الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

فهذه صراحة في الآيات لا مرية فيها ، أن ذلك الدمار لأصحاب الفيل كان من قاذفات الطير الأبابيل بحجارة من سجيل ، فلا يصغى إلى تأويلات المتضايقين من خوارق العادات ، الذين يكرسون كافة طاقاتهم لتأويل أمثال هذه الآيات إلى غير تأويلها.

هكذا فليكن الحفاظ الرباني على بيته العتيق ، أنه يمنع أهل الكتاب الحبش أن يحطموا بيته الحرام ، حتى حين إذ يدنسه الشرك ، والمشركون هم سدنته ، وليبق هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين ، مصونا من كيد الكائدين ، كما كان عتيقا منذ خلق وعمر ، لم تسيطر عليها أيدي الأرض ، وليحافظ على حريتها وانعتاقها حتى تثبت فيها العقيدة الجديدة حرة مطلقة.

وإننا نستبشر بهذا الحادث العظيم ، ذي الدلالة البعيدة العميقة ، نستبشر إزاء ما نعيشه من أطماع توسعية ما كرة ترف حول الأماكن المقدسة ، من الصليبية ، والصهيونية العالميتين.

٤٦١

سورة قريش ـ مكية ـ وآياتها أربع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

* * *

علها ذات صلة بسورة الفيل بتعلق (لِإِيلافِ) بها : ألم تر كيف فعل ربك ... لإيلاف قريش ، فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، ثم هذه الصلة لا تمنع صلة المجرور (لِإِيلافِ) بما في السورة نفسها : لإيلاف قريش فليعبدوا.

وأخيرا يصح القول بجمع الصلات الثلاث لصحتها وتماميتها أجمع : فإيلاف قريش كما هو أهداف الحفاظ على البيت ، بيت عزهم وسيادتهم ، كذلك هو سبب يدفعهم أن يعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، إذ جذب واجتلب إليهم ثمرات كل شيء ، وآمنهم من خوف ، خوف أصحاب الفيل ، وخوفهم فيما بينهم.

ولا يعني إيلاف قريش اختصاص هذه العناية الإلهية بهم ، أو اختصاص شريعة القرآن بهم ، وإنما يعني أنهم منطلق الدعوة وركيزتها الأولى وبدايتها ، وأول

٤٦٢

المطاف في التبشير والإنذار المحمدي : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها).

فالواجب الإلهي والواجب الطبيعي في كل رسالة إلهية هو البداية بالأقربين ، ولأن إيمانهم يهيئ الجو لإيمان الآخرين.

فلو ترك الرسول إنذار قومه في البدء ، ولو كذبوه وأنكروه ، لأصبح هذا التكذيب والنكران برهانا لغيرهم من الناكرين : أن لو كان حقا ما كذبوه وهم أعرف الناس به!

إذا ننتقل من إيلاف قريش إلى إيلاف الناس أجمعين ، الذين يصدقون بهذا الدين ، فهنا دافع للإيلاف وهو عبادة رب هذا البيت ، أن يجتمع الناس أجمعون على عبادة الله الواحد القهار ، وبهذا يتحقق الائتلاف لانتظامهم في اتجاه واحد في الحياة.

وهنا سبب يهيئ الائتلاف وهو الحفاظ على كرامة البيت العتيق ، فلو أن أصحاب الفيل لم يمنعوا دون مسهم من حرمة البيت ، لانهار حرم الموحدين في البداءة ، وانهار رجاؤهم طول الحياة.

ليعبد رب هذا البيت لأنه الرب ، ولأنه أطعمهم من جوع قاتل ومن خوف قاتل ، وعلى حد تعبير الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «نعمتان مجهولتان ، الصحة والأمان».

إن الخوف كان شاملا لحياتهم في كافة مجالاتها ، السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والعقيدية والنفسية ، كانوا يعيشون الخوف ، وكانوا أمواتا في حياتهم ، فأحياهم الله بالقرآن ، وآمنهم من كل المخاوف لو طبقوا شريعة الله.

٤٦٣

سورة الماعون ـ مدنية ـ وآياتها سبع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧)

* * *

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) :

التكذيب بالدين هو موضوع السورة ، وبما أن الدين لا يحصر في الجانب العقائدي والعلاقات الفردية ، فهذه السورة ـ كأنها ـ تختص الدين بالعلاقات الجماعية والاهتمام بأمور اليتامى والمساكين ، إيحاء بأنها من الدين رغم التغافل الملموس في هذا الصدد ، إضافة إلى الاهتمام بالصلاة التي هي صلات فردية برب العالمين.

«أرأيت» : سمعته ما يكذب بلسانه؟ أبصرت ما يعمل بأركانه؟ عرفت

٤٦٤

ما يكذب بجنانه؟ حيث الدين : الطاعة ، هو لفظ الإيمان ، وعقيدة الإيمان ، وأعمال الإيمان ، وكلّ يتطلب رؤية تناسبه.

(يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) : هو طاعة الله يوم الدنيا ، والجزاء عليها ، يوم الدين وهو بروز حقيقة الطاعة يوم الجزاء ، والتكذيب بالدين قد يعم مراحله الثلاث ، وقد يخص مرحلة دون أخرى ، وقد يختص بما يحق في كلّ مرحلة وإن كان يؤمن بها إجمالا ، فمن يعمل عمل المنكر المكذب لطاعة الله ، فهو محسوب من المنكرين المكذبين ، إذ إن الغاية من ألفاظ الإيمان وعقائد الإيمان هي أعمال الإيمان ، وإن كانت لعقيدة الإيمان أصالة فلأنها نبعة الأعمال الصالحة.

والدين الطاعة هو الإسلام لله والتسليم له بكافة المظاهر والأسرار : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٣ : ١٩) (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. (٣ : ٨٣). والدين القيّم هو طاعة الله وحده : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٢ : ٤٠) (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (٤ : ١٢٥).

في هذه السورة عرض للتكذيب العملي الناشئ عن التكذيب العقائدي ، أو كأنه هو ، حيث الأثر هو الأثر ، وهو اللامبالاة بشأن الخلق والخالق سواء.

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) :

اليتيم لغويا هو «المنقطع» عما يحق الاتصال به لنضارة الحياة : ماديا ومعنويا : من رحمة وعناية أبويه ، وحنان الأم ، ومن هداية إلهية ، وكما يجب للإنسان إنسانيا رحمة الأبوين ، كذلك ـ وأحرى له ـ التوجيهات الربانية ، ومن الواجب الجماعي الإسلامي رعاية اليتامى من كافة الأصناف ، الرعاية الأبوية لجبران نقصها بفقد الآباء ، والرعاية الروحانية كذلك ـ أصالة ـ ولجبران نقصها

٤٦٥

من الآباء الروحيين الذين قصروا في أداء ما عليهم ، علاقات تضامنية بين المسلمين ولكي يجبروا ما ينقصهم في الحياة ، بعضهم البعض.

إن الواجب هو الرحمة على اليتامى دون أن يبغى منهم جزاء ولا شكور : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (٤ : ٦) .. عناية مجانية ورعاية دون مقابل لمصلحة اليتامى ، إلا للفقير ، فليأكل كما يعمل لأقل قليل.

القرآن يشرك اليتامى في الكثير من الانتفاعات الجماعية والعائلية ، فيوسطهم في قسمة الميراث بين أولي القربى والمساكين غير الوارثين : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٤ : ٨) ويردف بهم الوالدين وذوي القربى في وجوب الإحسان إليهم : (.. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) (٤ : ٣٦).

فلو كان اليتيم مسكينا فله حقان : في الإرث وفي الإحسان ، وإلا فحق اليتيم لا يزيله عدم المسكنة لردفهم بالمساكين.

إن القيام بالإحسان والقسط لليتامى هو من واجبات الإيمان ، مهما كان اليتيم فقيرا أو غنيا ، لينوب مناب الوالد الذي كان قائما بالإحسان إليه مجانا : (.. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) (٤ : ١٢٧) (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) (٢ : ٢٢٠) كذلك فليكرم اليتيم الذي يجد نفسه مهانا بفقد الوالد أو الوالدين : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (٨٩ : ١٦) وليردف بالوالدين وذوي القربى في كافة الرحمات العائلية : (.. لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) (٢ : ٨٣) (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ) (٢ : ٢١٥).

وليحذّر عن أموالهم ولا يقرب إلا بالتي هي أحسن ، حفاظا عليها ، واستزادة

٤٦٦

فيها دون أيّ مقابل : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) (٦ : ١٥٢) (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٤ : ١٠).

فمن يدفع اليتيم عن حق الإحسان اليه والإكرام له ، ومن يدفعه عن إشراكه ويدعّه في الرحمة العائلية ، ومن يدعّه عن إصلاحه وإصلاح حاله وماله ، ومن يدعّه عن ماله فيأكله ظلما ، فهذا الذي يكذب بالدين : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ).

قال ابن جريح : نزلت في أبي سفيان ، كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه ، وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأعمال القبيحة ، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل ، كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي.

وقيل وقيل .. ولكنما الآية تأبى الإختصاص بمن نزلت في شأنه ، إنها تعم كل سفياني يقرع اليتامى ، وكل أبي جهل يجهل حقوقهم ، فإنّ دعّ اليتيم ودفعه عن حقه هو من ظواهر التكذيب بالدين ، مهما كان اليتيم يتيما في الدنيا أو الدين.

إنه ليست اللامبالاة بشأن العبادة ـ فقط ـ هي التكذيب بالدين ، فإنها تكذيب به ، سواء بحق الخالق أو الخلق ، فالدين يجمع بين الحقين ، كما السورة تجمع بينهما ، ابتداء بحق الخلق وانتهاء به ، ويوسط حق الخالق هنا إشارة إلى أن الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله أحبهم إلى عياله المحتفين به ، كما احتفت اليتامى والمساكين وذوي الحاجة بعبادة الله.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) :

ليس إطعام المسكين هو الفرض فقط ، بل الحض على طعامه أيضا ، والمحاضة

٤٦٧

عليه ، وليس فرض المسلم أن يكون هو ـ فقط ـ الفائض الخير على المسلمين ، فإن هناك فرضا ثانيا هو حض الناس أجمعين أن يكونوا فائضين ، نبعة فوارة شاملة دون أن تيبس مهما يبست بنفس ذاتها ، ولكنها فياضة بما تحضّ سواها وتبثّ ، هكذا يجب أن يكون المسلم فياضا بكل خير ، يكرّس حياته في هذه السبيل دون أن يجمد فوّاره.

وعلى المسلمين أن يحض بعضهم البعض على طعام المسكين ، فعدم المحاضة وعدم الحض على طعام المسكين ينشأ من عدم الإيمان بالله العظيم : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٦٩ : ٣٣ ـ ٣٤) (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٨٩ : ١٨).

هناك وهنا لك كان ويل للناكرين حقوق اليتامى والمساكين : المكذبين بالدين. ثم هنا :

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) :

يصلون ولكنهم لا يؤمنون ، وكأنهم مكذبون بفرضها والذي فرضها ، حيث اللامبالاة في أدائها ، وعدم الإتيان بشرطها الأصيل : «الإخلاص».

إن التفريع هذا «فويل» * يربط هكذا مصلّين بالذي يكذب بالدين ويدعّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ، فاللامبالاة هي اللامبالاه ، سواء أكان بحق الخلق أو الخالق ، فالمنشأ واحد هو التكذيب بالدين ، وفقدان الركيزة الإيمانية كما يجب.

وإذا كان اللامبالي بحقوق الخلق من المكذبين ، فاللامبالي بالخالق هو من أشر المكذبين.

وإذا كان الويل للمصلين المقصرين في صلواتهم فما هو لتاركي الصلاة؟

٤٦٨

(الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) :

عن صلاتهم ـ لا ـ في صلاتهم ، إذ إن الإنسان ، كائنا من كان ، قد يسهو في صلاته ، في شرائطها وأجزائها ، إلا من عصمه الله ...

والتنديد هنا بالساهين عن صلاتهم : فقد يصلون إذا حضروا وقد لا يصلون إذا غابوا ، يحسبون صلواتهم كأهون ما يبغون ، فهكذا سهو عن الصلاة مبدأه اللامبالاة بشأن الصلاة ، سهو عامد ، ونسيان مقصود ، وتساهل متقصّد ، كل ذلك لأنه مكذب بطاعة الله ، لا يعتبر طاعته أصلا في الحياة ، ولا أصلا من أصول الحياة ، ولا فرعا لازما ، وإنما في هامش الحياة ، إذا ما أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون ، فلو أضرت بها لرفضوها وتركوها بتاتا.

وقد يشمل السهو عن الصلاة ـ إضافة إلى التساهل عنها ـ التساهل في شرائطها وأجزائها ووقتها ، كما يروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله في الآية : «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» (١) وكذلك السهو عن الصلاة معنويا ، كان يشتغل في الصلاة بغير الله ، أو لا يرجو من صلاته خيرا (٢).

وهذه هي صلاة المنافقين ، الذين يتظاهرون بالإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبهم :

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٤٠٠.

(٢) لما نزلت هذه الآية : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال رسول الله (ص): الله أكبر هذه الآية خير لكم من أن يعطي كل رجل منكم جميع الدنيا ، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته وإن تركها لم يخف ربه.

وعن أمير المؤمنين (ع) فيما علم أصحابه من الأربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه : ليس عمل أحب إلى الله عز وجل من الصلاة فلا يشغلنكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا ، فإن الله عز وجل ذم أقواما فقال : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها(نور الثقلين ٥ : ٦٧٧ ح ٤) .. وعن الصادق (ع) مثله (المصدر نفسه ح ٣).

٤٦٩

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤ : ١٤٢) (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٩ : ٥٤). إنهم يقومون إلى الصلاة ولكنهم لا يقيمونها ، يأتونها ولا يقيمونها ، يأتونها كسالى ، كسلا مزدوجا : كسالة أولى إذا تعبوا وكلّوا عن أشغالهم ، وثانية أنهم على كسلهم يأتون الصلوة وهي حمل ثقيل عليهم (.. وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ). فصلاتهم إذا كسل على كسل ، وفشل على فشل ، فهم الذين يسهون عن الصلاة : عن صورتها أحيانا ، وعن حقيقتها دائما : يؤدون حركات الصلاة ولا تعيشها قلوبهم.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) :

أحيانا لا يصلون وأحيانا يصلون ، ولكنهم يراءون في صلاتهم ؛ ليست صلاتهم لله ، وإنما لأجل الناس الذين من حولهم ، وهذا شرك في عبادة الله ، إضافة إلى توهينه تعالى بالسهو عن الصلاة : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ : ١١٠).

فلو أنه ترك صلاته هذه ، كان خيرا له عند ربه ، إذ يقدّم خلقه عليه في صلاته الرياء الساهي عنها ، ثم يشرك به خلقه في هذه الصلاة الموهونة المهينة

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) :

وهذا جماع القول في الذين يكذبون بالدين ، اللامبالاة بأقل قليل في حق الخالق والمخلوق : «منع الماعون» عن الخلق والخالق ، فالماعون لغويا هو القليل جدا ، فإنه فاعول من المعن وهو الشيء القليل ، وكما يرويه أمير المؤمنين علي

٤٧٠

عليه السّلام عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم (١).

فهم المناعون أنفسهم وسواهم عن القليل القليل ، الذي لا قيمة له أحيانا ، أو أنها رخيصة جدا لا يمنعها إنسان إنسانا ، فرغم أنه تافه ، يحتاجه الإنسان دائما.

هم المانعون الماعون بجنب الخلق والخالق ، فماعون الخالق هو الصلاة (٢) ، أسهل شيء على العبد دون أن تكلّف مالا أو سواه ، فهم الساهون عنها والمراءون فيها ، والمانعون هذا الماعون.

وماعون الخلق هي الأشياء التي يحتاجها الإنسان ، ولا يستغني عنها أحد ، وهي طفيفة جدا ، كالماء والملح وأضرابهما ، فالمانع لها من أبخل الناس وأخبثهم وألأمهم.

ومانع الماعون بجنب الخلق هو المناع كل واجبات الحياة عن غيره ، يمشي مكبا على وجهه ، لا يهدف إلا صالحه الشخصي.

__________________

(١) الدر المنثور : أخرج ابن قانع عن علي بن أبي طالب (ع) : سمعت رسول الله (ص) يقول : المسلم أخو المسلم إذا لقيه حياة بالسلام ويرد عليه ما هو خير منه ، لا يمنع الماعون ، قلت : يا رسول الله ما الماعون؟ قال : الحجر والحديد والماء وأشباه ذلك ، وفي رواية اخرى عنه (ص) هو ما يتعاطاه الناس بينهم.

أقول : ويجمعه انه الشيء القليل التافه الذي يحتاجه الإنسان دائما ، ولا ينافيه المروي عن علي (ع) انه الزكاة المفروضة ، فإنه من باب الأولوية القطعية ، فالذي يمنع القليل هو الذي يمنع الكثير.

(٢) ويؤيد شمول الماعون لمثل الصلاة : «ماعون الطاعة» ما أخرجه ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال : اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال : يمنعون الزكاة ، ومنهم من قال : يمنعون الطاعة ، ومنهم من قال : يمنعون العارية (المصدر ص ٤٠١).

٤٧١

سورة الكوثر ـ مكية ـ وآياتها ثلاث

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

* * *

سورة خاصة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، تعده بالخير الكوثر ، وتعد أعدائه بالشر والبتر ، وتوجّهه إلى كامل الشكر ، الأولى كثرة فياضة وازدهار ، والثانية قلة منحسرة وانبتار.

من مكائد قريش لتوهين الرسالة المحمدية ، وليصرفوا جمهرة الناس عن حوله : أن تقوّلوا عليه قولهم : «إنه أبتر» ، من أمثال العاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وأضرابهم من الحاقدين عليه ، المتربصين عليه دوائر السوء ، قال أحدهم مبشرا : «دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره» محاولة عريقة منذ أمد بعيد ، من قسم من قريش على قسم آخر ، من بني أمية المعادية ، على بني هاشم وهم مفخرة قريش ، ولقد انتهت الزعامة الروحية إلى شخص النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان تعبيرا طبيعيا عن البيت الهاشمي.

٤٧٢

وجد هؤلاء الأعداء الألداء من أمية قريش ، ظرفا لإهانة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ توفي ولده الذكور ، حين كان ينتظر بنو هاشم أن يرث المجد الهاشمي المحمدي ذكور من ولده ، فأول من ولد له صلّى الله عليه وآله وسلّم «زينب» ، ولكن هاشم تنتظر الذكر ، الثاني كذلك بنت «رقية» فقد كاد أن يخيب الأمل ، والثالث كذلك بنت «أم كلثوم» فقد قوي الكيد من أمية.

لكنما الرابع والخامس هما من الذكران «قاسم ـ عبد الله» .. لكنهما أفلا قبل الإشراق .. فهل تلد خديجة بعد؟ وهل ذكرا؟ .. إنها ولدت ولكنها الرابعة من بناتها : «فاطمة» .. أجل ولد له صلّى الله عليه وآله وسلّم لآخر مرة ذكر «إبراهيم» * لكنه أيضا أفل ، وأخيرا لم تبق إلا البنات ، ثم بنت واحدة هي الأخيرة ، فما هو الأمل؟

كيد لئيم من حزب الشيطان وجد له مجالا ، في القول : «إنه أبتر» (١) ، في البيئة العربية ، التي تتفاخر وتتكاثر بالأبناء! ويجد من يهشّ لها من أعداء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وشانئيه ، علها أوجعت قلبه الشريف ، وإن كان واثقا بنصرة ربه ، وخيبة أعدائه.

هنا ، وبهذه المناسبة المؤلمة ، ولأمور أخرى ، نزلت سورة الكوثر ، ماسحة على قلبه بالروح والندى ، مقررة حقيقة الخير الباقي الممتد مدى الدهر ،

__________________

(١) قال ابن عباس : إن رسول الله (ص) دخل من باب الصفا وخرج من باب المروة فاستقبله العاص بن وائل السهمي ، فرجع العاص إلى قريش ، فقالت له : من استقبلك يا أبا عمرو آنفا؟ قال : ذلك الأبتر ، يريد به النبي (ص) ، حتى أنزل الله هذه السورة.

عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم ، ألا ترى إلى هذا الصابي المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة ، قال : أنتم خير منه ، فنزلت : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (ج ٦ ص ٤٠٣).

٤٧٣

الذي اختار له ربه ، وحقيقة البتر والانقطاع المقدّر لأعداء الرسالة المحمدية السامية.

قيل إن الكوثر نهر في الجنة أوتيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لكنه لا يزيد عن أنه كوثر من الكوثر : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) لا «كوثر» .. كوثر هو امتداد للكوثر وعلى هامشه (١).

وقيل : إنه ولده من فاطمة الصديقة (ع) ، حيث انتشروا أكثر من كل الأنسال ، نقول : إنها أيضا من الكوثر ومن أعظمه كما وردت في أسباب النزول وكما توحيه الآية : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

إذ إن معظم الشنئان كان اعتبارا أنه لم يبق له ذكر ، فورد الجواب الحاسم ، الحامل لنبإ الغيب : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وكما بتر ، إذ انقطع نسل عدوّه اللدود رغم ولده الذكور العشرة ، وكما الآية الأولى حملت بشارة الغيب : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) والقدر المتيقن ، المناسب لسبب النزول ، هو كوثر الصديقة الزهراء.

.. وبعد أن كانت المرأة مهانة ولم تكن في حساب الإنسان نراها الآن في الإسلام معززة مكرمة قد يفوق كيانها الرجال.

__________________

(١) روايات متواترة عن النبي (ص) تقول : إن الكوثر نهر في الجنة ، ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن أنس قال : دخلت على رسول الله (ص) فقال : قد أعطيت الكوثر ، قلت : يا رسول الله! ما الكوثر؟ قال : نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيتشعث أبدا ، لا يشرب منه من أخفى ذمتي ولا من قتل أهل بيتي (الدر المنثور ٦ : ٤٠٢) ،

وفيه من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قال : الكوثر الخير الذي أعطاه الله إياه ، قال أبو بشر لسعيد بن جبير فإن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه إياه (المصدر نفسه).

وفيه عن عكرمة قال : الكوثر ما أعطاه الله من النبوة والخير والقرآن (ص ٤٠٣).

٤٧٤

شاء الله تعالى أن تحتل فاطمة الزهراء المكانة العليا من الكمال ، ولكي تسبق الرجال كما سبقت نساء العالمين من الأولين والآخرين ، طالما مريم (ع) فضلت على نساء عالمي زمانها ..

شاء الله تعالى أن تنسل منها فحسب ذرية الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولأنها كانت من أهل بيت العصمة والطهارة المحمدية ، وتفوق العالمين ، من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، فضلا عن السيدة مريم (ع) (١).

__________________

(١) مقارنة بين فاطمة ومريم (ع) :

قال لي اسقف من الأساقفة : هذه مريم المسيحية فضلت في قرآنكم على نساء العالمين وعلى فاطمتكم ، وتختص بها سورة قرآنية دون أن يؤتى بذكر فاطمتكم ..

قلت : إنها ليست مريم المسيحية ، إنها السيدة مريم التي نعتبرها من خيرة نساء العالمين ، نحن نصدقها ونكرمها كما تكرمون وزيادة .. ولا نهتكها كما في الإنجيل!

الأسقف : ما هي الآية الإنجيلية التي تمس من كرامتها؟

المفسر : آية اولى تندد بالأم والابن معا : «. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له : ليس لهم خمر ، قال لها يسوع : ما لي ولك يا امرأة» (يوحنا ٣ : ١ ـ ١١).

فمسيح القصة يهتك أمه بهذه الجملة اللاذعة «يا امرأة!» رغم أنه أجابها في مأمولها ، وصنع الخمر!

ثم هتك ثان أنها لم تؤمن : «إذ كان يكلم تلاميذه فجاء حينئذ اخوته وأمه ووقفوا خارجا وأرسلوا إليه يدعونه وكان الجمع جالسا حوله فقالوا له : هوذا أمك وإخوتك خارجا يطلبونك ، فأجابهم قائلا : من أمي وإخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال : ها أمي وإخوتي ، لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي» (مرقس ٣ : ٣١ ـ لوقا ٨ : ٩ ـ ٢١ ـ متى ١٢ : ٤٦ ـ ٥٠).

فلو انها ـ وحاشاها ـ عصت في دعوة المسيح لصنع الخمر ، فلما ذا يهتكها هنا بكلمة فحش شوهاء :

أنها غير مؤمنة؟!

٤٧٥

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) :

فما هو الكوثر بعد؟.

الكوثر لغويا هو المبالغ في الكثرة ، واعتبارا أنه يقابل الأبتر ، فهو الكثرة الكثيرة من كل خير ، من كل اتصال بمعدن الرحمة الإلهية ، فلم يبق الله رحمة

__________________

ـ لكنما القرآن يختص سورة بتنزيهها وتطهيرها عما تقولوا عليها أمثال هذه .. وما نسبت إلى الزنا.

إن القرآن لا يذكر امرأة باسمها ، وليس ذكر السيدة مريم إلا تبرئة لها ، وإلا تأكيدا لولادة المسيح العجيبة ، أنها كانت دون والد.

لكن فاطمة ما نسبت إلى منكر حتى يذاد عنها بآيات قرآنية ، ومجرد الذكر في القرآن لا يدل على الأفضلية في الكمال ، فهذا «زيد» * يذكره القرآن لمهمة أحكامية ، ولا يذكر من ألوف النبيين إلا ستة وعشرين.

الأسقف : ولكنها حسب القرآن مفضلة على نساء العالمين ومنهن فاطمتكم (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ).

المفسر : على العالمين : (عالمي زمانها) .. لا من الأولين والآخرين ، وكما يقال : ان الأسقف أفضل الأساقفة في العالمين ، أو أفضل علماء الإنجيل ، فهل تعني أفضليته على علماء الإنجيل مدى الدهور؟!

ثم هي خير نساء العالمين ـ لا ـ ورجالهم ، وفاطمة الإسلام اختصت مع الرسول الأقدس محمد (ص) وزوجها وابنيها ، بعصمة وطهارة ، لا يشاركها أحد من العالمين ، من نوح وابراهيم وموسى والمسيح (ع) .. بشهادة آية التطهير : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣ : ٣٣) ف «إنما» * تحصر إذهاب الرجس ، وتحصر الطهارة ، تحصرهما بأهل بيت الرسالة المحمدية وكما في متواتر الأحاديث الإسلامية دون خلاف.

فلو أن السيدة مريم مفضلة على نساء عالمي زمانها ، أو نساء العالمين من الأولين والآخرين ، فالسيدة فاطمة مفضلة على العالمين بنسائهم ورجالهم ، وحسبها انها كوثرة من الكوثر ، من أعظم المعطيات الإلهية للرسول الأقدس محمد (ص).

٤٧٦

يمكن إعطاءها ، إلا وقد أعطاها رسوله الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وإنه : «الكوثر» لا «كوثر» ولا «الكوثر من رحمة خاصة» بل «الكوثر» : الكثرة المنقطعة النظير وغير محدود ، من كل خير بالإمكان أن يفيضه رب العالمين على أحد من العالمين.

إن الكوثر هذا ، يشير تماما إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء ، وأشمل عكسا ، إنهم اعتبروه «أبتر» : منقطع النسل ، وربه يعتبر له «الكوثر» اتصالا غير محدود بمعدن الرحمة والعظمة الإلهية ، ومنه كوثرة النسل : فاطمة الزهراء (ع).

فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر فهو واجده حيثما تصوّر أو نظر :

١ ـ في رسالته التي هي خير الرسالات وخاتمتها ، التي جمعت الرسالات الإلهية كلها وزيادة ، كأنها الرسالة وحدها.

٢ ـ في قرآنه : ينبوع ثرّ لا يفتأ ، الكتاب الذي جمع فيه معجزة الرسالة ومعجزة الوحي.

٣ ـ في علمه الغزير وعقله الوفير الذي فاق عقول العالمين.

٤ ـ في كافة محامده ، وهو المحامد كله ، وعلى حدّ تعبير سليمان بن داود في كتابه كما في الأصل العبراني : «.. حكّو ممتقيّم وكولو «محمديم» زه دودي وزه رعي بنت ير شالام» (نشيد الأناشيد ٥ : ١٦) :

أي : فمه حلو وكلّه «محمد» * هذا محبوبي وهذا ناصري الذي يرعاني يا بنات أورشليم.

كله محمد : هو بتمامه : بذاته وبصفاته وأفعاله ، برسالته وكتابه .. محمد : في غاية المحمودية والكمال والبهاء والجلال ، لا في اسمه فحسب.

٤٧٧

٥ ـ في نسله الميمون ـ أيضا ـ هو محمد وكوثر ، كوثر في العدد ، وفي العدد الروحية والرسالية.

٦ ـ في زوجته الأولى : خديجة الكبرى أم المؤمنين ، فإنها كوثرة في إيمانها ومالها وانجابها الكوثرة الزهراء ، فهي أحبت محمدا بعقل الأربعين لا بغفلة التسع ، ولا بنزوة العشرين ، أحبته في إرادة التعبير فانساقت إليه انسياقة إيمانية فتضاءلت بين يدي حبها الكبير مجاهيد دنياها ، وذاب من تحت عينيها بريق الذهب ، تاجرت بزواجها بالرسول ، وبثروتها الثرّ ، قرنا أنيسا برسالة السماء ، وجاهدت في هذه السبيل بكل ما لديها من طاقات.

٧ ـ في صهره وابن عمه عليّ أمير المؤمنين : استمرار الرسول برسالته ، واستجرار سنته ، واستكمال دعوته.

فعلي عليه السّلام كوثر من الكوثر ، وله من الكوثر المنفصل عن كيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نصيب عظيم ، وكأنه كله ، إذ كان كلّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا في الوحي.

٨ ـ في خلفائه الباقين الأحد عشر ، فإنهم كوثر من الكوثرين ، من «علي وفاطمة» وبقائمهم تحيى الدنيا وكأنها الجنة!.

* * *

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) :

من هنا ندرس ألفاظ الآيات فنتطلع منها على معانيها المشار إليها.

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ) : جمعية الصفات لا جمعية الذات ، يعني بهذه الجمعية أن عطية الكوثر للنبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم تجمع مجامع الخيرات الناتجة عن مجامع الصفات الإلهية ـ غير الذاتية ـ فصفاته الفعلية التي تصدر على أضوائها أفعاله تعالى ، هذه

٤٧٨

الصفات كلها اشتركت في هذه العطية الربانية ، ففي الكوثر نصيب من جمعية الصفات الإلهية ، ولو صح التعبير لقلنا : إن هذه العطية إلهة العطيات ، إذ صدرت من إله الأرض والسماوات بجمعية الصفات ، للنبي الأقدس وهو أفضل الكائنات عبر التاريخ.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) :

إن هذه العطية الغزيرة الفائضة الكثرة ، رغم ما أرجف المرجون ، إنها تتطلب شكرا يناسبها ، فكما المشكور له عطية لا فوقها عطية ، كأنها استأصلت العطيات فجمعتها في نفسها ، كذلك الشكر ، فليكن شكرا مستأصلا جامعا للشكر ، وليس إلا الصلاة للرب «لربك» * ناحرا فيها.

صلاة تجمع جوامع معاني الصلاة وحقائقها ، وتليق بساحة الربوبية : رب الكوثر المحمدي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، الصلاة التي تنقطع بك عما سوى الله ، وعن نفسك ، ألّا يبقي فيها بينك وبين الله أحد ـ ولا نفسك ـ صلاة الفناء المحض ، وإشارة باهرة لهذا الانقطاع التام إلى الله تعالى هو النحر : «رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر ، باطنهما إلى القبلة وظاهرهما إلى خلفها» (١).

هكذا نحر يلائم والتكبير عنده ، فالتكبير يعني أن الله أكبر من أن يوصف ،

__________________

(١) رواه الفريقان عن النبي (ص) وعن علي (ع) ورواه أصحابنا عن الصادق (ع) ، ففي الدر المنثور عن علي بن أبي طالب (ع) قال : لما نزلت هذه السورة على النبي (ص) قال النبي لجبريل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال : إنها ليست بنحيرة ، ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع ، وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة. قال النبي (ص) : رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله : «فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» (٤٠٣).

٤٧٩

لا أنه أكبر من كل شيء ، فلا كبير بجنب الله حتى يوصف بأنه أكبر منه ، إنما أكبر من أن يوصف إلا كما وصف به نفسه ف (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

إذ ذاك فليوجه العبد بكل وجوهه اليه ، كما ويوجه وجهه الظاهر إلى بيته الحرام.

إذا فليعرض عما سواه إعراضا تاما لكي يتمكن من هكذا إقبال اليه ، ورفع اليدين ـ كما وصفناه ـ إشارة اليه : أعرضت عما سواك داحرا لها خلفي ، وجهت وجهي إليك دون حجاب إلا ذاتك المحجوبة عن خلقك ، فكما أنه تعالى لم يبق نعمة إلا وأنعمها عليك ، فعليك ألا تبق ممن سواه إلا وتدحره وتقبل إلى الله ، هكذا صلاة هي التي تحق لهذه العطية الربانية.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) :

إنه الأبتر عن كل ما لك من الكوثر ، وقد صدق وعد الله له وعليهم ، أن عدوه الشانئ الشائن انقطع عن خيرات الدنيا والآخرة ، فقد انقطع ذكرهم وانطوى إلا عن أمواج من السب والعدى ، بينما امتد ذكر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلا! وقد يشمل النحر هنا نحر الإبل ضحية ، إشارة إلى أنني أفدي بنفسي لله ، بعد ما فنيت عنها في الاتجاه إلى الله ، ولكنما الانتحار محرّم في شريعة الله ، إذا فنحر الإبل تقوم مقامه كذكرى.

مسيلمة الكذاب يعارض فيما يعارض ـ هذه السورة قائلا : «إنا أعطيناك الجماهر. فصل لربك وجاهر إن مبغضك رجل كافر» كلمات هي أشبه بالهذيان : بين مأخوذة من الكوثر (إِنَّا أَعْطَيْناكَ ـ فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وبين ما لا يحمل منقبة «... الجماهر» إذ لا منقبة في وجود الجماهر. فجماهر الشيطان أكثر من

٤٨٠