الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحم

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ

٥

لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤)

هنا عرض فسيح يفصح عن مدى لجاج اليهود أمام الله ورسوله ، تمحّلا للمعاذير الواهية المهينة في أمر كان لصالحهم ، وقد تساءلوا موسى عنه ، وهو قصة القتل التي خلقت فيهم جوا من الحجاج واللجاج.

كلّ من قبيلي النزاع يتهم الآخر ، مما يكاد يولّع نيران الحرب بينهم ، وكما ورد في الأثر (١) المؤيّد بملامح آيات القصة : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ

__________________

(١) البحار ١٣ : ٢٥٩ عن تفسير القمي أبي عن ابن أبي عمير عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان رجلا من خيار بني إسرائيل وعلمائهم خطب امرأت منهم ، فأنعمت له ، ـ

٦

مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٢ ـ ٧٣).

ندرس في قصة البقرة ـ القصيرة ـ آماد الحمق والعناد في العمق لهؤلاء

__________________

ـ وخطبها ابن عم لذلك الرجل وكان فاسقا رديئا فلم ينعموا له ، فحسد ابن عمه الذي انعموا له فقعد له فقتله غيلة ثم حمله الى موسى (عليه السلام) فقال : يا نبي الله هذا ابن عمي فقد قتل ، فقال موسى (عليه السلام) من قتله؟ قال : لا أدري ، وكان القتل في بني إسرائيل عظيما جدا فعظم ذلك على موسى فاجتمع اليه بنو إسرائيل فقالوا : ما ترى يا نبي الله؟ وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة وكان له ابن بارّ كان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته تحت رأسه وكان نائما ، وكره ابنه أن ينبهّه وينغص عليه نومه : فانصرف القوم فلم يشتروا سلعته ، فلما انتبه أبوه قال له يا بني ، ماذا صنعت في سلعتك؟ قال : هي قائمة لم أبعها ان المفتاح كان تحت رأسك فكرهت ان أنبهك وأنغص عليك نومك ، قال له أبوه : قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك ، وشكر الله لابنه ، ما فعل بابيه ، وامر موسى بني إسرائيل ان يذبحوا تلك البقرة بعينها ، فلما اجتمعوا الى موسى وبكوا وضجوا قال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فتعجبوا وقالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) نأتيك بقتيل فتقول : اذبحوا بقرة! فقال لهم موسى (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فعلموا انهم اخطأوا فقالوا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) والفارض التي ضربها الفحل ولم تحمل ، والبكر التي لم يضربها الفحل ، فقالوا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) اي شديدة الصفرة (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) إليها (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) اي لم تذلّل (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) اي لا تسقي الزرع (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) اي لا نقطة فيها الا الصفرة (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) هي بقرة فلان فذهبوا ليشتروها فقال : لا أبيعها إلّا بملىء جلدها ذهبا فرجعوا الى موسى (عليه السّلام) فأخبروه فقال لهم موسى : لا بد لكم من ذبحها بعينها ، فاشتروها بملىء جلدها ذهبا فذبحوها ، ثم قالوا : يا نبي الله ، تأمرنا؟ فأوحى الله تبارك وتعالى اليه : قل لهم اضربوه ببعضها وقولوا من قتلك؟ فأخذوا الذنب فضربوه وقالوا : من قتلك يا فلان؟ فقال : فلان ابن فلان ابن عمي الذي جاء به ، وهو قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

٧

الأباقرة العباقرة! وكم بقروا : كلّا في بصائرهم الكليلة العليلة في العقلية الإنسانية ، مهما بقروا : شقا للمسالك الحيوانية الشهوانية ، فهم في الروحية الإنسانية في أسفل سافلين ، وفي الترسّلات الحيوانية والسياسات المادية في أعلى عليين!.

هنا السمات الرئيسية للطبيعة الإسرائيلية ، والوصمات النكدة النكبة ، تبدو واضحة وضح النهار في هذه القصة ، من مدى انقطاع الصلة بين قلوبهم المقلوبة وبين مقلب القلوب ، انقطاعا عن نبعة الحياة الروحية الشفافة الرقراقة ، واتصالا طليقا حليقا بالمظاهر المادية ، لحد قد يسبقون الماديين في دورهم الدائر وحورهم الحائر حول المادة والحيوية الحيوانية الشرسة.

ولقد سميت سورة البقرة بها بمناسبة قصة البقرة ، وهؤلاء الأباقرة فيما تقصه عنهم في هذه المجالة وسائر المجالات المعروضة فيها ، عرضا لحمقهم في عمقهم لحدّ قد تهان البقرة في تمثيلهم بها وعبادتهم إياها!.

وترى كيف يلفت عن خطاب الحاضر لهم ـ فيما سبق هنا من خطابات ـ إلى عرض غائب في تقاولاتهم هذه ، ثم نقلة إلى خطابهم عرضا لمادة القصة المقدمة عليها : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) وهي أحرى أن تقدّم بطبيعة الحال التسلسلية؟.

علّه لأن القصة غير مذكورة في التوراة زمن نزول القرآن كما الحاضرة ، فليعرضوا غيّبا فيها ، ومن ثم ـ وبعد تثبيت القصة ـ يأتي دور العرض لقتلهم نفسا وتدارئهم فيها ، ولها إشارة في التوراة (١) تلفيقا دقيقا رفيقا للواقع المغفول

__________________

(١) في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر التثنية : ١ إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله ٢ يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون الى المدن التي حول القتيل ٣ فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير ٤ وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة الى وادي دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون ـ

٨

عنه بالواقع المشار إليه فيها وليذكّروا ماضيهم فيعرفوا من هم؟.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ٦٧.

يقولها لهم موسى لمّا راجعوه بشأن القتيل المجهول أمره ليوضّح لهم ، وإذا هم بأمر لا يناسب في قياسهم سؤلهم وسؤالهم ، وهو في نفس الوقت هتك لما يحترمونه من البقرة لحد عبدوها لفترة ، بل (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) (٢ : ٩٣) ثم إذا كانت هناك صلة فلتكن إحياء الميت بذبح البقرة وذلك هو أبعد البعد صلة بأمرهم! فكيف ـ إذا ـ يذبحون بقرة؟ ولا تمتّ بصلة قريبة ولا بعيدة لمعرفة القاتل ، أم كيف يعرف القاتل بقتل آخر!

لكنهم تناسوا الحكمة الربانية الخفية في أوامره ، الجليلة في تطبيقاتها ، كما جربوها ردحا بعيدا من الزمن ، فتثاقلوا في الائتمار ، واثاقلوا في الحوار ، فرارا عما أمروا به إلى سواه ، بسيّئ الأدب مع الله ورسوله في أصل الأمر وفصله ، ولكنهم في نهاية الأمر (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) بعد ما تحمّلوا مواصفات زائدة في «بقرة» ما كانت عليهم لو ائتمروا من فورهم دون تعنّت وتساءل!

الأمر الأول لم يحمل إلّا «بقرة» طليقة عن كل صفة إلّا كونها «بقرة» ثمينة أو رخيصة ، فارضا أم بكرا أم عوانا ، صفراء أم سوداء أم بيضاء أم عوانا ، فقد كانت تكفيهم في البداية ـ حسب طليق الأمر ـ أيّة بقرة.

وكما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : «... ولو أنهم

__________________

ـ عنق العجلة في الوادي ٥ ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب حسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة ٦ ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة لمكسورة العنق في الوادي ٧ ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر ٨ اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريّ في وسط شعبك إسرائيل. فيغفر لهم الدم فتنزع الدم البريّ من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب.

٩

اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدّد الله عليهم» (١).

يقول لهم موسى الرسول : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فيردون عليه (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) ويكأن الله يهزء بعباده عن جهالة ، أو أن رسول الله يفتري على الله ما فيه جهالة!.

(قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) في ذلك الأمر الإمر ، البعيد عن تحقيق سؤلنا ، (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في نقل الأمر افتراء ، وهو من أجهل الجهالة ، أم في نفس الأمر أن يحمل امر الله بما أحمله جهالة الاستهزاء!.

هنا نتبين أن الهزء من الجهالة ، وطبعا إذا كان بدائيا ومن جاهل ، وفي حالة الهجمة ، وأما الجزاء الوفاق من المجازي الحق دفاعا عن الحق فليس من الجهل ، وكما في نوح (عليه السّلام) : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ)

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٧٧ ـ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا ان بني إسرائيل قالوا : وانا ان شاء الله لمهتدون ـ ما اعطوا أبدا لو انهم ... أقول : وقد رويت عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بألفاظ مختلفة ، المتفق عليه فيها إطلاق الأمر واجزاء أية بقرة ، ولكنهم لما شردوا شرد الله عليهم ، مما يلائم ظاهر الأمر الطليق في الآية ، وهنا عشرة كاملة من الأحاديث تحمل تدرج الأمر في قيود المأمور به وقد رواها أبو هريرة وعكرمة وابن جريح وقتادة وابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والبزنطي ومقاتل بن مقاتل ومحمد بن عبيدة عن الرضا (عليه السلام) وعلي بن يقطين عن موسى بن جعفر عليهما السلام وابن طاووس عن الباقر (عليه السلام) وهي كلها موافقة لظاهر القرآن في ذلك فلا يصغى الى قيلة القائل ان المأمور به كان مقيدا من اوّل الأمر ، لا سيما وان قوله (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) امر حال بإتيانه ولمّا تذكر سائر المواصفات التالية ، ولو كان كما قيل لكان امرا بالمحال ان يأتوا بما لم يتبين بعد قيوده!

١٠

(١١ : ٣٨) وكما الله (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٢ : ١٥)

فالهزء والسخرية البادئة هما من الجهالة وسوء الصنيعة ، وقد نهي عن الاستهزاء في (٣٣) آية ، وفي عديدة أخرى عن السخرية ، مما يبين لنا مبدئيا أنها من المحرمات الناتجة عن الجهالة القاصدة المقصرة ، واما القاصرة فلا تكليف فيها ولا تنديد.

ففيم تهزء بإنسان؟ أفي نقص من خلقه في مقياسك؟ وليس إلّا من خلق الله ، فلا تهزء ـ إذا ـ إلّا بالله ، وهذه جهالة بالله!.

أم في نقص قاصر من فعل أو ترك؟ فكيف يهزء بقاصر وليس مكلفا في أيّ من الأعراف!.

أم في نقص مقصر؟ إذا فهو مريض بحاجة إلى تمريض ، ولا يزيده هزئك به إلّا مرضا إلى مرض ، وعليك أن تكون له طبيبا إن استطعت ، أم تأتي له بطبيب يداويه ، أم تتركه وحاله ، لا له ولا عليه إن لم تستطع في علاجه.

أم لأنك تظنك على كمال هو فاقده؟ فكذلك الأمر ، وليس ظنك صائبا على أية حال! : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) (٤٩ : ١١) وحتى إذا كانوا خيرا منهم (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)!(١٢)

فلا مجال للسخرية والهزء إلّا بمن يسخر بالحق بدلا عن الانتباه ، هزء عن مصدر العلم والحكمة دون أية جهالة بالله ، أم جهالة بالأعراف الشخصية

١١

والجماعية ، أو الواجبات الدعائية ، وهنا السخرية لها مجال اعتداء بالمثل ، وصدا عن نشوب الباطل بين أهل الحق.

(قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) هو عوذ بالله في بعدية ، بالله الذي أمره أن يقول لهم : «اذبحوا بقرة» فلا يجهل أمر الله ، والله الذي يعصم رسوله عن الجهالة فلا يجهل في رسالة الله ، وهم عارفون أنه رسول الله ، القائل قوله عن الله ، وهم يتهمونه بهذه الجهالة الفاتكة لاستبعادهم ـ في قياسهم المتهوس المركوس وعقليتهم الحيوانية ـ ألّا صلة لذبح بقرة باتضاح أمر القتيل ، وقد اتضح أخيرا ، إضافة إلى بيان الواقع من إحياء الموتى ، وجزاء الولد البار بأبيه في قصة البقرة.

لقد كان في ذلك التوجيه الوجيه كفاية لهم أن يثوبوا إلى أنفسهم ، ويتوبوا إلى ربهم ، تنفيذا لأمره لصالحهم في المبدء والمصير ، أمرا كان لهم من السهل اليسير ، ولكنهم بدلوه بالأمر العسير ، أمرا واحدا طليقا يتبدل في تساؤلاتهم المتعنتة بأوامر عدة لا تنطبق إلّا على بقرة يتيمة منقطعة النظير ، وهم لا بد لهم من تطبيقه حسما لمادة النزاع في «من هو القاتل»؟.

وهنا ندرس دراسات أصلية أصولية على أضواء هذه الآية الطليقة ، المقيدة بعد بما تقيدوا.

١ لا يجوز تقييد المطلق بسناد الاستغراب أو الاحتياط أو أنه القدر المتيقن أمّا هي من تقييدات لا سناد لها إلّا تخيلات لا حجة فيها ، اللهم إلّا قيودا عفوية من قبل الشارع نفسه ، في كتاب أو سنة قاطعة ، وقد كانت في «اذبحوا بقرة» منفية ، فلما تعنتوا في التساءل وشدّدوا شدّد الله عليهم جزاء وفاقا.

٢ كما أن إطلاق المقيد بدليل محظور ، كذلك تقييد الإطلاق دون دليل

١٢

محظور ، فإنهما تخلف عن ظاهر الدليل أو نصه ، ومشاقة مع الشارع في التشريع.

٣ تقييد الإطلاق ـ وهو في مقام البيان ـ هو تجهيل للمطلق كأنه قصّر في بيانه (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ ...)؟. إذا فهو محظور عقائدي بجنب المحظور العلمي.

٤ وحتى إذا لم يتبين قطعا أن المطلق في مقام بيان كامل مراده ، فظاهر الحال يقتضي التماشي مع الإطلاق حتى يتبين له قيد أو قيود ، فإن كانت قبل وقت العمل فتقييد تبيين ، وإن كانت بعده فنسخ قدره.

٥ وهنا نرى تعاضل الأمر ـ بتضايق في أوصاف المأمور به ـ ما تعاضل المأمورون به ، فقد كان في البداية طليقا عن أيّة صفة إلّا أنه «بقرة» ثم لصقت بها أوصاف تلو بعض ولصق بعض حيث اثّاقلوا عن تطبيقه طليقا وتعاضلوا ، وهذه بلية ربانية يبتلي بها المتعنّتون ولا ينبئك مثل خبير.

ورجوع ضمائر التأنيث إلى البقرة الأولى الطليقة لا يقيدها لأول الأمر ، فإنما القيود آتية تلو بعض والبقرة هي جنس البقرة ، ف (إِنَّها بَقَرَةٌ ...) تعني أن المطلوب الآن بقرة ... لا الأوّل فإنها كانت دون قيود.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) ٦٨.

«ربك» هنا ، دون «ربنا ـ أو ـ رب العالمين» ـ وقد كررت في ثالوث سؤالهم المنحوس ـ ذلك يشي بأنهم لا يزالون في ريبهم يترددون ، وفي غيّهم وعيّهم يعمهون ، كأن موسى هازئ بهم ، أو أنه ينقل عن رب سوى ربهم ، ويكأن هناك أربابا عدة هم متشاكسون في أوامرهم ، ثم وهم أولاء يحترمون رب

١٣

موسى أكثر من أربابهم ، لذلك (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ ...)!

ثم (ما هِيَ) سؤالا عن الماهية ، إنه تجاهل عن أنها بقرة ، وقد نص عليها أوّل مرة ، ثم مزايدة جاهلة قاحلة حول ماهية البقرة من حيث الكيان في عمرها ، وكل أمرها ، حيث الأسعار والفاعليات تختلف حسب مختلف الحالات والمجالات.٢

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) جوابا عن الماهية الأولى (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) جوابا عن الثانية (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) وقد أمرتم أولا في طليق الأمر ، ثم زدتم عليه ـ تطلبا جاهلا ـ مواصفات ماهوية ما كانت من ذي قبل إلّا أنها «بقرة» (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) دون مزايدة ومكايدة ، حيث الأمر صريح لا إبهام فيه ، لا يبقي مجالا لأي سؤال!

ذلك تأكيد أكيد على واجب الوقوف لحد الأمر ـ أيا كان ـ بحدوده المذكورة معه أم دون حدود ، مما يوضّح أن «بقرة» كانت طليقة ، ثم زيدت عليها قيود بأوامر أخرى جزاء بما كانوا يتعنتون.

والفارض ـ هنا ـ هي العجوز والبكر هي الشابة غير المضروب عليها بالفحل ، و (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) هي الوسط بين هذه وتلك ، وهو وسط العمر وكماله.

وقد تسمى فارضا لفرض السن وقطعه ، ولفرض الأرض وقطعها ، ولفرض ما يحمّل عليها وقطعه من أشغال ، فروض ثلاثة في الفارض ، يجمعها طليق «فارض».

وتقابلها البكر ، بكرا في العمر فما فرضته ، وبكرا عن الحرث فما استعملت له ، وبكرا عن ضرب الفحل فما انضربت به.

١٤

إذا فعوان بين ذلك يعني الوسط بينهما ، لا متقدمة في العمر ولا حمولة وقد ضربها الفحل.

ولماذا «ذلك» مفردا مذكرا وكلّ من فارض وبكر مؤنث؟ علّه يعني ما ذكر من مواصفات.

ولقد كان في هذا وفي ما قبله كفاية لمن يصغي إلى الحق المرام ، ولكن إسرائيل هي إسرائيل!.

فإلى لجاج ثالث ، تضييقا لدائرة الموضوع ، علّهم ينجون عن أصله ، أم يتأكدون أكثر وأكثر في أصله :

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ٦٩.

فكما أن الأثر علّه في ماهية خاصة من البقرة ، كذلك علّه في لون خاص ، وفي ذلك تجهيل لساحة الربوبية كأنه قاصر أو مقصر في البيان ، وهم أحرى بالحائطة على أوامره تعالى! ، ثم تعجيز له سبحانه ، كأن الأثر في خصوص بقرة خاصة وليس من الله ، ف (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) بين مختلف الألوان (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ) وهنا لا يكتفي بمطلق الصفرة تقريبا لمضايقتهم في خاصة الميّزة ، وقطعا لمعاذيرهم في تساءلات أخرى حول نوعية الصفرة ، فهي ـ إذا ـ (فاقِعٌ لَوْنُها) صادق الصفرة بمشبعها فالفاقع في الأصفر هو أشده وأشبعه وأنصعه ، كما يقال : أصفر فاقع ، وأسود حالك ، وأبيض يقق ، وأحمر قان ، وأخضر ناضر.

(تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) بلونها وسائر شمائلها ، فلا هي مكسورة ولا عوجاء ولا قبيحة المنظر من ناحية أخرى ، بل هي في مثلث الجمال والكمال ، ماهية ولونا

١٥

وشكلا ، ولا يتم سرور الناظرين إلّا أن تقع أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في تلك البقرة.

وقد تلمح (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) بعد (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) أن فاقع الصفرة هو من أحسن الألوان وأنضرها فانظرها حسنا وجمالا وكما يروى (١).

أتراهم اكتفوا بعد بهذه المواصفات؟ كلّا! فهم إسرائيل الحجوج اللجوج ، إذ عادوا مرة أخرى هي الأخيرة ـ إذ لم تبق بعده مواصفة يتعنّتون بها ـ يسألون فيها عن ماهيتها مرة أخرى :

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ٧٠.

وهم في هذه المرحلة الأخيرة مسندون إلى بقاء التشابه في موضوع الأمر : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) وواعدون الاهتداء بها بمشيئة الله : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

ولماذا (الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) دون «البقرة» المكررة هنا وهناك؟ علّه جنس البقرة مهما كانت أنثى ، فليس أي جنس من البقر له ذلك التأثير ، فليكن بقرا منقطع النظير لا مثيل له حتى يؤتى منه ذلك الأثر المنقطع النظير.

فهؤلاء الحماقى يفتّشون بعد عن بقرة خاصة لها خاصتها هذه ، متجاهلين أن الأثر كله هو من خالق البقرة وليس في البقرة نفسها ، ولو لا قولهم أخيرا (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) لما بينت لهم آخر الأبد والذي نفس محمد بيده لو

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٨٩ في الكافي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : من لبس نعلا صفرا لم يزل ينظر في سرورها ما دامت عليه لان الله عز وجل يقول (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ).

١٦

لم يقولوا (إِنْ شاءَ اللهُ) لحيل بينهم وبينها ابدا (١) أترى أن الله لم يشأ اهتداءهم حتى الآن؟ فهم إذا معذورون! أم شاء؟ فتخلفت المشية عن الواقع! فما هو دور «إنشاء الله» هنا إن كان لهم الإختيار؟.

لقد شاء الله اهتدائهم بشرعته لما أمرهم بما أمرهم فتخلفوا عنه عاصين ، ولم يشأ حتى الآن اهتداءهم تكوينا إذ هم لم يشاءوا بسوء اختيارهم ، فليس ل «إنشاء الله» هنا دور إلّا تكوينا لاهتدائهم إن شاءوا هم أن يهتدوا وقد شاءوه أخيرا لما عيوا وأيسوا عن مكرهم.

والمتورط في العصيان عليه التبرك ب (إِنْ شاءَ اللهُ) لصقا بمشيئته إلى مشيئة الله تعالى ، ثم «لمهتدون» قد تعني إضافة إلى هدي التطبيق لأمر الله ، الاهتداء إلى بقرة تحمل كل هذه المواصفات ، ثم الاهتداء إلى معرفة القاتل في هذا البين ، فقد يشاء الله ـ بما شاءوا ـ اهتدائهم إلى ذبحها ، ثم لا يشاء اهتداءهم إلى القاتل أن يضربوا المقتول ببعضها ، أم لا يشاء اهتداءهم إلى هذه البقرة الخاصة بعد ما شاء اهتداءهم لائتمارهم جزاء بما تعنتوا.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ٧١.

فلم تعد هذه البقرة ـ إذا ـ متوسطة العمر صفراء فاقع لونها تسر الناظرين فحسب ، بل هي بقرة غير مذللة بإثارة الأرض وسقي الحرث ، ثم هي مسلّمة : خالصة اللون في الصفرة الفاقعة (لا شِيَةَ فِيها) لا تشوبها علامة ، ولا تمازج لونها لون آخر ، كما هي مسلمة عن سائر العيوب :

وترى (لا شِيَةَ فِيها) هي ـ فقط ـ إيضاح ل «مسلمة»؟ وليس القرآن كتاب لغة! ومسلمة اللون ـ طبعا ـ (لا شِيَةَ فِيها) إذا فهي توضيح للواضح!

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ٣ : ١٢٠ قال الحسن عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) :

١٧

قد تعني «مسلمة» عن كل العيوب ومنها (شِيَةَ فِيها) ومسلمة عن آثار العمل ، ومسلمة عن الحبس للعمل وعن كل نقص متصور لبقرة ، أم ومسلّمة من والد إلى ولده البار به جزاء بره ، أمّا ذا من مسلمات في بقرة.

(قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) ويكأنه قبل الآن كان جائيا بالباطل من ربه ، ويكأن الله ما كان يعرف ما عرفوه (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) نكرانا لأن يؤثر ذبحها في التعرف إلى القاتل ، وتماسكا عن دفع مال في ذلك المجال ، وتمنعا عن ذبح بقرة ولهم سابق العبادة لها ، وذلك الثالوث المنحوس كان يمنعهم عن ذبحها لولا سؤلهم المدقع في التعرف إلى القاتل ، أم وليجربوا موسى في الإجابة عن سؤالهم!

ففي هذه الضفة ـ البخيلة المماكسة الناكثة لعهود الله ، المتشاكسة في أمر الله ـ ينتهي أمر اللجاج إلى بقرة منقطعة النظير في كل إسرائيل عن بكرتها.

ثم في الضفّة المؤمنة : رجل بارّ بأبيه (١) ، تارك ربح التجارة حرمة له ،

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٨٧ في عيون الأخبار بسند متصل عن البزنطي قال سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول : ان رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم اخذه فطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى ان سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبرنا من قتله؟ قال : ايتوني ببقرة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً ...) ولو انهم عمدوا إلى أي بقرة اجزأتهم ولكن شردوا فشرد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها ...) ولو انهم عمدوا الى بقرة لأجزأتهم ولكن شردوا فشرد الله عليهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ...) فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا بملىء مسكها ذهبا فجاؤا الى موسى (عليه السلام) فقالوا له ذلك فقال : اشتروها فاشتروها وجاؤا بها فأمر بذبحها ثم امر ان يضرب الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول وقال : يا رسول الله ان ابن عمي قتلني دون من يدعى عليه قتلي ، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه : ان هذه البقرة لها نبأ ٢ فقال وما هو؟ فقال : ان فتى من بني إسرائيل كان بارا بابيه ... فقال رسول الله موسى انظروا الى البر ما يبلغ بأهله!.

١٨

توهب له هذه البقرة بعينها جزاء بما كسب ، والضفتان تتلاقيان في هذه الوهبة الأبوية بوهبة ربانية تجعله من أغنى الأغنياء في بني إسرائيل ، كما وان ضرب المقتول ببعضها شهادة معلنة أنه يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ٧٢ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ٧٣.

هنا «نفسا» و «بقرة» هما مؤنثان ، فكيف تختص إحداهما بذكورة الضمير (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها)؟

علّ تذكير الضمير الراجع إلى «نفسا» باعتبار أنها القتيل ، وليوضّح أنه المضروب ببعض البقرة وليست هي المضروبة به ، ولا سبيل لذلك الإيضاح إلّا تذكير ضمير «نفسا» القتيل.

وهنا عرض لمادة القصة الأصيلة وهي واقع إحياء الموتى ، ففي (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) نموذج منه يدل على إمكانية وواقع إحياء الموتى بالأولى ، فإذا يحيى ميت بضرب ميت آخر به ، فلئن يحيى بإرجاع الروح إليه أحرى وأولى.

أنتم (قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) كلّ يدرؤه عن نفسه ويلقيه على آخر (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (١) بهذه الخارقة البارعة أن تضربوه ببعضها «كذلك» البعيد في قياسكم ، القريب القريب في قياس الله (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى)

__________________

(١) ١ : ٧٨ ـ اخرج احمد والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو ان رجلا عمل عملا في صخرة صماء لا باب فيها ولا كوة خرج عمله الى الناس كائنا ما كان ، وفيه اخرج البيهقي من وجه آخر عن عثمان قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كانت له سريرة صالحة او سيئة اظهر الله عليه منها رداء يعرف به.

١٩

على طول الخط ، مهما اختلفت الإحياءات هنا وفي الأخرى ، ولكنما الإحياء في الأخرى أحرى.

أحرى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) وهنا الإحياء لم يكن إلّا إخراجا لما كنتم تكتمون ، كواقعة جزئية تهتدون فيها إلى جزاء القاتل بعد ما تعرفون.

وأحرى لأنه أهون من الخلق الأوّل : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) في قياسكم ، إذ ليس في قياس الله لنفسه هين وأهون ، ف (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ثم و (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) مما يلمح أنهم كانوا في شك من إحياء الموتى ، وكما لا نرى في التوراة الحالية ـ على طولها ـ نصوصا حول المعاد ، اللهم إلّا إشارات ، مما يدل على حالة النكران الإسرائيلي ـ العريقة فيهم ـ منذ نزلت عليهم التوراة فضلا عما بعدها ، فقد حرّفوا عن التوراة آيات المعاد فجرّفوها بجرّافات التجديف والتحريف!

فطالما المسافة بين الموت والحياة هائلة غائلة تدير الرؤس ، ولكنها في حساب الخالق سهل يسير ، ففي ضمن ما يجيب عن سؤالهم يعطفهم إلى واقع إحياء الموتى الذي هم فيه مترددون.

فقد كان بالإمكان الإجابة : أن فلانا هو القاتل ، ولكنهم ـ حسب طبيعتهم ـ قد ينكرون تكذيبا لموسى ، فليكن القائل هو نفس القتيل حتى يصدقوه شاءوا أم أبوا.

وكان بالإمكان إحياء القتيل ليشهد شهادته دون هذه الطائلات البليات في قصة البقرة ، ولكنهم قد يتشككون في كونها خارقة إلهية بيد موسى الرسول.

وكان بالإمكان إحياءه بأن يضرب به موسى يده أو عصاه ، ولكنه ما كان

٢٠