الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) :

يعلّم الله رسوله كيف يواجه ويخاطب الطاغية بأحسن الأساليب وأقواها جاذبية ، جامعة برهان العاطفة والعقل والإحساس ، لعله يتذكر أو يخشى.

إنه أمر بالذهاب إلى فرعون ، فاستدعى من ربه أن يشرح له صدره وييسّر له أمره ويحلّ عقدة من لسانه ، ويجعل له وزيرا من أهله هارون أخاه ، فأوتي سؤله فضمّ إليه أخاه عمادا ومساندا وناصرا : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي. اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى. قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى. قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى. فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٢٠ : ٤١ ـ ٤٨).

لا نجد ألين من هذا الكلام عند ألعن حمقاء الطغيان : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) يبتدئ بالسؤال عن ميله إلى التزكي ، دون أن يحتّم عليه أنه قذر فيجب عليه التزكي (هَلْ لَكَ)؟! هل لك ميل ورغبة إلى ما يرغب إليه كل إنسان؟ (أَنْ تَزَكَّى) ولا يخلو من رغبته المتزكون أيضا فكيف بمن سواهم من الأدناس!

إن الإنسان كائنا من كان ، يشعر دوما بالنقصان ، لذلك يحاول فكريا وعمليا أن يزيل عن نفسه وصمة النقصان إلى الكمال والأكمل ، وما من أحد يرى نفسه بالغا إلى ذروة الكمال رغم «أن حب الشيء يعمي ويصم».

وهذه الحالة هي لزام الإنسان ككائن من الكائنات المخلوقة ، مهما كانت ادعاءاته الكاذبة أنه بالغ ذروة الكمال.

٨١

إذا فكل إنسان ـ بل وكلّ حيوان ـ له اندفاع إلى الكمال والأكمل ، وكل مرحلة تالية تزكّ بالنسبة للسابقة وإن كانت هي أيضا تزكيا لسابقتها.

إذا فهذا سؤال لا جواب له إلا الإيجاب : «بلى إن لي رغبة إلى أن أتزكى».

ثم شعور النقص هذا ، وأنه متدرج إلى الكمال ، يدفعه أن يعتنق عقيدة الإله ، الرب الذي لا ينقص شيئا ولا ينقصه شيء ، وهو الذي يدرج إلى مدارج الكمال دون أن يتدرج هو نفسه.

ففرعون هذا ، الذي ظن أنه الرب الأعلى ، عليه أن يشعر بهذا البرهان أنه ليس ربا ، وإنما عبد في نقصان ، عليه محاولة التزكي ، ثم عليه أن يهتدي إلى ربه فيخشاه فلا يطغى ، فما ألينه كلاما وأنعمه! وما أبلغه برهانا وأقومه!

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) العلماء بالله ، وما عدم الخشية من الله إلا لعدم العلم والمعرفة به وعدم الهداية إليه.

إن الهداية إلى الرب : «المالك المدبر» هي السبيل المنحصرة في التزكي ، فإنه يملك الإنسان فيدبر أمره كأحسن ما يكون دون حاجة منه إليه ، والمتزكي عند الرب المحتاج ـ الذي لا يملكه فلا يملك تزكيته ـ إنه ما يفسد أكثر مما يصلح.

إن مرض الطغيان المبتلى به فراعنة التأريخ لا علاج له إلا الشعور بالنقصان ثم محاولة التزكي بالهداية إلى الرب تبارك وتعالى ، فما أحلى دلالة تضم بيان المرض وعلاجه كأتقن وأحسن ما يتصور.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى. فَكَذَّبَ وَعَصى) :

أراه الآية الكبرى ، الحسية ، بعد ما أراه الآية الكبرى العقلية ، ليجمع له الآيتين ويلزمه بالحجتين ، فما هي الآية الكبرى هنا؟!

٨٢

إنها ليست هي الآية الكبرى بين الآيات ، وإنما هي منها وكما أراها موسى من قبل : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) (٢٠ : ٢٣) وإنها هي العصا التي انقلبت ثعبانا مبينا بعد ما انقلبت حية تسعى ، هذه العصا التي نتجت عنها آيات تترى : فقد فلق بها البحر (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٢٦ : ٦٣) وضرب بها الحجر : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) (٢ : ٦٠) ثم الآية الكبرى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٧ : ١٠٧ و ٢٦ : ٣٢) آية أراه ربه إياها إذ كان بالواد المقدس طوى ، ثم أراها فرعون فكذب وعصى : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٢٦ : ٤٥).

(فَكَذَّبَ وَعَصى) لم يزده هذا البلاغ إلا فرارا ، فلم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة قلبه المقلوب الخاوي من معرفة الله ، فكذب موسى واستمر في عصيانه لله ولموساه ، وتجاوز عن طغيانه الأول إلى أشرّ وأطغى (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) تلك الكلمة الوقحة المتطاولة المليئة بالغرور والجهالة.

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى. قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) (٢٠ : ٥٦ ـ ٥٧) أري آيات الله كلها بما فيها من آيات ربه الكبرى ، فكذب وعصى.

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى. فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) :

ثم ـ بعد ما كذب وعصى ـ أدبر عن موسى وعن آية الله الكبرى ، أدبر يسعى في كيده فحشر حشره وجمع جمعه فنادى نداءه كأحمق حمقاء التاريخ : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) (٢٠ : ٦٠) : إنه تولى وسعى وجمع كيده وجمعه وعله مرتين : مرة لدعواه: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وأخرى لمكافحة السحرة بسحرهم : آيات الله الكبرى ، أو عله مرة واحدة جمع فيها بين الكيدين : استخف قومه أنه ربهم الأعلى ، فأطاعوه فيما أراد.

(فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) : إنه تدرج في ربوبيته المزعومة المدعاة حتى إذا

٨٣

وصل إلى ذروتها ، والتدرج بنفسه برهان لا مردّ له على كذبه في دعوى الربوبية.

يقولها الطاغية مخدوعا بغفلة جماهيره الحمقاء وغفوتهم وإذعانهم له وانقيادهم ، أجل وإنها الجماهير الذلول تحني له ظهورها كالحمير فيركبها ، وتمدّ له أعناقها فيجرها ، وتحني له رؤوسها فيستعلي عليها ، وتتنازل له عن حقوقها الإنسانية فيطغى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) .. وما كان له أن يتقول بهذه القولة الكافرة لو وجد أمة واعية أبيّة كريمة مؤمنة عارفة أنه عبد كسائر العباد ، إن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذه منه ضعف الطالب والمطلوب.

فرعون في تضاد الآلهة :

إنه قد يعبد آلهة كما يعبدها غيره (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (٧ : ١٢٨) آلهته اعتبارا أنه كان يعبدها ، أم آلهته لأن قومه كانوا يعبدونها ، أم بالاعتبارين.

وقد يدّعي هو الألوهية لأن له ملك مصر بما فيها الآلهة (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٤٣ : ٥١ ـ ٥٢).

ويهدد موسى إن اتخذ إلها غيره ، توحيدا لنفسه في الألوهية : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٦ : ٢٩) يعني إلها لا أرتضيه وهو الإله الحق ، فإنه كان يعترف بوجود أرباب وأنه أعلاهم : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) هناك أرباب متفرقون وأنا أعلاهم وربهم أيضا إذ أملكهم بمالي ملك مصر.

يبقى في طغيانه وغيّه هكذا : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١٠ : ٩٠ ـ ٩١).

٨٤

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) :

نكال الآخرة تتقدم هنا على الأولى ، ولأنها أشد وأبقى ، وأنها تشمل حياتي البرزخ والأخرى ، فأما نكال الأولى بما أنه يمثل نكال الآخرة تمثيلا ضئيلا ، فهو غرقه بمن معه في اليمّ على حين غرّة وغفلة وطغيان : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٢٠ : ٧٧ ـ ٧٩).

فلما غشيه اليم بما طغى (قالَ آمَنْتُ .. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ..(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (١٠ : ٩٢).

هذا هو نكاله في الأولى ، بقي عذابا على روحه القذرة ما دام بدنه لمن خلفه آية ، ثم نراه حين الغرق يدخل جحيم البرزخ ، ثم يوم القيامة أشد العذاب : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٠ : ٤٥ ـ ٤٦) ، وعلى حد تعبير باقر العلوم عليه السّلام : «أملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠٠ عن الخصال عن زرارة عن أبي جعفر (ع) «قال : أملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فكان بين أن قال الله تعالى لموسى وهارون : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وبين أن عرفه الإجابة أربعين سنة ثم قال : قال جبرئيل (ع) نازلت ربي في فرعون منازلة شديدة فقلت : يا رب تدعه وقد قال أنا ربكم الأعلى؟ فقال : إنما يقول هذا عبد مثلك» أقول والكلمتان قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقوله (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ).

٨٥

فإذا كان نكال الأولى عنيفا قاسيا دائبا على روحه ببدنه ، فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى وأبقى؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى).

عبرة ما أعظمها بما يرى بدنه القذر في الأهرام ، يراه السائحون الوافدون إلى مصر ، عبرة لمن يخشى الله ويخشى نكاله الآجل والعاجل ، وكلّ سائر على نهجه ، وكل إنسان يعمل على شاكلته.

* * *

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣)

.. جولة أخرى لها جرسها الصارخ في أعماق الأسماع ، تندّد بالمشركين الطغاة المعتدين المغترين بقوتهم ، ردا لهم إلى شيء من مظاهر القوة الإلهية الكبرى الملموسة المحسوسة ، التي لا تحسب قوّتهم بجنبها شيئا يذكر.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) :

قوة وصلابة ورموزا وغموضا ، بدءا وعودا.

(أَمِ السَّماءُ بَناها) :

بناها كسماء لا كسبع سماوات ، لأن دحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها ،

٨٦

كل ذلك كان قبل خلق السماء سبعا كما تفصلها الآيات في «فصلت» * : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ٩ ـ ١٢).

فخلق السماوات السبع متأخر عن خلق الأرض وتعميرها بمرحلة ، وخلق أنجمها بما فيها الشمس متأخر عنه بمرحلتين.

بناها من مادتها المنبثقة عن المادة الأولية «ماء» * باضطرامها ، وهي الغاز «الدخان» (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) .. بناها وسواها من ذلك الغاز ، أن (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها).

فهنا بنا آن : بناء السماء ، وبناء السبع الشداد ، والآيات هذه بصدد بيان البناء الأول ، ولقد نبأتنا عن البناء الثاني ـ من قبل ـ سورة النبأ.

(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) :

والسمك هو الطاق المسموك بما يسمكه ويمسكه من السقوط ، وهو هنا عمد لا ترونها ، كما السماوات أيضا بأنجمها : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١٣ : ٢). فسمك السماء قبل السبع ، وسمك السماوات السبع ، إنهما كليهما (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فثمّ عمد ولكن لا ترونها وعلى حد تفسير باقر العلوم عليه السّلام.

«فسواها» * سماء يرفع سمكها ، فلو لا سمكها لم تكن سماء ، بل كانت تتساقط إلى أعماق الأجواء كما سوف تتناثر الكواكب عند قيامتها واسترجاع سمكها وجاذبيتها.

٨٧

«فسواها» * سماء عادلة الأطراف ، متساوية الجوانب والأكناف ، دون اختلاف بين أجزائها لأنها كانت كلها الغازات الأولية على حراراتها وظلماتها وإشراقاتها ، فتلك ليلها وهذه ضحاها ، إذ لم تخلق بعد شمسها المضحية وشموسها المشرقة وكراتها المستنيرة أحيانا والمظلمة أخرى.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) :

أصل الغطش من الأغطش وهو الذي في عينه شبه عمش ، والتغاطش هو التعامي عن الشيء ، فإغطاش ليل السماء هو جعله مظلما ، وعلّه يرمز إلى أن الدخان السماوي كان نيرا لما خلق من تفجر المادة الأولية «الماء» * فلما تصاعد دخانا أظلم : أن أحاطت الظلمة جوانبها المجاورة للفضاء ، والنور والضياء باطن في بطنها ، ثم الله أخرج ضحاها إذ نشر الدخان في الفضاء وقلبّه ظهر بطن فأصبح ليلا وضحى ، نورا وظلاما ف (أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها).

كل ذلك تؤيده السنة المهتدية بالكتاب وعلى حد تفسير باقر العلوم عليه السّلام (١) كما ترى تفاصيلها في البحث الفصل عن خلق السماوات والأرض عند مواضعها الأنسب.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠١ في روضته الكافي بالإسناد عن محمد بن عطية عن أبي جعفر (ع) أنه قال لرجل من أهل الشام : وكان الخالق قبل المخلوق ولو كان أول ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ولم يزل الله إذا ومعه شيء وليس هو يتقدمه ، ولكنه كان إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه. وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور ، فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا ثقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة ثم طواها فوضعها فوق الماء ، ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء أن يثور ، فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا ثقب وذلك قوله : والسماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، قال : ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا سحاب ثم طواها فوضعها فوق الأرض ثم نسب الخلقتين فرفع السماء قبل دحو الأرض فذلك قوله عز ذكره : والأرض بعد ذلك دحاها ، يقول بسطها.

٨٨

دحو الأرض وطحوها :

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) :

إن دحو الأرض وطحوها : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٩١ : ٦) إنه كان أيا كان ـ بعد خلق السماء ، لا بعد السماوات السبع ، لما درسناه في الآيات من «فصلت» * أن تسبيح السماء كان بعد خلق الأرض ببركاتها وجبالها ، فما هو دحوها وما هو تأثيره عليها؟

إن الدحو والطّحو هما : الرمي بقهر والإزالة والرحي والدحرجة (١) ، والأخيرة هي أشمل معانيها وأكفاها دلالة على أن دحوها هو الحركة المنظمة ، أو بدايتها المكمّلة بإرساء الجبال في أعماقها وعلى حد تعبير الأمير عليه السّلام «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشتاخيب الشم من صياخيدها فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو أن تسيخ بحملها» و «سكنت الأرض مدحوة في لجة تياره ، وردت من نخوة بأوه واعتلائه وشموخ أنفه وسمو غلوائه وكعمته على كظة جريئة فهمد بعد نزقانه ولبد بعد زيقانه وثباته» (٢) .. وسكون الدحو هنا هو السكون عن الاضطراب بانتظام حراكها في دحوها.

__________________

(١) في تاج العروس «دحى السيل بالبطحاء رمى ، والمطر الداحي الذي يدحو الحصى عن وجه الأرض بنزعه ، والدحو الحجارة المراماة بها ، ويقال للفرس : مر يدحو إذا رمى بيده رميا.

وفي غريب القرآن للراغب الأصبهاني «دحى المطر الحصى من وجه الأرض ، أي جرفها ثم ذكر بقية المعاني المسبقة» والحركة المنظمة والدحرجة ظاهرة هنا وهناك.

(٢) وبداية الخطبة «كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ولجج بحار زاخرة يلتطم أواذي أمواجها وتصطفق متقاذفات أثباجها وترغو زبدا كالفحول عند هياجها فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها وسكن هيج ارتمائه إذ وطأته بكلكلها وذل مستحذيا إذ تمعكت عليه بكواهلها ، فأصبح بعد اصطحاب أمواجه ساجيا مقهورا وفي حكمة الذل منقادا أسيرا» ..

أقول : والظاهر هنا ومن غيره أن الأرض رويت لأول مرة بالغرق ولم يكن سبيل لترويتها إلا هذا ، ثم ابتلعت الماء ثم أخرج الماء منها بدحوها.

٨٩

وقد ذكرنا مسبقا ـ سنادا إلى آيات ـ أن الأرض كانت متحركة منذ خلقت ، ثم جعلها الله تعالى ذلولا بعد شماسها ، وهنا تعرفنا على بدايتها في انتظام حركاتها أنها بعد خلق السماء قبل تسبيعها.

وفي روايات مستفيضة أن الدحو كان من تحت الكعبة ـ زادها الله شرفا ـ.

فعن إمام المتقين علي عليه السّلام : «إن شاميا سأله عن مكة المكرمة لم سميت مكة؟ قال : لأن الله مك الأرض من تحتها ، أي دحاها».

والمك هو الدحرجة كما في القاموس ، وعنه عليه السّلام أيضا : «فلما خلق الله الأرض دحاها من تحت الكعبة ثم بسطها على الماء».

وهذه كرامة لمكة المكرمة أنها نقطة الابتداء لانتظام حركات الأرض الناتجة عنه مختلف ألوان الحياة ، وكما أن حج البيت قيام في الحياة وانتظام للحركات الإنسانية في مختلف مجالاتهما (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) أي نقطة تلاق وانطلاق لكافة المتطلبات الحيوية الجماعية الإسلامية السامية.

هذا ، وإن تفسير الدحرجة لدحو الأرض ما تصرّح به اللغات الصراح والأحاديث المفسرة لحق المعني منه ، ولا تنافيه اللغة والأحاديث التي تفسره بالبسط ، لأن انبساط الأرض في نفسها وللحياة هو لزام حراكها المنظمة المعقولة الدورانية ، إذ كانت لينة تتأثر بالحراك على أثر قانون الفرار عن المركز ، ولم يفسره ب «البسط» إلا لغة التفسير ، وكما نراه في الكثير من كتب التفسير ، وكذلك الأحاديث التي تعني تفسير النتيجة الهامة من دحوها وحراكها ، ومن الشاهد عليه أننا لا نرى البسط في معنى الدحو إلا بالنسبة للأرض لا سواها!

وإن أهم ما أنتجه دحو الأرض وطحوها هو بسطها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء جبالها في أعماقها ، بعد أن كان ماؤها مخبوا فيها ، وجبالها لينة دون رسوّ في قطع أديمها.

إن بداية ظهور الجبال هي من حصيلة الأمواج التي ظهرت على سطح الأرض

٩٠

نتيجة الحركات والاصطدامات بالجو البارد ، وقانون الفرار عن المركز ، وكما عن علي عليه السّلام حين يسئل : «مم خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج» : أي أمواج السطح المذاب ، الضارب إلى الانجماد في المواضع المستعدة.

فلقد مدّت الأرض وسطحت على أثر حركاتها الأولية ، ثم على أثر دحوها ، فألقي فيها رواسي شهقت من فوقها وأرسيت في بطنها : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) (١٥ : ١٩) (هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) (١٣ : ٣).

والرواسي الملقاة تعم المخلوقة الممتدة على سطح الأرض إلى باطنها ، والتي انبثقت من تفجرات البراكين ، والتي سقطت من نجوم السماء.

ومن أهم ما نذكره هنا كأبلغ نموذج روائي بعد الآيات ما عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام بشأن الجبال : «وجبل جلاميدها ونشوز متونها وأطوادها فأرساها في مراسيها فألزمها قرارتها فمضت رؤوسها في الهواء ورست أصولها في الماء ، فأنهد جبالها عن سهولها وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها فأشهق قلالها وأطال أنشازها وجعلها للأرض عمادا وأرزها فيها أوتادا فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها».

فقد سطحت الأرض ومدت بما دحيت (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فهيئت لرسوّ الجبال وإرسائها في قطع أديمها ، ثم (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها).

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها) :

عرفنا مسبّقا أن مياه الأرض كلها من السماء ، وهنا نعرف أنها نزلت عليها قبل دحوها وقبل تسبيع السماء وخلق أنجمها ، فما كان الماء ليخرج من كبد الأرض ـ وهي مجنونة الحراك والحرارة ، يتصاعد منها بخارا إلى السماء ـ لو كانت على حرارتها ، أو كان بخارا مكنونا في جوفها لكي لا يفر عنها لو ظهر

٩١

على سطحها ، حتى إذا دحاها ربّها ، فأرسى جبالها المتكونة من الأمواج على سطحها الذائب ، أرساها في قطع أديمها بعد ما كانت ليّنة غير راسية ، ثم إرساء الجبال ـ ولزامه برودة الأرض شيئا مّا ـ هيّأ الأرض لإخراج مائها ومن ثم مرعاها : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

وإرساء الجبال يوحي بتكوّنها قبل إرسائها ، وكما الآيات المسبّقة تدل أنها نصبت ثم أرسيت (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) ..

فلقد خلقت الأرض محترقة مذابة لا ماء فيها ولا كلاء ولا جبال ، ثم الله أنزل عليها من السماء ماء بعد ما بردت شيئا مّا ، ولكنها ابتلعت ماءها خوف ارتجاعه إلى السماء نتيجة الحرارة الزائدة ، وأخذت الجبال تظهر عليها من الأمواج ، ثم دحاها فأرسى جبالها وأخرج منها ماءها ومرعاها (١).

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) :

كل ذلك ليمتّعكم وأنعامكم ، يمتّع أنعامكم لكي تتنعموا منها ، ويمتعكم إلى أجل مسمى لتذكروا نعمة ربكم وتشكروه عليها.

* * *

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ

__________________

(١) في الدر المنثور بالإسناد عن قيس بن عبادة قال : إن الله لما خلق الأرض جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا ، فأصبحت صبحا وفيها رواسي فلم يدروا من أين خلقت.

٩٢

خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) (٤٢)

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) :

هي الداهية الغامرة المتفاقمة التي تنسي الدواهي كلها ، ولا تطاق لمن وافاها (١) ، وهكذا سوف تكون الساعة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وما أمر الساعة إلا كلمح البصر» (١٦ : ٧٧).

إن هناك طامات ، داهيات غامرات ، والقيامة الكبرى كبراها ، فطامة الموت (٢) ، وطامة قيام القائم (٣) ، وطامة الرجفة والصيحة ، إنها كلها طامات ، إلا أنها غير تامات ، إلا الأخيرة الآخرة ، فالصيحة والرجفة الثانية هي الطامة الكبرى التي تغمر الكون أجمع فلا تبقي ولا تذر ، لوّاحة للبشر ، (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ).

إن الحياة الدنيا ومتعها كلّها متاع ينتهي إلى أجل ، فإذا جاءت الطامة الكبرى غطّت كل شيء ، على المتاع وعلى إنسان المتاع ، وعلى الأرض والسماء

__________________

(١) طمه : ملأه ، والماء غمر والشيء كثر والأمر عظم وتفاقم ، والعدد الكثير والداهية ، والقيامة تطم ، أي تغمر كل شيء ، والطمطام وسط البحر ، والطامة الداهية التي لا تستطاع وأصله من طم الفرس إذا استفرغ جهده في الجري ، وطم الماء إذ أملأ النهر كله.

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٠٦ ، القمي عن النبي (ص) «كفى بالموت طامة يا جبرائيل! فقال جبرائيل : إن ما بعد الموت أطم وأطم من الموت».

(٣) المصدر في كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن أمير المؤمنين (ع) بعد ما يذكر الدجال ومن يقتله وأين يقتل «ألا أن بعد ذلك الطامة الكبرى ، قلنا : وما ذلك يا أمير المؤمنين! قال : خروج دابة الأرض من عند الصفا معها خاتم سليمان .. وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها ..».

٩٣

المتاع ، إنها تطمّ وتعمّ الكون بمن فيه وبما فيه ، ولكي تبدأ الحياة جديدة داخرة ، ثم لا يبرز هناك إلا ما سعاه الإنسان وقدّمه لأخراه.

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) :

يتذكر ما نسيه أو تناساه ، وما لم يكن ليتذكره يوم الدنيا لغفلته : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٨ : ٦) : يتذكره ما هو؟ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٨٢ : ٥) (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (٨١ : ١٤) إذ كان حين الدنيا يعلم ظاهره دون باطنه ومصيره ، كما ويتذكر بما يسمعه ويراه من أقواله وأعماله ، من حلّه وتر حاله ، التي كان ربه يستنسخها في ذاته وفي أرضه .. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠) (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) (٧٨ : ٤٠).

صحيح أن الإنسان يتذكر ما سعاه يوم البرزخ أيضا ، ولكنه برزخ وليس تاما ، وكما أن طامته ليست تامة ، فيوم الطامة الكبرى سوف يكون تذكر الأعمال تاما كما الجزاء (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) (٨٩ : ٢٣) وأنى! ولات حين مناص ، ولا تنفعه الذكرى.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) :

بروزا للرؤية للناظرين ، من أهله وسواهم ، وبروزا لصلي الغاوين : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٢٦ : ٩١). تسعّر الجحيم بمن يدخلها من أصول الضلالة ، بعد أن كانت خامدة : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (٨١ : ١٢) (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) (٨٣ : ١٦).

والجحيم هي نار شديدة التأجج بوقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. وتبريز الجحيم هو إظهارها بعد خفائها ، ولقد كانت الجحيم مع أهلها يوم الدنيا ،

٩٤

غافلين عنها ، جحيم الذوات والأفكار والأعمال ، وهي تبرز يوم يقوم الاشهاد : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) وما الجحيم يوم الطامة الكبرى إلا بروزا لحقائق الأعمال ، مهما كانت أرضها حاضرة.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) :

تقسيم ثنائي للناس أجمعين من أهل الجنة والجحيم بمن فيهما من درجات ، ويذكر لكلّ مرجعه بما قدمت يداه.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) : على ربه وعلى المربوبين ، تجاوز عن طوره وعن الهدى ، فمدى الطغيان هذا أوسع مما لذوي الجبروت والسلطان ، شاملا لكل مجاوز حده ، الذي يحيا حياة الطغيان ، التي هي ممات للحق وذوي الحق ، وليس الطغيان إلا نتيجة عدم المعرفة بالله ، وعدم الشعور بالمسئولية ، وأن يحسب الإنسان نفسه كأنه الكل : مدار رحى الكون.

(وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) : إن الطغيان يدفعه إلى إيثار الحياة الدنيا على الحياة العليا ، وكما الإيثار يدفعه إلى الطغيان : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٩٦ :٦).

ليست الحياة الدنيا هي الحياة في دار التكليف ، فإن الدنيا مدرسة الآخرة ، وإنما أن يعيشها الإنسان حيوانا لا يعرف القيم الإنسانية ، فإذا أهملت الحياة العليا ، المناسبة للآخرة والأولى ، اختلت كل الموازين والقيم في تقدير الإنسان ، واختلت كل ضوابط الإدراك الحق والسلوك العدل في حياته ، وأصبح حيوانا وحشيا على صورة الإنسان.

(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) : لا في أخراه فحسب ، بل وفي أولاه أيضا ،

٩٥

فبما أن المأوى هو الملجأ والمسكن ، فالذي يعيش الحياة الشريرة ، فحياته جحيم لنفسه ومن سواه ، مهما كان غافلا عن جحيم الحياة ، وسوف تظهر حقيقة هذا الجحيم يوم الطامة الكبرى.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) :

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) : خاف مقامه ، دون أن يخافه : (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤ : ١٤) فليس خوف المقام هنا إلا لخوف الوعيد الناتج عن مقام الرب .. فما هو المقام؟

مقام الرب هنا هو قيامه بالعدل والجزاء الوفاق للحسنات والسيئات (١) ، هذا هو مقامه وكما شهد : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣ : ١٨).

ومن قيامه بالقسط هو الجزاء العدل على الحسنات والسيئات وإن كانت الحسنات فيها فضلا بعد العدل.

فالله تعالى لا يحيف حتى يخاف من جوره : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٢٤ : ٥٠) وإنما يخاف من الجائر الفاجر (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) (٨ : ٢٦).

إذا فلا يخاف الرب ، وإنما يخاف مقام الرب العاصي لعصيانه ، والعادل فلا يعصي : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٠ : ١٥).

فخوف الله ليس لألوهيته ، وإنما لعدله بربوبيته : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ

__________________

(١) فإن المقام بين كونه اسم مصدر واسم زمان واسم مكان والأخيران لا يناسبان مقام الربوبية إذ لا زمان له ولا مكان.

٩٦

الْعالَمِينَ) (٥ : ٢٨) ، فالذين يخافونه فلا يعصونه : (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٤١ : ٣٠). (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٥٥ : ٤٦).

والجنتان هما الجسدانية والروحانية وهي أكبر : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩ : ٧٢) (.. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ١٥).

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) : إن خوف مقام الرب لا يثمر إلا بنهي النفس عن الهوى (.. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) (١٢ : ٥٣) فالنفس البهيمية هي التي تدفع الإنسان إلى خطوات الشيطان وإلى الطغيان على الرحمان وإلى أن يؤثر الإنسان الحياة الدنيا ، فليعش الإنسان حياته بجناحي السلب والإيجاب : أن يسلب عنه هوى النفس الطائشة الطاغية تنزيها وتزكية ، وأن يفرض على نفسه خوف مقام ربه تحلية له وتجلية ، فيطير بجناحيه إلى معراج المعرفة والعبودية الكاملة : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

«فمن علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى» (١)

«فلا تدع النفس وهواها فإن هواها في رداها وترك النفس وما تهوى داؤها ، وكف النفس عما تهوى دواؤها» (٢) «واحذروا أهواءكم

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠٧ ح ٤٤ عن الصادق (ع) في الآية.

(٢) في ح ٤٥ عن أبي الحسن الرضا (ع): اتق المرتقى السهل إذا كان منحدره وعرا ، قال : وكان أبو عبد الله (ع) يقول : لا تدع النفس ..

٩٧

كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم» (١).

هذه هي الطريقة المثلى في تزكية النفس إذ ألهمت طغواها وتقواها : أن أن يتقي فجورها ويقوّيها في تقواها : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٩١ : ٩ ـ ١٠).

والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام نزعات النفس وهوساتها ، كما أن نهيها عن الهوى يساعد على خوف أكثر وأتم فهما متناصران في هذا الميدان.

وإنما الإنسان إنسان بهذا النهي وهذا الخوف دون أن يترك نفسه لهواها فتأخذ حريتها فتعيث في الأرض فسادا.

(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) : في الأولى بحياة سعيدة آمنة أمينة ، وفي الأخرى بحياة خالدة هي أسعد وأبقى ، فهناك جنة في الحياتين وهناك جحيم فيهما.

إن الأول يرتفع ويتهيأ لحياة رفيعة طليقة ، والآخر يرتكس وينتكس في درك الجحيم إذ هدر إنسانيته فانهدرت ، فيرجع أخيرا وقودا للنار كما بدأ الحياة وقودا لمشاكل الحياة الجهنمية الغادرة.

فالمؤمن جنة أينما حل ، والكافر نار حيثما دار ، وإلى دار القرار.

والدواء الأول والأخير لأدواء الإنسان ككل ، ما عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم «إن الله يقول : وعزتي وجلالي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أوته منها إلا ما قدرت له ، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع

__________________

(١) في ح ٤٩ باسناده إلى أبي محمد الدابشي عن الصادق (ع).

٩٨

مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا واستحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة» (١).

* * *

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٤٦)

. مرسى الساعة ومنتهاها :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) :

يسألونك المتعنتون عن مرسى الساعة ، كما وعن الساعة نفسها : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) (٣٣ : ٦٣) فما هي الساعة؟ وما هو مرساها؟ وما هو منتهاها؟

أصل الساعة من ساع الشيء إذا ضاع وزال ، وساعت الإبل : سرحت وتخلت بلا راع ، فالساعة. هنا وفي سواها من آيات إلا القليل ، هي وقت ضياع الكائنات وزوالها بأسرها وكأنها سرحت بلا راع يرعاها ، ويقال لجزء من الزمان ساعة ، لتصرّمه وضياعه ، وكما الزمان كذلك بأسره.

وبما أن زوال الكائنات تستقبله القيامة الكبرى ، قيامة الأموات ، اعتبرت

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٠٧ ح ٤٨ باسناده إلى أبي جعفر (ع) قال : قال رسول الله (ص) :

٩٩

هي أيضا ساعة ، فالرجفتان : رجفة الإماتة ورجفة الإحياء ، كلتا هما الساعة ، والأولى أولاها والثانية منتهاها ، و (يَوْمَ يَرَوْنَها) : الساعة ، توحي إلى الثانية لقوله (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) فهي إذا ساعة الإحياء. كما أن هنا آيات توحي إلى الأولى وإليهما أيضا.

فالساعة هنا هي زوال الزمان وضياعه بكائناته ، والانتقال إلى زمان لا زوال له ولا انتهاء ..

فما هو مرساها؟ إنه من الإرساء وهو مقابل الجريان : (قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (١١ : ٤١) (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٣٤ : ١٣) (وَالْجِبالَ أَرْساها) ثبّتها ووتّدها في كبد الأرض.

فمرسى الساعة ثباتها أو زمن الثبات (١) ثباتها واقعيا ، أم ثبات الاختلال والزوال المعنيّ من الساعة ، أم وقفة الزمان لهذا الكون ، تبدلا إلى زمان دون وقفة وانتهاء.

(أَيَّانَ مُرْساها) :

أي زمان يكون إثباتها أم ثباتها؟ ..

كل ما نعرف عن الساعة ـ بما عرفنا الله ـ أنها قريب : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (٥٤ : ١) (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (٤٢ : ١٧) ولا معنى لقربها ، إلا أن الكائنات تجاوزت عن النصف من عمرها حين نزول القرآن ـ إذ يعتبر انشقاق القمر من أشراط الساعة وآيات قربها ـ وإلا أن كل آت قريب.

__________________

(١) لكونها مصدرا ميميا أو اسم زمان لا اسم المكان إذ لا معنى لمكان رسو الساعة.

١٠٠