بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ، فإنه من استثقل الحق أن يقال له ، أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ، فاني لست في نفسي بفوق أن اخطئ ولا آمن ذلك من فعلي (١) إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لارب غيره ، يملك منا ما لانملك من أنفسنا ، وأخرجنا مما كنا فيه (٢) إلى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى.

فأجابه الرجل الذي أجابه من قبل فقال : أنت أهل ما قلت ، والله [ والله ] فوق ما قلته ، فبلاؤه عندنا ما لا يكفر (٣) وقد حملك الله تبارك وتعالى رعايتنا ، وولاك سياسة امورنا ، فأصبحت علمنا الذي نهتدي به ، وإمامنا الذي نقتدي به ، وأمرك كله رشد ، وقولك كله أدب ، قد قرت بك في الحياة أعيننا ، وامتلات من سرور بك قلوبنا. وتحيرت من صفته ما فيك من بارع الفضل (٤) عقولنا. ولسنا نقول لك

____________________

(١) هذا من قبيل هضم النفس ، ليس بنفى العصمة مع أن الاستثناء يكفينا مؤونة ذلك وقال المؤلف رحمه‌الله : هذا من الانقطاع إلى الله والتواضع الباعث لهم على الانبساط معه بقول الحق وعد نفسه من المقصرين في مقام العبودية والاقرار بأن عصمته من نعمه تعالى عليه.

(٢) أى من الجهالة عدم العلم والمعرفة والكمالات التى يسرها الله تعالى لنا ببعثه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال ابن أبى الحديد : ليس هذا اشارة إلى خاص نفسه عليه‌السلام لانه لم يكن كافرا فاسلم ولكنه كلام يقوله ويشيربه إلى القوم الذين يخاطبهم في أفياء الناس فيأتى بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا.

(٣) أى نعمته عندنا وافرة بحيث لا نستطيع كفرها وسترها ، أولا يجوز كفرانها وترك شكرها.

(٤) برع في الشئ فاق أقرانه فيه.

٣٦١

أيها الامام الصالح تزكية لك. ولا نجاوز القصد في الثناء عليك. ولم يكن (١) في أنفسنا طعن على يقينك ، أو غش في دينك فنتخوف أن يكون أحدثت بنعمة الله تبارك وتعالى تجبرا ، أو دخلك كبر ، ولكنا نقول لك ما قلنا تقربا إلى الله عزو جل بتوقيرك ، وتوسعا بتفضيلك ، وشكرا بإعظام أمرك ، فانظر لنفسك ولنا ، و آثر أمرالله على نفسك وعلينا ، فنحن طوع فيما أمرتنا ، ننقاد من الامور مع ذلك فيما ينفعنا.

فأجابه أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : وأنا أستشهد كم عندالله على نفسي لعلمكم فيما وليت به من اموركم وعما قليل يجمعني وإياكم الموقف بين يديه ، والسؤال عما كنا فيه ، ثم يشهد بعضنا على بعض ، فلا تشهدوا اليوم بخلاف ما أنتم شاهدون غدا ، فان الله عزوجل لا يخفى عليه خافية ، ولا يجوز عنده إلا مناصحة الصدور في جميع الامور.

فأجابه الرجل ويقال لم يرالرجل بعد كلامه هذا لامير المؤمنين عليه‌السلام فأجابه وقد عال الذي (٢) في صدره فقال والبكاء تقطع منطقه ، وغصض الشجى تكسر صوته إعظاما لخطر مرزئته ، ووحشة؟ من كون فجيعة (٣).

فحمدالله وأثنى عليه ثم شكى إليه هول ما أشفى عليه (٤) من الخطر العظيم والذل الطويل في فساد زمانه ، وانقلاب جده (٥) وانقطاع ما كان من دولته ، ثم

____________________

(١) قال المؤلف رحمه‌الله : « لم يكن » على بناء المجهول من كننت الشئ : سترته. أو بفتح الياء وكسر الكاف من وكنت الطائر بيضه يكنه اذا حضنه وفى بعض نسخ المصدر « لم يكن » وفى النسخة القديمة « لن يكون ».

(٢) عال بالمهملة : اشتد وتفاقم وغلبه وثقل عليه وأهمه.

(٣) الغصة بالضم : ما اعترض في الحلق وكذا الشجا. والمرزئة : المصيبة وكذا الفجيعة والضميران راجعان إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٤) أى أشرف عليه ، والضمير في قوله : « اليه » راجع إلى الله تعالى.

(٥) الجد : البحت وقديقر الحد وهو الحدود والاحكام والعقوبة وما يعترى الانسان من الغضب.

٣٦٢

نصب المسألة إلى الله عزوجل بالامتنان عليه ، والمدافعة عنه بالتفجع وحسن الثناء.

فقال : يارباني العباد ، ويا سكن البلاد (١) أين يقع قولنا من فضلك ، وأين يبلغ وصفنا من فعلك ، وأنى نبلغ حقيقة حسن ثنائك أو نحصي جميل بلائك؟ و كيف وبك جرت نعم الله علينا ، وعلى يدك اتصلت أسباب الخير إلينا ، ألم تكن لذل الذليل ملاذا وللعصاة الكفار إخوانا (٢) فبمن إلا بأهل بيتك وبك أخرجنا الله عزوجل من فظاعة تلك الخطرات ، أو بمن فرج عنا غمرات الكربات (٣) وبمن إلا بكم أظهر الله معالم ديننا ، واستصلح ما كان فسد من دنيانا ، حتى استبان بعد الحور ذكرنا (٤) ، وقرت من رخاء العيش أعيننا ، لما وليتنا بالاحسان جهدك ووفيت لنا بجميع وعدك ، وقمت لنا على جميع عهدك ، فكنت شاهد من غاب منا وخلف أهل البيت لنا ، وكنت عز ضعفائنا ، وثمال فقرائنا (٥) ، وعماد عظمائنا يجمعنا في الامور عدلك ، ويتسع لنا في الحق تأنيك (٦) ، فكنت لنا أنسا إذا

____________________

(١) السكن بالتحريك : كل ما يسكن اليه وفى بعض المصدر « يا ساكن البلاد ».

(٢) أى كنت تعاشر من يعصيك ويكفر نعمتك معاشرة الاخوان شفقة منك عليهم أو المراد الشفقة على الكفار والعصاة والاهتمام في هدايتهم ويحتمل أن يكون المراد المنافقين الذين كانوا في عسكره وكان يلزمه رعايتهم بظاهر الشرع هذا قول المؤلف والظاهر « ألم نكن » بالنون على صيغة المتكلم مع الغير والمعنى كنا ملا ذا لذل الذليل لا للذليل واخوانا للعصاة والكفرة فبك وأهل بيتك دون غيركم أخرجنا الله من فظاعة؟.

(٣) الفظاعة : الشناعة. وفظاعة تلك الخطرات : شناعتها وشدتها والغمرات الشدائد والمزدحمات.

(٤) قال الجوهرى : نعوذ بالله من الحور بعد الكور أى من النقصان بعد الزيادة.

وفى بعض نسخ المصدر « بعد الجور » بالمعجمة.

(٥) في النهاية الثمال بالكسر : الملجأ والغياث وقيل هو المطعم في الشدة.

(٦) أى صار مدارا تك وتأنيك وعدم مبادرتك في الحكم علينا بما نستحقه سببا لوسعة

٣٦٣

رأيناك ، وسكنا إذا ذكر ناك ، فاي الخيرات لم تفعل ، وأي الصالحات لم تعمل ولو أن الامر الذي نخاف عليك منه يبلغ تحويله جهدنا (١) وتقوى لمدافعته طاقتنا ، أو يجوز الفداء عنك منه بأنفسنا وبمن نفديه بالنفوس من أبنائنا ، لقدمنا أنفسنا وأبناءنا قبلك ، ولاخطرناها (٢) وقل خطرها دونك ، ولقمنا بجهدنا في محاولة من حاولك ، وفي مدافعة من ناواك (٣) ولكنه سلطان لا يحاول ، وعز لا يزاول (٤) ورب لا يغالب ، فإن يمنن علينا بعافيتك ، ويترحم علينا ببقائك ، و يتحنن علينا بتفريج (٥) هذا من حالك إلى سلامة منك لنا ، وبقاء منك بين أظهرنا نحدث لله عزوجل بذلك شكرا نعظمه ، وذكرا نديمه (٦) ونقسم أنصاف أموالنا صدقات ، وأنصاف رقيقنا عتقاء (٧) ونحدث له تواضعا في أنفسنا ، ونخشع في جميع امورنا ، وأن يمض بك إلى الجنان ، ويجري عليك حتم سبيله ، فغير متهم فيك قضاؤه ، ولا مدفوع عنك بلاؤه ، ولا مختلفة مع ذلك قلوبنا بأن اختياره لك ما عنده على ما كنت فيه ، ولكنا نبكي من غير إثم لعز هذا السلطان أن يعود ذليلا (٨)

____________________

الحق علينا وعدم تضيق الاموربنا.

(١) في بعض نسخ المصدر « تحريكه جهدنا » أى تغييره وصرفه.

(٢) أى جعلناها في معرض المخاطرة والهلاك أوصير ناها خطرا ورهنا وعوضا لك قال الجزرى : فيه « ألاهل مشمر للجنة فان الجنة لا خطرلها » أى لا عوض لها ولا مثل. والخطر بالتحريك في الاصل : الرهن وما يخاطر عليه ومثل الشئ وعدله ولا يقال الا في الشئ الذى له قدر ومزية.

(٣) « حاولك » أى قصدك. و « ناواك » أى عاداك. وقوله : « ولكنه » أى الرب تعالى.

(٤) اى ذوعز وغلبة. وزاوله اى حاوله وطالبه.

(٥) في بعض نسخ المصدر « بتصريح ».

(٦) الضميران راجعان إلى الشكر والذكر.

(٧) الرقيق : المملوك.

(٨) في اكثر نسخ المصدر « لعز هذا السلطان » فقوله « لعز » متعلق بالبكاء و « أن يعود » بدل اشتمال له أى نبكى لتبدل عز هذا السلطان ذلا. وفى بعض نسخ المصدر « لعن الله هذا

٣٦٤

وللدين والدنيا أكيلا (١) فلا نرى لك خلفا نشكو إليه ولا نظيرا نأمله ولا نقيمه (٢).

٣٣ ـ كا : من الروضة (٣) خطبة لاميرالمؤمنين عليه‌السلام :

عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن علي جميعا عن إسماعيل بن مهران ، و أحمد بن محمد بن أحمد ، عن علي بن الحسن التيمي ، وعلي بن الحسين ، عن أحمد بن محمد بن خالد جميعا عن إسماعيل بن مهران ، عن المنذر بن جيفر ، عن الحكم بن ظهير ، عن عبدالله بن جرير (٤) العبدي ، عن الاصبغ بن نباتة قال : أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام عبدالله بن عمرو ولد أبي بكر وسعد بن أبي وقاص يطلبون منه التفضيل لهم (٥) فصعد المنبر ومال الناس إليه فقال : الحمدلله ولي الحمد ومنتهى الكرم لا تدركه الصفات ، ولا يحد باللغات ، ولا يعرف بالغايات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا رسول الله نبي الهدى ، وموضع التقوى ، ورسول الرب الاعلى ، جاء بالحق من عند الحق لينذر بالقرآن المبين ، والبرهان المستنير فصدع (٦) بالكتاب المبين (٧) ومضى على ما مضت عليه الرسل الاولون.

أما بعد أيها الناس فلا تقولن رجال قد كانت الدنيا غمرتهم فاتخذوا العقار وفجروا الانهار ، وركبوا أفره الدواب (٨) ولبسوا ألين الثياب ، فصار ذلك عليهم

____________________

السلطان « أى هذه السلطنة التى لا تكون صاحبها.

(١) الاكيل يكون بمعنى المأكول وبمعنى الاكل والمراد هنا الثانى.

(٢) كأن الرجل كان هو الخضر عليه‌السلام (الوافى).

(٣) المصدر ص ٣٦٠ تحت رقم ٥٥١.

(٤) في بعض نسخ المصدر » حريز « وفى جامع الرواة ص ١٠٧ ج ١ » حريث ».

(٥) يعنى في قسمة الاموال والعطاء بين المسلمين.

(٦) في بعض نسخ المصدر » بالقرآن المبين والبرهان المستبين.

(٧) أى تكلم به جهارا أو شق جماعاتهم بالتوحيد وفصل بين الحق والباطل.

(٨) الدابة الفارهة : النشيطة القوية.

٣٦٥

عارا وشنارا (١) إن لم يغفر لهم الغفار إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون ، وصيرتهم إلى ما يستوجبون ، فيفقدون ذلك فيسألون ويقولون ظلمنا ابن أبي طالب وحرمنا ومنعنا حقوقنا ، فالله عليهم المستعان ، من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبينا [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] وشهد شهدتنا ، ودخل في ديننا أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الاسلام.

لبس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى ، ألا وإن للمتقين عند الله تعالى أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب ، لم يجعل الله تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثوابا وما عندالله خير للابرار. انظروا أهل دين الله فيما أصبتم في كتاب الله (٢) وتركتم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجاهدتم به في ذات الله أبحسب أم بنسب أم بعمل أم بطاعة أم زهادة (٣) وفيما أصبحتم فيه راغبين فسارعوا إلى منازلكم رحمكم الله التي امرتم بعمارتها ، العامرة التي لا تخرب ، الباقية التي لا تنفد ، التي دعاكم إليها و حضكم عليها (٤) ورغبكم فيها ، وجعل الثواب عنده عنها فاستتموا نعم الله عز ذكره بالتسليم لقضائه ، والشكر على نعمائه فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا وإن الحاكم يحكم بحكم الله ، ولا خشية عليه من ذلك ، اولئك هم المفلحون وفي نسخة ولا وحشة واولئك لاخوف عليهم ولا هم يحزنون.

وقال : وقد عاتبتكم بدرتي التي اعاتب بها أهلي فلم تبالوا ، وضربتكم بسوطي الذي اقيم به حدود ربي فلم ترعووا (٥) أتريدون أن أضربكم بسيفي ، أما إني أعلم الذي

____________________

(١) الشنار : العيب والعار.

(٢) أى من مواعيده الصادقة على الاعمال الصالحة واراد بتركهم عند رسول الله «ص» ضمانه لهم بذلك كأنه وديعة لهم عنده.

(٣) استفهام انكار يعنى ليس ذلك بحسب ولا نسب بل بعمل وطاعة وزهادة. وقوله : « فيما اصبحتم فيه راغبين » أى انظروا أيضا فيما اصبحتم فيه راغبين هل هو الذى اصبتم في كتاب الله تعالى يعنى ليس هو بذاك وانما هو الدنيا وزهرتها.

(٤) الحض : الحث والترغيب.

(٥) الارعواء : الكف والانزجار ، وقيل : هوالندم والانصراف عن الشئ.

٣٦٦

تريدون ، ويقيم أودكم (١) ولكن لا أشتري صلاحكم بفساد نفسي (٢) بل يسلط الله عليكم قوما فينتقم لي منكم ، فلادنيا استمتعتم بها ، ولا آخرة صرتم إليها ، فبعداو سحقا لاصحاب السعير.

٣٤ ـ كا : (٣) من الروضة خطبة لامير المؤمنين عليه‌السلام عن أحمد بن محمد ، عن سعيد بن المنذر (٤) بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام ورواها غيره بغير هذا الاسناد وذكر أنه خطب بذي قار (٥) فحمد الله وأثنى عليه :

ثم قال : أما بعد فإن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ، ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولا ية عباده إلى ولايته ، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، عودا وبدءا وعذرا ونذرا ، بحكم قد فصله (٦) وتفصيل قدأحكمه ، وفرقان قد فرقه (٧) وقرآن قد بينه ليعلم العبادر بهم إذ جهلوه ، وليقر وابه إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد إذأ نكروه ، فتجلى

____________________

(١) الاود بالتحريك : الاعوجاج.

(٢) أى لا أطلب صلاحكم بالظلم وبمالم يأمرنى به ربى فاكون قد اصلحتكم بافساد نفسى.

(٣) المصدر ص ٣٨٦ تحت رقم ٥٨٦.

(٤) في بعض نسخ المصدر « سعد بن المنذر ».

(٥) موضع بين الكوفة وواسط. « القاموس ».

(٦) « عودا وبدءا » يعنى إلى الدعوة بعد ما بدأ فيها والمراد تكرير الدعوة. « عذرا ونذرا » كل منهم مفعول له لقوله : « بعث » أى عذرا للمحقين ونذر للمبطلين ، أوحال أى عاذرا ومنذرا. قوله : « بحكم » المراد به الجنس أى بعثه مع أحكام مفصلة مبينة.

(٧) الفرقان هوالقرآن وكل ما فرق بين الحق والباطل. والمراد بتفريقه انزاله متفرقا أوتعلقه بالاحكام المتفرقة.

٣٦٧

لهم سبحانه في كتابه (١) من غير أن يكونوا رأوه ، فأراهم حلمه كيف حلم (٢) وأراهم عفوه كيف عفا ، وأراهم قدرته كيف قدر ، وخوفهم من سطوته ، وكيف خلق ما خلق من الايات ، وكيف محق من محق من العصاة بالمثلات ، واحتصد من احتصد بالنقمات (٣) وكيف رزق وهدى وأعطى ، وأراهم حكمه كيف حكم (٤) وصبر حتى يسمع ما يسمع ويرى. فبعث الله عزوجل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

ثم إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شئ أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله تعالى و رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور (٥) من الكتاب إذا تلى حق تلاوته ، ولا سلعة أنفق بيعا (٦) ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه ، وليس في العباد ولا في البلاد شئ ، هو أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، وليس فيها فاحشة أنكر ولا عقوبة أنكى من الهدى (٧) عند الضلال في ذلك الزمان ، فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته (٨) حتى تمالت بهم الاهواء ، وتوارثوا ذلك من الآباء ، وعملوا بتحريف الكتاب كذبا وتكذيبا فباعوه بالبخس (٩) وكانوا فيه من الزاهدين.

فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان طريدان منفيان ، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد ، لا يؤويهما مؤو ، فحبذا ذانك الصاحبان ، واها لهما ولما يعملان

____________________

(١) أى ظهر من غير أن يرى بالبصر بل نبههم عليه في القرآن من قصص الاولين وما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل. (٢) في نسخة « حكمه كيف حكم » (٣) المثلات بفتح الميم وضم الثاء جمع المثلة وهى العقوبة. والاحتصاد : المبالغة في القتل والاستيصال مأخوذ من حصد الزرع. (٤) في نسخة « حلمه كيف حلم ». وهو الصواب.

(٥) السلعة بالكسر : المتاع. والبوار ، الكساد.

(٦) النفاق : الرواج.

(٧) النكاية : الجرج والقرح. (٨) تناساه : أرى من نفسه أنه نسيه.

(٩) البخس : بالموحدة ثم المعجمة ثم المهملة : الناقص.

٣٦٨

له (١) فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ، ومعهم و ليسوا معهم ، وذلك لان الضلالة لا توافق الهدى ، وإن اجتمعا وقد اجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا على الجماعة ، وقد ولو أمرهم أمر دينهم من يعمل فيهم بالمكر والمنكر. والرشاء والقتل ، كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، لم يبق عندهم من الحق إلا اسمه ، ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه وزبره (٢) يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالسا حتى يخرج من الدين ينتقل من دين ملك إلى دين ملك ، ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك ، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك ، ومن عهود ملك إلى عهود ملك ، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون وإن كيدة متين بالامل والرجاء (٣) حتى توالدوا في المعصية ، ودانوا بالجور.

والكتاب لم يضرب عن شئ منه صفحا ، ضلا لا تائهين ، قد دانوا بغير دين الله عز ذكره وأدانوا لغير الله (٤).

مساجد هم في ذلك الزمان عامرة من الضلالة ، خربة من الهدى وفقراؤها وعمارها أخائب خلق الله وخليقته ، ومن عند هم جرت الضلالة وإليهم تعود ، وحضور مساجد هم والمشئ إليها كفر بالله العظيم إلا من مشى إليها وهو عارف بضلالتهم ، فصارت مساجدهم من فعالهم على ذلك النحو خر به من الهدى ، عامرة من الضلالة ، قد بدلت

____________________

(١) « واها » كلمة تلهف وتوجع. قوله : « لما يعملان » في بعض نسخ المصدر « لم يعمدان له » بالدال أى العلة الغائية من خلقها.

(٢) بكسر الزاى وسكون الباء أى كتابته. وقوله : « يدخل الداخل » أى في الدين وخروجه لما يرى من عدم عمل أهله به وبدعهم وجورهم.

(٣) متعلق بقوله « استدرجهم » واستدراج الله تعالى عباده أنه كلما جدد العبد خطيئة جددله نعمة وأنساه الاستغفار وأن يأخذه قليلا قليلا ويباغته.

(٤) « دانوا » أى أمروا بطاعة غيره تعالى. و « أدانوا » لم يرد هذا البناء فيما عند نا من كتب اللغة و في النسخة القديمة « وكانوا لغير الله » (منه).

٣٦٩

سنة الله وتعديت حدوده ، ولا يدعون إلى الهدى ، ولا يقسمون الفئ ، ولا يوفون بذمة. يدعون القتيل منهم على ذلك شهيدا ، قد أتوا الله بالافتراء والجحود ، و استغنوا بالجهل عن العلم ، ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة (١) وسموا صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة ، وقد بعث الله عزوجل إليكم رسولا من أنفسكم عزيزا عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم (٢) » وأنزل عليه كتابا عزيزا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قرآنا عربيا غير ذي عوج لينذر من كان حيا (٣) ويحق القول على الكافرين فلا يلهينكم الامل ، ولا يطولن عليكم الاجل ، فإنما أهلك من كان قبلكم أمد أملهم ، وتغطية الاجال عنهم حتى نزل بهم الموعود (٤) الذي ترد عنه المعذرة ، و ترفع عنه التوبة ، وتحل معه القارعة والنقمة (٥).

وقد أبلغ الله عزوجل إليكم بالوعد ، وفصل لكم القول ، وعلمكم السنة وشرع لكم المناهج ليزيح العلة (٦) وحث على الذكر ، ودل على النجاة وإنه من انتصح لله واتخذ قوله دليلا هداه للتي هي أقوم (٧) ووفقه للرشاد ، وسدده

____________________

(١) المثلة بالضم : النكال ، قال الفيض ـ رحمه‌الله ـ : ومن روى مثلوا بالتشديد أراد جدعوهم بقظع الاذن والانوف.

(٢) « من أنفسكم » أى من جنسكم عربى مثلكم. وقرء من انفسكم ـ بفتح الفاء ـ أى من أشرفكم « عزيز عليه » أى شديد شاق. « ما عنتم » عنتكم ولقاؤكم المكروه. « حريص عليكم » أى على ايمانكم وصلاح شأنكم.

(٣) أى عاقلا فهما فان الغافل كالميت.

(٤) المراد بالموعود الموت.

(٥) القارعة : الشديدة من شدائد الدهر.

(٦) زاح الشئ يزبح زيحا أى بعد وذهب وأزاحه غيره. « الصحاح » (٧) الانتصاح : قبول النصيحة يعنى من اطاع او امر الله تعالى وعلم انه انما يهديه إلى مصالحه ويرد عن مفاسده يهديه للحالة التى اتباعها اقوم وهى من الالفاظ القرآنية « ان هذا القرآن يهدى للتى هى اقوم » وتلك الحالة هى المعرفة بالله وتوحيده كما في الوافى.

٣٧٠

ويسره للحسنى ، فان جارالله آمن محفوظ ، وعدوه خائف مغرور ، فاحترسوا من الله عز ذكره بكثرة الذكر ، واخشوا منه بالتقى ، وتقربوا إليه بالطاعة فإنه قريب مجيب.

قال الله عزوجل : « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون » (١) فاستجيبوا لله وآمنوا به وعظموا الله الذي لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم (٢) فان رفعة الذين يعلمون ما عظمة الله أن يتواضعوا له ، وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له وسلامة الذين يعلمون ما قدرة أن يستسلموا له ، فلا ينكرون أنفسهم بعد حد المعرفة ، ولا يضلون بعد الهدى ، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الاجرب (٣) والباري من ذي السقم.

واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه ، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه ، ولن تعرفو الضلالة حتى تعرفوا الهدى ، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى ، فاذا عرفتم ذلك عرفتم البدع ، والتكلف ، ورأيتم الفرية على الله وعلى رسوله والتحريف لكتابه ورأيتم كيف هدى الله من هدى ، فلا يجهلنكم (٤) الذين لا يعلمون علم القرآن إن علم القرآن ليس بعلم ، وما هو إلا من ذاق طعمه ، فعلم بالعلم جهله ، وبصر به عماه (٥) ، وسمع به صممه ، وأدرك به علم ما فات ، وحيى به بعد إذ مات ، وأثبت عند الله عز ذكره الحسنات ، ومحابه السيئات ، وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى.

____________________

(١) البقره : ١٨٦.

(٢) اى يطلب لنفسه العظمة.

(٣) اى الذى به الجرب وهوداء معروف.

(٤) من التجهيل اى لا يتسبو كم إلى الجهل.

(٥) « فعلم بالعلم جهله » اى ما جهل مما يحتاج اليه في جميع الامور اوكونه جاهلا

٣٧١

فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة (١) فإنهم خاصة نور يستضاء به ، وأئمة يقتدى بهم. وهم عيش العلم وموت الجهل. هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، و صمتهم عن منطقهم (٢) وظاهر هم عن باطنهم لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق (٣) فهم من شأنهم شهداء بالحق ومخبر صادق (٤) لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، قد خلت لهم من الله سابقة ، ومضى فيهم من الله عزوجل حكم صادق ، وفي ذلك ذكرى للذاكرين.

فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية ، ولا تعقلوه عقل رواية ، فان رواة الكتاب كثير ورعاته قليل ، والله المستعان.

____________________

قبل ذلك او كمل علمه حتى اقربأنه جاهل فان غايه كل كمال في المخلوق الاقرار بالعجز عن استكماله والاعتراف بثبوته كما ينبغى للرب تعالى او يقال : ان الجاهل لتساوى نسبة الاشياء اليه لجهله بجميعها يدعى علم كل شئ واما العالم فهو يميز بين ما يعلمه وما لايعلمه فبالعلم عرف جهله ولا يخفى جريان الاحتمالات في الفقر تين التاليتين وان الاول أظهر في الجميع بأن يكون المراد بقوله : « وبصر به عماه » أى أبصر به ما عمى عنه أو تبدلت عماه بصيرة. « وسمع به » يمكن أن يقرء بالتخفيف أى سمع ما كان صم عنه أو بالتشديد أى بدل بالعلم صممه يكونه سميعا (قاله المؤلف في المرآة).

(١) كنى عليه‌السلام بقوله : « من عند أهله » عن نفسه ومن يحذو حذوه من أولاده واهله عليهم‌السلام.

(٢) ذلك لان صمت العارف ابلغ من نطق غيره.

(٣) انما لا يخالفون الدين لانهم قوامه وأربابه وانما لا يختلفون فيه لان الحق في التوحيد واحد فالدين او القرآن بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق. و « صامت ناطق » لانه لا ينطق بنفسه بل لابد له من مترجم فهو صامت في الصورة وفى المعنى انطق الناطقين. لان الا وامر والنواهى والاداب كلها مبنية عليه ومتفرعة عنه فهو شأن من شأنهم (الوافى).

(٤) مخبر صادق في حقهم حال كونهم شهداء بالحق غير مخالفين له ولا مختلفين فيه.

٣٧٢

٣٥ ـ ما : (١) عن الحسين بن عبيدالله ، عن علي بن محمد بن محمد العلوي ، عن محمد بن موسى الرقي ، عن علي بن محمد بن أبي القاسم ، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسني ، عن أبيه ، عن أبان مولى زيد بن علي ، عن عاصم ابن بهدلة ، عن شريح القاضي قال : أمير المؤمنين عليه‌السلام لاصحابه يوما وهو يعظم : ترصدوا مواعيد الاجال ، وباشروها بمحاسن الاعمال ، ولا تركنوا إلى ذخائر (٢) الاموال فتخليكم خدائع الامال إن الدنيا خداعة صراعة مكارة غرارة سحارة أنهارها لامعة وثمراتها يانعة (٣) ظاهرها سرور وباطنها غرور ، تأكلكم بأضراس المنايا ، وتبيركم (٤) باتلاف الرزايا ، لهم بها أولاد الموت وآثروا زينتها وفطلبوا رتبتها.

جهل الرجل ومن ذلك الرجل المولع بلذتها ، والساكن إلى فرحتها والامن لغدرتها ، دارت عليكم بصروفها ، ورمتكم بسهام حتوفها (٥) فهي تنزع أرواحكم نزعا وأنتم تجمعون لها جمعا للموت تولدون ، وإلى القبور تنقلون ، وعلى التراب تتوسدون (٦) وإلى الدود تسلمون وإلى الحساب تبعثون ، يا ذوي الحبل والاراء والفقه والابناء ، اذكروا مصارع الاباء فكأنكم بالنفوس قد سلبت ، و بالابدان قد عريت ، وبالمواريث قد قسمت ، فتصير يا ذا الدلال والهيبة (٧) والجمال إلى منزلة شعثاء ، ومحلة غبراء ، فتنوم على خدك في لحدك في منزل قل زواره ومل عماله ، حتى تشق عن القبور ، وتبعث إلى النشور.

____________________

(١) الامالى ج ٢ ص ٢٦٦.

(٢) الركون : الميل والاعتماد.

(٣) ينع الثمرة : أدرك وطاب وحان قطافه فهو يانع.

(٤) المنايا جمع منية وهى الموت. وأباره أى أهلكه.

(٥) الحتف : الموت جمعه حتوف.

(٦) في بعض النسخ « على التراب ينومون ».

(٧) الدلال ـ بالفتح ـ : الوقار والتغنج.

٣٧٣

فان ختم لك بالسعادة صرت إلى الحبور (١) وأنت ملك مطاع وآمن لا تراع يطوف عليكم ولدان كأنهم الجمان (٢) بكأس من معين ، بيضاء لذة للشاربين أهل الجنة فيها يتنعمون ، وأهل النار فيها يعذبون ، هؤلاء في السندس والحرير يتبخترون ، وهؤلاء في الجحيم والسعير يتقلبون ، هؤلاء تحشا جماجمهم بمسك الجنان وهؤلاء يضربون بمقامع النيران ، هؤلاء يعانقون الحور في الحجال ، وهؤلاء يطوقون أطواقا في النار بالاغلال في قلبه فزع قد أعيى الاطباء ، وبه داء لا يقبل الدواء.

يا من يسلم إلى الدود ويهدى إليه اعتبر بما تسمع وترى وقل لعينيك تجفو لذة الكرى وتفيض من الدموع بعد الدموع تترى (٣) ، بيتك القبر بيت الاهوال والبلى ، وغايتك الموت. يا قليل الحياء ، اسمع يا ذا الغفلة والتصريف من ذي الوعظ والتعريف ، جعل يوم الحشر يوم العرض والسؤال ، والحبال والنكال ، يوم تقلب إليه أعمال الانام ، وتحصى فيه جميع الاثام ، يوم تذوب من النفوس أحداق عيونها وتضع الحوامل ما في بطونها. ويفرق بين كل نفس وحبيبها ، ويحار في تلك الاهوال عقل لبيبها ، إذا تنكرت الارض بعد حسن عمارتها ، وتبدلت بالخلق بعد أنيق زهرتها (٤) أخرجت من معادن الغيب أثقالها ، ونفضت إلى الله أحمالها يوم لا ينفع الجد (٥) إذا عاينوا الهول الشديد فاستكانوا ، وعرف المجرمون بسيماهم فاستبانوا فانشقت القبور بعد طول انطباقها ، واستسلمت النفوس إلى الله بأسبابها ، كشف عن الاخرة غطاؤها ، وظهر للخلق أبناؤها ، فدكت الارض دكا دكا (٦) ، ومدت

____________________

(١) الحبور : السرور. وراعه الامر : أفزعه. (٢) الجمان ، الؤلؤ.

(٣) جفا صاحبة أعرض عنه. والكرى : النعاس. وتترى أى متواليا.

(٤) الانيق : الحسن المعجب.

(٥) في المصدر « لا ينفع الحذر ».

(٦) دكت الارض أى سوى صعودها وهبوطها.

٣٧٤

لامر يراد بها مدا مدا ، واشتد المثارون إلى الله (١) شدا شدا ، وتزاحفت الخلايق إلى المحشر زحفا زحفا (٢) ورد المجرمون على الاعقاب ردا ردا ، وجد الامر ويحك يا إنسان جدا جدا ، وقربوا للحساب فردا فردا ، وجاء ربك و الملك صفا صفا ، يسألهم عما عملوا حرفا حرفا ، فجئ بهم عراة الابدان ، خشعا أبصارهم ، أمامهم الحساب ، ومن ورائهم جهنم يسمعون زفيرها ويرون سعيرها ، فلم يجدوا ناصرا ولا وليا يجيرهم من الذل ، فهم يعدون سراعا (٣) إلى مواقف الحشر يساقون سوقا فالسموات مطويات بيمينه كطي السجل للكتب ، والعباد على الصراط وجلت قلوبهم ، يظنون أنهم لا يسلمون ، ولا يؤذن لهم فيتكلمون ، ولا يقبل منهم فيعتذرون ، قد ختم على أفواهم ، واستنطقت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يالها من ساعة ما أشجى مواقعها من القلوب ، حين ميز بين الفريقين فريق في الجنة وفريق في السعير.

من مثل هذا فليهرب الهاربون ، إذا كانت الدار الاخرة لها يعمل العاملون.

٣٦ ـ ما : (٤) عن محمد بن أحمد بن شاذان ، عن محمد بن علي بن المفضل ، عن علي بن حسن النحوي ، عن الحسن بن علي الزفري (٥) عن العباس بن بكار الضبي عن أبي بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : الحمد لله الذي لا يحويه مكان ، ولا يحده زمان ، علا بطوله ودنى بحوله ، سابق كل

____________________

(١) ثار اليه وثب عليه وفى بعض النسخ « المبارون ».

(٢) تزاحف القوم في الحرب : بعضهم إلى بعض وتدانوا. والزحف : الجيش يزحفون إلى العدو أى يمشون. ويقال زحف اليه كمنع زحفا اذا مشى نحوه. وزحفا زحفا أى زحفا بعد زحف متفرقين.

(٣) في بعض النسخ « يقودون سراعا ».

(٤) الامالى ج ٢ ص ٢٩٦.

(٥) كذا وفى المصدر « الرمزنى ».

٣٧٥

غنيمة وفضل ، وكاشف كل عظيمة وإزال (١) أحمده على جود كرمه وسبوغ نعمه وأستعينه على بلوغ رضاه والرضا بما قضاه وأومن به إيمانا وأتوكل عليه إيقانا وأشهد أن لا إله إلا الله الذي رفع السماء فبنيها وسطح الارض فطحيها وأخرج منها ماءها ومرعيها والجبال أرسيها (٢) لا يؤوده خلق وهو العلي العظيم ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أرسله بالهدى المشهور والكتاب المسطور والدين المأثور إبلاء لعذره وإنهاء لامره ، فبلغ الرسالة وهدى من الضلالة وعبد ربه حتى أتاه اليقين فصلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرا.

أوصيكم بتقوى الله فان التقوى أفضل كنز وأحرز حرز وأعز عز ، فيه نجاة كل هارب ودرك كل طالب وظفر كل غالب وأحثكم على طاعة الله فانها كهف العابدين وفوز الفائزين وأما المتقين ، واعلموا أيها الناس إنكم سيارة قد حدابكم الهادي وحدى لخراب الدنيا حادي ، وناداكم للموت منادي ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ألا وإن الدنيا دار غرارة خداعة تنكح في كل يوم بعلا وتقتل في كل ليلة أهلا ، وتفرق في كل ساعة شملا ، فكم من منافس فيها وراكن إليها من الامم السالفة قد قذفتهم في الهاوية ودمرتهم تدميرا وتبرتهم تتبيرا وأصلتهم سعيرا (٣) أين من جمع فأوعى ، وشد فاوكى ، ومنع فأكدى (٤) بل أين من عسكر العساكر ، و دسكر الدساكر (٥) وركب المنابر ، أين من بنى الدور ، وشرف القصور ، وجمهر ـ

____________________

(١) الازال ـ بكسر الهمزة ـ : الداهية.

(٢) « طحيها » أى بسطها. و « أرسيها » أى أثبتها.

(٣) التدمير : الاهلاك والتتبير : الاهلاك أيضا ، وأصلاه النار : أدخله أيا ها وأثواه فيها. والسعير : لهب النار.

(٤) أوكى ايكاء ـ القربة وعلى ما في القربة : شدها بالوكاء ، والوكاء رباط القربة ونحوها. وأكدى اكداء ـ الرجل ـ : لم يظفر بحاجته ، أو بخل في العطاء. وأكده عن كذا : رده عنه ومنعه.

(٥) قال الفيومى في المصباح : الدسكرة بناء يشبه القصر ، حوله بيوت ، ويكون

٣٧٦

الالوف (١) قد تداولتهم أيامها ، وابتعلتهم أعوامها ، فصاروا أمواتا وفي القبور رفاتا قد يئسوا ما خلفوا (٢) ووقفوا على ما أسلفوا ، ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.

وكأني بها وقد أشرفت بطلايعها وعسكرت بفظايعها ، فأصبح المرء بعد صحته مريضا ، وبعد سلامته نقيصا (٣) يعالج كربا ويقاسي تعبا ، في حشرجة السباق (٤) و تتابع الفواق ، وتردد الانين ، والذهول عن البنات والبنين ، والمرء قد اشتمل عليه شغل شاغل وهو هائل ، قد اعتقل منه اللسان وتردد منه البنان ، والمرء فأصاب مكروها وفارق الدنيا مسلوبا ، لا يملكون له نفعا ولا لما حل به دفعا ، يقول الله عزوجل في كتابه : « فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين (٥) » ثم من دون ذلك أهوال يوم القيامة ويوم الحسرة والندامة ، يوم تنصب الموازين ، وتنشر الدواوين بإحصاء كل صغير وإعلان كل كبيرة ، يقول الله في كتابه « ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا » (٦) [ ثم قال : ].

أيها الناس الآن الآن من قبل الندم ومن قبل أن تقوم نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين »

____________________

للملوك : قال الازهرى : وأحسبه معربا. والدسكره : القربة.

(١) شرف البيت ـ من باب التفعيل ـ : جعل له شرفا. وجمهر الشئ : جمعه.

(٢) في المصدر « قد نسوا ما خلفوا ».

(٣) في المصدر « نقيضا » بالضاد المعجمة.

(٤) حشرج الرجل أى غرغر عند الموت وتردد نفسه. والفواق ـ بالضم ـ : ما يأخذ الانسان عند النزع ، وترجيع الشهقة العالية.

(٥) الواقعة : ٨٦ و ٨٧ وقوله « غير مدينين » أى غير مجزيين يوم القيامة أو غير مملوكين مقهورين من دانه اذا اذله واستعبده وأصل التركيب للذل والانقياد.

(٦) الكهف : ٤٧.

٣٧٧

فيرد الجليل جل ثناؤه « بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين » (١) فوالله ما سئل الرجوع إلا ليعمل صالحا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا. [ ثم قال : ]

أيها الناس الآن الآن ما دام الوثاق مطلقا ، والسراج منيرا ، وباب التوبة مفتوحا ، ومن قبل أن يخف القلم ، وتطوى الصحيفة ، فلا رزق ينزل ، ولا عمل يصعد ، المضمار اليوم ، والسباق غدا ، فانكم لا تدرون إلى جنه أو إلى النار. وأستغفر الله لي ولكم.

١٥

(باب )

* ( مواعظ أمير المؤمنين عليه‌السلام وخطبه أيضا وحكمه ) *

١ ـ مع ، لى : (٢) الطالقاني ، عن أحمد بن محمد الهمداني ، عن الحسن بن القاسم قراءة ، عن علي بن إبراهيم بن المعلى ، عن أبي عبدالله محمد بن خالد ، عن عبدالله ابن بكر المرادي ، عن موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن الحسين عن أبيه عليهم‌السلام قال : بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام ذات يوم جالس مع أصحابه يعبيهم للحرب إذ أتاه شيخ عليه شخبة السفر (٣) فقال أين أمير المؤمنين؟ فقيل هو ذا فسلم عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين إني أتيتك من ناحية الشام وأنا شيخ كبير قد سمعت فيك من الفضل ما لا احصى ، وإني أظنك ستغتال (٤) فعلمني مما علمك الله ، قال : نعم.

يا شيخ من اعتدل يوماه فهو مغبون ، ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته

____________________

(١) الزمر : ٥٨ إلى ٦١.

(٢) معانى الاخبار ص ١٩٧ ، المجالس ص ٢٣٦.

(٣) عباهم تعبئة وتعبيئا : جهزهم. والشخبة : التعب والمشقة. وفى المصدر بالحاء المهملة بمعنى تغير اللون من مرض ونحوه. وفى أمالى الشيخ ج ٢ ص ٤٩ « في هيئة السفر ».

(٤) غاله واغتاله : اخذه من حيث لا يدرى وقتله.

٣٧٨

عند فراغها ، ومن كانت غده شر يوميه فمحروم ، ومن لم يبال ما رزء (١) من آخرته إذا سلمت له دنياه فهو هالك ، ومن لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى ، ومن كان في نقص فالموت خير له.

يا شيخ إن الدنيا خضرة حلوة ولها أهل وإن الاخرة لها أهل ، ظلفت أنفسهم عن مفاخرة أهل الدنيا (٢) لا يتنافسون في الدنيا ، ولا يفرحون بغضارتها ، ولا يحزنون لبؤسها.

يا شيخ من خاف البيات قل نومه ، ما أسرع الليالي والايام في عمر العبد ، فاخزن لسانك ، وعد كلامك يقل كلامك إلا بخير.

يا شيخ ارض للناس ما ترضى لنفسك ، وأت إلى الناس ما تحب أن يؤتي إليك.

ثم أقبل على أصحابه فقال : أيها الناس أما ترون إلى أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى ، فبين صريع يتلوى ، وبين عائد ومعود (٣) وآخر بنفسه يجود ، وآخر لا يرجى وآخر مسجى (٤) وطالب الدنيا والموت يطلبه ، وغافل و ليس بمغفول عنه ، وعلى أثر الماضي يصير الباقي.

فقال له زيد بن صوحان العبدي : يا أمير المؤمنين أي سلطان أغلب وأقوى؟ قال : الهوى قال : فأي ذل أذل؟ قال : الحرص على الدنيا ، قال : فأي فقر أشد؟ قال : الكفر بعد الايمان ، قال : فأي دعوة أضل؟ قال : الداعي بما لا يكون قال : فأي عمل أفضل؟ قال : التقوى ، قال فأي عمل أنجح؟ قال : طلب ما عند الله ، قال : فأي صاحب شر؟ قال : المزين لك معصية الله ، قال :

____________________

(١) رزأه : أصابه ونقصه.

(٢) ظلف نفسه عن الشئ : كف عنه.

(٣) تلوى أى انعطف وانطوى. والصريع : المطروح على الارض. والمعود الذى يعوده الناس في مرض.

(٤) سجى الميت تسجية : مد عليه ثوبا يستره.

٣٧٩

فأي الخلق أشقى؟ قال : من باع دينه بدنياه غيره ، قال : فأي الخلق أقوى؟ قال : الحليم ، قال : فأي الخلق أشح؟ قال : من أخذ المال من غير حله فجعله في غير حقه ، قال : فأي الناس أكيس؟ قال : من أبصر رشده من غيه فمال إلى رشده ، قال : فمن أحلم الناس؟ قال : الذي لا يغضب ، قال : فأي الناس أثبت رأيا؟ قال : من لم يغره الناس من نفسه ولم تغره الدنيا بتشوفها (١) قال : فأي الناس أحمق؟ قال المغتر بالدنيا وهو يرى ما فيها من تقلب أحوالها ، قال : فأي الناس أشد حسرة؟ قال : الذي حرم الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين ، قال : فأي الخلق أعمى؟ قال : الذي عمل لغير الله ، يطلب بعمله الثواب من عند الله عزوجل قال : فأي القنوع أفضل؟ قال : القانع بما أعطاه الله ، قال : فأي المصائب أشد؟ قال : المصيبة بالدين ، قال : فأي الاعمال أحب إلى الله عزوجل؟ قال : انتظار الفرج ، قال : فأي الناس خير عندالله عزوجل؟ قال : أخوفهم الله وأعملهم بالتقوى وأزهدهم في الدنيا ، قال : فأي الكلام أفضل عند الله عزوجل؟ قال : كثرة ذكره والتضرع إليه ودعاؤه ، قال : فأي القول أصدق؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله قال : فأي الاعمال أعظم عند الله عزوجل؟ قال : التسليم والورع ، قال : فأي الناس أكرم؟ قال : من صدق في المواطن.

ثم أقبل عليه‌السلام على الشيخ فقال : يا شيخ إن الله عزوجل خلق خلقا ضيق الدنيا عليهم نظرا لهم ، فزهدهم فيها وفي حطامها ، فرغبوا في دار السلام الذي دعاهم إليه ، وصبروا على ضيق المعيشة ، وصبروا على المكروه ، واشتاقوا على ما عند الله من الكرامة ، وبذلوا أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وكانت خاتمة أعمالهم الشهادة فلقوا الله وهو عنهم راض ، وعلموا أن الموت سبيل من مضى ومن بقي ، فتزودوا لاخرتهم غير الذهب والفضة ، ولبسوا الخشن ، وصبروا على القوت (٢) وقدموا الفضل ، و

____________________

(١) التشوف : التزين.

(٢) في المصدر « فصبروا على الذل ».

٣٨٠