بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

قوت الموت.

أي بني لاتؤيس مذنبا ، فكم من عا كف على ذنبه ختم له بخير ، وكم من مقبل على عمله مفسد في آخر عمره ، صائر إلى النار ، نعوذ بالله منها.

أي بني كم من عاص نجا ، وكم من عامل هوى ، ومن تحرى الصدق خفت عليه المؤن (١) في خلاف النفس رشدها ، الساعات تنقص الاعمار ، ويل للباغين من أحكم الحاكمين ، وعالم ضمير المضمرين.

يا بني بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد ، في كل جرعة شرق وفي كل اكلة غصص (٢) لن تنال نعمة إلا بفراق اخرى ، ما أقرب الراحة من النصب ، والبؤس من النعيم ، والموت من الحياة ، والسقم من الصحة.

فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه و صمته وفعله وقوله. وبخ بخ (٣) لعالم عمل فجد ، وخاف البيات فأعد واستعد ، إن سئل نصح وإن ترك صمت ، كلامه صواب وسكوته من غيرعي جواب (٤) والويل كل الويل لمن بلي بحرمان وخذلان وعصيان ، فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره وأزرى على الناس بمثل ما يأتي (٥).

واعلم أي بني أنه من لانت كلمته وجبت محبته ، وفقك الله لرشده وجعلك من أهل طاعته بقدرته إنه جواد كريم.

بيان : (٦).

____________________

(١) التحرى : القصد والاجتهاد في الطلب. والمؤن ـ بضم الميم وفتح الهمزة ـ : جمع المؤونة وهى القوت أو الشدة والثقل.

(٢) الشرق : الغصة وهى اعتراض الشئ في الحلق وعدم اساغته ويطلق الاول في المشروبات والثانى في المأكولات.

(٣) « بخ » اسم فعل للمدح واظهار الرضى بالشئ ويكرر للمبالغة ، فيقال : بخ بخ بالكسر والتنوين. (٤) العى : العجز عن الكلام.

(٥) أزرى عليه عمله. أى عاتبه وعابه عليه.

(٦) كان هنا بياض مقدار نصف صفحة.

٢٤١

١٠

* ( باب ) *

* ( عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الاشتر (ره) حين ولاه مصر ) *

١ ـ ف : (١) هذا ما أمر به عبدالله علي أميرالمؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده إليه حين ولاه مصر ، جباية خراجها ومجاهدة عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها (٢).

أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمره الله به في كتابه : من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها. وأن ينصر الله بيده وقلبه ولسانه ، فانه قد تكفل بنصر من نصره إنه قوي عزيز. وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات فان النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. وأن يعتمد كتاب الله عند الشبهات فإن فيه تبيان كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. وأن يتحرى رضي الله ، ولايتعرض لسخطه ، ولا يصر على معصيته ، فانه لا ملجأ من الله إلا إليه.

ثم اعلم يا مالك أني قدو جهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وإن الناس ينظرون من امورك في مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح بالقصد

____________________

(١) تحف العقول ص ١٢٦.

(٢) مختار هذا العهد منقول في النهج مع اختلاف يسير. والاشتر هومالك بن الحارث الاشتر النخعى من اليمن كان من أكابر أصحابه عليه‌السلام ذا النجدة والشجاعة روى أن الطر ماح لما دخل على معاوية قال له : قل لابن أبى طالب : انى جمعت العساكر بعدد حب جاورس الكوفة وها أنا قاصده فقال له الطرماح : ان لعلى عليه‌السلام ديكا أشتر يلتقط جميع ذلك. فانكسر من قوله معاوية.

٢٤٢

فيما تجمع وما ترعى به رعيتك. فأملك هواك ولتسخ بنفسك عما لا يحل لك ، فان سخاء النفس الانصاف منها فيما أحببت وكرهت (١). وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بالاحسان إليهم. ولاتكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم (٢) فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق ، تفرط منهم الزلل (٣) وتعرض لهم العلل ، يؤتي على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفو [ ه ] فانك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك والله فوق من ولاك بما عرفك من كتابه وبصرك من سنن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله. عليك بما كتبنا لك في عهدنا هذا ، لا تنصبن نفسك لحرب الله ، فإنه لا يدي لك بنقمته (٤) ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. فلا تند من على عفو ولا تبجحن بعقوبة (٥) ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة ، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع (٦) فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الفتن ، فتعوذ بالله من درك الشقاء. وإذا أعجبك ما أنت فيه من سلطانك فحدثت لك به ابهة أو مخيلة (٧) فانظر إلى عظم

____________________

(١) في المصدر « وشح بنفسك عما لا يحل لك فان الشح الانصاف منها فيما احببت و كرهت » وكذا في النهج.

(٢) الضارى من الكلاب : ما لهج بالصيد وتعوده أكله وأولع به أى السباع كالاسد والنمر.

(٣) تفرط : تسبق. والزلل : الخطأ. وأراد بالعلل الامور الصارفة لهم عما ينبغى من اجراء أو امر الوالى على وجوهها.

(٤) يعنى لا تخالف أمر الله بالظلم والجور فليس لك يد أن تدفع نقمته.

(٥) بجح كفرح لفظا ومعنى.

(٦) البادرة : حدة الغضب. والمندوحة : السعة والفسحة. والمؤمر ـ كمعظم ـ : المسلط.

والادغال : الافساد. والنهك : الضعف ونهكه أضعفه.

(٧) الابهة ـ بضم الهمزة وفتح الباء مشددة وسكونها ـ : العظمة والكبرياء. والمخيلة : الكبر والعجب.

٢٤٣

ملك الله فوقك ، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فان ذلك يطامن إليك من طماحك (١) ويكف عنك من غربك ويفئ إليك ما عزب من عقلك. و إياك ومساماته في عظمته (٢) أو التشبه به في جبروته ، فان الله يذل كل جبار ، و يهين كل مختال فخور.

أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصتك ومن أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فانك إن لا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته (٣) وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب.

وليس شئ أدعى إلى تغيير نقمة وتعجيل نقمة من إقامة على ظلم ، فان الله يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين بمرصاد ، ومن يكن كذلك فهو رهين هلاك في الدنيا والآخرة.

وليكن أحب الامور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها (٤) للرعية فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة (٥) وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة ، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل له معونة في البلاء ، وأكره للانصاف ، وأسأل بالالحاف (٦) وأقل شكرا عند الاعطاء وأبطأ عذرا عند المنع ، وأكره للانصاف ، وأضعف صبرا عند ملمات الامور من الخاصة

____________________

(١) يطامن أى يخفض ويسكن. والطماح : الفخر والنشوز والجماح. وارتفاع البصر والغرب : الحدة. ويفئ : يرجع ما غاب عن عقلك.

(٢) المساماة : المفاخرة والمباراة في السمو أى العلو.

(٣) أدحض : أبطل. وحربا أى محاربا. وينزع أى يقلع عن ظلمه. وأدعى : أى أشد دعوة.

(٤) في النهج « أجمعها لرضى الرعية ».

(٥) يجحف أى يذهب برضى الخاصة.

(٦) الالحاف : الالحاح والشدة في السؤال.

٢٤٤

وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للاعداء أهل العامة من الامة ، فليكن لهم صغوك (١) واعمد لاعم الامور منفعة وخيرها عاقبة ، ولا قوة إلا بالله.

وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لعيوب الناس ، فان في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها فلا تكشفن ما غاب عنك. واستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك ، واطلق عن الناس عقد كل حقد (٢) واقطع عنك سبب كل وتر ، واقبل العذر ، وادرء الحدود بالشبهات. وتغاب عن كل ما لا يصح لك [ ولا تستر شبهة ] (٣) ولا تعجلن إلى تصديق ساع فان الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين (٤).

لا تدخلن في مشورتك بخيلا يخذلك عن الفضل ويعدك الفقر (٥) ، ولا جبانا يضعف عليك الامور ولا حريصا يزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجور و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله كمونها في الاشرار (٦) أيقن إن شر وزرائك من كان للاشرار وزيرا ومن شركهم في الآثام وقام بامورهم في عبادالله فلا يكونن لك بطانة تشركهم في أمانتك (٧) كما شركوا في سلطان غيرك فأردوهم

____________________

(١) الصغو : الميل. وفى بعض النسخ « صفوك ».

(٢) أى احلل عقد الاحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة مع الناس. والوتر ـ بالكسر ـ : العداوة أى اقطع عنك أسباب العداوات بترك الاساءة إلى الرعية.

(٣) كذا. وليست هذه الجملة في المصدر.

(٤) الساعى : النمام بمعايب الناس. والغاش : الخائن.

(٥) في النهج « يعدل بك عن الفضل والفضل » هنا الاحسان بالبذل والجود. ويعدك أى يخوفك. والشره ـ بالتحريك : أشد الحرص. وفى النهج « يضعفك عن الامور » بمعنى تحملك عن الضعف.

(٦) أى يجتمع كلها فيهم سوء الظن بكرم الله وفضله. وفى بعض النسخ « كونها في الاشرار » ، وفى النهج « فان البخل والجبن والحرص ».

(٧) البطانة ـ بالكسر ـ : الخاصة ، من بطانة الثوب خلاف ظهارته.

٢٤٥

وأوردوهم مصارع السوء ولا يعجبنك شاهد ما يحضرونك به فانهم أعوان الاثمة وإخوان الظلمة وعباب كل طمع ودغل (١) وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل أرائهم ونفاذهم ممن قد تصفح الامور فعرف مساويها بما جرى عليه منها (٢) فاولئك أخف عليك مؤودنة ، وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفا (٣) وأقل لغيرك إلفا.

لم يعاون ظالما على ظلمه ، ولا آثما على إثمه ، ولم يكن مع غيرك له سيرة أجحفت بالمسلمين والمعاهدين (٤) فاتخذ أولئك خاصة لخلوتك وملائك ، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق (٥) وأحوطهم على الضعفاء بالانصاف وأقلهم لك مناظرة (٦) فيما يكون منك مما كره الله لاوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع فانهم يقفونك على الحق (٧) ويبصرونك ما يعود عليك نفعه ، وألصق بأهل الورع والصدق وذوي العقول والاحساب ، ثم رضهم على أن لا يطروك (٨) ولا يبجحوك بباطل لم تفعله

____________________

(١) الاثمة : جمع آثم ، كظلمة : جمع ظالم. والعباب ـ بضم العين ـ : معظم السيل وعباب البحر : موجه.

(٢) تصفح : تأمل ونظر مليا. والمساوى : جمع مساءة وهى القبيح. وفى النهج « و أنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل أرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزاهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على اثمه ».

(٣) أحنى عليك : أى أشفق ، و « عطفا » مصدر جيئ به من غير لفظ فعله. والالف ـ بالكسر ـ : الالفة والمحبة.

(٤) اجحف بهم. استأصلهم وأهلكهم. وفى النهج بعده : « فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك » والمعاهدين : أهل الكتاب.

(٥) أى ليكن أفضلهم لديك أكثر هم قولا بالحق المر.

(٦) رفى النهج « مساعدة » وقوله : « فيما يكون منك » أى يقع ويصدر.

(٧) أى لا يساعدك على ما كره الله حال كونه نازلا من ميلك اليه. ومن قوله عليه‌السلام « ثم ليكن » إلى هنا تنبيه على من ينبغى أن يتخذ عونا ووزيرا ، وميزه باوصاف أخص.

(٨) رضهم أى عودهم على أن لا يطروك أى يزيدوا في مدحك من أطرى اطراء : أحسن الثناء وبالغ في المدح. ولا يبجحوك أى ولا يفر حوك بنسبة عمل اليك. قوله : « تدنى »

٢٤٦

فان كثرة الاطراء تحدث الزهو وتدنى من الغرة والاقرار بذلك يوجب المقت من الله.

لا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء فان في ذلك تزهيد لاهل الاحسان في الاحسان ، وتدريب لاهل الاساءة ، فألزم كلا منهم ما ألزم نفسه (١) أدبا منك ، ينفعك الله به وتنفع به أعوانك.

ثم اعلم أنه ليس شئ بأدعى لحسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم و تخفيفه المؤونات عليهم وقلة استكراهه إيام على ما ليس له قبلهم ، فليكن في ذلك أمر يجتمع لك به حسن ظنك برعيتك ، فان حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده (٢) وأحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. فأعرف هذه المنزلة لك وعليك لتزدك بصيرة في حسن الصنع واستكثار حسن البلاء عند العامة مع ما يوجب الله بها لك في المعاد.

ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر بشئ مما مضى من تلك السنن ، فيكون الاجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها.

وأكثر مدارسة العلماء ومثافنة الحكماء (٣) في تثبيت ما صلح عليه أهل بلادك وإقامة ما استقام به الناس من قبلك ، فان ذلك يحق الحق ويدفع الباطل ويكتفي به دليلا ومثالا ، لان السنن الصالحة هي السبيل إلى طاعة الله.

____________________

أى تقرب. والزهو : العجب. والغرة ـ بالكسر ـ : الحمية والانفة. وهذا كله أمر بأن يلازم أهل الورع والصدق منهم ثم أن يروضهم ويؤدبهم بالنهى عن الاطراء له أويو جبوا له سرورا بقول باطل ينسبونه فيه إلى فعل لا يفعله.

(١) التدريب : الاعتياد والتجرى. وقوله : « وما ألزم نفسه » في مقابلة الاحسان أو الاساءة بمثلها.

(٢) أى اختبارك عنده.

(٣) المثافنة : المجالسة والملازمة. وفى بعض نسخ النهج « ومنافثة » أى المحادثة.

٢٤٧

ثم اعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضا إلا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة. ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الانصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس (١) ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها طبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمي الله سهمه ووضع على حد فريضته في كتابه أوسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعهد عندنا محفوظ (٢).

فالجنود بإذن الله حصون الرعية ، وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبيل الامن والخفض (٣) وليس تقوم الرعة إلا بهم ، ثم لاقوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يصلون به إلى جهاد عدو هم ويعتمدون عليه ويكون من وراء حاجاتهم ، ثم لا بقاء لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال و الكتاب لما يحكمون من الامور ، ويظهرون من الانصاف ، ويجمعون من المنافع ، ويؤتمنون عليه من خواص الامور وعوامها. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار ، وذوي الصناعات فيما يجمعون من مرافقهم (٤) ويقيمون من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غير هم.

____________________

(١) « مسلمة الناس » قال بعض شراح النهج : هذا تفصيل لاهل الخراج ويجوز أن يكون تفسيرا لاهل الجزية والخراج معا لان للامام أن يقبل أهل الخراج من سائر المسلمين وأهل الذمة.

(٢) أراد بالسهم الذى سماه الله الاستحقاق لكل من ذوى الاستحقاق في كتابه اجمالا من الصدقات كالفقراء والمساكين عمال الخراج والصدقة وفصله في سنة صلى الله عليه وآله ، وحده الذى وضع الله عليه عهدا منه إلى أهل بيت نبيه هو مرتبته ومنزلته من أهل المدينة الذين لايقوم الا بهم فان للجندى منزلة وحدا محدودا وكذلك العمال والكتاب و القضاة وغير هم فان لكل منهم حدا يقف عنده وفريضة يلزمها عليها عهد من الله محفوظ عند نبيه وأهل بيته عليهم‌السلام.

(٣) يعنى الراحة والسعة والعيش.

(٤) المرافق : المنافع.

٢٤٨

ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم (١) وفي فئ الله لكل سعة ، ولكل على الوالي حق بقدر يصلحه وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسك على لزوم الحق والصبر فيما خف عليه وثقل. فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك وأنقاهم جيبا (٢) وأفضلهم حلما وأجمعهم علما وسياسة ممن يبطئ عن الغضب ويسرع إلى العذر ، ويرأف بالضعفاء وينبوعلى الاقوياء (٣) ممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف ، ثم ألصق بذوي الاحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم (٤) وشعب من العرف ، يهدون إلى حسن الظن بالله والايمان بقدره. ثم تفقد أمورهم بما يتفقد الوالد من ولده ، ولا يتفا قمن في نفسك شئ قويتهم به (٥) ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل ، فانه داعية لهم إلى بذل النصيحة وحسن الظن بك. فلاتدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسميها ، فان لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه.

____________________

(١) الرفد : العطاء والمعونة.

(٢) الجيب من القميص : طوقة. وأيضا : الصدر والقلب ، يقال : فلان نقى الجيب أى أمين الصدر والقلب. وأيضا : الامين ، يقال : رجل ناصح الجيب أى أمين لاغش فيه وقد يقرء في بعض النسخ « اتقاهم ».

(٣) النبو : العلو والارتفاع وينبو أى يشتد ويعلو عليهم ليكف أيديهم عن الظلم.

والعنف ـ مثلثة العين ـ : الشدة والمشقة ، ضد الرفق. ويحتمل أن يكون بمعنى اللوم كما جاء في اللغة أيضا.

(٤) أى مجموع منه. والعرف : المعروف. ومراده عليه‌السلام شرح أوصاف الذين يؤخذ منهم الجند ويكون منهم رؤساؤه.

(٥) تفاقم الامر : عظم أى لا تعد ما قويتهم به عظيما ولا ما تلطغك حقيرا بل لكل موضع وموقع.

٢٤٩

وليكن آثر رؤوس جنودك من واساهم في معونته وأفضل عليهم في بذله ممن يسعهم ويسع من ورائهم من الخلوف من أهلهم (١) حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو ، ثم واتر اعلامهم (٢) ذات نفسك في إيثارهم ، والتكرمة لهم ، والارصاد بالتوسعة. وحقق ذلك بحسن الفعال والاثر والعطف ، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. وإن أفضل قرة العيون للولاة استفاضة العدل في البلاد (٣) وظهور مودة الرعية لانه لا يظهر مودتهم إلا سلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلا بحوطتهم على ولاة أمورهم (٤) وقلة استثقال دولتهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم (٥) ثم لا تكلن جنودك إلى مغنم وزعته بينهم بل أحدث لهم مع كل مغنم بدلا مما سواه مما أفاء الله عليهم ، تستنصر بهم به ويكون داعية لهم إلى العودة لنصر الله ولدينه ، واخصص أهل النجدة (٦) في أملهم إلى منتهى غاية آمالك من النصيحة بالبذل وحسن الثناء عليهم ولطيف التعهد لهم رجلا رجلا وما أبلى في كل مشهد ، فإن كثرة الذكر

____________________

(١) آثر أى أكرم وأفضل وأعلى منزلة. من واساهم أى ساعدهم وعاونهم. وأفضل عليهم أى أفاض وأحسن اليهم ، فلا يقتر عليهم في الفرض ولا ينقص منهم شيئا ويجعل البذل شاملا لمن تركوهم في الديار. والخلوف ـ بضمتين جمع خلف بفتح فسكون ـ : من يخلف في الديار من النساء والعجزة.

(٢) واتر : أمر من المواترة وهى ارسال الكتب بعضها أثر بعض. والاعلام : الاطلاع ويحتمل أن يكون وآثر بالثاء : أمر من المفاعلة أى أكرم وفضل. والاعلام : جمع علم : سيد القوم ورئيسهم.

(٣) الاستفاضة : الانتشار والاتساع. وفى النهج « الاستقامة ».

(٤) الحوطة : الحيطة : مصدر حاطه بمعنى حفظه وتعهده أى بحفظهم على ولاتهم و حرصهم على بقائهم.

(٥) استثقل الشئ : عده أو وجده ثقيلا. واستبطأ الشئ : عده أو وجده بطيئا ، فيعدون زمنهم قصيرا.

(٦) النجدة : الشدة والبأس والشجاعة. والناكل : الجبان الضعيف والمراد هنا المتأخر القاعد.

٢٥٠

منك لحسن فعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاءالله.

ثم لا تدع أن يكون لك عليهم عيون (١) من أهل الامانة والقول بالحق عند الناس ، فيثبتون بلاء كل ذي بلاء منهم ليثق أولئك بعلمك ببلائهم. ثم أعرف لكل امرء منهم ما أبلى ولا تضمن بلاء امرء إلى غيره ولا تقصرن به دون غاية بلائه (٢) وكاف كلا منهم بما كان منه ، واخصصه منك بهزه. ولا يدعونك شرف امرء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا ، ولا ضعة امرء (٣) على أن تصغر من بلائه ماكان عظيما. ولا يفسدن امرءا عندك علة إن عرضت له (٤) ولا نبوة حديث له قد كان له فيها حسن بلاء ، فان العزة لله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتققين.

وإن استشهد أحد من جنودك وأهل النكاية في عدوك فأخلفه في عياله بما يخلف به الوصي الشفيق الموثق به حتى لا يرى عليهم أثر فقده ، فان ذلك يعطف عليك قلوب شيعتك ويستشعرون به طاعتك ويسلسون لركوب معاريض التلف الشديد في ولا يتك (٥).

وقد كانت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سنن في المشركين ومنا بعده سنن ، قد جرت بها سنن وأمثال في الظالمين ومن توجه قبلتنا وتسمى بديننا. وقد قال الله لقوم أحب إرشادهم : « يا أيها الذين آمنوا أطيعو الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (٦) » وقال : « ولو رد وه إلى الرسول وإلى اولي الامر

____________________

(١) العين : الرقيب والناظر والجاسوس.

(٢) لا تضم عمل امرء إلى غيره ولا تقصر به في الجزاء دون ما يبلغ منتهى عمله. والهز التشويق.

(٣) الضعة : من مصادر وضع ـ كشرف ـ : صار وضيعا أى دنيا.

(٤) أى لا تفسدن عندك أحدا علة تعرض له. ونبوة الزمان : خطبه وجفوته.

(٥) يسلسون : ينقادون ويسهل عليهم.

(٦) سورة النساء : ٦٢.

٢٥١

منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا » (١) فالرد إلى الله الاخذ بحكم كتابه (٢) والرد إلى الرسول الاخذ بسنة الجامعة غير المتفرقة (٣) ونحن أهل رسول الله الذين نستنبط المحكم من كتابه ونميز المتشابه منه ونعرف الناسخ مما نسخ الله ووضع إصره (٤).

فسرفي عدوك بمثل ما شاهدت منها في مثلهم من الاعداء وواتر إلينا الكتب بالاخبار بكل حدث يأتك منا أمر عام (٥) والله المستعان.

ثم انظر في أمر الاحكام بين الناس بنية صالحة فإن الحكم في إنصاف المظلوم من الظالم ، والاخذ للضعيف من القوي ، وإقامة حدود الله على سنتها ومنها جها مما يصلح عبادالله وبلاده. فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك وأنفسهم للعلم والحلم والورع والسخاء ممن لا تضيق به الامور ولا تمحكه الخصوم (٦) ولا يتمادى في إثبات الزلة ولا يحصر من الفئ (٧) إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه

____________________

(١) سورة النساء : ٨٥.

(٢) محكم الكتاب : نصه الصريح.

(٣) أى الاخذ بما أجمع عليه مما لا يختلف في نسبته اليه ، فلا يكون مما افترق به الاراء في نسبته اليه.

(٤) الاصر : الثقل أى ثقل التكليف كما قال الله تعالى في سورة الاعراف : ١٥٦ : « ويضع عنهم اصرهم والاغلال التى كانت عليهم ».

(٥) واتر : أمر من المواترة. والحدث ـ بفتحتين ـ : الحادثة أى الامر الحادث.

(٦) لاتمحكه : لا تغضبه ـ من محك الرجل : نازع في الكلام وتمادى في اللحاجة عند المساومة ـ أى ولا تحمله مخاصمة الخصوم عند اللحاجة على رأيه. والزلة : السقطة والخطيئة.

(٧) حصر : ضاق صدره أى اذا عرف الحق لا يضيق صدره من الرجوع اليه. وفى بعض النسخ « في انبات الزلة ولا يحصر من العى ».

٢٥٢

على طمع (١) ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه (٢) وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصوم (٣) وأصبر هم على تكشف الامور ، و أصرمهم (٤) عند اتضاح الحكم ، ممن لا يزدهيه إطراء (٥) ولا يستميله إغراق ولا يصغى للتبليغ ، فول قضاءك من كان كذلك وهم قليل. ثم أكثر تعهد قضائه (٦) وافتح له في البذل ما يزيح علته (٧) ويستعين به ، وتقل معه حاجته إلى الناس ، و أعطه من المنزلة لديك ما لايطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال إياه عندك ، وأحسن توقيره في صحبتك ، وقربه في مجلسك. وأمض قضاءه ، وأنفذ حكمه ، واشدد عضده ، واجعل أعوانه خيار من ترضى من نظرائه من الفقهاء وأهل الورع والنصيحة لله ولعباد الله ، ليناظر هم فيما شبه عليه ، ويلطف عليهم لعلم ما غاب عنه ، ويكونون شهداء على قضائه بين الناس إن شاءالله.

ثم حملة الاخبار لاطرافك قضاة تجتهد فيهم نفسه (٨) لا يختلفون ولا يتدابرون في حكم الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الاختلاف في الحكم إضاعة للعدل وغرة في الدين (٩) وسبب من الفرفة. وقد بين الله مايأتون وما ينفقون وأمر

____________________

(١) الاشراف على الشئ : الاطلاع عليه من فوق.

(٢) أى ينبغى له التأمل في الحكم فلا يكتفى بما يبدوله باول فهم.

(٣) التبرم : الضجر. والملل.

(٤) وأصرمهم : أقطعهم للخصومة عند وضوح الحكم.

(٥) لا يزدهيه : افتعال من الزهو : العجب والفخر. والاطراء : المبالغة في المدح أى لا تحمله على الكبر والعجب ولا يستخفه زيادة الثناء عليه. وفى النهج « ولا يستميله اغراء ».

(٦) تعهد : تفقد وتحفظ.

(٧) يزيح : يبعد ويزول وفى النهج « يزيل ». أى وسع له حتى يكون ما يأخذه كافيا لمعيشته.

(٨) كذا. وفى بعض النسخ « حملة الاختيار » وفى بعضها « حمل الاختيار ». ولعل الصحيح « ثم اختيار حملة الاخبار لا طرافك قضاة تجتهد فيه نفوسهم ».

(٩) الغرة ـ بالكسر ـ : الغفلة.

٢٥٣

برد مالا يعلمون إلى من استودعه الله علم كتابه ، واستحفظه الحكم فيه ، فإنما اختلاف القضاة في دخول بينهم واكتفاء كل امرء منهم برأيه دون من فرض الله ولا يته ، وليس يصلح الدين ولا أهل الدين على ذلك. ولكن على الحاكم أن بحكم بما عنده من الاثر والسنة ، فإذا أعياه ذلك (١) رد الحكم إلى أهله فإن غاب أهله عنه ناظر غيره من فقهاء المسلمين ليس له ترك ذلك إلى غيره ، وليس لقاضيين من أهلة الملة أن يقيما على اختلاف في [ ال ] حكم دون ما رفع ذلك إلى ولي الامر فيكم فيكون هو الحاكم بما علمه الله ، ثم يجتمعان على حكمه فيما وافقهما أو خالفهما ، فانظر في ذلك نظرا بليغا فان هذا الدين قد كان أسيرا بأيدي الاشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا ، واكتب إلى قضاة بلدانك فلير فعوا إليك كل حكم اختلفوا فيه على حقوقه. ثم تصفح تلك الاحكام فما وافق كتاب الله وسنة نبيه والاثر من إمامك قأمضه واحملهم عليه ، وما اشتبه عليك فاجمع له الفقهاء بحضرتك فناظر هم فيه ثم أمض ما يجتمع عليه أقاويل الفقهاء بحضرتك من المسلمين فان كل أمر اختلف فيه الرعية مردود إلى حكم الامام وعلى الامام الاستعانة بالله والاجتهاد في إقامة الحدود وجبر الرعية على أمره ، ولاقوة إلا بالله.

ثم انظر إلى أمور عمالك ، واستعملهم اختبارا ، ولا تولهم امورك محاباة (٢) وأثرة ، فإن المحاباة والاثرة جماع الجور والخيانة ، وإدخال الضرورة على الناس وليست تصلح الامور بالادغال (٣) فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام ، فإنهم أكرم أخلاقا ، وأصح أعراضا ، وأقل في المطامع إشرافا ،

____________________

(١) أعياه : أعجزه ولم يهتد لوجه مراده.

(٢) « محاباة » أى اختصاصا وميلا. والاثرة ـ بالتحريك ـ : اختصاص المرء نفسه بأحسن الشئ دون غيره وبعمل كيف يشاء ، يعنى استعمل عمالك بالاختبار والامتحان لا اختصاصا واستبدادا.

(٣) الادغال : الافساد وادخال في الامر بما يخالفه ويفسده.

٢٥٤

وأبلغ في عواقب الامور نظرا من غير هم ، فليكونوا أعوانك على ما تقلدت.

ثم أسبغ عليهم في العمالات ووسع عليهم في الارزاق فإن في ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى [ لهم ] عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أوثلموا أمانتك (١).

ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون عليهم من أهل الصدق والوفاء ، فإن تعهدك في السر أمورهم حدوة لهم (٢) على استعمال الامانة والرفق بالرعية ، وتحفظ من الاعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة فوسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة.

وتفقد ما يصلح أهل الخراج (٣) فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله ، فليكن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج فإن الجلب لايدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم له أمره إلا قليلا ، فاجمع إليك أهل الخراج من كل بلدانك ومرهم فليعلموك حال بلادهم وما فيه صلاحهم ورخاء جبايتهم (٤) ثم سل عما يرفع إليك أهل العلم به من غير هم ، فان كانوا شكوا ثقلا (٥) أوعلة من انقطاع شرب أو إحالة أرض اغتمرها

____________________

(١) أى نقصوا وخانوا في أدائها وأحدثوا فيها.

(٢) الحدوة : السوق والحث.

(٣) في النهج « وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ».

(٤) الجباية : الخراج.

(٥) أى من الخراج أوعلة اخرى كانقطاع الشرب (بالكسر أى النصيب من الماء) أوا حالة أرض يعنى تغييرها عما كانت عليه من الاستواء لا جل الاغتمرار أى الانغماس في الماء بالغرق فلم ينجب زرعها ولا أثمر نخلها. وقوله : « أو أجحف بهم » أى ذهب بمادة الغذاء من الارض فلم تنبت.

٢٥٥

غرق أو أجحف بهم العطش أو آفة خففت عنهم ما ترجو أن يصلح الله به أمرهم وإن سألوا معونة على إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فاكفهم مؤونته ، فان عاقبة كفايتك إياهم صلاحا ، فلا يثقلن عليك شئ خففت به عنهم المؤونات ، وفانه ذخر يعودون به عليك لعمارة بلادك وتزيين ولا يتك مع إقتنائك مودتهم وحسن نياتهم (١) واستفاضة الخير وما يسهل الله به من جلبهم (٢) ، فان الخراج لايستخرج بالكد والاتعاب مع أنها عقد تعتمد عليها إن حدث حدث كنت عليهم معتمدا لفضل قوتهم بما ذخرت عنهم من الحمام (٣) والثقة منهم بما عودتهم من عدلك ورفقك ومعرفتهم بعذرك فيما حدث من الامر الذي اتكلت به عليهم فاحتملوه بطيب أنفسهم ، فان المعمران محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الارض لاعواز (٤) أهلها وإنما يعوز أهلها لا سراف الولاة (٥) وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر.

فاعمل فيما وليت عمل من يحب أن يدخر حسن الثناء من الرعيه والمثوبة من الله والرضا من الامام. ولاقوة إلا بالله.

ثم انظر في حال كتابك فاعرف حال كل امرء منهم يحتاج إليه منهم فاجعل لهم منازل ورتبا ، فول على اهورك خير هم ، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكيدتك وأسرارك بأجمعهم (٦) لوجوه صالح الادب ممن يصلح للمناظرة في

____________________

(١) في بعض النسخ « نيتهم ». وفى النهج « مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستقاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم ».

(٢) في بعض النسخ « حليهم ».

(٣) كذا وفى بعض النسخ « الجمام » وفى النهج « من اجمامك » والجمام : الراحة.

(٤) فان العمران مادام قائما فكل ما حملت أهله سهل عليهم أن يحملوه. والاعواز : الفقر والحاجة.

(٥) في النهج « لا شراف أنفس الولاة على الجمع ». أى لتطلع أنفسهم إلى جمع المال.

(٦) باجمعهم متعلق باخصص ، أى ما يكون من رسائلك حاويا لشئ من المكائد و الاسرار فاخصصه بمن كان ذا أخلاق وصلاح ورأى ونصيحة وذهن وغير ذلك من الاوصاف

٢٥٦

جلائل الامور من ذوي الرأي والنصيحة والذهن ، أطواهم عنك لمكنون الاسرار كشحا ممن لا تبطره الكرامة ولا تمحق به الدالة (*) فيجترى بها عليك في خلاء أو يلتمس إظهارها في ملاء ، ولا تقصر به الغفلة (١) عن إيراد كتب الاطراف عليك ، و إصدار جواباتك على الصواب عنك ، وفيما يأخذ [ لك ] ويعطى منك ، ولا يضعف عقدا اعتقده لك ، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور ، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

وول ما دون ذلك من رسائلك وجماعات كتب خرجك ودواوين جنودك قوما تجتهد نفسك في اختيار هم ، فإنها رؤوس أمرك أجمعها لنفعك وأعمها لنفع رعيتك.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك (٢) وحسن الظن بهم ، فإن الرجال يعرفون فراساة الولاة بتضر عهم وخدمتهم (٣) وليس وراء ذلك من النصيحة والامانة [ شئ ]. ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فأعمد لاحسنهم كان في العامة أثرا وأعرفهم فيها بالنبل والامانة (٤) فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره ، ثم مرهم بحسن الولاية ولين الكلمة واجعل لرأس كل أمر من امورك رأسا منهم ، لا يقهره كبيرها (٥) ولا يتشتت عليه كثيرها ، ثم تفقد ما غاب عنك من حالاتهم وامور من يرد عليك رسله وذوي الحاجة وكيف ولا يتهم وقبولهم وليهم

____________________

المذكورة. وطوى الحديث : كتمه. وطوى كشحا عنه أى أعرض عنه وقاطعه. وبطر الرجل يبطر بطرا محركة اذا دهش وتحير في الحق. وبالامر ثقل به. وبطره النعمة : أدهشه (*) الدالة : الجرأة.

(١) أى ولا تكون غفلته موجبة لتقصيره في اطلاعك على ما يرد من أعمالك ولا في اصدار الاجوبة عنه على وجه الصواب.

(٢) الفراسة ـ بالكسر ـ : حسن النظر في الامور. والاستنامة. السكون والاستيناس أى لا يكون انتخاب الكتاب تابعا لميلك الخاص.

(٣) وفى النهج « بتصنعهم وحسن خدمتهم ».

(٤) النبل ـ بالضم ـ. الذكاء و : النجابة والفضل.

(٥) أى لا يقهره عظيم تلك الاعمال ولا يخرج عن ضبطه كثيرها.

٢٥٧

وحجتهم (١) فإن التبرم والعز والنخوة من كثير من الكتاب إلا من عصم الله.

وليس للناس بد من طلب حاجاتهم ، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته (٢) أو فضل نسب إليك مع مالك عندالله في ذلك من حسن الثواب.

ثم التجار وذوي الصناعات فاستوص وأوص بهم خيرا ، المقيم منهم والمضطرب بماله (٣) والمترفق بيده فانهم مواد للمنافع وجلا بها في البلاد في برك وبحرك وسهلك وجبلك ، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها (٤) ولا يجترئون عليها من بلاد أعدائك من أهل الصناعات التي أجرى الله الرفق منهم على أيديهم ، فاحفظ حرمتهم وآمن سبلهم ، وخذلهم بحقوقهم ، فإنهم سلم لا يخاف بائقته (٥) وصلح لا تحذر غائلته ، احب الامور إليهم أجمعها للامن ، وأجمعها للسلطان ، فتفقد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا (٦) و شحا قبيحا ، واحتكارا للمنافع ، وتحكما في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة ، و عيب على الولاية ، فامنع الاحتكار فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه ، وليكن البيع والشراء بيعا سمحا (٧) بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين مع البائع

____________________

(١) في بعض النسخ « وقبولهم ولينهم وحجتهم ». والتبرم : التضجر.

(٢) تغابيت أى تغافلت عن عيب في كتابك يكون ذلك العيب لا صقابك.

(٣) المضطرب بماله : المتردد بأمواله في الاطراف والبلدان. والمترفق بيده : المكتسب به وأصله ما به يتم الانتفاع كالادوات. والجلاب : ألذى يجلب الارزاق والمتاع إلى البلدان.

(٤) يلتئم : يجتمع وينضم أى بحيث لا يمكن اجتماع الناس في مواضع تلك المرافق ولا يجترئون أى ولا يكون لهم الجرأة على الاقدام من تلك الامكنة من بلاد الاعداء. والرفق ـ بالفتح ـ : النفع.

(٥) البائقة : الداهية والشر. والغائلة : الفتنة والفساد والشر. أى فان التجار و الصناع مسالمون ولا تخشى منهم فتنة ولا داهية.

(٦) الضيق : عسر المعاملة. البياعات : جمع بياعة : ما يباع.

(٧) السمحة : السهلة التى لا ضيق فيها وبيع السماح : ما كان فيه تساهل في بخس الثمن وفى الخبر « السماح رباح » أى المساهلة في الاشياء تربح صاحبها.

٢٥٨

والمبتاع (١). فمن قارف حكرة بعد نهيك فنكل وعاقب في غير إسراف. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل ذلك.

ثم ألله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين و ذوي البؤس والزمنى (٢) ، فإن في هذه الطبقة فانعا ومعترا (٣) فاحفظ الله ما استحفظك من حقه فيها واجعل لهم قسما من غلات صوافي الاسلام (٤) في كل بلد ، فإن للاقصى منهم مثل الذي للادنى ، وكلا قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم نظر (٥) فإنك لاتعذر بتضييع الصغير لاحكامك الكبير المهم (٦) ، فلا تشخص همك عنهم ، ولا تصعر خدك لهم وتواضع لله يرفعك الله (٧) واخفض جناحك للضعفاء واربهم (٨) إلى ذلك منك حاجة وتفقد من امورهم ما لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون (٩) وتحقره الرجال ، ففرغ لاولئك ثقتك (١٠) من أهل الخشية والتواضع

____________________

(١) المبتاع : المشترى. وقارف : أى فعل وقارب وخالط. والحكرة ـ بالضم : اسم من الاحتكار.

(٢) البؤس ـ بضم الباء ـ وفى النهج « البؤسى » ـ كصغرى ـ : شدة الفقر. والزمنى ـ بالفتح جمع زمن ـ ككتف ـ : المصاب بالزمانة ـ بالفتح ـ وهى العاهة وتعطيل القوى و عدم بعض الاعضاء.

(٣) القانع ـ من قنع بالكسر كعلم ـ. اذا رضى بمامعه وما قسم له. ومن قنع بالفتح كمنع اذا سأل وخضع. والمعتر ـ بتشديد الراء ، المتعرض للعطاء من غير أن يسأل.

(٤) الصوافى. جمع صافية : الارض التى جلاعنها أهلها أوماتوا ولا وارث لهم. وصوافى الاسلام هى ارض الغنيمة. وغلات : جمع غلة وهى الدخل الذى يحصل من الزرع. والتمر واللبن والاجارة والبناء ونحو ذلك وغلات صوافى الاسلام : ثمراتها.

(٥) في النهج « بطر ».

(٦) في بعض النسخ « الكثير المهم ». « فلا تشخص » أى لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم. (٧) والصعر : الميل في الخد اعجابا وكبرا أى لا تعرض بوجهك عنهم.

(٨) كذا. وفى نسخة « ارئهم ».

(٩) تقتحمة العيون : تكره أن تنظر اليه احتقارا.

(١٠) « ففرغ » أى فاجعل للتفحص عنهم وعن حالهم أشخاصا ممن تثق بهم يتفرغون أنفسهم لمعرفة أحوالهم ويبذلون جهدهم فيهم.

٢٥٩

فليرفع إليك امورهم ، ثم اعمل فيهم بالاعذار إلى الله يوم تلقاه ، فإن هؤلاء أحوج إلى الانصاف من غير هم وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه ، وتعهد أهل اليتم والزمانة والرقة في السن ، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه ، فاجرلهم أرزاقا فإنهم عبادالله فتقرب إلى الله بتخلصهم ، وضعهم مواضعهم في أقواتهم وحقوفهم ، فإن الاعمال تخلص بصدق النيات ، ثم إنه لا تسكن نفوس الناس أو بعضهم إلى أنك قد قضيت حقوقهم بظهر الغيب دون مشافهتك بالحاجات (١) وذلك على الولاة ثقيل. والحق كله ثقيل. وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة (٢) فصبروا نفوسهم ووثقوا بصدق موعود الله لمن صبر واحتسب فكن منهم واستعن بالله واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وذهنك من كل شغل ، ثم تأذن لهم عليك وتجلس لم مجلسا تتواضع فيه لله الذي رفعك وتقعد عنهم جندك وأعوانك (٣) من أحراسك وشرطك تخفض لهم في مجلسك ذلك جناحك وتلين لهم كنفك (٤) في مراجعتك ووجهك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع (٥) ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في غير موطن : « لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع ». ثم احتمل الخرق منهم والعي (٦) ونح عنك الضيق

____________________

(١) المشافهة : المخاطبة بالشفه أى من فيه إلى فيه إلى فيه والمراد حضورهم.

(٢) في بعض النسخ « العافية ».

(٣) تأمر بأن يقعد عنهم ولا يتعرض لهم. والاحراس : جمع حارس وهو من يحرس الحاكم من وصول المكروه اليه. أى أعوان الحاكم. والشرط ـ بضم ففتح ـ : جمع شرطة ـ بضم فسكون ـ وهم طائفة من أعوان الولاة وسمعوا بذلك لانهم اعلموا أنفسهم بالعلامات يعرفون بها. وهم المعرفون الان بالضابطة.

(٤) الكنف ـ بالتحريك ـ الجانب ، الظل.

(٥) التعتعة في الكلام : التردد فيه من عى أو عجز والمراد غير خائف منك ومن أعوانك وفى النهج « غير متتعتع » في الموضعين ولعله أصح.

(٦) الخرق ـ بالضم ـ : العنف. والعى بالكسر ـ : العجز عن النطق أى اطق واصبر ، لا تضجر من هذا ولا تغضب لذاك.

٢٦٠