الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٠

الصَّالِحاتِ) لا «الخيرات» * إذ الخير يختلف حسب الأنظار والأفكار ، ولكن صلاح العمل مع الإيمان أمر واقعي لا يختلف ، وصالح العمل هو الذي يعمل بدافع الإيمان ، فقد يكون العمل خيرا وليس صالحا ، كمن ينفق لمن يرجو خيره وجزاءه ، فإنه خير ليس بدافع الإيمان ، فليس صالحا ، ولكن الصالح كله خير.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : كل الصالحات ، لمكان الجنس أو الاستغراق المستفاد من «ال» * لا بعضها دون بعض ، فإنهم خارجون عن الخسر قدر ما عملوا ، وداخلون فيه قدر ما تركوا : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩ : ١٠٢).

«وعملوا» * لا «أملوا» : صالحات لهم دون أن يعملوا ، أو أملوا صالحات غيرهم أن تنفعهم : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى!.

أجل : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأعمال الصادرة بدافع الإيمان بالله وبأمر الله ، لا المتحللة عن الدافع الإلهي ، أو المتخلفة عن أمر الله ، فإنها وإن كانت من الخيرات لم تكن من الصالحات.

ذلك ، وهل يكفي الإيمان والعمل الصالح الفردي ، كفاحا ضد الخسران الجماعي ، والتخلف الجماعي ، الذي يقسر الإنسان إلى الخسر ، شاء أم لم يشأ ، كلا وألف كلا.

إن الجماعة المسلمة ، بعد تحكيم العلاقات الفردية العقيدية والعملية ، إنها بحاجة إلى تطبيق واجبات جماعية ، يحافظ فيها على كرامة المجتمع ، ويدافع بها عن ظلامة الجو والتيار الفاسد ، الطيار بكل عار وبوار.

إنها بحاجة ضرورية حيوية إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر :

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) :

التواصي ، لا الوصية ، فليست الوصية بالحق والصبر خاصة بجماعة دون

٤٤١

آخرين ، إنها على كل المسلمين متقابلة ، كل يوصي أخاه بالحق والصبر ، ولكي يصبح المجتمع الإسلامي مجتمع التواصي بكل حق صالح ، وبكل صبر صالح ، كل حسب إمكانيته ، وعلى حد قول الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».

(وَتَواصَوْا) كل يوصي غيره كما يوصيه غيره ، بالحق والصبر ، وكل يقبل الوصية من غيره كما يرجو القبول من غيره ، ولكي يخلقوا جوا طاهرا نزيها عن كافة التخلفات والرذالات.

والتواصي ـ أيا كان ـ بصورة جماعية مرهبة ناصحة ناصعة ، تفرض الحق ، كلما كان تاركوا الحق والصبر أقوى وأطغى ، فليكن الموصّون بها أكثر كفاحا وأقوى.

والتواصي يشمل تعليم الشريعة وتعلّمها ، والأمر بتطبيقها : تعليم الجاهل وحمل العارف.

«بالحق» * : أشمل تعبير يعم كل خير صالح دون استثناء ، ومن بالغ اهتمام القرآن بدراسة الحق وتطبيقه ، نجده يذكره (٢٥٣) مرة في مختلف المجالات والمناسبات ، والحق هو الثابت ، فهو : الله تعالى وتوحيده وعبادته ، وهو : أنبياؤه ورسله ، وهو : كتبه ومواعيده ، وهو : أحكامه وشرائعه ، وهو : القيامة الكبرى ، وهو : كلما يتوجب الإعتقاد به ودرسه وتطبيقه ونشره ، أو ما هو مندوب له.

هذا ـ وكما القرآن يشهد : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) ، وأفعاله حق : (.. ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، والقيامة : «ويستنبؤوك أحق هو قل أي وربي إنه لحق».

والتواصي بالحق يعم التواصي بدراسة الحق واعتناقه وتطبيقه وتأسيس حكم الحق والدولة الحقة الإلهية لتضمين كلما يحق للحق.

٤٤٢

إن التواصي بالحق ضرورة ، حيث النهوض بالحق عسير ، ومعارضوه كثير ، والمعوقات عنه كثيرة ، هوى النفس ، منطق المصلحة ، تصورات البيئة ، طغيان الطغاة.

وجوّ التواصي يطمئن الموصين أن معهم غيرهم مهما كثر الطغاة ، فهم يتضاعفون قوة ويأملون النجاح في المعركة.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) .. إن الصبر هو زاد الطريق في دعوة الحق ، فإنه طريق شاق طويل ، حافل بالعقبات والأشواك ، مفروش بالدماء والأشلاء ، بالإيذاء والابتلاء.

إن سلوك هذه السبيل يتطلب الصبر والتصابر ، الصبر على أمور كثيرة : على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب.

والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وتصرفهم ، وانحراف طبائعهم وأثرتهم وغرورهم والتوائهم واستعجالهم للثمار.

والصبر على تنفّج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء.

والصبر على قلة الناصر وضعف المعين ، وطول الطريق وغور المعين ، ووساوس الشياطين في ساعات الكرب والضيق.

والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة : من الألم والغيظ ، والحنق والضيق ، وضعف الثقة ـ أحيانا ـ في الخير ، وقلة الرجاء ـ أحيانا ـ في الفطرة البشرية ، والملل والسأم واليأس والقنوط.

والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والإنتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر .. والبقاء في السراء والضراء ، على صلة

٤٤٣

أصيلة بالله ، واستسلام لقدر الله ، ورد الأمر كله إلى الله ، في طمأنينة وثقة وخشوع.

لهذه الضرورة نجد القرآن يذكر الصبر (١١٨) مرة ، بمختلف ضروبه.

وهنا لك سوف نرى خروجا تاما عن الخسر كله ، وانتصارا عاما على معارضي الحق كلهم : لو دعمنا صرح الاجتماع الإسلامي السامي ، على قواعده الأربع : الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

فعلى قدر الدعم الموفر لهذه القواعد سوف يكون تحلل الإنسان عن الخسران ، وعلى قدر التحلل عن دعمها ، سوف يكون الخسران (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

هذا ـ ومن بالغ أهمية هذه السورة نرى بالغ اهتمام أصحاب الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم في تعاهدهم وتواصيهم بها ، أن : «كان الرجلان من أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة (الْعَصْرِ) ثم يسلم أحدهما على الآخر» (١).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٩٢ ، أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الايمان عن أبي مليكة الداري وكانت له صحبة قال : كان ..

٤٤٤

سورة الهمزة ـ مكية ـ وآياتها تسع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

* * *

«ويل» * : إنها ويلات عقائدية وأخلاقية وأعمالية ، ويلات فردية وجماعية ، تنتجها التخلفات المختلفة عن شريعة الله : شريعة الحياة ، إنها حسب القرآن (٢٧) ويلا ، نجد أكثرها للمكذبين بيوم الدين ، فإنه الذي يدفع لأسباب الويل.

«ويل» * لفظة تقال في مواقف التقبيح والتأوه والاضطراب والغضب ، لفظة الدم والسّخط ، وهي كلمة كل مكروب يتولول فيدعو بالويل ، وأصله : وي لفلان ، وكما أن «ويس» كلمة استصغار ، و «ويح» ترحم. ومن قال : «ويل» *

٤٤٥

واد في جهنم ، لا يقصد أنه كذلك لغويا ، وإنما هو المصير الأخير لمن هو في حقه وإن كانت كل حياته ويلات.

فهؤلاء الذين يقول عنهم القرآن : «ويل» * إنهم ويل في ذواتهم وصفاتهم وحركاتهم ، ويل في كافة مجالات حياتهم ، ويل لأنفسهم ولمجتمعهم ، ووبال دائب على الاجتماع الذي يعيشونه ..

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) :

صيغتا مبالغة تدلان على كثرة ومواصلة مدلولهما ، وهما يشتركان في معنى الكسر والهزء والتعييب ، إلا أن الهمز في الغيبة ، واللمز في الحضور.

(لِكُلِّ هُمَزَةٍ) : غيّاب بما يسيء الناس بما هو فيهم أم ليس فيهم ، وسواء أكان مشاء بنميم أم ساكتا ، وكلّ ذلك في الغياب : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٢٣ : ١٠١) : إذ قوبل الهمز بالحضور ، فهو مقابل الحضور : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (٦٨ : ١١) إذا المشي بالنميم يناسب الغيبة لا الحضور.

«لمزة» : عيّاب ساخر في الوجه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٩ : ٥٨) : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩ : ٨١) : فيسخرون تفسير ل : يلمزون .. فم العيابون في الوجه ، الساخرون المنتقصون.

وعلى حد قول الرسول والأئمة من آل الرسول عليهم أفضل الصلاة والسلام : إنه ليس لسان الإنسان ، لسان الذي يسعى في هدر الأعراض ولدغ الأرواح والأشباح ، ويكرّس حياته في تعييب الناس ، كأن صاحبه البريء فقط ، إنه لسان

٤٤٦

العقرب (١) والأفعى ـ وشر من الأفعى ، إذ إن الأفعى تقتل الإنسان في الجسد ، ولكن أفعى الهمزة واللمزة تقتل الأرواح وتخلق جو اللااطمئنان ، جوا قذرا مزريا كأنه جوّ الجحيم ، فهو الويل يوم الدنيا وهو الويل يوم الدين.

إنها صورة لئيمة من الأم صور الحياة ، والقرآن يكره هذه الصورة الهابطة بحكم ترفعه الأخلاقي ، وينهى عن الهمز واللمز في مواضع شتى ، إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح والتهديد ، علّه يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية خطرة من بعض المشركين وجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووجاه المؤمنين ، فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب .. إلا أنه يعمم المورد وسواه : «لكل» * : ويل للكلّ ـ طول التاريخ وعرضه ـ كلّ حسب همزه ولمزه.

.. فويلهم في دنياهم ، وويلهم في عقباهم ، إذ يعلقون في النار ، الويل ، وعلى حدّ تعبير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (٢).

وقد ذكر الله الهمازين أنهم الآكلون لحوم إخوانهم : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (٤٩ : ١٢)(٣).

وذكر اللمازين بقوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) (٤٩ : ١١).

__________________

(١) نور الثقلين : ج ٥ ص ٦٦٧ ح ٣ ، في كتاب الخصال عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عليهم السّلام قال : المسوخ من بني آدم ثلاثة عشر ـ إلى أن قال ـ وأما العقرب فكان رجلا همازا لمازا فمسخه الله عقربا ، وفيه بالإسناد عن رسول الله (ص): وأما العقرب فكان رجلا لداغا لا يسلم من لسانه.

(٢) الدر المنثور عن النبي (ص) في حديث المعراج .. ثم مررت على نساء ورجال معلقين بثديهن فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الهمازون والهمازات ، ذلك بأن الله قال : ويل لكل همزة لمزة(ج ٦ ص ٣٩٢).

(٣) وكما عن الرسول (ص): رأيت ليلة الاسراء قوما يقطع اللحم من جنوبهم ثم يلقمونه ويقال : كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم ، فقلت : يا جبرائيل من هؤلاء ، فقال : الهمازون من أمتك اللمازون (نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٧ ح ٥) عن عوالي الآلي.

٤٤٧

وندد بالهمازين اللمازين أشد تنديد ، لأنهما يخربان الديار ولا يأتيان إلا بكل عار ودمار.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) :

ذلك كيانه في روحه الخبيثة : أنه همزة لمزة ، وهذا كيانه في سواها : هدفه تجميع المال وعدّه ، كأنه الذي يجمع شمله ويعدّه في عداد بني الإنسان ، ويخلده فيما يهواه! فهو يلمز المؤمنين ويهمزهم إذ لم يجمعوا مالا ، ويعيبهم وينقصهم كأنما المال هو الإنسان ، أو أنه حياة الإنسان كإنسان ، أو أنه يحييه خالدا إلى الأرض ما دامت : (.. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٧ : ١٧٦) ف (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) (٢٥ : ٦٩) : مهانا هناك كما أهان المؤمنين هنا ، جزاء وفاقا.

(جَمَعَ مالاً)(١) : منكرا دون تعريف : «مالا» * لا «المال» * فمن المال ما هو معروف ومنه ما هو غير معروف ، فالذي يحصله ليصرف في حاجيات الإنسان ، تحصيلا وصرفا مشروعين ، فهو «المال» * معروف عند إنسان المعرفة والحقيقة ، ولأنه ذريعة الآخرة.

وأما الذي يشذ عن شريعة الله تحصيلا وصرفا ، فهو «مال» * منكّر ومنكر لا يعتنى به ولا يعبأ ، وليست مذمة المال ذاتية ، إنما هي إذا كان المال وبالا يخلّف ويلات ، في دنيا الحياة وعقباها.

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٨ ج ٧ في كتاب الخصال عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : سمعت الرضا (ع) يقول : لا يجتمع المال إلا بخمس خصال : بخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة رحم ، وإيثار الدنيا على الآخرة.

وفيه عن كتاب التوحيد عن الصادق (ع) إنه قال : إن كان الحسنات حقا فالجمع لماذا؟ وإن كان الخلف من الله عز وجل حقا فالبخل لماذا؟.

٤٤٨

«وعدده» : ثم وبال فوق وبال ، على من يحسب الوسيلة غاية والذريعة نهاية ، فالمال ليس إلا وسيلة من وسائل الحياة ، فإذا ادّخر وضخّم وعدّد ، أصبح وبالا فوق الوبال ، إذا حصّل من غير الحلال ، ثم لم ويصرف في سبيل الحلال ، ثم جمّد على عيون الفقراء العزّل الذين امتصت دماؤهم في سبيل تحصيل هذه الأموال ، أو أنفق في غير حلّه.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) :

ماله أخلده ، أو ، ماله (١) : يحسب أن كيانه الإنساني الشاذ الشارد عن صراط الحياة ، يحسب أن ذلك أخلده ، رغم أن لا خلود في دنيا الحياة ، ولا ينكره حتى الحيوان ، إلا أن السبيل التي اتخذها في الحياة ، إنها هي سبيل من يزعم الخلود ، فهو يتذرع بماله وماله إلى هذا الخلود المزعوم ، ولو كان في الدنيا خلود ، لم تكن له حيلة تزيد عما يحتال ، فبحساب ما يعمل نعتبره : يحسب أن ماله أخلده! ولكنه :

«كلا» * : ليس كما يزعمه في أقوال وأفعال وأحوال ، في مال وفي منال ، ليست هذه بالتي تخلده في دنيا الحياة ، وإنما تخلده في عقباها : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) :

(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) :

تهديد شديد يصوّر صورة مشهد من مشاهد القيامة ، صورة طبق الأصل ،

__________________

(١) «ماله» * «ما» * هنا إما جزء الكلمة المفردة «مال» * أو موصول ، صلته «له» * ، والثاني أعم وهو أتم ، إذ يشمل المال والحال وكل ما للإنسان من طاقات الحياة ، ذكر منها المال المعدد لأنه أهم ما يهمه الإنسان الحيوان.

٤٤٩

فكما كان هذا الهمزة اللمزة ، الذي كان يدأب على الهزء بالناس ، وعلى اغتيابهم وتعييبهم ، في أنفسهم وأعراضهم ، وكان يدأب في تحطيم الكيان الإنساني معنويا وماديا ، وكان ينبذ أناسا مؤمنين كأنهم ليسوا أناسا ... فسوف يكون من المنبوذين المحطمين المرذولين المصغرين : في الحطمة : النار الكثيرة الشديدة الحطم ، لا تبقي ولا تذر.

وإنها ليست نارا تحرق وتحطم الجسد فحسب ، أو تبتدئ بالجسد ، وإنما تطّلع على الأفئدة :

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ. نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) :

إنها ليست نارا تعرف ، إنما نار خاصة متميزة متغيظة ، نار الله التي أوقدها بقدرته ، فقد تمتاز عن نار غير الله ، أوقدها الله إظهارا وتجسيدا لما أوقده الهمزة اللمزة ، وإنها تطّلع على الأفئدة التي اطّلعت منها نيران الهمز واللمز ، تحرق بما أحرقت به.

إنها نار تحرق روح الإنسان وجسمه ، قلب الإنسان وقالبه ، كما أحرق صاحبها قلوب الناس وقوالبهم ، وضيّع عليهم جو الطمأنينة : المعيشية الاقتصادية ، والمعنوية الآمنة.

هنا ـ وقبل أن تقوم القيامة ، يجبر الله كسر المؤمنين المنبوذين ، بما يعد النابذين غير المؤمنين ، فيطمئنهم في دنيا الحياة ، قبل الاطمئنان الأبدي في عقباها ، بما يبشرهم وينذر أعداءهم الألداء.

٤٥٠

ثم يختم ذكرى هذا المشهد الرهيب بميّزة أخرى للحطمة :

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) :

مؤصدة : مطبقة لا مخرج لهم منها ولا منجى ، سجن دائب كما كانوا سجونا للمؤمنين يوم الدنيا.

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) : في أسطوانات طويلة جدا ، وعلّها أيضا من جنس النار ، أو من الأشعة غير المرئية التي تستهزئ بالمحطّين : «كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها» .. وقد يشهد بذلك العلم :

أشعة رونتجن

لقد ثارت مناقشة في الصحف الصادرة عام ١٩٢٥ حول هذه الأشعة ، وذلك أن أحد الأطباء قال : إن أشعة «رونتجن» ـ التي هي ذات عمل جبار في النوع الإنساني ـ ترى في إشراقها كالأعمدة ، فقال بعضهم : لعل الآية : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) تشير إلى هذه الأشعة ، وخالفهم آخرون ، وأخيرا انتصر الأولون.

إن أشعة رونتجن هي كالعمد ، يرى بها الأطباء ما خفي في الجسم ، فيعرفون بواطنه ، وعلها ـ هي أو مثلها ـ سوف تكون عمدا ممددة ، وإن كانت الحطمة غير معروفة عندنا : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) ولم يقل : «وما أدراك ما العمد الممددة».

علّ هذه الأشعة هي العمد الممددة ، تمدد في أعماق الأجسام إلى الأفئدة فتزجها في سجن الحطمة ، فلا تسمح لها بالخروج.

٤٥١

ومها يكن من شيء فالعمد هي من النار ، سواء من نار الحطمة أم سواها ، فسواها من إنباءات الغيب المكشوفة بالعلم ، والحطمة مجهولة حتى الآن ، وعل العلم يكشف عن مثالها في الدنيا ، «فكل ما في الدنيا مثال لما في الآخرة».

إذا فالهمزة اللمزة سوف يكون مجذور المكعب الناري ، هو نار : (وَقُودُهَا النَّاسُ ..) وفي نار : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) وفي سجن الأعمدة النورية النارية ، وعلّها أشعة «رونتجن» أو مثلها.

٤٥٢

سورة الفيل ـ مكية ـ وآياتها خمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

* * *

إن قصة الفيل بلغت من الشهرة والتواتر التاريخي إلى حد الضرورة غير المنكورة ، وحتى عند المشركين الجاهليين الذين لا يدينون بالدين الإلهي ، وقد أرّخوا بها وذكرها الجاهليون في أشعارهم ، وأرّخ بها المسلمون ميلاد الرسول الأقدس محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والروايات الحاكية للقصة مهما كانت مختلفة التفاصيل ، ولكنها ناحية منحى قصة واحدة في لبّها وهي كيد أصحاب الفيل لهدم الكعبة المكرمة ، وأنهم فور وصولهم إلى مشارف مكة المكرمة وقبل أن يقدموها ويقدموا على ما نووا ، استهدفوا بقنابل من سجيل من قاذفات طير أبابيل ، فجعلهم كعصف مأكول ، وإنها

٤٥٣

حادثة عظيمة الشهرة ـ بالغة الأهمية ـ في حياة الجزيرة. وعلى حياة الكرة الأرضية ، عريقة الدلالة على مدى رعاية الله لأول بيت وضعه للناس ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم.

هذه البقعة المباركة التي اصطفاها الله تعالى لتكون الملتقى للإشراق الأخير من وحي السماء ، والنقطة الحاسمة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة اللادينية في العالمين ، وإقرار الهدى والنور على طول الزمن وعرضه.

«ألم تر» : ألم تعلم علم المعرفة ، لحدّ كأنه علم العيان ، استفهام إنكاري إقراري ، ينكر أن يجهل هذه القصة أيّ من سكان الجزيرة وسواهم ، لأنها كانت كالنار على المنار ، وكالشمس في رايعة النهار ، فلم يكن أحد من الناس يجهلها ، فأولى بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ألا يجهلها ..

ويقرّ من وراء هذا الإنكار من يجب أن يتذكره ، من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. يقرّ خارقة إلهية تدل دلالة باهرة ظاهرة (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (١٢ : ٥٢) (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (٨ : ١٨) (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٦١ : ٨) (١).

__________________

(١) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٦٩ ح ٨ عن روضة الواعظين ، قال علي بن الحسين (ع): كان أبو طالب يضرب عن رسول الله (ص) بسيفه ـ إلى أن قال ـ : فقال أبو طالب يا بن أخ! إلى الناس كافة أرسلت أم إلى قومك خاصة؟ قال : لا بل إلى الناس كافة ، الأبيض والأسود والعربي والعجمي ، والذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض والأسود ومن على رؤوس الجبال ومن في لجج البحار ، ولأدعون ألسنة فارس والروم ، فحيرت قريش واستكبرت وقالت : أما تسمع إلى ابن أخيك وما يقول ، والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجرا حجرا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) وأنزل في قولهم : لقلعت الكعبة حجرا حجرا : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ).

٤٥٤

أفبالإمكان أن نؤوّل قاذفات الطير الأبابيل : أنها كانت من صدف التاريخ ، أو من اصطناعات إنسان التاريخ ، وكما يتقوله الجاهلون : إن الكون أجمع نتيجة الصدف؟ ..

لا ننكر أن الله تعالى لم يكتب على نفسه مواصلة هذه الخارقات ، المنفصلة عن إثبات النبوات ، إلا أن أمثال هذه من الشقشقات قد تظهر لكي لا تهدر آيات الله البينات سدى ، ولتكون حجة الله هي البالغة وكلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) :

«ربك» * الذي اختصك بكرامة منقطعة النظير ، بما أنك «أول النبيين ميثاقا وآخرهم مبعثا» كذلك يختص أول بيت وضع للناس ، برحمته ووقايته الخاصة ، وإنك أشرف من البيت وممن بات فيه متعبدا لربك أو يبيت ، فإذ يحفظ ربك هذا البيت عن أصحاب الفيل ، فبأن يحفظك عن كل كيد وتضليل أولى وأحرى!.

(بِأَصْحابِ الْفِيلِ) وما أصحاب الفيل؟ .. لا يذكر هنا أسماءهم ولا اسم قائدهم في هذه المعركة الكافرة ، مهانة له ولهم : إنهم لم تكن لهم مكانة تتطلب ذكرهم بأسمائهم ، إلا أنهم أصحاب الفيل ، معتمدين في عملتهم الوحشية اللاإنسانية على قوة الفيل.

لقد كان للفيل على أصحابه شرف عظيم من ناحيتين :

١ ـ القوة الخارقة ، وقد كانت للحرب قديما ويحمل على ظهره من ثلاثة آلاف رطل إلى أربعة آلاف ، وعلى خرطومه وحده ألف رطل ، ويجر ما لا يكاد يقله ستة أفراس ، ويسير في اليوم مائة ميل.

٤٥٥

٢ ـ إنه حيوان سليم الطبع مؤالف مؤانس فليس من طبعه الأذى وإنما يستعمل قوته في الدفاع عن نفسه.

فهذا الفيل لم يستعمل قوته في خراب البيت رغم أصحابه ، إنه برك دون مكة لا يدخلها ، رغم ما جهد أصحابه في حمله على اقتحامها فبدل أن يفلحوا أفلجوا .. فلما ذا الكيد في هدم البيت وممن؟

إن ملك الحبشة (أبرهة ابن الصباح الأشرم) (١) المسيحي ـ جد النجاشي الذي كان على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ آمن المسلمين المهاجرين إلى بلاده ، وآمن بالرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أبرهة هذا يبني كعبة باليمن لها قباب من ذهب وزخرفات مغرية ـ كعادة الكنسيين في كنائسهم ـ بناها حسدا على الكعبة المشرفة وعلى الطائفين حولها ، ولكي يزورها أهالي بلاده كما تزار الكعبة ، ولكي يجلب أنظار زوار البيت الحرام أيضا إلى بيته بدعايات ومغريات .. إلا أنه خاب سعيه إذ رأى أن العرب ـ يمنيين وسواهم ـ ليسوا بتاركي الكعبة المقدسة إلى الكعبة المزورة ، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت العتيق ، وكان موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر بالأنساب.

عندئذ عزم «أبرهة» على هدم الكعبة المشرفة ليصرف الناس عنها ـ واقعيا ـ إلى كعبته المختلقة ، وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة ، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم ، فتسامع العرب به وبما قصد ، وعزّ عليهم أن تهدم كعبتهم ـ بيت عزهم ـ فوقف في طريقه من وقف ، يحاربوه ليصدفوه عن قصده ، فما انصدف ، إنه حاربهم بمن فيهم الأذواء والأشراف اليمنيون والنفيل الخثعمي في قبيلتين ، فهزمهم وأسرهم واستمر في طريقه ، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف قائلين له : إن البيت الذي تقصده ليس عندنا ، إنما

__________________

(١) مجمع البيان : أجمعت الرواة على أن الملك الذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الأشرم.

٤٥٦

هو في مكة ، ذلك ، وليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للّات ، وبعثوا معه من يدله على الكعبة المشرفة.

.. وإلى أن وصل إلى مشارف مكة المكرمة ، بركت الفيلة دون مكة لا تدخلها ، رغم حملهم لها على اقتحامها .. ثم كان ما كان من قذائف الطير الأبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعصف مأكول (١).

ثم نقف هنا وقفة الحائرين من موقف جد النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم عبد المطلب ، إذ يسرق إبله أصحاب الفيل فيقصد صاحب الحبشة يطلب إبله ، دون التماس منه أن ينصرف من هدم البيت ، ويجيب عن سؤاله : هذا رئيس قوم وزعيمهم ، جئت إلى بيته الذي يعبده لأهدمه وهو يسألني اطلاق إبله؟ أما لو سألني الإمساك عن هدمه لفعلت!

يجيبه : «أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه» (٢) «لست برب البيت الذي قصدت لهدمه وأنا رب سرحي الذي أخذه أصحابك ، فجئت أسألك فيما أنا ربه وللبيت رب هو أمنع له من الخلق كلهم وأولى به منهم» (٣).

فيا لهذه المنعة الطيبة من حياد على ثبات واستقرار وطمأنينة من حفاظ رب البيت على بيته العتيق.

وكما نراه «يجمع أهل مكة يدعو فأرسل الله طيرا أبابيل» (٤).

__________________

(١) هذه نماذج مما أجمعت عليه روايات القصة ، رفضا لما اختلفت فيها.

(٢) نور الثقلين ج ٥ ص ٦٧٠ ح ٩ في أصول الكافي.

(٣) نور الثقلين ٥ : ٦٧٢ عن أمالي الطوسي عن الصادق (ع) عن أبيه عن جده (ع) في حديث طويل.

(٤) قرب الاسناد بإسناده إلى موسى بن جعفر (ع).

٤٥٧

فيا لجدّ الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم من موقف مشرّف حيال هذا التصميم الكافر من أصحاب الفيل ، ويا لمولد الرسول الألمعي صلّى الله عليه وآله وسلّم من كرامة يحافظ به الله تعالى على كرامة البيت ، إذ ولد في عام الفيل (١).

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) :

يعبر عن عزمهم القاطع بالكيد ، إذ كان القصد من هدم الكعبة وبناء كعبة مزورة ، صرف الناس عن بيت الله إلى بيت اللهو ، وهذان الكيدان أصبحا في تضليل ، إذ لم يصلوا إلى بغيتهم في كيدهم : لا إيجابا : في بناء كعبة حبشية ، إذ لم يستجب لهم العرب ـ ولا سلبيا : في هدم الكعبة المكرمة ، إذ ضلت أجسادهم الجهنمية تحت التراب بعد إذ قذفت بقاذفات السماء ، بدل أن تظل مع أرواحهم ناجحة في كيدهم ، رابحة في ميدهم ، فأصبحوا من الأخسرين أعمالا ، فضلّت أجسادهم في هذه الحرب الكافرة ، كما ضلت أرواحهم.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) :

هذا آخر المطاف وأضله في تضليلهم ، فقد سخر الله منهم وأهانهم في تضليلهم هذا مرتين : إذ أرسل عليهم جنودا صغارا : (طَيْراً أَبابِيلَ) مع أسلحة صغار ، صغار على صغار ، تسحق الكبار الكبار : إذ تدمّر أصحاب الفيل ، وتجعل كيدهم في تضليل ، أجل أصحاب الفيل لا الفيل ، إذ لم يقدم الفيل على ما قدموا ، فقد نجا الفيل وضلّوا.

ومرة ثانية إهلاكهم عن آخرهم ، إذ ضل كيدهم معهم ، وأصبحت قصة

__________________

(١) كما أجمع عليه الرواة كما في الدر المنثور ٦ : ٣٩٦ : أخرج البيهقي عن محمد بن جبير ابن مطعم قال : ولد رسول الله (ص) عام الفيل ، وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة ، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل ، وتنبأ رسول الله (ص) على رأس أربعين من الفيل.

٤٥٨

الفيل عبرة لأولي الألباب ، رغم ما نواه أصحابه : أن تكون ثورة على الحق وتشجيعا للثائرين خلاف الحق.

(أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ) .. إنها كانت رسل الله لأمر مقصود ، لا رسل الصدفة لأمر غير مقصود ، أرسلهم الله طيرا أبابيل : وعلى حد تفسير أبي عبيدة : «جماعة في تفرقه» ولعلها جماعة من حيث الجمع ، وتفرقة من حيث الأجناس (١).

نكّرت الطير الأبابيل كما نكّر أصحاب الفيل ، وأين تنكير من تنكير ، فلأصحاب الفيل منه النكير إهانة ، وللطير الأبابيل تنكير التعظيم كرامة ، وليدل على أن لا اختصاص بهذه الطير جنودا إلهية ، فالكائنات كلها جنود الله.

تقتل واحدة من هذه الطير ثلاثة من أصحاب الفيل ، ويا لهم ولكيدهم من تضليل :

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) :

هؤلاء الرماة القاذفات ، فما هو المقذوف به؟ إنها حجارة من سجيل. و «سجيل» * معرّب عن «سنك كل» الفارسية ، أي حجارة الطين ، فمن الأحجار ما هو حجر خالص ، ومن الطين ما هو طين خالص ، ومن الحجارة ما هي حجارة الطين ، وهي القنابل التي رمتها الطير الأبابيل.

نجد القرآن يذكر ـ فيما يذكر ـ من ألوان عذاب المجرمين دنيويا : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٥١ : ٣٤) (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١١ : ٨٣).

__________________

(١) هل للأبابيل واحد؟ قولان : أحدهما أنه «أبيل» * قاله الراغب في غريب القرآن ، ثانيهما أن لا واحد له كما قاله الأخفش والفراء ، وقيل إنه : إبالة ، أبول ، إيبالة. عن أبي جعفر الرواسي والكسائي والفراء.

٤٥٩

فهذه حجارة ماهيتها أنها حجر الطين ، حجر خلق من تحجّر الطين ، وهي منضودة : بعضها على بعض ـ ومسومة : معلمة .. للمجرمين.

فهنا وهناك قاذفات ، مقاذيف ، قد يكون المقذاف الكوكب الذي يرمى منه إلى شياطين الجن إذ يسترقون السمع ، أو شياطين الإنس إذ يسعون فسادا في الأرض. فالأولى تسمى شهبا ، والثانية أحجارا سماوية ، ومن الأولى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٥ : ١٨) ، ومن الثانية : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (٨ : ٣٢)(١).

وهنا القاذفات الحيوانية تأخذ قواذفها من جو السماء ، من السجيل المنبث المتساقط من الكواكب ، ثم تقذف بأمر الله ، كما قذفت أصحاب الفيل ، وكيف قذفت؟.

كل طائر كان في منقاره حجر وفي رجليه حجران ، وإذا رمت بذلك مضت وطلعت اخرى ، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه ، ولا عظم إلا أوهاه وثقبه ، وثاب أبرهة راجعا وقد أصابته بعض الحجارة ، فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها إرب ، حتى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شيء إلا باده ، فلما قدمها تصدع صدره وانشق بطنه فهلك ولم يصب من الأشعرين وخثعم أحد ، قذائف لا تهدر ، ولا تخطئ العدوّ إلى المؤمن ، ولأنها كانت بأمر الله وبعين الله ، دون القذائف البشرية الهادرة أحيانا والمخطئة اخرى.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) :

كأوراق الزرع الذي أكله الأكّال ، كالدود يأكله ويفسده ، والحيوان يأكله ويمزقه.

__________________

(١) الأحجار الساقطة من الكواكب لو وصلت إلى الأرض تسمى أحجارا ، ولو احترقت في السماء تسمى شهبا ونيازك نارية ، وسوف نفصل البحث عنهما في محالهما.

٤٦٠