في إخبار القرآن بالغيب ووهم ودفع
وعلى أيّ تقدير ، فهذه الآية دالّة على إخبار الله بغلبة المسلمين على اليهود وسائر المشركين ، قبل وقوعها ، عن جزم ويقين ، مع وجود الأمارات العاديّة - من ضعف المسلمين ، وشوكة الكفّار - على خلافه.
ثمّ صدّق الله الوعد بقتل بني قريظة ، وإجلاء بني النّضير ، وفتح خيبر ، ووضع الجزية على من بقي منهم ، وخذلان المشركين ومغلوبيّتهم وطردهم وتشريدهم مع كثرة شوكتهم. فلا شبهة أنّ هذا الإخبار - كإخبار عيسى عليهالسلام بما يأكلون وما يدّخرون - من آيات النّبوّة ، وصدق النبيّ في دعواه.
إن قيل : لعلّ وقوع ما أخبر به كان من الاتّفاقيّات ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة.
قلنا : من المتفّق عليه بين العقلاء أنّ محمّدا صلىاللهعليهوآله كان أعقل أهل عصره ، لو لم يكن أعقل عقلاء العالم ، ولا ريب أنّ العاقل إذا أدّعى أمرا كالنّبوّة ، وكان ظهور كذبه في خبر مبطلا لدعواه ، يمتنع أن يخبر عن الجزم واليقين بأمر يكون في نفسه احتمال خلافه ، وقد أخبر النبيّ صلىاللهعليهوآله بغلبته على الكفّار عن جزم ويقين ، مع تراكم الأمارات العاديّة على خلافها ، وعدم إمكان الجزم إلّا بالوحي.
فإن قيل : لعلّ الجزم به حصل له بطريق الجفر والحساب ، أو علم النّجوم ، أو الكهانة.
قلنا : مضافا إلى أنّ هذا الاعتراض وارد على إخبار عيسى عليهالسلام - وغيره من الأنبياء - بالمغيّبات ، فما كان دافعا لهم في إخبارهم كان دافعا له في إخباره صلىاللهعليهوآله ، فإنّه لا شبهة أنّ تحصيل هذه العلوم محتاج في العادة إلى التّعلّم من أهلها ، والحضور عندهم ، ومن المسلّم أنّه صلىاللهعليهوآله كان امّيّا لم يحضر عند عالم ، ولم يتعلّم من أحد ، ولم يراجع كتابا ، فلا بدّ من اليقين بكون إخباره بالمغيّبات بالوحي.
﴿قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصارِ (١٣)﴾
ثمّ استشهد سبحانه على صدق هذا الإخبار الذي كان معدودا من المحالات ، وتحقّق وقوعه فيما بعد بتأييده تعالى ونصره ، لا بكثرة العدد والعدّة ، بقضيّة بدر التي أشار إليها إجمالا بقوله : ﴿قَدْ كانَ لَكُمْ﴾ أيّها اليهود في وقعة بدر ﴿آيَةٌ﴾ عظيمة ، ودلالة واضحة على نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله وصدق الإخبار بغلبة المسلمين ، وهي ما وقع ﴿فِي﴾ شأن ﴿فِئَتَيْنِ﴾ وفرقتين متبارزتين ، حين ﴿الْتَقَتا﴾ وتراءتا في