وذلك مثل القدرة على متعلّق التكليف حيث إنّه لا دخل له في مصلحة أو مفسدة ذات الفعل كما هو واضح ، مع عدم أخذ الشارع إيّاها في دليل من أدلّه الواجبات أو المحرّمات قيدا مذكورا في الكلام ، وإنّما الثابت هو حكم العقل بعدم حسن توجيه الخطاب نحو غير القادر وقبحه.
ثمّ الفرق بين هذين القسمين من القيود هو تبدّل إطلاق مادّة أدلّة التكاليف في القسم الأوّل إلى التقييد ، بمعنى أنّ ظاهر الكلام دخل القيد في ما هو المطلوب ومتعلّق الغرض الواقعي ، بحيث لولاه لما كان في البين مفيض للطلب ، وبقاء هذا الإطلاق بحاله في القسم الثاني ، بمعنى أنّه يحكم بأنّ متعلّق غرض المولى ومراده اللبيّ ومحبوبه الجدّي هو الفعل على وجه الإطلاق من دون دخل لشيء آخر فيه وإلّا لذكره ، فحيث لم يذكره مع كونه بصدد بيان تمام ما هو مرتبط بهذا المراد اللبيّ كان قضيّة ذلك عدم دخل شيء آخر وكون تمام الدخل لذات الفعل وحده ، نعم غاية الأمر أنّ العقل حيث يقبح توجيه الخطاب نحو فاقد القيد يلزم من ذلك التقييد في هيئة تلك الأدلّة ، فتحصّل أنّ في القسم الثاني يكون الفعل أو الترك مطلوبا مطلقا حتى بالنسبة إلى من يقبح الخطاب نحوه.
إذا عرفت ذلك فنقول : الشكّ في القسم الثاني لا يكون مجرى للبراءة ؛ إذ هو في الحقيقة شكّ في حسن توجيه الخطاب مع العلم بأصل المطلوبيّة ، وحكم العقل فيه الاشتغال؛ لكون البيان من قبل المولى تامّا ، مثاله : ما لو رأى العبد أنّ ابن المولى صار مشرفا بالغرق ، فعند هذا يعلم بأنّ المبادرة إلى إنقاذه مطلوبة لمولاه طلبا شديدا لا يرضى بتركه أبدا ، ولكنّه شكّ في كونه قادرا على إنقاذه أو لا ، للشكّ مثلا في وصول حبله إلى الغريق وعدمه ، فهو لأجل شكّه في وجدانه شرط صحّة الخطاب وهو القدرة شاكّ في توجّه تكليف المولى نحوه فعلا ، لكنّ العقل بالبداهة لا يحكم بمعذوريّته بمجرّد ذلك ، بل يوجب عليه الدخول في العمل وإلقاء الحبل.