الواضع كان هو الله تعالى أو غيره لاحظ حين الوضع العلميّ هذه المناسبات ، وإنّ كلّ واحد من المعاني الاشتقاقيّة الكلّيّة حقيقتها ومصداقها منحصر في الذّات المقدّسة ، حيث إنّ المعبوديّة المطلقة والمفزعيّة لجميع الموجودات حتّى الجمادات لا يكون إلّا له تبارك وتعالى ، ولا يتصوّر لمشرك أن يدّعي هذه المرتبة من المعبوديّة والالوهيّة لما اتّخذه معبودا وإلها.
والحاصل : إنّ العبادة عبارة عن الخضوع التامّ ، والقول بأنّ الصّنم أو الكواكب أو غيرهما معبود لجميع الموجودات حتّى الجمادات غير متصور من ذي مسكة وشعور ، وأمّا الواجب تعالى فجميع ما سواه خاضع له ، فازع إليه ، ضارع لديه ، سائل منه.
وتوضيحه أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الوجود ملازم للشعور ، وكلّ ماله حظّ من الوجود ، له بمقدار حظّه حظّ من الشعور ، وكلّ ما كان حظّه من الوجود أكثر كان حظّه من الشعور أوفر ، ويشهد لذلك ما يشاهد من أثر الإدراك في كثير من النباتات فضلا عن الحيوانات.
وأقلّ مراتب الشعور أنّ الموجود يدرك أنّه معلول للعلّة ، وموجود بالغير ، وإدراك هذه الجهة مقتض لنهاية الخضوع لعلّته وموجده ، والآيات والروايات توافقنا على أنّ للجمادات تسبيحا وخوفا وتضرّعا إلى الله ، بل لها معرفة وطاعة للنبيّ والوليّ.
فعلى هذا ، فجميع الموجودات متوجهون إلى خالقهم ، خاضعون له ، سائلون فيضه ودوامه ، خائفون من انقطاعه ، فهو المعبود المطلق ، والمفزع لجميع الموجودات ، والمألوه لجميع المخلوقات عند الشدائد والحاجات ، وهو المحجوب عن إدراك الممكنات ، المستور عن العقول بحقيقة الذّات وكنه الصّفات.
ويؤيد ما ذكرنا من حمل الرّوايات أنّه لولاه يلزم استعمال المشترك اللفظي في أكثر من معنى ، أو إرادة بيان أنّ لمستعمل لفظ الجلالة أن يريد منه كلّ واحد من المعاني المختلفة ، والأوّل محال ، والثاني بعيد غايته.
وفي رواية ( التوحيد ) المتقدّم صدرها في تفسير ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ قال عليهالسلام : « الذي يرحم ببسط الرزق علينا ، الرّحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا ، خفّف علينا الدّين ، وجعله سهلا خفيفا ، وهو يرحمنا بتمييزنا عن أعاديه » (١) .
وفي رواية اخرى : « الرّحمن بجميع خلقه ، والرّحيم بالمؤمنين خاصّة » (٢) .
أقول : لا ريب أنّ هذين الاسمين المباركين بحسب اللغة صفتان مشبّهتان من الرّحم : وهو التعطّف
__________________
(١) التوحيد : ٢٣٢ / ٥ ، وفيه : بتميزنا من أعدائه.
(٢) الكافي ١ : ٨٩ / ١.