فأصالة البراءة عن التكليف الأوّل لا يثبت التكليف الثاني ، لأنّها بالنسبة إلى الثانى من الأصل المثبت.
وحينئذ فنقول : الكلام من هذا الحيث تارة في الأصل العقلي ، واخرى في الشرعي ، أمّا الأوّل أعني : حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فلا إشكال في أنّه مثبت للأثر المترتّب على نفس عدم العقاب وعدم تنجّز الخطاب وفعليّته ، كما في باب المزاحمات حيث إنّ عصيان التكليف الغصبي موجب لبطلان الصلاة في الدار الغصبيّة وعصيان التكليف بإنقاذ الغريق الأهمّ موجب لعدم فعليّة التكليف بإنقاذ الغريق المهمّ.
وأمّا لو انتفى العصيان والتنجيز والفعليّة عند الشكّ في غصبيّة الدار ، أو في وجود الغريق الأهمّ بواسطة أصالة البراءة وقبح العقاب بلا بيان كانت الصلاة صحيحة وإنقاذ الغريق المعلوم المهمّ مأمورا به فعلا ، نعم هذا الاصل لا يثبت الأثر المترتّب على نفي التكليف وثبوت الإباحة الواقعيّة ؛ لوضوح أنّ العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان لا يعيّن نفي التكليف في الواقع وثبوت الإباحة كذلك.
وأمّا الأصل الشرعي فإن قلنا بأنّه مسوق لبيان رفع العقوبة عن التكليف المشكوك كما هو مفاد الأصل العقلي ، فقوله : «رفع ما لا يعلمون» ناظر إلى عين ما استقلّ به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وكذلك قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» وقوله : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» فمفاد الكلّ أنّ المؤاخذة والعقوبة مرفوعة ما دام التكليف مشكوكا ، فالكلام فيه هو الكلام في الأصل العقلي بعينه من التفصيل بين الآثار المترتّبة على نفس عدم العقاب ، وبين الآثار المترتّبة على الإباحة الواقعيّة ، بترتّب الاولى دون الثانية.
وأمّا إن قلنا بأنّ مفاد البراءة الشرعيّة جعل الإباحة والحليّة في مرحلة الظاهر في مورد الشكّ لا مجرّد عدم العقاب على التكليف المشكوك ، فمقتضى القاعدة هو التفصيل بين ما إذا كان ثبوت أحد الحكمين عند عدم ثبوت الآخر من باب الملازمة ، وبين ما إذا كان من باب ترتّب الحكم على الموضوع ، ففي الأوّل يكون