسه إلى خادمه وقال : احضر ما عندك من موجود ، فأحضر خمسة آلاف درهم فقال : ادفعها إليه ، ثم قال : له بحق هذه الاقسام التي أقسمت بها علي متى أتاك خصمك جائرا إلا ما أتيتني منه متظلما.

بيان : (٢).

____________________

(١) كذا.

(٢) كان هنا بياض مقدار صفحة.

٢٣٧

٩

* ( باب ) *

* ( وصية أمير المؤمنين صلوات الله عليه ) *

« ( للحسين صلى الله عليه ) »

١ ـ ف (١) يا بني أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحق في الرضى و الغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وبالعدل على الصديق والعدو ، وبالعمل في النشاط والكسل ، والرضى عن الله في الشدة والرخاء.

أي بني ما شر بعده الجنة بشر ، ولا خير بعده النار بخير ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية.

واعلم أي بني أنه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره ، ومن تعرى من لباس التقوى لم يستتر بشئ من اللباس ، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على مافاته ومن سل سيف البغي قتل به ، ومن حفر بئرا لاخيه وقع فيها ، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته (٢) ومن نسي خطيئة استعظم خطيئة غيره ، ومن كابد الامور عطب (٣) ومن اقتحم الغمرات غرق ، ومن أعجب برأيه ضل ، ومن استغنى بعقله زل ، ومن تكبر على الناس ذل ، ومن خالط العلماء وقر ، ومن خالط الانذال حقر (٤) ومن سفه على الناس شتم (٥) ومن دخل مداخل السوء اتهم ، ومن مزح

____________________

(١) تحف العقول ص ٨٨.

(٢) في بعض النسخ « عوراته ».

(٣) كابدها : أى قاساها وتحمل المشاق في فعلها بلا اعداد اسبابها. وعطب أى هلك والغمرات الشدائد. وفى النهج « ومن اقتحم اللجج عرق ».

(٤) الانذال ـ جمع النذل : الخسيس من الناس ، المحتقر في جميع أحواله والمراد بهم ذوى الاخلاق الدنية.

(٥) يعنى ومن عابهم شتم وسب بهم.

٢٣٨

استخف به ، ومن أكثر من شئ عرف به ومن كثر كلامه كثر خطاؤه ، ومن كثر خطاؤه (١) قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار.

أي بني من نظر في عيوب الناس ورضي لنفسه بها فذاك الاحمق بعينه ، ومن تفكر اعتبر ، ومن اعتبر اعتزل ، ومن اعتزل سلم ، ومن ترك الشهوات كان حرا ، ومن ترك الحسد كانت له المحبة عند الناس.

أي بني عز المؤمن غناه عن الناس ، والقناعة مال لا ينفد ، ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه.

أي بتي العجب ممن يخاف العقاب فلم يكف ، ورجا الثواب فلم يتب و يعمل.

أي بني الفكرة تورث نورا والغفلة ظلمة ، والجدال [ ة ] ضلالة ، والسعيد من وعظ بغيره ، والادب خير ميراث ، وحسن الخلق خير قرين ، ليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى.

أي بني العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله ، وواحد في ترك مجالسة السفهاء.

أي بني من تزيا (٢) بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلا ، ومن طلب العلم علم.

يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق (٣) ومن كنوز الايمان الصبر على المصائب. والعفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ، كثرة الزيارة تورث الملالة

____________________

(١) وفى بعض نسخ الحديث [ خطؤه ] في الموضعين والمعنى واحد.

(٢) تزيا : أى صار ذازى.

(٣) الخرق : الشدة ، ضد الرفق.

٢٣٩

والطمأنينة قبل الخبرة ضد الجزم (١) وإعجاب المرء بنفسه يدل على ضعف عقله.

أي بني كم نظرة جلبت حسرة ، وكم من كلمة سلبت نعمة.

أي بني لا شرف أعلى من الاسلام ، ولا كرم أعز من التقوى ، ولا معقل أحرز من الورع (٢) ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقوت ، ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجل الراحة وتبوء خفض الدعة (٣).

أي بني الحرص مفتاح التعب ومطية النصب (٤) وداع إلى التقحم في الذنوب ، والشره جامع لمساوي العيوب (٥) وكفاك تأديبا لنفسك ما كرهته من غيرك.

لاخيك عليك مثل الذي لك عليه ، ومن تورط في الامور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب ، التدبير قبل العمل يؤمنك الندم ، من استقبل وجوه الاراء عرف مواقع الخطاء ، الصبر جنة من الفاقة ، البخل جلباب المسكنة ، الحرص علامة الفقر ، وصول معدم خير من جاف مكثر (٦) لكل شئ قوت وابن آدم

____________________

(١) الطمأنينة اسم من الاطمينان : توطين النفس وتسكينها. والخبرة : العلم بالشئ والحزم : ضبط الامر واحكامه والاخذ فيه بالثقة.

(٢) المعقل : الحصن والملجأ. والورع الحصون واحرزها عن وساوس الشيطان وعن عذاب الله. والنجاح : الظفر والفوز اى لا يظفر الانسان بشفاعة شفيع بالنجاة من سخط الله وعذابه مثل ما يظفر بالتوبة.

(٣) البلغة ـ بالضم ـ : ما يكتفى به من القوت ولا فضل فيه. والكفاف ـ بفتح الكاف ـ : ما كفى عن الناس من الرزق واغنى. والخفض : لين العيش وسعته. والدعة ـ بالتحريك ـ : الراحة والاضافة للمبالغة : أى تمكن واستقر في متسع الراحة.

(٤) النصب ـ بالتحريك ـ : أشد التعب.

(٥) الشره ـ بكسر الشين وشد الراء : الحرص والغضب والطيش والعطب وقد يطلق على الشر أيضا ، وفى بعض النسخ بدون التاء.

(٦) الوصول ـ بفتح الواو ـ : الكثير الاعطاء. والمعدم : الفقير. والجاف : فاعل من جفا يجفو جفاء المعرض والسئ الخلق. والمكثر : الذى كثر ماله ، يعنى من يصل إلى الناس بحسن الخلق والمودة مع فقره خير ممن يكثر في العطاء وهو جاف أى سيئ الخلق.

٢٤٠