بل يبغضون ﴿أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ قليل أو كثير ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من الوحي والنبوّة والآيات والنّصرة على الأعداء.
أمّا أهل الكتاب فلادّعائهم أنّهم أبناء الأنبياء والناشئون في مهابط الوحي ، فهم أولى بتلك الفضائل من المسلمين الّذين هم امّيّون ، وأمّا المشركون فلغرورهم بالجاه والمال ، وظنّهم أنّ من له الرئاسة الدنيويّة أولى بالرئاسة الإلهيّة. ومن البديهي أنّ الحسد لا أثر له.
﴿وَاللهُ﴾ الذي بيده كلّ خير ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ وفضله وإحسانه ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ من عباده على حسب قابليّته واستعداده ﴿وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ على نبيّه وعلى المؤمنين ، ولا يمنعه حسد الحاسدين.
﴿ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)﴾
ثمّ أنّه لمّا كان من عقائدهم الفاسدة امتناع وقوع النّسخ في النبوّات والأحكام الإلهيّة ، وبهذا المبنى طعنوا في دين الاسلام وقالوا : إنّ محمّدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ، ويقول اليوم قولا وفي الغد يرجع عنه (١) ؛ ردّ الله عليهم بقوله : ﴿ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ برفع حكمها ﴿أَوْ نُنْسِها﴾ برفع رسمها واستلاب ذكرها وحفظها عن القلوب (٢)﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ وأصلح ﴿مِنْها أَوْ﴾ نأت بآية ﴿مِثْلِها﴾ في الصّلاح والنّفع والحكمة ؛ لظهور أنّ الوظائف الشّرعيّة والأحكام الإلهيّة بالإضافة إلى الأمراض القلبيّة والرّوحانيّة ، كالأدوية بالنّسبة إلى الأمراض الجسمانيّة. فكما أنّ نفع الأدوية يختلف باختلاف الأمزجة والأوقات ، كذلك الأعمال والوظائف الشّرعيّة ، لبداهة اختلاف مصالحها باختلاف القرون والأزمنة وتغيير الجهات.
في بيان جواز النسخ
إن قيل : كيف يصحّ النّسيان في الآيات ومحو رسمها بالكلّيّة مع قوله : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾(٣) ؟
قلنا : صدق القضيّة الشرطيّة لا يلازم صدق طرفيها ، وهذا كقولنا إن عدمت هذه الشّمس يأت الله
__________________
(١) تفسير الرازي ٣ : ٢٢٦.
(٢) في النسخة : واستلاب عن القلوب ذكرها وحفظها.
(٣) الحجر : ١٥ / ٩.