يعلمه إلّا الله لكان تنزيله لغوا ، لعدم انتفاع أحد به ، تعالى عن ذلك.
﴿وَما يَذَّكَّرُ﴾ ولا يفهم حقيقة تأويل المتشابهات ، وحكمة نزولها حقّ التّذكّر والتّفهّم أحد ﴿إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ وأصحاب العقول السّليمة من غلبة الشّهوات ، وذوو الأفهام المستقيمة الخالصة عن شوائب الأهواء الزائغات.
ومن الواضح أنّ هذا المدح الفائق ، والثّناء الرّائق ، لا يليق إلّا بمن يصيب الحقّ ، ويهتدي إلى حقيقة المراد ، ويصل إلى أصل المقصود من كلام الملك العلّام ، بجودة الذّهن ، وإصابة النّظر ، وتنوّر الفكر ، وتجرّد العقل عن غواشي الحسّ والأوهام.
﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)﴾
ثمّ لمّا كان جميع الخيرات والكمالات حدوثا وبقاء بإفاضة الله ولطفه وتوفيقه ، كان على المؤمن اللّبيب أن لا يغترّ بوجدان خير ، ولا يطمئنّ ببقاء كمال ودوام فضيلة ، بل عليه أن يتضرّع إلى الله ، ويسأل إدامته منه تعالى.
فلذا مدح الله الرّاسخين في العلم بأنّهم الّذين يقولون ، تضرّعا واستكانة : ﴿رَبَّنا﴾ ويا من بلطفه تكميل نفوسنا ، وتوفيق هدايتنا ﴿لا تُزِغْ﴾ ولا تمل ﴿قُلُوبَنا﴾ عن نهج الحقّ ، في تأويل المتشابهات وغيره ، إلى الباطل والضّلال ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا﴾ إلى الحقّ والصّواب ، في العقائد والأعمال والتّأويل والتّفسير.
وقيل : إنّ المراد : لا تبتلنا ببلاء تزيغ منه قلوبنا.
روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : « قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أقامه على الحقّ ، وإن شاء أزاغه عنه » (١) .
والظّاهر أنّ كلمة ( الإصبعين ) كناية عن رضا الله وغضبه ، أو عن الملك المرشد والشّيطان المغوي ، أو عن التّوفيق والخذلان.
ثمّ أنّهم - بعد سؤال أن لا يسلب الله عنهم ما ألبسهم من الكمال ، ولا يستردّ ما أعطاهم من العلم
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٩.