الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

الكذابين (١) ، وكما نرى آيات الوقود والحصب تختص بهم : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (٣ : ١٠).

فرؤوس الكفر وأسس الضلالة كما كانوا ـ هم ـ وقود النار وصليها يوم الدنيا ، يعيشون حياتهم التضليل والتدجيل ، كذلك هم صلي النار ووقودها يوم الدين جزاء وفاقا ، فهم يحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين أضلوهم دون أن ينقص أولئك الأذناب من أوزارهم شيئا.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) :

فالوقود لا يغيب عن ذاته ، وأصحاب الجحيم الذين يصلونها لا يغيبون عنها ما داموا ودامت ، إلا بعد فنائهم بفنائها ، كما الوقود يحرق بنفسه ويحرق ما دام موجودا ثم لا حريق ولا محروق.

وكما أنهم لم يكونوا ليغيبوا يوم الدنيا عن وقودهم ـ تصرفاتهم الجهنمية ـ كذلك يوم الدين ، فما هم عنها بغائبين.

وهذه الآيات ثنائية التقسيم ، تتحدث عن موقف هؤلاء الذين محضوا الإيمان محضا ، أو محّضوا الكفر محضا ، فإما إلى النعيم وفيه ، دون أن يمسهم عذاب ، وأما إلى الجحيم وفيها ، دون أن تمسهم رحمة ، ثم المتوسطون ـ وهم درجات ـ

__________________

(١) «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ» (١١١ : ٣) «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً» (٤ : ٥٦) والآيات : ٨٨ : ٤ و ٨٤ : ١٢ و ٨٧ : ٣٢ و ١٧ : ١٨ و ٩٢ : ١٥ و ٤ : ١٠ و ١٤ : ٢٩ و ٣٨ : ٥٦ و ٥٨ : ٨ و ٣٦ : ٦٤ و ٥٢ : ١٦ و ٦٩ : ٣١ و ٧٤ : ٢٦ و ٤ : ١١٥ و ٤ : ٣٠ و ٣٧ : ١٦٣ و ٣٨ : ٥٩ و ٨٣ : ١٦ و ٥٦ : ٩٤ و ١٩ : ٧٠.

نرى في هذه الآيات كلها كيف يختص الصلي بالمكذبين والكافرين.

٢٠١

ليسوا في جحيم خالص ولا نعيم خالصة ، مهما كانت جحيم الخجلة فنعيم العفو والرحمة والشفاعة ، أو جحيم النار غير خالدين فيها أو خالدين غير آبدين ، ثم إلى نعيم مقيم ، فهم بين جحيم ونعيم ، ثم إن مرجعهم لإلى النعيم ، كما كانوا يوم الدنيا بين برّ وفجور ثم ماتوا مؤمنين ولو شيئا مّا ، أو ماتوا فاسقين دون محض الفسق واللامبالاة.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) :

(وَما أَدْراكَ)؟ سؤال تهويل وتجهيل وتجليل : أن حقيقة يوم الدين ليس بالأمر الهيّن الذي يدركه الإنسان إلا بوحي السماء .. فإذ أنت دريت ما يوم الدين ما كان يدريك إيّاه وحي الأرض وعقل الأرض وعلمها .. إنما وحي السماء ليس إلّا ، فالإنسان ـ أيّا كان ـ يجهل يوم الدنيا حقيقتها ، فأحرى به أن يجهل يوم الدين (١).

والدين هو الطاعة ولها يومان ، يوم تطبيقها : يوم الدنيا ، ويوم بروزها بحقيقتها في جزائها وهو يوم الدين ، فيوم الدنيا هو يوم الدين تشريعيا ككل ، وتكوينيا بالاختيار ، ويوم الدين هو يوم الدين تكوينيا دون اختيار ، وإنما جزاء الاختيار وفاقا وعدلا ، أو فضلا.

(ثُمَّ ما أَدْراكَ)؟ علّ الدراية الثانية هي عين اليقين وحقه لما تقوم القيامة ، كما الأولى هي علم اليقين ، وفي كلتا المرحلتين ليست الدراية إلا من رب العالمين ، لكنما الرسول عرف يوم الدين حق المعرفة واليقين قبل القيامة : حيث النص :

__________________

(١) التعبير «ما أَدْراكَ» يختلف عن «ما يُدْرِيكَ» إن الأول سؤال عما تحقق ، عن سببه ، والثاني عما بالإمكان أن يتحقق ، عن سببه وكما يروى عن ابن عباس «كل ما في القرآن من قوله تعالى : ما أدراك ، فقد أدراه ، وكل ما فيه من قوله عز وجل : ما يدريك ، فقد طوي عنه.

٢٠٢

(ثُمَّ ما أَدْراكَ) ولم يقل «ثم ما يدريك» أدراه إياه وحي السماء كأنه رآه وأكثر ، وكأن القيامة قامت ، طالما لم يدر وقتها ، فإنما علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو.

فهكذا سؤال يوقع في الحس عظمة الموقف وأن الأمر أعظم جدا وأهول من أن يحيط به إدراك البشر المحدود ، فهو فوق كلّ تصور مألوف وكل واقع معروف.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) :

هنا نعرف وندري شيئا مّا من يوم الدين ، وما يختلف به عن يوم الدنيا أنه : يبطل ملك بني الدنيا إلا من تملكه رضا الله فيملكها بإذنه ، فيقف موقف الشفاعة بإذن الله «من أذن له الرحمان ورضي له قولا».

نحن نملك أسبابا يوم الدنيا بما ملّكنا الله إياها ، ولكنها تنقطع يوم الدين : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٢ : ١٦٦) .. كما نقوى شيئا ما من القوى يوم الدنيا ابتلاء وتكليفا ثم لا نملك شيئا منها يوم الدين : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢ : ١٦٥).

صحيح إننا ما كنا نملك يوم الدنيا شيئا إلا مجازا وتخويلا من شأن التكليف ، ولكننا نفقد المجاز أيضا يوم الدين ، ولا يبقى أمر ولا ملك إلا الله الواحد القهار : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٠ : ١٦) والملك هذا من الأمر الذي كلّه يومئذ لله.

إنه العجز الكامل والشلل الشامل ، وانفصال بين النفوس وانشغال عنها ، ف (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٨٠ : ٣٧) ولو انشغلت نفس عن نفسها ، واتجهت إلى غيرها ، لم تكن لتفيده وتغنيه ، إذ لا تملك هناك شيئا لنفسها فضلا عمن سواها.

٢٠٣

وعلى حدّ تعبير باقر العلوم عليه السّلام إن الأمر يومئذ لله والأمر كله لله ، إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله (١).

إن الأمر كله لله يوم الدين ، أمر الملك والإحياء والإدانة والعفو والشفاعة والحكم والتنفيذ وما إلى ذلك ، وإن كان كذلك يوم الدنيا ، إلا أنه حررنا يومها في بعض الأمر ، وخيّرنا بين الإيمان والكفر ، ولأنها دار التكليف.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٧ ح ٢٨ روى عمرو بن شمر عن جابر عنه (ع).

٢٠٤

سورة المطففين ـ مكية ـ وآياتها ست وثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(٣)

.. هذه السورة تهدّد المطففين شؤون الناس وحقوقهم ، المقتسمين الحقوق بينهم وبين الناس قسمة ضيزى ، كأنهم يملكونهم بأنفسهم وأموالهم ، يحسبونهم قطب الرحى تدور عليهم ولصالحهم الكائنات كل الكائنات.

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) :

فالويل هو الهلاك والخسار والبوار والدمار ، لفظة تقال في مواقف التأوه والتقبيح ، لفظة الذم والسخط لمن يسبّبون الويلات النفسية والعقائدية والاقتصادية والعملية .. وهؤلاء الذين يهددهم القرآن بالويل ، هم ويل في صفاتهم وأفعالهم وأفكارهم وتصرفاتهم ، فذواتهم ويل .. أينما حلت ، لأنفسهم ولمجتمعهم.

والويل من الله ليس دعاء والتماسا ، فمن هذا الذي يلتمس منه ربنا لتحقيق غير الحاصل؟ اللهم إلا نفسه المقدسة ، فهل يا ترى إنه يلتمس من نفسه؟! كلا وإنه

٢٠٥

خبر لا دعاء ، يخبر عن واقعهم أنه ويل ما عاشوا تلكم التخلفات ، ويل في الأولى والآخرة.

والتطفيف ـ رغم ما يقال ـ لا يختص بالمال ولا بالشيء القليل الطفيف ، فهل إن واقعة الطف ـ تلك الحادثة الدامية الكبرى! ـ هل إنها كانت خفيفا طفيفا؟.

كلا : إنه الانتقاص بحق الآخرين وبخسهم في أشيائهم : أنفسهم ونفائسهم (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧ : ٨٥) .. أشياءهم كل أشيائهم : الأشياء النفسية : العقلية والإيمانية والعلمية والعرضية وأشباهها ، والأشياء المالية وكل ما يتعلق بالناس أيا كان.

وبعد كل ذلك فالآيات التالية تفسر التطفيف دون حاجة إلى مفسر سوى القرآن : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) :

فالاكتيال يوحي بالاحتيال في الشراء ، ثم «على» * هنا بدل «من» * توحي إلى الإضرار والبخس والتطفيف في هذا الاكتيال الاحتيال ، احتيال في الإضرار ، فلم يقل «إذا كالوا من الناس» وهو يعني أخذ الحق وافيا دون نقصان ، على أن أخذ الحق في الاشتراء لا يخلف ويلا ، اللهم إلا إذا جمع مع بخس الحق في البيع ، وليس هذا تطفيفا في كلتا الحالتين ، وإنما في البيع فحسب ، والظاهر هنا أن كلا البيع والاشتراء تطفيف.

إنهم يستوفون في اكتيالهم بشتى ضروب الاحتيال والزور والغرور ، كأن لهم سلطانا على البائعين يجعلهم يستوفون كما يهوون فوق حقهم بسلطان الرئاسة

٢٠٦

والجاه القبلي ، وسلطان حاجة الناس ـ المدقعة لما في أيديهم ، واحتكارهم للتجارة لحدّ يضطر الناس إلى تقبل هكذا اكتيال عليهم ..

وليس استيفاؤهم من أموال الناس فحسب ، بل ومن أرواحهم ومشاعرهم أيضا عن طريق العقائد الباطلة ، فهم عند ما يشترون منهم ما عندهم ببخس الثمن واستيفاء المثمن ، يشترون كيانهم أيضا ويملكونهم بأموالهم ، فهم محتكرو النفوس والنفائس .. يملكون أصواتهم وذاتياتهم ببخس الثمن كما يملكون أموالهم به.

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) :

ومرة أخرى يملكونهم عند ما يبيعونهم ، فلا يكيلون لهم ولا يزنون ، وإنما يكيلونهم ويزنونهم : أنفسهم وأموالهم وكيانهم ككلّ ، فيخسرونهم هنا كما أخسروهم هناك ، ملكية معقدة مزدوجة ، دون أن يبقوا لهم رمقا ولا نفسا ولا نفسا ، وهذا أخطر دركات التطفيف ، وقد يكون الاشتراء السليم والبيع المخسر داخلا في نطاق الآية ولكنه تطفيف طفيف لا ويل له إلا في هكذا جمع خاسر وقسمة ضيزى ، أنه يستوفي حقه مشتريا ولا يوفي حق الآخرين بائعا ، ولكنما الويل كل الويل لمن يخسر في الحالتين ، ولذلك نرى الإسلام يرفع صوته عاليا معلنا لحرب الويل في وجه البخس الساحق الماحق على جمهرة المحتكرين المستغلين المسيطرين على الجماهير الفقيرة المحطمة البائسة ، دون أن يخدّرهم ويصبّرهم على الظلم والضيم حياتهم.

فهذا سوط الإسلام وصوته يرفعه عاليا على رؤوس الفرعونية الكافرة والقارونية الجائرة ، والبلعمية المائرة ، ثالوث منحوس طوال التاريخ : الاستعمار والاستثمار والاستحمار ، وقد تجتمع في شخص واحد ، ثلاثة في واحد ، وواحد يحمل ثلاثة ، فرعون قارون بلعم ، إله واحد في أقانيم ثلاثة!. يستحمر الناس فيخدّرهم ويصبّرهم على الظلم والضيم ، ويستعمرهم ويستثمرهم ، ورمزا إلى حرب

٢٠٧

شعواء ضد هذا الثالوث يؤمر الحاج أن يرمي الجمرات الثلاث إشارة إلى وجوب ضرب الثالوث ابتداء من الشيطان الأكبر ، جمرة العقبة. ثم مردته ، ولكيلا يكبروا فيصبحوا كمولاهم.

والقرآن يرفع سوط الويل من هذا الثالوث المنحوس ويحرض الشعوب المحطمة لينهضوا نهضة مدمرة لإيقاف هذه النحسة عند حدها ، وليعيش الناس على رغد الأمن والعيش ، في حياة سليمة مسلمة غير مستسلمة للظلم والضيم.

فكما الويل للمطفّفين ، كذلك هو للمطفّفين الذين يحنون ظهورهم لمن يستحمرهم ويستثمرهم ويستعمرهم ويمتص دماءهم ، اللهم إلا الضعفاء الذين لا يعرفون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فعلى المؤمنين ذوي الحنكة والقوة الحفاظ عليهم والدفاع عنهم.

فآية التطفيف لا تختص بالطفيف منه مهما كان مورد نزولها تطفيف الكيل في المبايعات ، فقد «نزلت على نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قدم المدينة وهم يومئذ أسوء الناس كيلا فأحسنوا الكيل (١) وحذّرهم الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تطفيف الكيل (٢) ولكنما الآية تذكر الكيل في الاشتراء كمثال ، كما توحي إليه إضافة

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٤ عن ابن عباس ورواه علي بن ابراهيم القمي في تفسيره عن أبي الجارود.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٣٢٤ عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص): ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين.

وفي تفسير الرازي (ج ٣١ : ٨٨ ـ ٨٩) «وقيل : كان أهل المدينة تجارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله (ص) فقرأها عليهم وقال : خمس بخمس ، قيل : يا رسول الله (ص) ما خمس بخمس؟ قال : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهر فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكمل؟؟؟ إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر».

٢٠٨

الوزن في البيع ، ودون اختصاص بكيل شيء أو وزنه ، وإنما (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ). كيل المشترين ووزنهم بما يتعلق بهم ، كأنما البائعون لهم والمشترون منهم هم متع لا يملكون لأنفسهم شيئا إلا قدر رحمة المطففين ، يعيّشونهم كأرذل العيشة وأنذل من عيشة الحيوان ، ولكي يعيشوا مترفين على مساعي هؤلاء المستضعفين المنكوبين المرضوضين ، عمال لا يحق لهم الحصول على ما يحصّلون!

* * *

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦)

.. والظن هنا مطلق الاعتقاد الراجح ، عقليا أو قلبيا ، فالمعتقدات العقلية ـ غير المتعاملة مع الواقع العملي ـ هي ظنون قلبية ، وإلى درجة الشك والنكران ، والمتعاملة منها مع الواقع هي ظنون قلبية إلى الصعود وإلى درجة اليقين القلبي ، والظنون العقلية هي شكوك في القلب ، وحق الظن أيا كان أن يردع الإنسان عن التخلف ، سواء أكان ظنا عقليا فشك قلبي ، أيقينا عقليا فظن قلبي ، فأي منهما حصل ـ لمن يحترم عقله ويخاف سوء الحساب ـ إنه كاف أن يكفّه عن التطفيف وأكل أموال الناس وإيكالها ، وهدر نفوس الناس وإبطالها ، واستخدام سلطان الزور بحقهم ، فالأعمال ليست إلا صورا واقعية عن نفسيات الإنسان ، وعلى حدّ تعبير الإمام الصادق عليه السّلام : «القلوب أئمة العقول والعقول أئمة الأفكار والأفكار أئمة الحواس والحواس أئمة الأعضاء» (١).

ومن أعجب العجاب أن يقين الحساب قد يتمثل شكا في الواقع ، وعلى حد تعبير

__________________

(١) بحار الأنوار ، باب العقل والجهل.

٢٠٩

الإمام الرضا عليه السّلام : «ما خلق الله يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت» (١).

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) :

فاللامبالاة هذه في تصرفاتهم تشهد كأنهم لا يظنون البعث لأي مرحلة من مراحل الظن ، وبعضهم كأنهم يوقنون بعدم البعث!

والخطاب العتاب هذا ، تنديد بمن يظن ومن لا يظن ، فالأولون يحق لهم بحكم ظنهم بالحساب أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا وأن يزنوها قبل أن يوزنوا ، فلا يطففوا في معاملاتهم مع الناس في أموالهم وأحوالهم.

والآخرون كان عليهم أن يعتبروا بالآيات الآفاقية ، ويتذكروا بفطرهم وعقولهم أن البعث والحساب حق لا محيد عنه.

وقد عبر عن يقين العقل هنا بالظن ـ حيث يشمله ـ توهينا لهكذا يقين ، كيف لا يظهر في العمل الخارجي! عكس ما عبّر عن يقينه الصالح بالظن في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٢ : ٤٥) فبما أن الخشوع من حالات القلب ، فظن الخاشعين كذلك قلبي وليس عقليا ، هذا الظن الذين يجعلهم خاشعين لله خاضعين ، فليست الصلاة ولا سواها من تكاليف ، كبيرة لهم ثقيلة .. فهذا الظن لا يظهر في العقل إلا كدرجة عالية من درجات اليقين ، كيف لا والكثير من المصدقين بعقولهم لا يخشعون ولا يصدقون بأعمالهم.

وقد أوّل الظن هنا وهناك باليقين في المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام دون أن يكون تفسيرا لغويا وإنما جري وتطبيق : «الظن ظنان ظن شك وظن

__________________

(١) الخصال للصدوق بالإسناد عنه (ع).

٢١٠

يقين ، فما كان من أمر المعاد من الظن فهو ظن يقين ، وما كان من أمر الدنيا فهو على الشك (١) وهو يعتبر الظن في الآيتين ظن اليقين (٢). مهما كان في آية المطففين شاملا لظن الشك أيضا ، فإن الإمام يبيّن هنا المصداق الخفي (ظن اليقين) دون نكران لسائر الظن.

ألا يظن أولئك الظانون حتى يدفعهم ظنهم إلى العدل في الناس ، ولم لا يظن هؤلاء الشاكون في البعث ، ودلائل العلم باهرة وشواهده ظاهرة.

ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟! عظيم ما أعظمه مدى الدهر إذ يقوم الناس بأرواحهم وأجسادهم من أجداثهم ، يقومون لأعظم عظيم ، لله رب العالمين ، لحساب عظيم ، يقوم هذا الصغير الصغير لغير النهاية ، لهذا العظيم العظيم لغير النهاية ، يقومون له ـ لا ـ إليه ، فإن رب العالمين لم يكن بعيدا عنهم قبل قيامهم وفي دنيا الحياة ، مهما كانوا ـ هم ـ عنه بعيدين.

فهم يومئذ يقومون له ، بعد ما كانوا قائمين في دنيا الحياة لأنفسهم إلا قليلا ، فهؤلاء القلة القائمة لله طوال الحياة ، يقيمهم الله له ليريهم أعمالهم بالحسنى ، والكثرة القائمة لأنفسها يقيمهم الله ليجازيهم بما عملوا جزاء وفاقا ، ف (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) يوم الدنيا ، ولكي تقوموا له أيضا يوم الدين فيقيمكم في عليين.

يوم يقوم الناس لرب العالمين : ليروا ربوبيته العالمية حقها يوم الجزاء ، فإن ربوبيته تعالى يوم الدنيا قائمة على أساس الاختبار والإختيار والتكليف ، ثم هي قائمة يوم الدين على أساس الحساب والجزاء.

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٢٨ عن الاحتجاج للطبرسي.

(٢) المصدر عنه (ع) فيما يكون تأويله على غير تنزيله قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي : يوقنون أنهم مبعوثون ، ومثله قوله : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي : ليس يوقنون.

٢١١

إنه يوم القيامة ، لقيام الناس (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) وقيام الإشهاد (يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) وقيام الحساب (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) وقيام عالم جديد بعد خراب العتيق (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٢٦ : ٩٠) قيامات وقيامات في قيامة واحدة ، ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

يوم يقوم الناس ـ متجردين ـ لرب العالمين ، ليس لهم يومئذ مولى سواه ، ولا رب سواه ، فقد ضلت الأرباب ، وتقطعت الأسباب ، والأمر يومئذ لله.

* * *

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(١٧)

.. (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) :

الفجّار هم الذين يفجرون ستر العبودية والحياء ، المتجاوزون الحدود المقررة لهم ، الهاتكون لها ، والفجور يقابل التقوى وهي الحفاظ على شؤون العبودية :

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٧ ـ ٨).

٢١٢

والكتاب هنا وفي أمثاله هو كتاب الأعمال ومسجلاتها الضوئية ، صوتية وصورية ، أن تسجّل في نفوس الفجار وفي أعضائهم وفي الأرض والفضاء كما تدلنا آيات سجلات الأعمال والأقوال ، فإن الكتاب هو المكتوب أي المثبت ، والأشياء الثابتة عن المكلفين ، التي تليق أن تكون حجة لهم أو عليهم يوم الدين ، إنها ليست إلا صور الأعمال وأصوات الأقوال ، وكما يروى عن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله : «إن الملك يرفع العمل للعبد يرى أن في يديه منه سرورا حتى ينتهي إلى الميقات الذي وصفه الله له فيضع العمل فيه فيناديه الحبار من فوقه : إرم بما معك في سجين ، وسجين : الأرض السابعة ، فيقول الملك ما رفعت إليك إلا حقا فيقول صدقت إرم بما معك في سجين» (١).

وهذه الأعمال الشريرة الفاجرة تجعل من روح الفاجر سجينا كما أنها أيضا سجين ، وهي تدخل سجين ، وعلى حد قول باقر العلوم عليه السّلام : «وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ السماء نادى مناد اهبطوا به إلى سجين ..» (٢).

والسجين مبالغة في السجن ، وكتاب الفجار بأنفسهم وأعمالهم لفي سجين ، سجين لا يظهر تماما يوم الدنيا ، وهو يبرز تماما يوم الدين.

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) : ليس كما يزعمه المطففون والمجرمون كل المجرمين أنهم متحللون عن أعمالهم وعقباتها ، فلا حساب ولا جزاء ، وأنهم أحرار يوم الدنيا وأحرار كذلك يوم الدين ، لو كان هناك حساب أو لم يكن .. إنهم يزعمونهم أحرارا وليسوا إلا في سجين ، فأرواحهم سجون الفضائل

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٣٢٥ ، أخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : حدثني رسول الله (ص) ...

(٢) نور الثقلين ٥ : ٥٣٠ نقلا عن مجمع البيان.

٢١٣

والمعطيات الربانية ، تسجنها وتدفنها ، وأعمالهم سجون لهم ولمجتمعهم ، هؤلاء المطففون وأمثالهم البخلاء الذين يحصرون ويسجنون كل شيء لهم ولشهواتهم ، ولا يسمحون لأحد حرية إلا ويحددونها ، ولا ثروة إلا ويستغلونها ، ولا وجاهة إلا ويستقلونها .. فيحسبون أنفسهم كل شيء ، ولا يعتبرون غيرهم إلا خداما لهم ولكي يستعمروهم ويستثمروهم ويستحمروهم ..

فهؤلاء الفجار البخلاء الذين ليس كيانهم في المجتمع إلا أنهم سجون للناس وهم أحرار في استغلالهم ، ويحسبونهم أنهم يحسنون صنعا.

هؤلاء هم السجين ، أنفسهم ، نفوسهم وأعمالهم ، إنهم أولا وأخيرا سجّين وفي سجّين.

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ) :

هنا تبرق حقيقة ـ كانت خفية ـ هي أن السجين ـ وفي القيامة ـ هو كتاب مرقوم ، وهو الخط الغليظ ، إنه ليس كتابا مخطوطا بالمداد لكي تكون دلالته غير ظاهرة وقابلة للتأويل أو التكذيب ، وإنما (كِتابٌ مَرْقُومٌ) مكتوب بخط غليظ ، بقلم القدرة والنور ، حيث تكتب وتسجل صور الأعمال وأصوات الأقوال في نفوس المجرمين وأعضائهم وسواها.

فلو كان الكتاب السجين مخطوطا بالمداد فما هي الحاجة لتوصيفه بالمرقوم؟ فكل كتاب من شأنه أن يحمل ـ ولا أقل ـ خطوطا! .. ثم كيف يكون كتاب الفجّار في كتاب مرقوم ، فهل كتاب في كتاب؟.

فإنما السجين ، وهو سجين الجحيم ومن أسجن ما فيه من السجون ، إنه ليس إلّا نفس النفوس والأعمال ، فإنها الكتاب المرقوم ، الظاهر الذي لا يمكن إنكاره.

فكتاب الفجار ، وهو الاضبارات والمسجلات لأعمالهم الفاجرة ، هذا الكتاب

٢١٤

في سجين ، في كتاب مرقوم ، مما يدل على أن سجين الجحيم ليس إلا أعمالهم ، كتاب فجورهم ، الذي كان خفيا عنهم يوم الدنيا ، ثم يبرز مرقوما ظاهرا يوم الدين : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢).

هذا وكما يقال أن خلافك هذا لفي سجن ، إشارة إلى أن السجن نتيجة الخلاف ، كذلك كتاب الفجار ، نفوسهم الفاجرة بأعمالهم الشريرة ، إنها لفي سجين ، لفي جحيم هي حقيقة تلكم الأعمال ، يحرق الفاجر بما أو قده ، بوقوده الذي هو نفسه وأعماله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٢١ : ٩٨).

لذلك نرى بعد آيات عدة يقول : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) ، أي : لمحرقوا الجحيم ، بماذا؟ بكتاب الأعمال ، بالأعمال أنفسها ، وبالنفس المجرمة الشريرة.

إذا فكتاب الفجّار هذا هو في نفسه الجحيم وهو السجين ، وهو الكتاب المرقوم ، الواضح الخط ، الغليظ المحتوى.

إن كتاب الفجار ـ الخفي يوم الدنيا ، غير المرقوم في أبصارهم الكليلة ـ سوف يكون في كتاب مرقوم ، سوف يخرج عن الخفاء ، فبصرك اليوم حديد ، فالكتاب الخفي (كِتابَ الفُجَّارِ) هو في كتاب جليّ في النهاية ، كما كان الجلي في الخفي في البداية ، وكلاهما سجين وفي سجين ، سجين يوم الدنيا وسجين يوم الدين.

أو إنه كتاب مرقوم ليوم الدنيا والدين ، مرقوم لمن رقمه مهما كان خفيا في الأولى عن أبصار الناظرين ، وهذا الكتاب المرقوم لفي سجين ، في حفاظ الله تعالى دون أن يمحى منه شيء إلى أن يشهد يوم الحساب ، فمعنى الآية إذا :

٢١٥

إن أعمال الفجار لفي سجين إلهي ، محفوظ ثابت ، والسجين هو الكتاب المرقوم ، ظاهر بذوات الأعمال والأقوال.

فيا لهذا الكتاب المرقوم من جلاء وظهور ، مرقوم بخطه الذاتي إذ كتب : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) .. يا له (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (١٨ : ٤٩) .. فهكذا رقم أوّلا.

ثم يتحول رقمه هذا ـ الظاهر ـ إلى رقمه الملكوتي الحقيقي ، تحوّل الأعمال إلى نتائجها ، جزاء ذاتي بنفس الأعمال ، دون أن يكون جزاء قانونيا فقط ، إنما جزاء تكويني : أن تتحول الأعمال إلى نتائجها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٥٣ : ٤٢) يجزى الساعي نفس سعيه ، الجزاء الأوفى ، جزاء وفاقا في السيئات وجزاء كريما في الحسنات.

فالإنسان نفسه كتاب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) :

وا حسرتاه في ذلك اليوم العصيب إذ برزت كتب الفجار بأرقامها ، للمكذبين يوم الدين ، أفهل يكذبون أيضا بما عملوه يوم الدنيا حيث يظهر مرقوما يوم الدين؟

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) :

فإنما الاعتداء والإثم هما القائدان صاحبهما إلى التكذيب بيوم الدين ، فالفطرة السليمة لا تكذّب ، والعقل لا يكذب ، وواقع الحياة لا يكذب ، وإنما المعتدي الأثيم يكذب به ، ولكيلا يرى أمامه عقبة كئودة ، يكذب بالجزاء العدل الوفاق

٢١٦

مهما صدّق بالبعث ، إلا أنه بعث عبث ، أو يصدق بالحساب ، لكنه حساب فوضى ، ومهما يكن من شيء فالمعتدي الأثيم يركز في جرمه على نكران الجزاء الوفاق ، ولكي يصدقه البسطاء المتخلفون ، يكذب آيات البعث والحساب ضمن ما يكذب ، راميا لها أنها من أساطير الأولين وخرافاتهم ، ليس لها أصل سماوي ، أو إذا كان فإنما هو من الديانات السابقة فلا جديد إذا في القرآن يفرض علينا اتباعه :

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) :

خرافاتهم وأوهامهم المختلقة المسطورة التي تنتقّل للتّفكّه ، أو الآيات التي نزلت على أنبياء الله من قبل ، إذا فلا جديد في القرآن من حقائقه وخرافاته :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٦ : ٢٤) أنزل في قرآنه ما كان ينزله في كتاباته من قبل : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥ : ٥) (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٣ : ٨٣) (١).

فأين (آياتُنا)؟ وأين (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)؟ فآيات الله هي بأنفسها تدل على أنها إلهية إذ لا يسطع عليها إلّا الله ، والأساطير الخرافية بأنفسها تدل على أنها من غير الله ، بل ومن السفهاء ، ومن حماقة التعبير أن يقال عن آيات الله أنها أساطير الأولين ، وليس هكذا حكم أحمق إلا لأن قلوبهم أصبحت مقلوبة بما كانوا

__________________

(١) أساطير أما جمع الجمع ، أي : أسطر وأسطور وأسطار ، فهو بمعنى ما سطره وكتبه الأولون ، أو جمع أسطور وأسطير وهو أيضا ما يكتب ، ولكنما الأسطور هو الحديث الذي لا أصل له ، فالأساطير أعم مما سطره الأولون ولا أصل له أو ما له أصل قديم ، وعلى الوجهين فرمي القرآن بأنه أساطير الأولين تجعله لا شيء ، إما أنه لا جديد فيه وإن كان صحيحا ، أو أنه من خرافات الأولين!.

٢١٧

يكسبون ، فليست هنا أية حجة ودافع لهم في هكذا تعبير إلا رين قلوبهم الناتج عن الاعتداء والإثم المتواصلين ، فبين القلوب والأعمال تعامل مزدوج يؤثر فساد كل في الآخر ، كما يؤثر صلاحه في صلاح الآخر.

إنّ فريتهم هذه على آيات الله البينات يدفعها عجزهم عن الإتيان بمثلها ، وإن ادعوا أنهم قادرون عليها (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨ : ٣١).

فلو استطاعوا لأتوا بسورة مثله وهم يحتالون كل الحيل أن يعارضوها ، وهم بأمس الحاجة لعرقلة دعوة القرآن ، ولكنهم لم يفعلوا ولن (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢ : ٢٣ ـ ٢٤).

لا يقدر على ذلك لا أهل الكتاب من كتابات الوحي ، ولا المشركون ـ وأحرى ـ من كتابات الأساطير.

(كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) :

إنها ليست آيات الله هي الأساطير ، وإنما هي شموس الهداية لأولي الأبصار دون عميان القلوب (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦) «فإن كثرة الذنوب مفسدة للقلب» (١) و «هي ترين كما يرين السيف

__________________

(١) كما في الدر المنثور ٦ : ٣٢٦ عن أبي الخير قال : قال رسول الله (ص): أربع خصال تفسد القلب ، مجاراة الأحمق ، فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت عنه ، وكثرة الذنوب مفسدة للقلب ، وقد قال : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، والخلوة بالنساء والاستمتاع منهن والعمل برأيهن ومجالسة الموتى ، قيل : وما الموتى ، قال : كل غني قد أبطره غناه.

٢١٨

وجلائه» (١) وهي تقلب بمواقعة الخطيئة فيصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله كما عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمّة من آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

والقلوب هنا وفي سواها من آيات هي قلوب الأرواح ، التي هي بيضاء بما فطرها الله تعالى ، وهي تشتد بياضا بمواصلة الطاعات ، وتسودّ بمتابعة السيئات إلى أن تصل إلى مرحلة الختم فلا ترى أبصارها نورا وإنما تعمى عن مشاهدة الحقائق (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥ : ٤٠).

أجل ـ إن مكاسب السوء تعمي القلوب وتجعلها مقلوبة ترى كلّ شيء عكس الواقع ، فإنها تحجبها عن النور وتحجب النور عنها وتفقدها الحساسية شيئا فشيئا حتى تتلبد وتموت.

فمن غفل عن ذكر الله واتبع هواه أغفل الله قلبه : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١٨ : ٢٨) وإثم الجوارح ينحدر إلى القلوب فتصبح آثمة كما هي (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢ : ٢٨٣) وذكرى آيات الله البينات ليست إلا لمن كان له قلب واع (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٥٠ : ٣٧) ومن ختم على قلبه بمكاسبه السوء ليس له قلب فلا يتذكر بآيات

__________________

(١) نور الثقلين ٥ : ٥٣١ عن الكافي بإسناده عن النبي (ص) قوله : تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب ، إن القلوب ترين كما يرين السيف وجلائه.

(٢) وفي الدر المنثور ٣٢٦ عن عبد الله بن عمر عن النبي (ص) في حديث : ولن يعذب الله أمة حتى تعذر ، قالوا : وما عذرها؟ قال : يعترفون بالذنوب ولا يتوبون ولتطمئن القلوب بما فيها من برها وفجورها كما تطمئن الشجرة بما فيها حتى لا يستطيع محسن يزداد إحسانا ولا يستطيع مسيء استعتابا ، قال الله : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.

وفيه ٦ : ٣٢٥ عن النبي (ص) إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الرين الذي ذكر الله في القرآن (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

٢١٩

الله ، دون المؤمن البصير (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤ : ١١).

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) :

ليس كما يزعمه المجرمون أن لهم الحسنى في الآخرة أيضا كما لهم في الدنيا على حد قولهم : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٤١ : ٥٠).

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) .. كما حجبوا أنفسهم يوم الدنيا عن البينات فختم الله على قلوبهم ، كذلك يحجبهم عن ربوبيته المتمثلة في رحماته يوم الدين ، ومن أعظمها جنة المعرفة والرضوان ، محجوبون عن ربهم لا عن الله ، فإن الذات الإلهية محجوبة في الدارين وعن العارفين بالله أيضا فضلا عن سواهم ، وإنما يحجبون عن ربهم كما كانوا محجوبين عنه يوم الدنيا ، رغم أنهم لا تظهر لهم الحقائق يوم الدين حقها فلا يبقى حجاب (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٢ : ٢٥) ، ولكنهم بعيدون عن جناب الربوبية حجاب المعرفة والواقع.

هؤلاء هم الفجار ، وأما المؤمنون فغير محجوبين عن ربهم ، ف (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧٥ : ٢٢ ـ ٢٣) وجوه الأبصار إلى ربوبيته ، الظاهرة في نعمه ، ووجوه البصائر إلى ربوبيته الباطنة في معرفته وقربه ورضاه ، رغم الفجار ، ف (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٧٥ : ٢٤ ـ ٢٥) باسرة في الوجهين ، كليلة في الحالتين : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ... وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣ : ٧٧).

إن هناك حجبا عن ذات الله وليست لله ، فالخلق كلهم محجوبون عن ذات الله حجاب البصر والبصيرة ، سواء المؤمن والكافر ، وليس الله محجوبا عن

٢٢٠