والشهوات ، فإذا كانت الرّوح في غاية الصّفاء والشّرف ، وكان البدن في غاية النّقاء والطّهارة ، كانت هذه القوى المحرّكة والمدركة في غاية الكمال ؛ لأنّها جارية مجرى الأنوار الفائضة من جوهر الرّوح ، الواصلة إلى البدن ، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال ، كانت الآثار في غاية القوّة والشّرف والصّفاء.
ثمّ أنّ الله تعالى بعد ما اصطفى آدم بالقوّة الكاملة ، وضع كمال القوّة الرّوحانيّة في شعبة معيّنة من أولاد آدم عليهالسلام هم شيث وأولاده إلى إدريس ، ثمّ إلى نوح ، ثمّ إلى إبراهيم ، ثمّ حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق ، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الرّوح القدسيّة لمحمّد صلىاللهعليهوآله ، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين : يعقوب وعيص (١) ، فوضع النّبوّة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيص (٢) ، واستمرّ ذلك إلى زمان محمّد صلىاللهعليهوآله ، فلمّا ظهر محمّد صلىاللهعليهوآله نقل نور النّبوّة ونور الملك إلى محمّد صلىاللهعليهوآله ، وبقيا - أعني الدّين والملك - لأتباعه إلى يوم القيامة ، ومن تأمّل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة ، انتهى (٣) .
وفيه مواضع للنّظر والتّخطئة ، والعجب أنّه التزم بانتقال نور النّبوّة والملك في نسل المصطفين إلى محمّد صلىاللهعليهوآله ، ولم يلتزم به في ذرّيّة محمّد صلىاللهعليهوآله بل جعله لأتباعه.
﴿إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما
وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ
هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)﴾
ثمّ ذكر سبحانه [و] تعالى قضيّة ولادة مريم وعيسى - استشهادا بها على اصطفائه آل عمران ، وردّا على النّصارى القائلين بالوهيّة عيسى ، أو أنّه ثالث ثلاثة ، أو أنّه ابن الله - بقوله : ﴿إِذْ قالَتِ﴾ قيل : الظّرف متعلّق ب ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ والمعنى : والله سميع للدّعاء ، عليم بالضّراعة ، حين دعت وتضرّعت
__________________
(١ و٢) . في المصدر : عيصو.
(٣) تفسير الرازي ٨ : ٢١.