المكلّفين إلى السّلوك في طريق الهداية والقيام بوظائف العبوديّة.
ولمّا كان مهمّا في الغاية وشاقا على نفوس العامّة باشر بذاته المقدّسة مخاطبتهم بطريق المشافهة لتنجبر المشقّة بلذّة المخاطبة ، وترتفع بحلاوة النّداء مرارة الصّبر على التّعب والعناء ، وتتوجّه القلوب نحو التّلقّي والإصغاء ، فقال : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ وأطيعوا ﴿رَبَّكُمُ﴾ واخضعوا له.
وفي ذكر صفة الربوبيّة دلالة على أنّها مقتضية لنهاية العبوديّة ، وأنّ نعمه غير المتناهية موجبة لغاية الشكر ، ومؤثّرة في كمال المحبوبيّة ، ولذا عدّ بعد توصيف نفسه بها وإضافتها إليهم جملة من نعمه الفائقة ، أسبقها وأتمّها وأعلاها نعمة إيجاد العبد ، ولذا قدّمها في الذكر بقوله ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وقدّركم وأنعم عليكم نعمة الوجود التي هي أصل النّعم ، ومن الواضح أنّ هذه النعمة أعظم العلل الموجبة للعبادة الخالصة ، ولو مع قطع النظر عن كونها نعمة.
ثمّ أردفها بذكر نعمة خلق الاصول التي هي دون الاولى وفوق سائر النعم ، بقوله : ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من الآباء والامّهات ، حيث إنّ خلقهم من مقدّمات خلق المخاطبين ، مع أنّ النعمة على الآباء والأمّهات من موجبات الشكر على الأبناء والأولاد ، كما قال تعالى : ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ*﴾(١) مع أنّ في ذكر هذا الوصف دلالة على تفرّده تعالى بخلق المخاطبين ، إذ لو لم يكن خالقا لاصولهم ، بل كان خالق اصولهم غيره ، لم تنحصر شؤون الخلق - وهي العبادة - به تعالى ، بل شاركه من هو خالق الاصول ، أو من كان له في خلقهم نصيب.
ويحتمل أن يكون المراد بالموصول جميع السابقين ، لكون خلقهم من مقدّمات وجود اللاحقين ، ولكونه في الدّلالة على كمال القدرة أتمّ.
ثمّ بيّن الله تعالى فائدة العبارة المأمور بها ، بقوله : ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ سخط الله وعذابه ، وتحترزون منه بسبب عبادته ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة بيانا لغرض خلق النّاس ، كما قال تعالى : ﴿ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(٢) .
عن ( تفسير الإمام عليهالسلام ) في هذه الآية ، أنّه قال : « لها وجهان :
أحدهما : [ خلقكم ] وخلق الذين من قبلكم لعلّكم كلّكم تتّقون ، أي لتتّقوا ، كما قال الله عزوجل : ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
__________________
(١) النمل : ٢٧ / ١٩ ، الأحقاف : ٤٦ / ١٥.
(٢) الذاريات : ٥١ / ٥٦.