الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣)

١

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

٢

الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)

«سورة يونس»

تستحق هذه التسمية ، لا ـ فقط ـ لذكره فيها : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨) فإنه مذكور بسمة الرسالة وخلفيات لها في : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣٧ : ١٣٩) وباسم صاحب الحوت في (١٨ : ٦٣) و (٣٧ : ١٤٣) وباسم (ذَا النُّونِ) في : (٢١ : ٨٧) وهذه هي جماع الآيات التي تذكره برسالته وذهابه عن قومه مغاضبا وسجنه في بطن الحوت بما ذهب ، وآية (إِلَّا قَوْمَ

٣

يُونُسَ) لا تذكر إلا نجاتهم بصورة استثنائية بين كافة هؤلاء الذين آمنوا عند رؤية البأس.

فقد اختصت هذه السورة باسم يونس إيناسا لحالة منقطعة النظير بين الكفار ، وليعلم أن الأصل في النجاة هو التوبة الصالحة وإن كانت عند رؤية البأس وقليل ما هي ، وتحريضا على محاولة صالح التوبة لهؤلاء الذين لم يؤمنوا حتى أشرف عليهم البأس واليأس.

وهذه السورة هي من عداد السور التي أعطيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مكان الإنجيل وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن الله أعطاني الرائيات إلى الطواسين مكان الإنجيل» (١).

و «الرائيات» هي خمس أو ست ، هذه وهود ويوسف وإبراهيم والحجر تتخللها «المر» الرعد ، وقد تكون منها ، وهي متشابهة مع بعضها البعض في هذه الافتتاحية الرائية ، وكذلك ما تتلوها من ذكر آيات الكتاب ، مما قد يدل على أن هذه السور الخمس أو الست هي نموذجة عن القرآن كله ، ومن الرائع اختتام السورة كما بدء بذكر الكتاب ، بدء بالإعلام وختما بواجب اتباع قرآن الوحي : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) مما يدل على بالغ الاهتمام الرباني بشأن القرآن ، وليعلم العالمون انه هو المحور الأصيل لشرعة الله حيث يجمع في دفتيه كافة الأصول العقيدية والفروع الأحكامية.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) :

(كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١١ : ١) ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١٢ : ١) ـ (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٣ : ١) (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩٩ ـ أخرج ابن مردويه عن أنس سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ..

٤

صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١٤ : ١) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (١٥ : ١).

وهنا (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) قد تشير إلى «الر» انها وأضرابها هي اجماليات عن القرآن الحكيم تفصلها تفاصيل آياته في تفاصيل السور ، وقد تؤيده آية «هود» : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) فقد أحكمت بين ما أحكمت في هذه الافتتاحيات والبرقيات الرمزية ، كما أحكمت في أم الكتاب أولا (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤٣ : ٤) ثم أحكمت فيما نزلت على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة القدر ، ثم أحكمت في الكتاب المفصل بصورة هذه الافتتاحيات ، كما وأحكمت في محكماته التي هي المراجع للمتشابهات ف : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٥٦ : ٧٨) (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٨٥ : ٢٢) كما وأحكمت في كل آياته وهي تفصّل بعضها البعض.

ذلك ، ولكن الحروف المقطعة ليست هي كل الآيات مهما كانت حكيمة من آيات الكتاب بل هي برقيات رمزية تختص صاحب الوحي الرسولي ، مفاتيح له خاصة لكنوز القرآن.

واحتمال ثان أن «تلك» إشارة إلى آيات السورة نفسها ، أم هذه السور الخمس أو الست المصدرة بها ، أم كل الآيات التي تحملها كل السور.

وقد يعني (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) كتاب الدين الذي منه تنشعب الشرائع كلها ، ف «تلك» الآيات القرآنية هي (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) بأسره ، فقد جمع القرآن كل ما كتبه الله على عباده في كل الشرائع الخمس.

وتلك البعيدة في إشارتها ـ على قرب هذه الآيات ـ بيان عن المحتد البعيد القرآني السامي لنزوله عن منزل الوحي الرباني إلى مهبطه الأمين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ف «الكتاب الحكيم» عند الله قبل تنزيله ، والحكيم النازل على

٥

رسوله قبل تفصيله ، هذه الآيات المفصلات هي آياته دون زيادة ولا نقصان.

ثم هنا «الكتاب الحكيم» حيث تحلق الحكمة الصالحة الربانية على كل ما فيها وفي يوسف والحجر «مبين» فإن الكتاب الحكيم يبين بمحكمة كل تفاصيل القرآن المفصل كما وهو كتفسير يبين الكتاب الحكيم.

ولأن «الآية» هي العلامة الممثلة المفصلة للأصل ، فطالما لا ينال محكم الكتاب عند الله ولا محكمه عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تنال آياته ، كما وأن الله لا يعرف بذاته ، إنما يعرف بآياته : وفي كل شيء له آية.

فالآيات القرآنية كلها دلالات مستقلات على أصلها الأصيل وهو علم الله الممكن إنزاله على الخلق ، واحتمال ثالث أن «الكتاب الحكيم» هو هذا الكتاب المفصل ف «تلك» المسرودة هنا بين الدفتين هي آياته ، كما يقال : تلك بيوت مكة المكرمة وما هي إلا مجموعة بيوت.

ولا نعرف عن المعني من «الر» وأضرابها من الحروف المقطعة إلا ما يعرّفنا مهبط الوحي فإنها برقيات رمزية بين الله ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) تختص به كما يختص به التأويل ، ولسنا لنصدق الروايات في تأويلها دون حساب ، فقد نطرح ما هو خلاف الضرورة (١) أم ليس له شاهد من علم أو أثارة من علم.

__________________

(١) مثل ما رواه العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل : وليس من حروف مقطعة حرف ينقضي أيامه إلا وقام من بني هاشم عند انقضاءه ـ إلى قوله ـ ثم كان بدء خروج الحسين بن علي (عليهما السلام) «ألم» فلما بلغت مدته قام قائم ولد العباس عند «المص» ويقوم قائمتا عنه انقضاءها ب «المر» فافهم ذلك ودعه واكتمه» أقول أولا أن تحسب عناية الحروف المقطعة معانيها بحساب الأعداد هو خلاف الصحيح من تفسيرها الثابت عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كانت تعني أحيانا هذه الأعداد ، ثم قيام قائمنا عنه انقضاء «المر» خلاف الضرورة القائلة «كذب الوقاتون».

٦

ذلك ، وفي التعبير عن مقاطع السور بالآيات آية قاطعة أنها ذوات الدلالات البينة في

حدود ذواتها المقررة بين الله والمعنيين بها ، وما فرية إجمال القرآن وإعضاله في دلالة فاعزاله عن صالح الاستدلال ، إلا شيطنة مدروسة تعني جعل القرآن في زاوية منعزلة عن أهليه ، في حين أن الروايات والاجتهادات التي لا تتبنى القرآن هي داخلة في الميدان.

فقد قيل فيما غيل على القرآن أنه غاية علم الله النازل على خلقه فكيف بالإمكان أن نفهمه؟ كما قال المشركون انه تعالى أعلى من أن نعبده نحن الأدنون فلنعبد الرعيل الأعلى من عابديه!.

وليس غريبا من هؤلاء الذين غربت عقولهم وعزبت أن ينحّوا القرآن عن الوسط الإسلامي ، حيث يرونه حياة طيبة مستقلة وليست مستغلة لهؤلاء الأوغاد الأنكاد ، ويليهم من تابعهم عارفين أم غافلين في الوسط الإسلامي ، مختلقين حواجز بين القرآن وبين أمته وشعبه ، مرتكنين على روايات متناقضة متعارضة ، ويكأن الأصل عندهم هو غير الأصيل ، والفرع عندهم هو الأصيل ، تقديما للمفضول على الفاضل.

وهذا القرآن هو بصيغة واحدة يحث المكلفين على التدبر فيه دون حث على وسيط ، اللهم إلا للبسيط في تفهم غامراته ، وأما الحجة القرآنية للتكاليف العامة فهي حجة بالغة تعم العالي إلى الوسيط وإلى البسيط.

أو إن كلام الله على محتد الألوهية لا يفهمه إلا إله آخر ولن يكون ، أمن أوحى إليه بما يفهمه دون من سواه؟.

وذلك ينافي المحتد الرباني أنه كلم عباده بلسان الألوهية فلا يفهمه عباده ، نقضا للهدف الأسمى من إنزال الكتب وهو تفهم المكلفين أجمعين! بل ولا يفهم الرسول لغة الألوهية!.

أو إن ظواهره ، بل ونصوصه ، ظنية لا تفهم إلا بالسنة؟ وقضية الفصاحة والبلاغة القمة أن يكون هو البيان للسنة وسواها من منقولات سواه ، وقد سمى نفسه نورا وتبيانا وممسّكا وحيدا غير وهيد.

٧

أم إن الدروس الحوزوية هي تقدمات ضرورية لتفهّم القرآن كما يرام؟.

ولا صلة بها لتفّهم القرآن إلا إجادة اللغة العربية وأدبها البارع ، ثم القرآن ليس فقط حيازة للحوزات لا يعدوهم إلى سائر المكلفين ، وهل أنزل القرآن على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يعيش حوزة؟ ثم هذه العلوم الحوزوية أكثرها تصدّ عن القرآن علميا وزمنيا ، وكما نرى أن الأكثرية المطلقة من خريجي الحوزات لا يصلون إلى القرآن حتى أخريات الأنفاس العلمية ولحد الإفتاء.

ولو أن هذه العلوم كانت ضرورية أو راجحة لتفهّم القرآن كما يرام فكيف لم يشر إليها القرآن ولا رسول القرآن وأئمة القرآن ، فهل هي خيانة مثلثة منهم على المكلفين ، أم هم الذين ظلموا أنفسهم وخانوها باختلاق صدود عن حوزة القرآن.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ).

فعجب من هؤلاء الناس النسناس عجابهم من الإيحاء إلى رجل منهم كرامة لهم مرتين ، مرة أن لم يتحول عنهم إلى غير الناس تدليلا على جدارة الناس أنفسهم أن يوحى إلى رجل منهم ، وأخرى أن ذلك الوحي يحمل الإنذار والتبشير اللذين يبلغان بهم إلى مدارج من الكمال المقصود للإنسان ، المخلوق له الإنسان ، حيث (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ ... فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ولقد كان السؤال المتواتر الذي قوبل به كل رسول ما يعنيه : «أبعث الله بشرا رسولا» إذ لم يدركوا قيمة الإنسان وهم منهم ، إلا أن يتنازلوا عن درجة الإنسانية إلى دركة الحيوانية كما تنزلوا.

فبديلا عن أن يعجبوا فرحين من هذه الكرامة الغالية ، عجبوا

٨

معترضين : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) تحسّبا للحق المبين الذي يحافظ على كرامتهم أنه ساحر مبين.

ذلك ، وكما عجبوا من أصل الوحي توحيدا لله : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (٣٨ : ٦).

ولقد كان أهل مكة يقولون : إن الله ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب! ثم بصورة عامة (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (١٧ : ٩٤).

وهنا تقدم (أَنْذِرِ النَّاسَ) على (بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) لتقدم الإنذار على التبشير ، فمن أثر فيه الإنذار يبشّر ومن لا يؤثر فيه لا يبشّر ، فالمنذرون هم أعم من المبشرين ، فهناك «الناس» وهنا (الَّذِينَ آمَنُوا) وبشراهم (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فهم (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٤ : ٥٥) فهو المنزلة عند الله وقد تشمل المنازل التالية وما أشبه :

ف ـ (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قد تعني قدم الرحيم الرحمن وقدم الإنسان ، فمن الإنسان قدم الصدق في مثلث الإيمان قالا وحالا وأعمالا النابع من قدم الفطرة والعقلية السليمة الصادقة ، ومن الرحمن قدم الجزاء عليه منذ الدنيا إلى البرزخ وإلى الآخرة ، قدما ربانيا يناسب فضله ورحمته (١) ولأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيط في الإقدام على قدم الصدق في الأولى رسالة وفي الأخرى شفاعة (٢) فقد يصدق عليه

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٠٠ عن الربيع في الآية قال : ثواب صدق.

(٢) المصدر أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله : إن لهم قدم صدق عند ربهم ، قال : «محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شفيع لهم يوم القيامة» وفيه عن غيره بطرق عدة مثله ، وفي نور الثقلين ٢ : ٢٩٢ عن تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورواه مثله عنه (عليه السلام) في روضة الكافي ، وفيه عن المجمع عن أبي عبد الله (عليهم السلام) في الآية قال : هو شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

٩

(قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وهكذا عترته المعصومون عليهم الصلاة والسلام (١).

وقدم التوفيق والتأييد والمزيد على أقدامهم رحمة من الله ، وقدم رضوان من الله وهو أكبر حيث هو أطول الأقدام وسائرها تقدمة له.

ولأن المصداق المذكور هنا ل ـ «قدم صدق» هو الإيمان ، وهو نقطة الانطلاق الأولى لسائر الخطوات عملا صالحا وتسليما بمراتبهما ومراتبه للسالك إلى الله ، ف «قدم صدق» لا تعني فقط ظاهرة القدم ، بل كجنس يشمل كافة الأقدام الأنفسية والآفاقية على ضوء شرعة الله في سبيل الله ، ابتداء من الإيمان بالله إلى التسليم لله ، قدما منهم ، وابتداء من مزيد التوفيق والإيمان من الله إلى رضوان من الله.

وقدم آخر في «قدم صدق» أنه القدم المقدّم في علم الله (٢) أنهم سوف يؤمنون ، وسابع هو «قدم صدق» في انعكاس أعمالهم لا يغيّر ولا يبدّل إلّا أن يبدلوها من عند أنفسهم (٣).

فمن قدم رباني للذين كفروا : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٥ : ٢٣) ويعاكسه «قدم صدق» هذا ، كما صدقوا ، وإقدام صدق كما أقدموا ، ف ـ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٣٣ : ٢٣).

ذلك ، فأول أقدام الصدق عند الله هو الإيمان بالله ، ثم عمل الصالحات ، ثم التسليم السليم لرب العالمين : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٢ في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليهم السلام) في الآية قال : ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) المصدر عن ابن عباس في الآية قال : ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول.

(٣) المصدر عن ابن مسعود في الآية قال : القدم هو العمل الذي قدموا قال الله (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) والآثار ممشاهم قال : مشى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أسطوانتين من مسجدهم ثم قال : هذا أثر مكتوب.

١٠

وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢) وذلك يشمل عمل الإيمان وعمل الصالحات وعمل التسليم.

فطليق الصدق هو الصدق في مثلث الأقدام بكل إقدام ، ثم يليه العوان بين الصدق والكذب ، ومن ثم طليق الكذب كما في المنافقين والكافرين.

هذه أقدام صدق ليست إلّا قضية لصادق الإيمان ، وهي درجات حسب درجات الإيمان ، علينا أن نتعرف إليها حتى نعرف أقدام صدق فيها ، ف : «الإيمان على أربع دعائم : على الصبر واليقين والعدل والجهاد ـ

والصبر منها على أربع شعب : على الشوق والشفق والزهد والترقب ، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات ، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات ، واليقين منها على أربع شعب : على تبصرة الفطنة ، وتأوّل الحكمة ، وموعظة العبرة ، وسنة الأولين ، فمن تبصّر في الفطنة تبيّنت له الحكمة ، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين ـ

والعدل منها على أربع شعب : على غائص الفهم ، وغور العلم ، وزهرة الحكم ، ورساخة الحلم ، فمن فهم علم غور العلم ، صدر عن شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرّط في أمره وعاش في الناس حميدا ـ

والجهاد منها على أربع شعب : على الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن ، وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين ، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ، ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة ـ

والكفر على أربع دعائم : على التعمق والتنازع والزيغ والشقاق ـ

فمن تعمق لم ينب إلى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن

١١

الحق ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة ، وسكر سكر الضلالة ، ومن شاقّ وعرت عليه طرقه ، وأعضل عليه أمره ، وضاق عليه مخرجه ـ

والشك على أربع شعب : على التماري والهول والتردد والاستسلام ، فمن جعل المراء دينا لم يصبح ليله ، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه ، ومن تردد في الريب وطئته سنابك الشياطين ، ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيهما» (الحكمة ٣٠).

(.. قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أساحر هو ببليغ قرآنه وفصيح تبيانه؟ والسحر ليس ليبطل العقل أو يعزله ، فإنه جنّة بعواملها ، ولئن كان تأثير بيان في عقلية الإنسان دليلا على أنه سحر ، إذا فالبيان الخاوي عن تأثير هو الحق الواقع موقع القبول ، فلنرفض كل بيان تقبله العقول ، ونفرض ما لا تقبله.

والمروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن من البيان لسحرا» ناح منحى زخرفة البيان الخاوي عن الحق ، حيث يؤثر فيمن لم يكمل عقله بتزويقه وزخارفه ، وحسن معارضه ومطالعه ، حتى يستنزل الإنسان من حال الغضب والمخاشنة إلى حال الرضا والملاينة ، وينزع حمات السخايم ، ويفسخ عقود العزائم ، ويكتح الجامح حتى يرجع ، ويسف بالمحلق حتى ينفع ، ويعود بالخصم الضالع موافقا ، وبالعدو الأبعد مقاربا.

وأما الكلام الخاوي عن زخرفات الكذب ، وزبرجات تعني قلب الحق عن مرامه ، دونما معنى تقبله العقول ، فليس سحرا ، ثم إذا كان خارجا في لفظه ومعناه عما يعرف ممن سوى الله كان آية ربانية.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

إنه ليست الربوبية بالتي تنفصل وتنعزل عن الألوهية ، وحق لها في

١٢

حكمة الخلق أن لن تنفصل ، حيث الربوبية الناتجة عن الألوهية هي كما الألوهية كاملة غير مائلة ، وسائر الربوبيات المدّعاة لا أصل لها ولا فرع صالحا.

وهكذا (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ ـ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ـ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ـ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ـ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ـ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟.

فالله تعالى شأنه يملك هذه الخماسية من الربوبية خلقا وتدبيرا وتيسيرا فمعبودية (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟.

ذلك ، وقضية الألوهية لم تكن محل إنكار للمشركين إذ كانوا معترفين مصرحين بوحدة الألوهية ، ولكنه لم تكن تتبعه مقتضياته ، فلقد كان من قضايا ذلك الاعتراف أن يعترفوا لزاما بربوبيته الوحيدة في حياتهم ، ثم الربوبية الإلهية تتمثل في الدينونة له وحده ، إذا فلا تقدّم الشعائر والشعورات التعبدية إلا له وحده ، ف (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) لا سواه.

هذا ولكن هؤلاء المجاهيل وأضرابهم يحصرون الألوهية في الخالفية ثم يحسرونها عن الربوبية والمعبودية.

والعرش هنا هو عرش تدبير الخلق بعد خلقه : «ثم استوى على العرش لتدبير الأمور» (١) و «قد (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) قبل أن يخلق منه الأرض والسماء ، ثم له عرش يوم القيامة لتدبير الحساب فالثواب والعقاب : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٦٩ : ١٧) فمثلث العرش هو لمثلث النشآت فلا عرش له ـ إذا ـ قبل خلقه الخلق إذ لا مخلوق حتى يدبّر.

تدبير حكيم لا حول عنه وكما في حديث قدسي : «إني أدبر عبادي

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٢ عن جابر عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله جلّ ذكره وتقدست أسماءه خلق الأرض قبل السماء ثم ...

١٣

لعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير» (١).

ذلك ، وقد ذكر «العرش» ب «عرشه» وحدة وعشرين مرة في الذكر الحكيم في تسعة عشر سورة ، وهي كلها تعني عرش الربوبية ، دون مجرد الألوهية ، فقد كان ولا عرش إذ لا خلق يستولي على أمره.

وهذه بين العرش الأول قبل خلق السماوات والأرض حيث (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) والعرش الأخير (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (٣٩ : ٧٥) ـ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (٤٠ : ٧) (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٦٩ : ١٧).

وبينهما سائر عروش الربوبية من عرش الرحمن وهو السيطرة الرحمانية على الخلق أجمع : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢٠ : ٥) (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٢٥ : ٥٩) ذلك المعبر عنه بعرش التدبير كما هنا في «ثم استوى على العرش يدبر الأمر» وعرش العلم : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ..) (٥٧ : ٤).

فعرش الربوبية في ذلك المثلث مرتكن على علمه المحيط وقدرته الطليقة وقيوميته المطلقة دون أي ندّ ولا شريك ، فكما لا شريك له في ألوهيته وخالقيته ، كذلك في سائر ربوبيته لما خلق.

__________________

(١) المصدر في كتاب التوحيد بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى حديث طويل وفيه : وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفه عنه لئلا يدخله العجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو صححت جسمه لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك إني أدبر ...

١٤

فلا توكل ـ إذا ـ إلا عليه : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٩ : ١٢٩) لأنه الملك الحق (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (٢٣ : ١١٦) ثم ولا شفيع من دونه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) (٣٢ : ٤).

فلا يعني العرش لربنا سبحانه وتعالى إلا حيطة علمه وقيوميته في كافة شئون الربوبية.

فكما أنه إله لا إله إلا هو ، وخالق : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) كذلك هو رب لما خلق لا رب إلّا هو ، ولا مدخل لغيره تعالى في خلقه ، وإنما هو القيوم الديموم في ألوهيته وخالقيته وسائر ربوبيته ، لا شفيع له في خلقه خلقا وتدبيرا ، ثم ولا جزاء إلّا باذنه ف (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) «ما من شفيع» في تدبير الأمر «إلا من بعد إذنه» فالشفاعة الوساطة في أصل الخلق لا أصل له إذ هو الخالق لا سواه ، وكذلك الشفاعة في التشريع ، اللهم إلا شفاعة شرعية لبلاغ الرسالة ، ثم شفاعة في ظاهرة آيات الرسالة ، ومن ثم شفاعة في غفران الذنوب وما أشبه ، فالشفاعة المسموحة هي على أية حال خارجة عن شئون الربوبية الخاصة به تعالى وتقدس ، كما وهي أيضا خاصة باذنه ، فلا يستقل أحد في هذه الشفاعات المسموحة حيث تنحصر «باذنه».

وذلك الإذن مشروط بشروطات عدة مسرودة في الكتاب والسنة ، ومن السنة ولاية حملة السنة المعصومين (عليهم السلام) ، بعد ولاية الله وولاية الرسول وصالحة الأعمال ، وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي» (١) و «من أبغض أحدا من أهل بيتي فقد حرم شفاعتي» (٢) «من آذاني في عترتي لم تنله شفاعتي» (٣) «أول من أشفع له من أمتي أهل بيتي» (٤) «شيعتك على منابر من نور

__________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ٩ : ٤٢٣ و١٨ : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢) المصدر ٦ : ٤١٣ و٩ : ٤٨ و١٨ : ٤٦٠ ، ٤٦٦.

(٣) المصدر ٩ : ٤٨٦.

(٤) المصدر ٩ : ٣٨٠ ـ ٣٨١ و١٨ : ٤٦٤ ، ٤٦٨ ، ٥٤٣.

١٥

مبيضة وجوههم حولي أشفع لهم» (١) و «الشفعاء خمسة .. وأهل بيت نبيكم» (٢) و «من أراد التوسل وأن يكون له عندي يد أشفع بها فليصل أهل بيتي ويدخل السرور عليهم»(٣).

وهكذا ينقسم تدبير الأمر ككل إلى أقسام خاص بالله ككل شئون الربوبية الإلهية ، فلا تعدوه إلى سواه بإذن أو دون إذن ، أم خاص به يعدوه إلى من يأذن له ، أم هو لمن سوى الله دون خاصة الاذن حيث جعل الخيرة لخلقه فيه.

وهنا «يدبر الأمر» يشمل الأولين ، اختصاصا بشأن الربوبية مهما كان الثاني بإذن ، ثم والثالث بما أذن تكوينيا بصورة عامة كسائر شئون الخلق التكليفية وسواها ، فلا تدبير لأي أمر من الخلق استقلالا عن إذن الله ، مهما اختلف إذن خاص في شفاعة عن إذن عام.

«ذلكم» البعيد المحتد (اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) لا سواه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هذه الخصائص الربانية التي تختصه ، فالعبودية له وحدة هي قضية ألوهيته وربوبيته الوحيدة غير الوهيدة.

«ذلكم الله» الذي كان إذ لا كان ، لا عرش ولا معروش حيث يعني «عرشه» سلطته الفعلية بكل مراحل القيومية.

ف «الله» قبل ظهور فعليات صفاته الخلقية ، هو الله دون عرش ولا سواه من كائن.

ثم الله بعد ما خلق الله ـ وقبل خلق السماوات والأرض ـ كان عرشه على الماء.

ومن ثم بعد ما خلقهما (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ثم بعد خراب العالم كله له عرش تدبير الحساب والجزاء حيث يحمله يومئذ ثمانية ، المحمّلين

__________________

(١) المصدر ١٥ : ٤٠٦ ، ٢٢١ و٤ : ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

(٢) المصدر ٩ : ٤٢٥.

(٣) المصدر ٩ : ٤٢٤ و١٨ : ٣٠٦ ، ٤٧٣ ، ٤٥٧ ، ٥٥٥.

١٦

كموازين الأعمال موازين الحساب.

«ذالكم» فقد جرّد عرشه سبحانه عن عروش المخلوقين روحية أو زمينة أو مادية ، كما وهو مجرد في ذاته وصفاته وأفعاله عن ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم.

«ذالكم الله ربكم أفلا تذكرون» ما رقم في كتاب الفطرة التي فطركم الله عليها ، خاسرين أنفسكم الحاقة ، خارجين عنها إلى أهواءكم المضلة المطلة عليكم!.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

«إليه» لا سواه ولا رسول الله ولا أي شركاء أو شفعاء «مرجعكم» أنتم العالمين «جميعا» : مرجع بجميعه دون إفلات ، و «كم» جميعا دون إفلات ، أعني (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) ثابتا ولا حول عنه ولا بداء فيه ، أو أنه من قيام المفعول المطلق مقام فعله ، «إنه» بتحقيق حقيق وتأكيد بليغ أكيد «يبدء الخلق» مصدرا وصادرا «ثم» بعد ما يفنيه «يعيده» ولما ذا (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) وهو فوق العدل ، ولا يظلمون نقيرا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) : حار حارق ، (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) آلم من حميم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) عدلا جزاء وفاقا ، فهناك درجات حسب الدرجات (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) وهنا دركات حسب الدركات دون مزيد إن لم ينقص.

هنا «يبدء» مضارعة تدل على استمرارية الخلق ، مما يضيّق نطاق الخلق بالمكلفين أم ويشمل سائر الخلق لأنه مما يعيشونه إبتلاء ، فالبدء على أية حال هو بدء فيه حالة التكليف لمكان الجزاء لفريقي الإيمان والكفر ، فلا تعني الإعادة هنا إلا إعادة الحياة للأحياء بعد ما أماتهم ، كما لا تعني إعادة المعدوم حتى تمتنع ، إنما هي إعادة الأجساد إلى حالة تقبل الأرواح ورجعها إلى أجسادها ف (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٧ : ٢٩) (كَما

١٧

بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (٢١ : ١٠) ـ والإعادة أهون عليه فيما نقيس إذ لا أهون له ، فكل خلقه هين : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) ـ (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩ : ٢٠) (١).

ذلك ولو لم تكن إعادة بعد الموت لكان خلاف القسط تسوية بين فريقي الإيمان والكفر ، بل وخطوة زائدة للكافرين وحرمانا للمؤمنين وهذا ظلم لا يحصل إلّا من ضعيف ، فإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، ضعيفا في قدرته أو علمه أو حكمته أو رحمته ، فلولا الإعادة للجزاء بعد الخلق لكان البدء ظلما عاريا عن الحكمة العادلة.

فقد بدء الخلق «ليجزي ..» وهو يعيده «ليجزي» خلقا قاصدا بإعادة قاصدة قاسطة ولا يظلمون نقيرا.

وهنا (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) قد تعني كل الخلق مكلفين وسواهم من الخلائق ، فقد تلمح أنه يعيد السماوات والأرض كما بدأهما ، أم ويعيد خلقا آخرين مكلفين وسواهم بعد القيامة الكبرى ، ولكن احتمال خلق آخرين بعيد عن «ثم يعيده» إذ ليس خلق آخرين إعادة للأولين ، وأما احتمال رجع السماوات والأرض فوارد وكما تدل عليه (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (٧٦ : ١٣) (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١١ : ١٠٨).

ذلك ، وكما أنه واحد في بدء الخلق لا شريك له أصيلا ولا بديلا ، كذلك هو المرجع والمعيد لا شريك له أصيلا ولا بديلا ، حيث البدء والإعادة والإرجاع هي أمور خاصة بساحة الربوبية فلا تقبل نيابة وإذنا ، وكما المستفاد من (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) حصره مرجعا ومآبا فحسابا وثوابا وعقابا.

__________________

(١) لتطلع واسعا على المعاد في المعاد راجع ج (٢٢ : ١٠٨ ـ ١١٥) من الفرقان وآيات أشباهها. وفي «عقائدنا» ٦٩ ـ ٢٢٧٨.

١٨

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

هذه وما يتلوها من اختلاف الليل والنهار هي من شئون الربوبية البارزة ، و «الشمس» هنا هي هذه التي تشرق علينا نحن سكنة الأرض حيث الخطابات تخصنا ، أم تعني كل شمس وقمر للعالمين أيا كانوا في الأنجم الحية العاقلة المكلفة بأهليها.

هنا (الشَّمْسَ ضِياءً) مرة وسراجا أخرى تذكر بين (٣٢) مرة ، ثم (الْقَمَرَ نُوراً) بين (٢٦) مرة ، وفيها (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٧١ : ١٦) و (جَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) فالشمس ضياء مرة وسراج مرتين ، والقمر نور ومنير في ثلاث ، فما هو الفرق بين الضياء والسراج وبين النور والمنير؟.

الضياء هو شدة النور كما السراج ، مهما اختلفت السرج في ضياءها ، ولكن النور هو مطلقها وهو في القمر وجاه الشمس نور ضعيف ولا سيما إذا كان من إضاءة الشمس حيث يتلألأ على ضوءها ، والنور على حد تعبير رسول النور (صلى الله عليه وآله وسلم): «تكلم ربنا بكلمتين فصارت إحداهما شمسا والأخرى قمرا وكانا من النور جميعا ويعودان إلى الجنة يوم القيامة» (١) إذا فالنور هي أعم من الضياء للشمس والنور للقمر ، والكلمتان هنا هما التكوينيتان.

ثم «قدره» القمر «منازل» هنا (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) وفي البقرة : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) (١٨٩).

فالمواقيت تعم عدد السنين والحساب حيث الحساب هو حساب السنين بالساعات والأيام والأسابيع والشهور.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٠٠ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول :

١٩

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) مصاحبا الحق وبسبب الحق ، حق العلم وحق الحكمة التربوية وسائر الحق في الخلق.

وهاتان الآيتان هما من عساكر البراهين القرآنية على أصالة الشهور والسنين القمرية ، ولقد فصلنا القول حول الشمس والقمر وأحوالهما في هذا الفرقان على ضوء آياتهما فلا نعيد.

(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعلمون النظام عن الفوضى ، والترتيب القاصد عن الصدفة العمياء ، ففي تقدير القمر منازل على ضوء جعل الشمس ضوء بأنه لا يزال يتباعد عنها حتى يوافيها من جانب آخر ارتساما للأيام فالمشهور فالسنين ، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون.

مشهدان مألوفان معروفان ليل نهار لمن له بصر ، يعرضان في مسرح التدليل على ربوبيته تعالى إثارة في مشاعرنا وهلة الجدة وإحساس التطلّع الحي والتأمل الذي لا يبلّده التكرار.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦).

من إختلاف الليل والنهار هو مجيء كلّ خلف الآخر بنظام دون فوضى ، وهكذا يفسر قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «اختلاف أمتي رحمة» فإنه اختلافهم إليه وإلى رباني الأمة ، ومنه اختلافهما عن بعضهما البعض في الطول والقصر حسب أيام السنة ، وحسب مختلف الآفاق ، واختلافهما في الآثار المترتبة عليهما : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (٧٨ : ١١).

فالاختلاف قد يعني الائتلاف بإتيان شيء أو شخص خلف آخر إفادة أو استفادة ، وأخرى هو التضاد بجعل كل خلف الآخر تخالفا في المرام وتضادا في المرام.

والقرينة الأدبية المميزة لكل عن الآخر هي الظرف المتعدي به الإختلاف ، فالاختلاف «في» أو «عن» وما أشبه هو من الثاني ،

٢٠