روي عن ابن عباس أنّ الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة : أنّي باعث من بني إسماعيل نبيّا امّيّا ، فمن تبعه وصدّق [ بالنور ] الذي يأتي به - أي بالقرآن - غفرت له (١) ، إلى آخره.
إن قلت : لو كان هذا العهد ثابتا ، فكيف يمكن جحده من جماعتهم ؟
قلت : يمكن أن يكون العلم بذلك كان حاصلا عند علمائهم فأخفوه عن العوامّ حفظا لرئاستهم ، أو أوّلوا عبارة العهد كما أوّل العامّة نصّ الولاية.
﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ من النّعيم الأبد ، وأعطكم الذي وعدتكم جزاء لإيمانكم به ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ في مخالفة محمّد صلىاللهعليهوآله والخروج عن طاعته.
﴿وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي
ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٤٢)﴾
ثمّ بعد تذكيرهم النّعمة ومطالبة الوفاء بالعهد وبيان جزائه ، فسّر العهد بقوله : ﴿وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ﴾ من القرآن ، حيث إنّكم ترونه ﴿مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ﴾ من التّوراة ، فإنّ التوراة تشهد بأنّه حقّ ، لأنّها مبشّرة ببعثة محمّد صلىاللهعليهوآله وبكتابه ، فالإيمان بالتّوراة مستلزم لتصديق محمّد صلىاللهعليهوآله وكتابه ، وتكذيب القرآن تكذيب التّوراة ، وفي نسبة التّصديق إلى القرآن إظهار لشرفه وفضيلته على التّوراة ، وتوصيفه بكونه مصدّقا إقامة الحجّة عليهم في وجوب الإيمان بمحمّد صلىاللهعليهوآله ، لوضوح أنّ شهادة الكتب السّماويّة لا تكون إلّا حقّا مضافا إلى أنّ إخبار النبيّ صلىاللهعليهوآله بكون القرآن مصدّقا لما في التّوراة من الإخبار بالمغيّبات لتسالم الكلّ على عدم اطّلاعه بما في التّوراة بالقراءة والتعلّم.
ثمّ أردف الأمر بالإيمان الذي هو من المعروف ، بالنّهي عن المنكر ، بقوله : ﴿وَلا تَكُونُوا﴾ أيّها اليهود ﴿أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ مع أنّ اللائق بكم أن تكونوا أوّل مؤمن به ، فيتبعكم سائر اليهود وغيرهم من أهل الكتاب ، لما ترون من صفات محمّد صلىاللهعليهوآله وصفات أصحابه وصفات كتابه مطابقا لما في التّوراة ، وأنتم مع ذلك عالمون بشأنه وأهل النّظر في معجزاته والمستفتحون به.
﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي﴾ ولا تأخذوا بدلا منها ﴿ثَمَناً﴾ وعوضا ﴿قَلِيلاً﴾ من الحطام الدنيويّة ، ولا
__________________
(١) تفسير الرازي ٣ : ٣٥.